رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القديس يوحنا وغايناس Gainas أدخل الإمبراطور ثيؤدوسيوس عددًا كبيرًا من القوط إلى الجيش، وكان من بينهم غايناس، الذي اِرتقى في الرتب، وكان مهتمًا بشئون أبناء جنسه، الذين لم يكن عددهم قليلًا في العاصمة. فصار غايناس أحد زعماء السياسة، لا ينافسه أحد غير أتروبيوس، فدبر مكيدة عسكرية يغتصب بها مركزه، سجلها لنا المؤرخ سوزومين بشيءٍ من التفصيل(57). فقد أرسل إلى أهل بلدة -القوط- أن يزحفوا على المقاطعات الرومانية، وأشار إلى أحد أقربائه تيربنجيلس Tirbingilus القائد لعدد ضخم من الجنود في فيريجية بآسيا الصغرى أن يقوم بعصيان مسلح. أما هو فتظاهر أمام الإمبراطور بأن ينطلق ليخمد نار الثورة والعصيان في فيريجية، وإذ جمع شمل عدد كبير من البرابرة انقلب مهاجمًا الأراضي الرومانية. أدرك الإمبراطور الخطر الذي يلحق بالدولة. فإن غايناس يحمل سلطات قوية، ويجمع شملًا داخل الدولة، ويعرف كل أسرار الدولة وضعفاتها، فأرسل إليه يطلب التفاهم معه ومراضاته. طلب غايناس تسليم اثنين من مستشيري الإمبراطور هما ساتيرنينوس Saturninus وأوريليان Aurlian الذين حسبهما معاديان له. وإذ سُلما له عفا عنهما، بعد ذلك أقيم مجلس صلح بينه وبين الإمبراطور بجوار خلقدونية، في موضع الصلاة الذي وضع فيه الشهيدة أوفيميه. في هذا المجلس أقسم الاثنان أن يعيشا بروح الصداقة، عندئذ ألقى غايناس سلاحه أمام الإمبراطور، واستعد أن يذهب إلى القسطنطينية بعدما أصدر الإمبراطور أمرًا بتعينه قائدًا عامًا للمشاة وسلاح الفرسان، فنال بذلك أكثر بكثير مما كان يتوقعه له أحد. طلب غايناس قتل أتروبيوس ليتخلص منه، فهرب إلى الكاتدرائية، لكنه ما أن خرج منها حتى ألقى القبض عليه وأُعدم بخلقدونية... كان غايناس مثل أكثر القوط في ذلك الحين أريوسيًا، فشجع الأريوسيين، الذين أخذوا يجتمعون ليلًا أجواقًا ينشدون الترانيم الأريوسية. أما القديس يوحنا فلم يقف مكتوف الأيدي، لكنه استطاع ببلاغته وروحانيته أن ينظم على الفور تسابيح وترانيم أرثوذكسية تعلن لاهوت السيد المسيح في أسلوب روحي عذب، بها يحيون الليالي. لكن هذا الأمر أدى إلى اشتباكات بين الفريقين كانت تصل أحيانًا إلى سفك الدماء(58). اهتم أيضًا القديس يوحنا بالقوط الأرثوذكس، فرسم لهم كاهنًا منهم. يصلي معهم بلغتهم. إذ وجد غايناس أن البطريرك لم يشتبك مع الأريوسيين في مجادلات ومناقشات، إنما في إيجابية صنع التسابيح الإيمانية الروحية يسند بها شعبه وازدادت رعايته للقوطيين، ظن أنه يستطيع -مع احترامه العميق للبطريرك- أن يستغل نفوذه فيطلب إحدى الكنائس الأرثوذكسية يصلي فيها غايناس وجماعته الأريوسيين. وفعلًا فاتح الإمبراطور في الأمر، وإذ كان يخشاه وافقه على طلبه، وأرسل إلى البطريرك يخبره بالأمر، مذكرًا إياه بسطوة غايناس، كما ألمح له عن المؤامرة التي سبق أن دبرها لاغتصاب الحكم، سائلًا إياه أن يطفئ لهيب هذا البربري بتنازله عن إحدى كنائسه له هو وجماعته(59). لكن البطريرك يوحنا لم يكن يعرف كيف يخاف إنسانًا أو يداهنه على حساب الحق، بل بإيمان يسلك في غير مهادنة للشر، لذلك التقى بالإمبراطور يقول له: "لا تعطيه يا سيدي وعدًا، فإنه لا يُعطى القدس للكلاب(60). إني لن أسمح قط أن يطرد العابدون والمسيحيون للكلمة الإلهي ليحتل المجدفون عليه. لا تخف يا سيدي من هذا البربري. استدعينا -أنا وهو- لنتمثل بين يديك، ولتسمع ما يقال في صمتٍ، فإني أشكم لسانه، وأصده عن طلبه الخاطئ!" ابتهج الإمبراطور بالإجابة، وفي اليوم التالي دعاهما في حضرته. فبدأ غايناس يطلب تحقيق ما وعد به، لكن العظيم يوحنا أجاب أنه لا يحق للإمبراطور الذي يؤمن بإيمان مستقيم أن يتجاسر فيصنع أمرًا يخالف إيمانه. قال غايناس إن من حقه أيضًا أن يكون له موضع صلاة. أجابه العظيم يوحنا: لماذا؟ فإن كل الكنائس هي مفتوحة أمامك، ليس من يمنعك عن الصلاة أينما تميل. قال غايناس: لكنني أتبع طائفة أخرى، وأنا أسأل أن تكون لي كنيسة، فإنه يحق لي مثل هذا الطلب مقابل ما احتمله في الحرب من أجل الرومان. أجاب الأسقف: لقد أخذت مكافآت عظيمة مقابل أتعابك. فإنك الآن قائد، ترتدي ثوب الولاية! كان يليق بك أن تذكر ما كنت عليه وما صرت إليه الآن. تأمل فقرك الماضي، وغناك الحالي. أي نوع من الثياب كنت ترتدي قبلًا، وما الثوب الذي ترتديه الآن...؟ أقول، أُذكر قلة جهادك بجانب عظم المكافآت التي وُهبت لك. لا تكن جاحدًا جميل هؤلاء الذين وهبوك كرامة! بهذا أبكم معلم المسكونة غايناس، الذي خرج غاضبًا، واضعًا في قلبه أن ينتقم لنفسه من الإمبراطور والبطريرك، وإذ كان غايناس يعرف كل أسرار البلاط أرسل جنودًا يحرقونه ليلًا، لكنه وجدوا حراسًا على البلاط لم يتوقعونهم، فرجعوا مرتعبين يخبرونه بالأمر. دهش غايناس وذهب بنفسه يتحقق الآمر، فوجد ملائكة تحرس القصر، فارتعب وخاف. ومضى وقت طويل حتى خشي الروم سطوته، فعهدوا إلى قوطي آخر يدعى فلافيتا Flavita أن يقاتله... فاضطر غايناس إلى الهروب، وانتهى أمره بقتله في تراس Theace عام 401م(61). |
|