رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أيوب
تقوى أيوب وغناه "كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عُوصَ اسْمُهُ أَيُّوبُ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي الله، وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ" [1]. يرى كثير من الآباء أن السفر يُفتح بمديح عظيم له بقوله: "كان رجل". وكما يقول العلامة أوريجينوسإن كثيرين يُدعون بشرًا، لكنهم يسلكون كحيواناتٍ مفترسةٍ أو حيواناتٍ غبية أو زواحفٍ أو طيورٍ وليس كبشرٍ حسبما خلقهم الله محب البشر. هذا الاسم "رجل" لا نعًّرفه حسبما يعرفه الذين هم في الخارج، بل حسبما يعًّرفه الكتاب المقدس. فالإنسان ليس هو كل من له يدا إنسان وقدماه، ولا من كان عاقلًا فحسب، بل من يمارس التقوى والفضيلة بشجاعة(36). القديس يوحنا الذهبي الفم لكن بالتأكيد تُستخدم كلمة "إنسان" على من يحمل صورة الله (تك 1: 27)، هذا الذي يحمي كرامته بطريقة لائقة، ويضع الخيار بين الخير والشر، ويهب مجده لخليقته التي تبتهج به، وتجد مسرتها فيه (مز 104: 31). هكذا "كان رجل في أرض عوص". فقد كانت المنطقة قفرًا موحشًا، لكن به غرس... كان أيوب كنزًا لا ينقصه شيء. كان مملوءً من عنب الحصاد المغروس. كان كاملًا (حقيقيًاtrue ) كخليقة الإله الحق، إذ استخدم فضائله لحساب الحق بغير رياءٍ، متممًا وصايا الله... فقد عبد الله حسبما يريد الله(37). الأب هيسيخيوس الأورشليمي ولعل عوص كانت لا تبعد كثيرًا عن أور الكلدانيين التي دُعي منها إبراهيم. فإن كان الله قد دعا إبراهيم ليقيم من نسله شعبًا مختارًا، لكن له بقية تشهد له وسط الأمم. وتحقق خطة الله نحو البشرية حين نشترك مع القديس يوحنا في تمتعنا بهذا المنظر: "وإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة واقفون أمام العرش" (رؤ 7: 9). لقد أخرج الله إبراهيم من تلك الأرض الفاسدة حيث يدعو الله مختاريه اعتزال الشر. وسمح ببقاء أيوب لكي يكون شاهدًا بنوره الإلهي وسط الظلام الدامس، كالكواكب وسط ظلمة الليل. * لكي يكشف عن استحقاق فضيلته أُخبرنا أين قطن الرجل القديس، لأنه من لا يعرف أن عوص هي بلد أممي؟ كان العالم الأممي تحت سلطان الشرير؛ وبالتالي كانت عيناه مغلقتين عن معرفة خالقه. إذن لنُخبر أين قطن، فإن في هذا مديح له. كان رجلًا صالحًا يقطن بين أناسٍ أشرارٍ. إنه لمديح ليس بعظيمٍ أن تكون صالحًا في صحبة الصالحين، وإنما أن تكون صالحًا ساكنًا وسط أشرارٍ، فهذه شهادة لا يُمكن قياسها... فقد قيل: "وأنقذ لوطًا البار مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة، إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يُعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2 بط 2: 7-8)... وهكذا يقول بولس لتلاميذه: "في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم" (في 2: 15). وقيل لملاك كنيسة برغامس: "أنا عارف أعمالك، وأين تسكن، حيث كرسي الشيطان، وأنت متمسك باسمي ولم تنكر إيماني" (رؤ 2: 13). هكذا مُدحت الكنيسة بصوت العريس، قائلًا في نشيد الحب: "كالسوسنة بين الشوك، كذلك حبيبتي بين البنات" (نش 2: 2)... بحقٍ قيل عنه إنه كان "يحيد عن الشر" فقد كُتب: "حد عن الشر، وأفعل الخير" (مز 37: 27). فإنه بالحق الأعمال الصالحة تكون غير مقبولة لدى الله إن كانت في عينيه ملطخة بمزجها بأعمال شريرة، وذلك كما قيل بسليمان: "من يخطئ في أمرٍ واحدٍ يُفسد خيرًا جزيلًا" (راجع جا 9: 18). يشهد يعقوب لذلك، قائلًا: "لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة، فقد صار مجرمًا في الكل" (يع 2: 10). بولس يقول: "خميرة صغيرة تخمر العجين كله" (1 كو 5: 6). إذن كان لائقًا أن يُشار كيف كان يحيد عن الأعمال الشريرة لإظهار كيف كان الطوباوي أيوب بلا غضن ثابتًا في أعماله الصالحة. البابا غريغوريوس (الكبير) تشهد كلمة الله بكمال أيوب، "وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي الله، وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ". 1. كاملًا: وهو كمال نسبي، فلا يعني أنه بلا خطية، وإنما يطلب الكمال، ويجد في بلوغه حسب استطاعته. * يتحدث الرسول عن نفسه أنه كامل وغير كامل. فيحسب نفسه غير كاملٍ، متطلعًا كم من برّ لا يزال ينقصه، لكنه كامل حيث لا يستحي من أن يعترف بعدم كماله، وأنه يتقدم لكي يبلغ الكمال(38). القديس أغسطينوس القديس أمبروسيوس 2. تقيًا: يعبد الله بروح تقوي، لا في شكليات جافة بلا روح. يسعى أن يتمم مشيئة الله، بمعنى آخر يتناغم سلوكه مع عبادته لله، يخشى الله لئلا يسيء إلى جلاله وحبه. 3. يحيد عن الشر: مخافة الرب سور تحوط به، فلا يسمح للشرٍ أن يتسلل إلى فكره أو قلبه أو سلوكه. * قيل إنه كان مستقيمًا "بلا عيب"، ولم يقل "بلا خطية"... لماذا كان بلا عيب؟ لأنه كان مستقيمًا. كان "حقًا true" لأن الناس كاذبون (مز 62: 9). كان "حقًا"، لا في الكلمات فقط، وإنما في الأعمال أيضًا. بهذا فهو "رجل حق". لأن "فلنسمع ختام الأمر كله، أتقِِ الله وأحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله" (جا 12: 13). كان أيوب غيورًا نحو التصرفات الخالصة، لهذا يقول النص إنه كان "تقيًا وحقًا" وقد أبرز علة كل فضائله أنه يتَّقي الله... معرفة الله تُعلَنْ في حياة الشخص، وتصير حافظة للحياة... لم يقل: "لم يرتكب شرًا"، بل "يحيد عن الشر"... في عبارة أخرى: "لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب؟" (أم 30: 9). ها أنتم ترون أنه ما لم يكن الإنسان حذرًا، فإن التخمة هي أساس الخداع. لكن لم يكن حال أيوب هكذا. القديس يوحنا الذهبي الفم مع كثرة نسله لم ينشغل أيوب البار بممتلكاته ليقدم ميراثًا عظيمًا لكل ابن أو ابنة له، لكن ما كان يشغله هو تقديم ميراث ضخم من الصلوات والتسابيح والذبائح الروحيَّة والمحرقات كسندٍ لهم. يرى العلامة أوريجينوس في البنين والبنات رمزًا لعمل الروح القدس في حياة المؤمن، حيث ينجب أو يثمر، خلال نفسه كما خلال جسده، ثمارًا روحيَّة مقدَّسة للرب، فالإنسان التقي كأيُّوب يعمل فيه روح الله، فتتناغم النفس مع الجسد، حيث يكون بكليَّته تحت قيادة الروح القدس. ويقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير)في تفصيلٍ وبتوسع تفاسير رمزيَّة للسبعة بنين والثلاث بنات، نقتطف القليل جدًا منها. * ماذا يقدم لنا رقم 7 سوى ذروة الكمال...؟ فالسبعة بنين يمثلون تدبير الكارزين، والثلاث بنات يمكن أن يشرن إلى الثلاث فئات من المؤمنين في حياة الكنيسة... الرعاة والبتوليِّين والمتزوِّجين. يولد لنا سبعة بنين، حين نحبل بالنية الصالحة، فتولد فينا سبعة فضائل الروح القدس. فقد اهتم النبي بهذا النسل الروحي على وجه الخصوص حين يجعل الروح القدس الذهن مثمرًا بهذه الكلمات: "ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوَّة، روح المعرفة ومخافة الرب، ويملأه روح مخافة الرب" (راجع إش 11: 2). فعندما تتولد في كل منا عند حلول الروح القدس الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة والتقوى ومخافة الرب، يكون قد وُلد نسل في الذهن، يحفظ سلالة شرفنا العلوي في الحياة، حيث تتحالف بالأكثر مع المحبَّة الأبديَّة. بالتأكيد السبعة بنين فينا لهم ثلاث أخوات، حيث كل منهم (البنين) يعمل بنضوج (رجولية) بميول فاضلة، فيتحد مع الإيمان والرجاء والمحبة. فإن رقم 7 لن يبلغ كمال رقم 10 ما لم يفعلوا كل شيء بإيمان ورجاء ومحبة. البابا غريغوريوس (الكبير) "وَكَانَتْ مَوَاشِيهِ سَبْعَةَ آلاَفٍ مِنَ الْغَنَم، وَثَلاَثَةَ آلاَفِ جَمَلٍ، وَخَمْسَ مِئَةِ زَوْجِ بَقَرٍ، وَخَمْسَ مِئَةِ أَتَانٍ، وَخَدَمُهُ كَثِيرِينَ جِدًّا. فَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي الْمَشْرِقِ" [3]. مع ثروته الضخمة اتسم بالبرٌ، وقد قدم الغنم أولًا لأنها كانت لازمة للعائلات: "الحملان للباسك... لبن المعز لطعامك لقوت بيتك ومعيشة فتياتك" (أم 27:26-27). وكان خدمه كثيرين، الكل يخدمه هو وبيته. من بين العادات التي لا تزال قائمة بين الرعاة ومجتمعات البدو تقدير ثروات الشخص وغناه ليس حسب أرضه ولا بيوته، وإنما حسب المواشي التي يملكها. فكان إبراهيم غنيًا جدًا من جهة قطيعه (تك 13: 2). وكان للوط أيضًا قطعانه (تك 13: 5). هكذا يُقدر غنى أيوب بعدد حيواناته التي يمتلكها. وقد ذكر أناث الحمير (الأتن)، لأنها كانت قيمتها أكثر من الذكور بكثير بسبب اللبن الذي كان يُستخدم للشرب(40). يرى البعض أن غنم أيوب وجِماله تشير إلى اتحاد عصر الناموس بعصر النعمة، فالسبعة الآلف من الغنم تشير إلى مرعَى الناموس الذي يصير كاملًا باللمسات الروحية (رقم ألف) عوض الحرف؛ ينضم إلى هذا المرعى الثلاثة آلاف من الجِمال حيث تأتي شعوب الأمم لتنضم إلى مرعَى الناموس الروحي، ويكون الكل رعية واحدة لراعٍ واحدٍ. * كان أيوب غنيًا، لكنه لم يقضِ حياته في ترف بلا حنو (على الآخرين). كان بيته مفتوحًا لكل محتاجٍ بإرادته المملوءة حبًا. لم يعامل أحدًا بظلمٍ، بل ساعد الذين كانوا يعانون من الظلم؛ كان يقدم الاحتياجات اللازمة للأرامل والأيتام. فإن هذه هي أعمال البرّ للغني البار(41). |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
يوبخ أليفاز أيوب على ما أظهره من تقوى أثناء رخائه |
أصالة تقوى أيوب |
فالله غني، وغناه لا يُستقصى |
عظمة أيوب وغناه |
تقوى أيوب ورخاؤه |