السيد المسيح يواجهه خيانة يهوذا
كان شيئاً قاسياً جداً على قلب المخلص الرقيق الممتلئ بالحب، والممتلئ بأسمى معانى النُبل والإخلاص والوفاء، أن يواجه الخيانة من قِبَل أحد تلاميذه الأخصاء المقربين.
فى ذلك نتذكر قول الشاعر:
وظلم ذوى القُربى أشدّ غضاضةً على النفس من وقع الحسامِ المهنَّدِ
ولكن السيد المسيح بالرغم من ذلك تعامل مع يهوذا بمنتهى الرفق، وبمنتهى الاتضاع.
“أنت إنسان عديلى إلفى وصديقى” (مز55: 13)
عاش يهوذا مع السيد المسيح أكثر من ثلاثة أعوام متصلة، بعد أن اختاره السيد المسيح ضمن الاثنى عشر، ليكون معه، وليكون تلميذاً له، ولتصير له وظيفة رسولية. تلامس يهوذا مثل سائر التلاميذ مع السيد المسيح عن قرب، حسبما قال معلمنا يوحنا الإنجيلى؛ التلميذ الذى كان يسوع يحبه “الذى سمعناه. الذى رأيناه بعيوننا. الذى شاهدناه ولمسته أيدينا” (1يو1: 1).
استمع يهوذا إلى عظات السيد المسيح الممتلئة بالنعمة والحكمة والحياة، تلك التى شهدت لها الجموع، إذ كانوا يتعجبون من كلامه المؤثر العميق كقول المزمور عنه “انسكبت النعمة على شفتيك” (مز44: 2).
رأى يهوذا ما فى السيد المسيح من صفات روحية جميلة، تلك التى عبّر عنها القديس يوحنا فى إنجيله: “ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمةً وحقاً” (يو1: 14).
رأى معجزاته الفائقة للطبيعة، واستجابة الآب السماوى التلقائية له فى كل ما يطلبه، مثلما قال السيد المسيح مخاطباً الآب: “وأنا علمت أنك فى كل حين تسمع لى” (يو11: 42).
رأى التفاف الناس حوله، ومحبتهم الجارفة له، وتجاوبهم مع تعليمه.. خاصة الخطاة الذين تركوا حياة الخطية.. حينما سمعوا مناداته بالتوبة لاقتراب ملكوت الله.
اختبر يهوذا عن قرب محبة السيد المسيح الفياضة نحوه ونحو الآخرين، ولمس وداعته ولطفه وعطفه وترفقه بالضعفاء.
كانت هناك عشرة وصداقة عجيبة بين السيد المسيح وتلاميذه الاثنى عشر. فكان يأكل معهم ويقيم معهم، ويأخذهم معه إلى الهيكل كما إلى الجبال والوديان، والحقول، وضفاف الأنهار والبحيرات، وفى السفن فى المياه. اصطحبهم معه فى خلوات روحية بعيداً عن الجموع، يعلّمهم الصلاة، ويفسّر لهم الأمثال، ويقول لهم “قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات” (مت13: 11) كما اصطحبهم فى ترحاله؛ فى جولاته منادياً وكارزاً بملكوت الله.
بل أكثر من ذلك أعطاهم سلطاناً أن يصنعوا الأشفية والآيات والعجائب باسمه المبارك. وحتى الشياطين صارت تخضع لهم باسمه. وكان يقول لهم الأعمال التى أنا أعملها سوف تعملونها بل وأكثر منها.
“الذى معه كانت تحلو لنا العشرة” (مز 55: 14)
أمام كل هذه العلاقة الوثيقة، والصداقة العميقة، اختلج قلب السيد المسيح فى أسى، وهو ينظر إلى خيانة التلميذ الذى باعه بثلاثين من الفضة.. بأبخس ثمن يمكن أن يُباع به إنسان.
وهنا نتذكر كلمات داود النبى فى المزمور التى كتبها بروح النبوة يصف بها مشاعر وأفكار مخلصنا الصالح وهو يواجه هذا الموقف المؤلم:
“لأنه ليس عدوٌّ يعيِّرنى فأحتمل، ليس مبغضى تعظّم علىّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلى إلفى وصديقى. الذى معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب فى الجمهور.. ألقى يديه على مسالميه. نقض عهده. أنعم من الزبدة فمه وقلبه قتال. ألين من الزيت كلماته وهى سيوف مسلولة” (مز55: 12-14، 20، 21).