رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
محبته لها امتاز القديس يوحنا، مع شدته وحزمه الذي كان أحيانًا يصل إلى العنف، بمحبته العميقة لمن يلتقي بهم وبرقة مشاعره، واتساع قلبه. نستطيع أن نلتمس هذه الأحاسيس في أغلب رسائله التي يبعث بها إلى أساقفة وكهنة ورهبان وشمامسة وعلمانيين، فقد جاءت -وهو يُطحن في مرارة المُر- مملوءة حبًا ولطفًا. على سبيل المثال نقتطف مما كتبه لبعض الكهنة بإنطاكية(36): "في المال، من يدفع يفتقر ومن يأخذ يغتني، أما في الطمع بالمحبة، فالأمر غير ذلك. فإن من يدفع (حبًا) لا يفتقده كما في المال بل يعود إلى معطيه! دفع الحب يجعل العاطي أكثر غنى عن ذي قبل! إذ تعرفون هذه الأمور، أيها السادة المكرمون والورعون، لا تكفوا عن أن تقدموا لي هذا (الحب) على الدوام... ومع إنكم لستم في حاجة إلى نصيحتي هذه، إنما أذكركم بها من أجل تعطشي الشديد إلى حبكم..." هذه المشاعر ظهرت بصورة أعمق خلال علاقته المتبادلة مع شماسته أولمبياس، يظهر ذلك من تلهفهما على الاطمئنان على بعضهما البعض، كل منهما يود أن يعرف أخبار الآخر الروحية والنفسية والصحية بكل دقة. يكتب إليها قائلًا: [لا يمكن أن يضايقني إلا شيء واحد، هو أن أكون غير متأكد تمامًا أنكِ في حالة طيبة(37).] [إذ لم استلم من سموك تألمت كثيرًا(38).] [ابعثي إليَّ أخبار صحتك دائمًا، فإنك تعرفين بالحقيقة أن تعزيتي تكون كبيرة جدًا في وحدتي عندما أعرف عنك أنكِ دائمًا في أحسن حال.] [إن أردت أن أكتب إليك رسائل مطولة اخبريني، لكنني أتوسل إليك إلا تخدعيني بالقول أنك قد ألقيتِ عنك كل قنوط، وأنك تتمتعين بفترة من الراحة، فإن الرسائل هي علاج مناسب يهبني فرحًا من جهتك.] [سترين دومًا رسائل مستمرة من جهتي!] [عندما تكتبين إليَّ ثانية لا تقولي "أني أجد راحة كثيرة في رسائلك"، فأنا أعلم هذا من نفسي، لكن أخبريني أنك تأخذين ما أتوقه لك: إلا ترتبكي بالحزن، ولا تقضي أوقاتك في البكاء، بل في هدوء وفرح(39).] لم تقف هذه المحبة عند المشاعر المتبادلة، لكنها في جوهرها هي "تلاق معًا في شخص المسيح"، كل منهما يهتم بالآخر في المسيح يسوع ومن أجل الكنيسة! كان القلبان مرتبطين معًا في انطلاقة نحو الأبدية. لكنها كإنسانة تخشى على "أبديتها" فوق كل اعتبار يبدو أنها أرسلت تسأله لئلا يكون حزنها على فراقه، واهتمامها بحالته الصحية والظروف المحيطة به، فيه ضعف روحي. ربما سرّ هذا التساؤل الأقاويل الكثيرة التي أثارها بعض الأعداء ضدها بسبب التصاقها به، فأرسل إليها في شيء من الإطالة يقول(40): [سيرونك شريكة في الميراث السعيد، مكللة، ومترنمة مع الملائكة، تملكين مع المسيح! أما هم فيصرخون كثيرًا ويولولون نادمين على كلام الطيش الذي أطلقوه ضدك. سيتضرعون إليكِ، ويلجأون إلى تقواكِ ومحبتكِ، لكن هذا كله يكون بلا جدوى... أنا أعرف أنكِ تتألمين، لا بسبب هذا فحسب، بل لأنك انفصلت عن العدم الذي هو "أنا"، وأنكِ تنتحبين بغير توقف، قائلة للجميع: [لم نعد نسمع هذا الصوت، ولا ننعم بتعاليمه التي اعتدنا عليها، لقد أصابنا الجوع. ما هدد به الله العبرانيين قديمًا نحتمله نحن الآن، وهو الجوع لا إلى الخبز، والعطش لا إلى الماء... بل إلى التعاليم الإلهية.] [بماذا أجيب؟ في إمكانك أن تعيشي مع كتبنا في غيابنا. وسأبذل كل الجهد إن وجدت فرصة أن أرسل لكِ رسائل كثيرة مطولة. أما إذا رغبتِ في سماع صوتنا، فربما يحين الوقت لتحقيق ذلك وتريننا أيضًا بمعونة الله... إن كان الانتظار يؤلمك، فأعلمي أن هذا لا يكون بدون فائدة، بل يهبك مكافأة عظيمة إن احتملتيه بنفسٍ قويةٍ، إن كنتِ لا تتفوهين بكلمة قاسية بل تمجدين الله في ذلك الأمر. حقًا إن النضال في احتمال فراق إنسان عزيز علينا ليس بالأمر الهيِّن، بل يتطلب نفسًا مملوءة شهامة، وفهمًا مملوء حكمة. من يقول هذا؟ إن كان الإنسان يعرف كيف يحب حبًا عميقًا، إن وجد الإنسان الذي يعرف قوة الحب، مثل هذا يفهم ما أريد أن أقوله. ولكي لا نتأخر في البحث عن أناس محبين بالحقيقة، إذ هم حقًا نادرون، فإنني أسرع إلى بولس الطوباوي، الذي يخبرنا ماهية هذا النضال، وما هو سمو النفس التي تتطلبه؟ بولس هذا العجيب، الذي بذل لحمه وأنكر جسده، الذي جال في كل الأرض يحمل نفسه وحدها (كأنها بلا جسد)، وقد ألقى عنه كل هوى، وامتثل بالقوات الروحية (العلوية) بإيمانه، وقطن في الأرض كما في السماء وارتفع مع الشاروبيم، واشترك معهم في التسبيح السماوي، واحتمل الآلام... تألم وكأنه يتألم في جسدٍ غير جسده، سُجن، وقُيد بالسلاسل، وقُبض عليه، وجُلد بالسياط، وهُدد بالموت، ورُجم، وأُلقي في البحر، وذاق كل أنواع العذابات، بولس هذا عندما ابتعد عن نفس عزيزة عليه اضطرب وتكدر، حتى هرب من المدينة التي لم يجد فيها من كان يتوقع أن يراه هناك... لقد عرفت ترواس هذا الأمر، فقد تركها لذات السبب، إذ لم تقدر أن تقدم له صديقه. "ولكن لما جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح، وفُتح لي باب في الرب، لم تكن لي راحة في روحي لأني لم أجد تيطس أخي، لكن ودعتهم فخرجت إلى مكدونية" (2 كو 2: 12). ما هذا يا بولس؟ أنت الذي قُيدت... ودخلت السجن، وحملت آثار السياط، فكان ظهرك لا يزال ينزف دمًا... أنت الذي كنت تعمد وتقدم الذبيحة، أنت الذي لم تحتقر إنسانًا واحدًا يحب أن يخلص، عندما بلغت ترواس ورأيت الأرض صالحة للزرع، ومستعدة للبذر، والصيد سهل وكثير، ألقيت من بين يديك هذا المكسب الهام الذي من أجله أتيت! تقول "لأجل إنجيل المسيح" بمعنى أنه لا يقف أحد في طريقك من أجل إنجيل المسيح، تقول "انفتح لي باب في الرب"، ومع هذا تهرب سريعًا؟ نعم، بالتأكيد لقد سقطتَ تحت سطوة الحزن، فإن غياب تيطس قد آلمني كثيرًا. غلبني الحزن وسيطر عليَّ حتى وجدت نفسي مضطرًا لهذا. لقد شعر بذلك بسبب حزنه، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. لسنا نقول هذا توهمًا من أنفسنا، إنما هو يعلمنا ذلك، إذ كشف سرّ خروجه بقوله: "لم تكن لي راحة في روحي لأني لم أجد تيطس أخي، لكن ودعتهم فخرجت". هل نظرت صعوبة التجربة حينما نضطر أن نحتمل بهدوء الانفصال عمن نحبهم...؟ هذا هو نضالك الحالي! لكن كلما اشتدت الحرب زادت المكافأة، وتلألأت الأكاليل! لتكن هذه هي تعزيتك في انتظارك...! الذين يحبون بعضهم بعضًا لا يكفيهم الارتباط بالنفس لتعزيتهم، بل هم محتاجون إلى وجودهم معًا بالجسد. وإن لم يوهبوا ذلك ينقصهم الكثير من سعادتهم. إن رجعنا إلى بولس الطوباوي لوجدنا ذلك (اللقاء الجسدي) أسمى غذاء يسند الإنسان أثناء المحن، إذ يقول في رسالته إلى أهل تسالونيكي: "وأما نحن أيها الإخوة إذ قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب، اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم. لذلك أردنا أن نأتي إليكم أنا بولس مرة ومرتين، وإنما عاقنا الشيطان... لذلك إذ لم نحتمل أيضًا استحسنا أن نُترك في أثينا وحدنا فأرسلنا تيموثاوس أخينا وخادم الله..." (1 تس 2: 17-18 ؛ 3: 1-2) يا لقوة كل كلمة! فهي تظهر شعلة حب كانت تشرق في نفسه بقوة. فإنه لم يقل "انفصلنا" أو "انتزعنا" أو"تفرقنا" أو "تركنا" بل يقول: "قد فقدناكم". لقد وجد الكلمة الصحيحة ليشير إلى حزن نفسه (إنه في حالة يتم). فمع كونه يحمل أبوة للجميع، لكنه يستخدم لغة الإنسان اليتيم الصغير الذي فقد من وهبه الحياة مبكرًا، مشيرًا بذلك إلى فرط حزنه. ليس أصعب على الأولاد من اليتم المبكر، إذ لا يقدرون أن يصنعوا شيئًا بمفردهم، ولا يجدون من يحميهم من المهاجمين لهم فإن جيشًا من الناس يهاجمونهم وينصبون لهم الفخاخ، فيصيرون كحملانٍ وسط ذئاب، تمزقهم من كل جهة، وتقطعهم إربًا. ليس من يقدر أن يصف بالكلام مقدار هذه الكارثة. لذلك تردد بولس باحثًا عن تعبير يعلن به عن الترك وشدة الآم، فاستخدم هذه الكلمة مظهرًا ما تألم به بانفصاله عمن يحبهم، وقد سند العبارة بقوله: "إذ قد فقدناكم زمان ساعة بالوجه لا بالقلب". فإن كنا لا نحتمل الألم الناجم عن ذلك، لكن لنا تعزية كافية أننا مرتبطون بالنفس، نحملكم في قلوبنا. لقد سبق أن رأيناكم عن قريب (زمان ساعة). لكن شيئًا من هذا لا يقدر أن ينقذنا من الألم. لكن، ماذا تريد؟ ماذا تشتهي بشدة؟ رؤيتهم؟ "اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم".. ماذا تقول، أنت الإنسان الكبير العظيم، أنت الذي صلب العالم لك وأنت للعالم (غل 9: 14). أنت الذي تركت كل ما هو جسدي، أنت الذي كمن بلا جسد. بلغت هذه الدرجة من العبودية في الحب حتى اندفعت بهذا الجسد الترابي -المصنوع من الطين- الذي تراه! يجيب: نعم، إني لا أخجل من أن اَعترف بذلك، بل افتخر، إذ أحمل في داخلي محبة عظيمة، هي أم كل الفضائل. هذا ما أبحث عنه، فهو لا يبحث عن اللقاء الجسدي فحسب، بل ويشتهي بالأكثر أن يرى وجوههم. "اجتهدنا أكثر أن نرى وجوهكم..." نعم يقول هكذا، إذ فيه تتجمع أعضاء الحس، فالنفس وحدها إذا ما ارتبطت بنفسٍ أخرىٍ لا تقدر أن تنطق بشيءٍ ولا تسمع شيئًا. أما إذا تمتعت بالوجود الجسدي، فإني أتكلم بشيءٍ وأسمع من أحبهم. لهذا اَشتهي رؤية وجوههم. فباللسان ينقل الصوت الذي يعبر عن المشاعر الداخلية. والأذنان تستقبلان الكلمات، وبالعينين تترجم حركات النفس. بفضل هذا كله استطيع أن أتمتع بالنفس المحبوبة بطريقة أعظم باللقاء الجسدي.. ولكي يؤكد محبته أكثر من الآخرين عندما قال "اجتهدنا أكثر باشتهاء كثير أن نرى وجوهكم" انفصل عن الآخرين وتقدم بمفرده قائلًا "أنا بولس مرة ومرتين.." مشيرًا بهذا أنه أسرع من غيره.] |
|