رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأنبا باخوميوس أب الشركة (292 - 9 مايو 348 م.) ← اللغة الإنجليزية: Saint Pachomius the Great / Pachome / Pakhomius - اللغة القبطية: peniwt abba Pa'wm va ;koinwni`a. إن كان القديس أنطونيوس الكبير يُعتبر أب الأسرة الرهبانية، بكونه أول قائد للحركة الرهبانية في العالم، تتلمذ على يديه متوحِّدون عاشوا في مغائر أو قلالي منفردة حوله، كما كان مرشدًا لعددٍ كبيرٍ من قادة الحركة الرهبانية في مصر وخارجها، فإن القديس باخوميوس يُعتبر أب نظام الشركة. إنه أول أب يشيد ديرًا يضم داخل أسواره جماعة رهبانية تعيش في حياة الشركة في عبادتها وكل تصرفاتها. وُلد بالصعيد الأقصى من والدين وثنيين حوالي عام 292 م.، وكان باخوميوس منذ طفولته محبًا للعفة والطهارة، غير راضٍ عن العبادة الوثنية، ولا يشترك في ولائمها. أخذه والداه دفعة ليُقدما ذبيحة للشياطين التي في النهر، وإذ رآه كاهن الوثن صرخ: "أقصوا عدوّ الآلهة من هنا حتى تكف عن غضبها علينا، وتعود فتحضر الآلهة!"، فحزن الوالدان جدًا. في صبوته إذ حمل طعامًا للرعاة، بات في المساء هناك، وكان لأحدهما بنتان جميلتان، فجاءت إحداهما تطلب منه أن يضطجع معها، وأما هو فأجابها: "لا تدعيني ارتكب هذا الفعل الدنس! هل عيناي عينا كلب فأنام مع أختي؟" وإذ خلَّصه الرب من يديها، هرب مسرعًا إلى بيته. تجنَّد باخوميوس في الجيش، وكان منطلقًا مع زملائه لقمع ثورة ضد الإمبراطور. في الطريق استراحوا عند مدينة لاتوبوليس (إسنا) وكان الكل منهك القوى، فجاء أهل المدينة يقدمون لهم طعامًا وشرابًا بسخاءٍ وفرحٍ. سأل باخوميوس عن سبب هذا الكرم، فقيل له إنهم يفعلون هذا من أجل إله السماء، فهم محبّون للجميع. بعد صلاة طويلة قرر أن يصير مسيحيًا إن عاد سالمًا. وبتدبيرٍ إلهي خَمَدت الثورة وسُرِّح الجنود، فانطلق إلى شينوفسكيون (قصر الصياد) حيث سجَّل اسمه في قائمة الموعوظين، ونال العماد المقدس. بقيّ في القرية ثلاث سنوات يمارس أعمال المحبة والرحمة، خاصة عندما حلّ بها وباء فكان لا يكف عن خدمة الجميع. أحبت القرية كلها القديس باخوميوس، لكن قلبه كان يلتهب نحو التكريس للعبادة، وإذ سمع عن راهبٍ قديسٍ يسكن البرية بجوار القرية يدعى "بلامون" انطلق إليه، وسأله أن يقبله تلميذًا له. أظهر له القديس بلامون صعوبة الحياة الرهبانية، وطلب منه أن يرجع إلى القرية يجرِّب نفسه بتداريب معينة لكنه أمام ثبات قلب باخوميوس قبله، بل وأحبَّه جدًا، خاصة وأن باخوميوس قد اتسم بالطاعة مع النسك الشديد وحب العبادة. كان القديس باخوميوس متهللًا بحياة الوحدة، سعيدًا بعمل الله معه خلال أبيه الروحي أنبا بلامون، لكن قلبه كان متوجعًا من جهة إدراكه أن كثيرين يشتهون الحياة الرهبانية لكنهم عاجزين عن ممارسة حياة الوحدة القاسية، فكان يطلب من أجلهم. وفي أحد الأيام إذ كان يجمع حطبًا في منطقة طبانسين Tabennhci (جنوب قصر الصياد)، ظهر له ملاك، وطلب منه أن يقيم ديرًا هناك، وأعطاه لوحًا به البنود الأساسية لنظام الشركة، وقد جاءت سهلة للغاية، يستطيع الكثيرون أن يمارسوها. أخبر القديس باخوميوس معلِّمه الأنبا بلامون بما حدث، ففرح الأب جدًا وبارك العمل، وبالرغم من شيخوخته لم يعترض على إقامة نظام جديد للرهبنة لم يعهده، بل ذهب معه إلى طبانسين Tabennhci وساعده في تأسيس الدير، ثم استأذن منه ليعود إلى مغارته على أن يلتقيا مرة كل عام، تارة في الدير وأخرى في المغارة، وإن كان القديس بلامون لم يعشْ كثيرًا بعد ذلك. أسس القديس باخوميوس أول دير له حوالي عام 318 م. في طبانسين Tabennhci بالقرب من باقو أو بابو، وقد أعطاه الله نعمة في أعين الكثيرين حتى أنشأ في المنطقة حوالي عشرة أديرة، وكان عدد الرهبان في الدير الرئيسي بباقو وحده حوالي 1500 راهبًا. جاءه أخوه الأكبر يوحنا حيث ترهَّب عنده، وكان يعمل معه بكل طاقته في تأسيس هذا النظام، كما جاءته أخته فقابلها وشجَّعها على الحياة الرهبانية، وأسس لها ديرًا في الاتجاه المقابل من النيل، ضمَّ حوالي 300 راهبة تحت قيادتها. نال هذا النظام تقدير الكنيسة حتى من قادة نظام الوحدة، فقد امتدح القديس أنبا أنطونيوس القديس باخوميوس على عمله هذا، وحسب نجاحه عطيَّة من الله. وقد حفظت سيرة القديس باخوميوس ونظام الشركة في كثير من التفاصيل، إذ وصلت إلينا بأكثر من لغة ولهجة، كالقبطية البحيرية والصعيدية وأيضًا باليونانية الخ... أكتفي هنا بتقديم الخطوط العريضة لملامح هذا النظام. 1. قام هذا النظام كحركة شعبية (علمانية)، لذا رفض القديس باخوميوس أن ينال درجة كهنوتية، وعندما شعر أن البابا أثناسيوس في زيارته له سيقوم بسيامته كاهنًا هرب، واضطر البابا أن يطمئنه قائلًا لأولاده أنه لن يمد يده عليه لسيامته وإنما يطلب بركته. وبالفعل عند عودة البابا من أسوان استقبله القديس بفرحٍ شديدٍ. بهذا قدَّم نفسه مثلًا حيًا للحياة الرهبانية كي لا يشتهي أحد درجة كهنوتية ويجد عدو الخير مجالًا لبث الغيرة بين الرهبان. 2. اتَّسم النظام الباخومي أنه يناسب الكثيرين، فمن جهة الصوم يأكل الراهب مرتين كل يوم، ويمارس صلوات جماعية متكررة، كما يقوم بعملٍ يناسب مواهبه وقدراته مثل النجارة أو الفلاحة أو الطبخ أو الغزل أو البناء أو النسخ، ولكل جماعة رئيس يدير الأمور ماديًا وروحيًا، وكان العمل جزءًا أساسيًا من الحياة الروحية. 3. انفتحت الأديرة لغير المصريين مثل اليونان والرومان، ولكل جماعة منهم رئيس يدبِّر حياتهم في الرب. 4. سُمح للشخصيات البارزة المحبة للوحدة أن تُمارس هذه الحياة، وكان القديس باخوميوس كثيرًا ما يجتمع بالمتوحدين. تبقى شخصية القديس باخوميوس بارزة عبر العصور كشخصية قيادية عجيبة جمعت الآلاف في الأديرة المتقاربة والبعيدة بالصعيد، يدبِّر أمورها بروح الحب مع الحزم، مهتمًا في نفس الوقت بخلاص كل نفسٍ ونموِّها الروحي. عُرف القديس بوادعته واتضاعه، فعندما سأله بعض الإخوة عن أي منظر أو رؤيا قد أعجبته، أجاب أنه يُعجب بمنظر أخٍ وديعٍ إذ فيه يسكن الله. ظهر له الشيطان مرة على شكل السيد المسيح، وهو يقول: "افرح يا باخوميوس لأني جئت لافتقادك". أما هو ففي اتضاع أعلن أنه يريد أن يرى السيد المسيح في الحياة الأبدية لا بالعين الجسدية هنا، وللحال صار الشيطان كدخَّان تلاشى. مع حبه الشديد لأولاده ورقَّته في التعامل وطول أناته كان يتسم أيضًا بالحزم. جاء عنه إذ أراد افتقاد بعض الأديرة طلب من مدبر المائدة أن يهتم بالإخوة ويعد لهم طعامًا مطبوخًا، لكن الأخ لم يفعل ذلك. وعندما عاد القديس إلى الدير اشتكى له أحد الشباب الحديثين في الرهبنة أنه منذ فترة طويلة لم يُقدم لهم طعامًا مطبوخًا، فأجابه القديس أنه سيهتم بأمرهم بنفسه. استدعى الموكل بهذا العمل، وسأله عن أمر تدبير المائدة، فأجابه أنه طهي الطعام في البداية وكان الكل يمتنعون عن أكله زهدًا، لهذا توقف عن الطهي وشغل وقته في عمل سلالٍ. طلب منه القديس أن يحضر كل ما صنعه من سلال، وفي وسط كل الرهبان أمر بحرق السلال موضحًا لهم ضرورة الطاعة، كاشفًا لهم أنه كان من الأفضل أن يخسر الدير الطعام الذي يمتنع الرهبان عن أكله بإرادتهم عن أن يفقد الدير شخصًا واحدًا يتعثر بسبب حرمانه من الطعام المطبوخ بغير إرادته. انتشر وباء في صعيد مصر وأصيب كثير من الرهبان حيث تنيَّحوا، كما تنيَّح بسبب هذا الوباء القديس باخوميوس في عام 348 م. يعيد له الغرب في 14 مايو، وتعيد له الكنيسة القبطية في 14 بشنس. نظام الشركة كما أسَّسه القديس باخوميوس جذب قلوب الكثيرين من قادة الفكر الرهباني في الشرق والغرب، فقاموا بترجمته وتطبيقه عمليًا إن لم يكن في مُجمله ففي أغلبه. منهم القديس باسيليوس الكبير والقديس يوحنا كاسيان والأب قيصريوس أسقف أرل Arles وخلفه أوريليوس، والأب بندكت الذي وضع نظامه المشهور كأب للرهبنة الغربية، مقتبسًا الكثير من النظام الباخومي. عظات القديس باخوميوس 1- عظة تتضمن الحرص على خلاص النفس والنشاط في حفظ الوصايا الإلهية: * اختتم الأب الكبير باخوميوس الصلاة مع أولاده الرهبان، ثم جلسوا جميعًا لاستماع تعاليمه، ففتح القديس فاه وشرع في التعليم قائلًا: "أيها الإخوة.. إن العمر قد انصرم والوقت قد تقدم، فمادامت لنا نسمة في هذا الجسد الترابي فلنبذل ما في وسعنا ولنحرص أنفسنا ولنجاهد بكل قوتنا في تنفيذ وصايا إلهنا قبل حضور ساعة وفاتنا التي فيها نبكى على غفلتنا وتوانينا، ولا تنفعنا ندامتنا". فلنستغل الوقت مادام لنا وقت ونسعى وراء الفضيلة بنشاط نفس وثبات عزم. * تذكروا على الدوام خيرات المجاهدين المعدة لهم، في السماوات، تصوروا ما قد أعد للمتوانين من العذاب الأليم، لاسيما من عرف الحق وعمل ضده فإن عقابه سيكون أشد ألمًا. * لا تهملوا زيارة المقابر والنظر إلها لتعرفوا قوام طبيعة البشر وما هي نهايتها، وتتحققوا أننا زائلون لا محالة، فلماذا إذًا ننتفخ إذا كانت هذه النهاية نهايتنا، لماذا نتصلف ونتعجرف نحن الترابيون مع علمنا بعفونة نتانتنا وقبح الرائحة التي تبعث منا. * فلنفق يا إخوة من سكرتنا ولننهض من رقادنا وغفلتنا ولنرجع عن جهلنا وغينا ولنبك على نفوسنا مادام لنا وقت قبل وفود المنية وحضور ساعة القضية، ونحن غير متأهبين ولا مستعدين، حينئذ تُغلق الأبواب وتبطل العلل والأسباب ويبعد عنا زمان المتاب (زمان التوبة). * يا لها من نهاية صعبة، يا لها من ظلمة دامسة لتلك النفس المثلثة الشقاء التي زهدت في الأمور العالمية ورغبت في الملكوت السمائية وتدونت لله في الجندية، ثم تعمل بخلاف ما وعدت ونذرت. * فيجب ألا نسمح -أيها الإخوة المبوبون- لهذا الدهر القليل المدة الحقير الزائل المتلاشي أن يغرنا بخداعه ويختطف منا تلك الحياة السعيدة والغبطة المديدة، الدائمة البقاء والعادمة الفناء الخالية من سائر المعاطب والهموم، الخالية من كل المكاره والغموم. حدثنا الأب باخوميوس قائلًا: * أنني سمعت سماعًا محسوسًا الأرواح الخبيثة تصف وتثبت أنواع شرورها وفنون خبثها التي تتعمد بها الرهبان، فكان بعضها يقول لأصحابه: تسر نفسي وتبتهج براهب مهما وسوست له في فكره قبله في الحال ونهض إلى فعله وتتميمه، لذلك تكثر له مودتي وتزداد نحوه محيتي. * قال آخر: أما أنا فتحزن روحي وتكتئب من الراهب الذي متى أخطرت بفكره أمرًا، وليس أنه لا يقبل مشورتي فقط بل ينهض بصرامة وقوة وينتصب مصليًا إلى الله طالبًا منه إبعادي وإبادتي، وبذلك لا يمكنني أن أثبت عنده، بل في الحال. أولى عنه هاربًا كمن قد ألتهب نارًا، لهذا تكثر له بغضتي وتقل عنه زيارتي. * قال آخر: أنا بدقيق حيلتي وبلطف دهائي أعرض على الراهب بضاعتي، كل نوع منها بنوعه، فدفعة يجنح إلىّ ويبتاع منى ومرة يفر منى، وهذا دأبي مع الناس كافة وقال آخر: أنا أقاتل ولا أمل، ولا أكل، فمرة أغلب ومرة أنغلب ثم أعاود ولا أهدأ. * ثم قال الأب الكبير: أيها الإخوة. احفظوا نفوسكم وقلوبكم من كل جهة واختموها بخاتم اسم المسيح، لأن مقاتلينا أرواح لا تُرى فيجب علينا أن نستعين بقوة الله الذي لا يُرى، حينئذ يولون من هذا الاسم ويهربون ولا يمكنهم أن يضرونا البتة. * ما دمنا حافظين مدينتنا إذ نحرس سورها ونغلق أبوابها ولا ننام ونغفل عنها، لن يقدر الأعداء على أخذها، وأليَق ما نقول أنهم لا يتقدمون إليها إذ لا يجدون لهم مطمعًا فيها. * فإذا كان الأمر كذلك، والأمر مردود إلى حريتنا واختيارنا في أن نُهلِك أنفسنا ونميتها وأن نقتنيها ونحييها، فأي عذر لنا ما هو احتجاجنا إذا أهملنا أمر خلاصنا. * قال الأب: لنفرض أن إنسانًا له محلة فيها مائة بيت، فباع باختياره لرجل غريب بيتًا واحدًا. هل يقدر أن يمنع ذلك الرجل الغريب من الدخول والخروج إلى بيته، ولو كان ذلك البيت في داخل البيوت كلها. هكذا هو الإنسان المؤمن، إن امتلك كثرة كثيرة من ثمار الروح القدس، ثم بتوانيه وغفلته أعطى لعدوه (الشيطان) موضعًا صغيرًا في أمر ما، لن يقدر أن يمنعه من الدخول والخروج لافتقاد الجزء الذي يخصه. * إذا كان إنسان بعيدًا عن معرفة الله ساجدًا للأصنام، فأتيت به على معرفة الله خالقه فها قد أحييت بالحقيقة ميتًا. * إن أنت رددت إنسانًا من ذوى البدع في الدين إلى معرفة المسيح الحقيقية فيها قد فتحت عيني أعمى. * إن أنت صيرت يد محب المال رحومة فها قد شفيت يدًا يابسة. * إن أنت صيرت الزاني عفيفًا فها قد أطفأت نارًا وأخمدت لهيبًا. * إن أنت أرشدت الجاهل إلى معرفة الكتب فها قد عافيت أصمًا. * إن أنت جعلت الكسلان نشيطاَ فها قد أنهضت مخلعًا. * وإن أنت جعلت الغضوب وديعًا فها قد أخرجت شيطانًا. * فعن غير هذه المعجزات لا تسأل. أحسن منظر: * حدثنا هذا الأب الكبير وقال: سألني أحد الإخوة في أحد الأوقات قائلًا: قل لنا منظرًا مما تنظر لنستفيد منه تخشعًا وإيقاظًا لنفوسنا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فأجبته قائلًا: من كان سقيمًا وخاطئًا أثيمًا مثلى لا تُعطى له لمناظر الروحية والاستعلانات الإلهية، ولا يتجاسر هو على التماس ذلك من الله، ومن توقح وطلب ذلك (أي أن يرى رؤى) فهو من الناس الجهال. * لكن إن شئت أن تنظر منظرًا إلهيًا وتشاهد أمرًا بهيًا يفيدك أكبر المنافع فأنا أدلك عليه: متى رأيت إنسانًا ورعًا متضع القلب طاهرًا، فهذا أعظم من سائر المناظر الروحية وأحسن من كل المناظر الإلهية، لكونك تشاهد الله الذي لا يُرى في هذا الإنسان المرئي..... فعن أفضل من هذا المنظر لا تسأل. أهمية الوصية: * لا يُدان أحدنا إذ ليس له استعلانات ولا يملك علم المغيبات، بل يُدان إذا سها عن ذكر الإله المبدع كافة البرايا (المخلوقات) وغفل عن تنفيذ الفروض والوصايا: فيجب على الإنسان من صغر سنه وليونة غصنه أن يمارس الخير والصلاح ويمتد فيه إلى قدام كما كان صموئيل، لأن الأرض النقية تكون مستعدة لقبول البذار الإلهية، أما الأرض البور العاطلة فتحتاج إلى أتعاب كثيرة وأعراق ليست يسيرة إلى أن تصلح لقبول البذار، وإن هي أهملت بارت وأهلكت ما كان قد وضع فيها من صالح البذور والغروس. * في أحد الأوقات توجه الأب باخوميوس إلى دير طبانسين Tabennhci، ولما وصل هناك التقاه الإخوة وسلموا عليه، وجلس كعادته بينهم وكلمهم من أجل حراسة النفس وصونها من شر الأعداء الماكرين وتخابثهم على دنس البشر ولاسيما الرهبان، وقال: الخليق بالراهب ألا يكتفي بنسكيات الجسد الظاهرة كالصوم والصلاة والسهر والخدمة فقط، بل ويضيف إلى هذا أن يجاهد في صيانة النفس من هواجسها وزهوها، ومن الافتخارات التي تشينها وتضعفها أعنى حب الرئاسة والخيلاء والبغضة والمشاحنة والتيه والصلف والنميمة وما شاكل هذه الرذائل. * والأجدر به قبل كل شيء أن يقتنى خوف الله ساكنًا فيه، وأن ينظر على الله في السر والعلانية في كل حين وفي كل مكان، لأنه جل اسمه وتقدس ذكره ناظر على جميع الأعمال من خير وشر. * فإن فعل هذا (أي اقتنى خوف الله) امتنع عن ارتكاب الخطيئة، وإن هو أهمل خوف الله والمراقبة الخلاصية لنفسه وغفل عن العمل بالوصايا، حينئذ ينطبق عليه قول المزمور "تتدنس في كل حين طرقه برفعه أحكامك عن وجهه". خوف الله: * وكما أن النار تجلو الصدأ عن الحديد هكذا خوف الله يذيب عن النفس كل رذيلة ويجعلها إناءً للكرامة ومحلًا للسلامة. * أما ما يلقيه إبليس من التجديف الذي هو نتيجة الكبرياء المتولدة فينا من إدانة قريبنا فدواؤه (أي دواء التجديف) مع رحمة الله الاعتراف به وإشهاره للآباء الروحيين ثم إهماله وتركه. أما أن أهمل الإنسان الاعتراف به وأخذ في إبعاده عنه بالصوم والصلاة وتواصل الركعات (المطانيات metanoia) فهو يتعب باطلًا ويجاهد عاطلًا. فالأولى بنا أن نهين هذا الفكر ونقول لزارعه: اذهب عنى يا شيطان فأنا لربي وحده أسجد وإياه أعبد، أما أنت فليرجعني قولك على رأسك ولينحدرن تجديفك على هامتك. * هذا الداء النجس والمرض الرجس قد ألقى كثيرين من قليلي الخبرة في اليأس. وقوم شقوا أجوافهم بأياديهم بسكاكين وغيرهم طرحوا ذواتهم من أعلى إلى أسفل كعقل المجانين وهلكوا بأسوأ ميتات. وبالجملة أقول أنه إن غفل الإنسان عن هذا المارد ولم يحفل به قتله وأهلكه وسلب منه عمره وحياته. أهمية الاعتراف: * فسبيلنا أن نعترف بالأمر للرجال الخبيرين بهذه الصناعة وبعد ذلك نصلى بإفراز روحاني. * في أحد الأيام جمع أبونا باخوميوس الإخوة وقال لهم: أريد الآن أن أقول لكم بعض الوصايا لكي تحفظوها كلكم خلاصًا وثباتًا لأنفسكم لكي لا يقع الذين لم يقووا بعد في الإيمان في فخ إبليس. * واحذروا أن يشك أحد في الكلام الذي أقوله لكم متذكرين الكلمة المكتوبة " إنكم إذ لا تؤمنون لا تفهمون". وهذه هي النصائح التي أريدكم أن تحفظوها: * لا يرقد أحد منكم على مرقد ليس له. * لا يدخل أحد منكم إلى موضع (قلاية) ريقه بغير ضرورة مُلحة. وذلك لكي لا يجد العدو فينا موضعًا البتة. * وقد أورد بستان الرهبان عظة للقديس باخوميوس مشابهة لهذه العظة وهذا نصها: في أحد الأيام جمع الأب باخوميوس الإخوة وقال لهم "أريد الآن أن أقول لكم وصايا لكي تحفظوها كلكم خلاصًا وثباتًا لنفوسكم، لاسيما لأولئك الذين لم يقووا في الإيمان والأعمال حتى لا يقعوا في فخ إبليس".... * تشبه بعفة يوسف وحكمته واحسد سيرته. * الزم البكورية في أعضائك والطهارة في قلبك وجسدك. * إياك والنجاسة لأنها تفصل الإنسان عن الله، واهرب من جميع ملذات الدهر الحاضر. * احرص على طهارة جسدك وسلامة قلبك لأنك إن تمكنت من نوالهما أبصرت الله ربك. 1- نصيحة لأولاده الرهبان عن الجهاد في الحياة الروحية: * أيها الإخوة: اغتنموا الوقت فإنه زائل. جاهدوا فيما دُعيتم إليه. وصلواتكم لا تفوتكم لأنها سور لكم وفريضة من الله عليكم. احرصوا على تلاوة المزامير فإنها تدفع عنكم الأعداء. * وكانوا يستفيدون من نظرهم إلى سكوته في بعض الأوقات المنفعة الكبرى التي تزيد عن التعاليم والعظات. * فيما هو ماض دفعة مع الإخوة في شغل، وكانت الحاجة أن يحمل كل واحد حملة خبر، فقال له أحد الإخوة: لا تحمل أنت يا أبانا شيئًا، هوذا قد حملت كفافي وكفافك. أجابه الأب: لا يكون هكذا. إن كان مكتوبًا عن الرب أنه يليق به أن يتشبه بإخوته في كل شيء (عب17:2) فهل أنا الحقير أترك إخوتي يحملون شيئًا عنى أو يعملون عملًا لا أعمله مثلهم؟! * من أجل هذا رهبان الأديرة الأخرى كائنون بانحلال لكون صغارهم يتعبدون لكبارهم وليس واجبًا أن يُعمل هكذا، لأنه مكتوب "من يريد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم عبدًا، ومن يريد أن يكون فيكم أولًا فليكن لكم خادمًا كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت 26:20-28) ويقول الرسول "يداي هاتان خدمتا حاجاتي" (أع34:20). * الرهبان لابسو الزى المقدس المقيمون بالأديرة المشتركة ليس لهم أن يسموا شيئًا خاصًا لواحد منهم، ولا يدور فيما بينهم: لي ولك ولهذا ولذاك. وغلا فلا يليق أن تدعى "كنونيًا" أي عيشة مشتركة، بل مجامع لصوص ومغائر مملوءة رذيلة وسلب الأشياء المنذورة لله. * جميع المواهب بطول الروح وثبات القلب تُعطى، وجميع القديسين لما ثبتوا قلوبهم نالت أيديهم المواعيد. * فخر القديسين هو طول الروح في كل شيء. وبهذا حُسبوا قديسين. * هذه هي الأعمال الفاضلة: * إن قاتلك فكر ضجر من اجل أخيك (حقد أو غيظ على أخيك) تحتمله بطول روح حتى يريحك الله منه. * صوم دائم. * صلاة بغير فتور في مخادع قلبك بينك وبين الله. * وصية صالحة لأخيك. * بتولية بتحفظ في أعضائك. * طهارة في قلبك. * عنق منحنى وضرب مطانية metanoia مع قولك اغفر لي. * دعى في أوان الغضب. * احفظ نفسك من هذا الفكر الذي يجلب لك تزكية ذاتك والازدراء بأخيك، لأنه مغبوض جدًا قدام الله الذي يكرم نفسه ويرذل أخاه. * لا تحتقر أحدًا من الناس ولا تدنه ولو رأيته ساقطًا في خطية، لأن الإدانة تأتى من تعظم القلب، أما المتواضع فيرى كل الناس أفضل منه. "وكيف تدين عبدًا ليس هو لك. إن سقط فلربه، وربه قادر أن يقيمه (رو4:14). * سبيلنا أن نصبر على كل تجربة توافينا بحماسة نفس وشجاعة قلب، لأن مفاجأة المحن مهما كانت لا تضرنا بل تنفعنا جدًا إذا قبلناها بشكر. لأن التجارب هي صابون الذنوب. * في أحد الأيام في وقت المساء دعا الأب باخوميوس تلميذه تادرس، وأقامه في الموضع الذي يقف فيه هو (منبر الوعظ)، وقال له: عِظ الإخوة بأقوال الله التي يلقنها لك روحه القدوس، فامتثل تادرس للأمر. * ولما رأى بعض الشيوخ ذلك تركوا الاجتماع ومضوا متذمرين. * وبعد الاجتماع استحضرهم الأب وسألهم: ما هو السبب الذي أوجب انفصالكم عنا وابتعادكم منا؟ ألم تسمعوا عن الرب أنه أقام صبيًا بين تلاميذه وقال لهم: من قبل صبيًا مثل هذا باسمي فقد قبلني، وإن كنتم لم تذكروا أفما تروني كيف أنا قائم بين جميع الإخوة مثل طفل؟ فلماذا لم تغلبوا روح الشر؟ فأجابوه قائلين: إنك جعلت واعظنا ومعلمنا شابًا مبتدئًا، ونحن شيوخ وكهول وأقدم منه في الدير. * فلما سمع هذه الأقوال تنهد وقال: إن داءكم قتال ومرضكم عضال، أما علمتم من أين جاءت الرئاسات إلى العالم، أليس من الكبرياء والخيلاء التي سقط بها كوكب الصبح (الشيطان) مهشمًا إلى الأرض. ولأجل الأُبهة والشرف الباطل الذي تطلبونه ساكن نبوخذ نصر ملك بابل الوحوش وساواها (دا 4). أما سمعتم الكتاب الإلهي قائلًا "المرتفع بين الناس مرذول قدام الله، والمرتفع سيوضع. لقد طرحتم رأس فضائلكم الذي هو الاتضاع واخترتم بدله الكبرياء أو الرذائل وأولها، لأنكم ما تركتم تادرس وتخلفتم عنه بل عن الله الساكن فيه والناطق على لسانه. * والآن أقول لكم: إن لم تتوبوا توبة خالصة عن فارطة (خطية) التيه والصلف فإنكم ستهلكون. * مرض أحد الإخوة جدًا في أيام البصخة (أسبوع الآلام) وكان ناسكًا، ولم يشأ أن يأكل شيئًا مطبوخًا قائلًا: جيد لي أن أموت من أن أكل وأشرب في هذه الأيام المقدسة فمضى إليه الأب باخوميوس وقال له: الأيام كلها لله، والذي أمر أن يعمل الناس البصخة هو الذي أمر بالمرض عليك. * فالآن لا تخف ولا تحسب أنها خطية إذا أنت أكلت لحاجة المرض، لأنه مكتوب في سفر العدد "إن لم يتمكن أحد أن يحمل قربانه للرب ويعمل البصخة (الفصح) في الشهر الأول فليعمل بصخة الرب في الشهر الثاني (عدد 10:9-11)". فالآن إذا لم تقدر أن تعمل البصخة بسبب المرض، فبعد أن تستريح إذا شاء الرب فأنت تقدر أن تعملها. * حدث أن أحد الإخوة مرض وانطرح على الأرض وطال مرضه وضعف جسمه وتغيرت هيئته وبلغ إلى حد الموت، وأنه يلتمس من مدبر المائدة قليل لحم لترجع إليه قوته لأنه كان قد أضناه المرض ولم تبق فيه إلا العظام، فغفل عنه المدبر، فتوسل المريض إلى من حمله وطرحه في حضرة الأب باخوميوس مسجى على الأرض، فعرفه بسوء حاله وانحلال قوته، وأنه طلب من المدبر يسيرًا من اللحم ليأكله لكي ترجع إليه قوته فلم يجبه إلى ذلك. فلما رآه الأب أنه مستحق لما طلبه حزن بسببه وقال للمدبر: أين التحنن، فإذا أبصرت هذا الأخ مريضًا ذليلًا، فلم لم تصرف عنايتك إليه وتهتم به بحسب الواجب المفروض عليك، لماذا احتقرته ورذلته ولم تجبه إلى مطلبه، أليس هو عضو من أعضائك، أهكذا أنت عديم الإفراز؟! * حينئذ تاب المدبر إليه واستغفر منه، وصار يغذى الأخ لحمًا مدة من الزمان، فلما تماثل للشفاء، عاد إلى أكل السليق والحبوب أسوة بالإخوة. * في أحد الأيام أخذ الأب باخوميوس معه أخين (راهبين) وركب في مركب صغير ومضى لافتقاد الإخوة في دير منخوسين ولما كان المساء وهم في السفينة صلوا على حسب عادتهم، وجلسوا على المائدة، فقدم الأخان ما كانا قد أحضراه معهما، خبزًا وجبنًا وزيتونًا وتينًا وغير ذلك، وصارا يأكلان بغير إفراز، أما الأب فكان يأكل خبزًا فقط وعيناه تدمعان. فلما رأياه باكيًا قالا له: ما الأمر يا أبانا؟ قال: لا شيء. فلما ألحا عليه في السؤال قال لهما: بكائي هو من أجلكما لأنكما لا تمسكان شهوتكما وذلك لأن خوف الله ليس فيكما، ولذلك تأكلان بدون شفقة من كل شيء قدامكما. لأن سبيل من كانت همته مصروفة للعلويات أن يتنسك في كل شيء من الحاضرات مثل كلمة الرسول. فقالا له: هل أكلنا الآن مما هو موجود لدينا يعتبر خطية؟ فقال لهما: لا ليس من الأكل خطية ولاسيما مما كان متيسرًا، لكن الطريق التي تؤدى إلى الحياة ضيقة وضاغطة، وقد قال الرسول " كل الأشياء تحل لي لكن ليست كلها توافقني، كل الأشياء تحل لي لكنى لا أدع شيئًا منها يتسلط على ويتعبدني (1كو12:6)". * وقال أيضًا "من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء (1كو25:9)". * أما تعلما أن الكتب المقدسة قد دُونت لمنفعتنا، فإذا سمعناها وخالفناها كانت موبخة لنا. أما أنا فإنسان خاطئ اقتنع بالخبز والماء، ولاسيما وأنا خارج ديري، فإذا عدت إلى ديري تساويت بإخوتي. * ثم قال لهما: "إن الأكل بقدر ليس خطية، وإنما هزيمة الرهبان هي أن تسود عليهم الحنجرة ويتعبدون للشهوة. * وقال أيضًا: سبيل الراهب ألا يكتفي بنسك الجسد والتعب الظاهر وحده، بل عليه أن يقتنى خوف الله ساكنًا فيه، لأنه هو الذي يحرق الأفكار الرديئة ويفنيها كمثل النار التي تحرق الصدأ وتنظف الحديد من الأوساخ، كذلك خوف الله يطرد كل رذيلة من الإنسان ويجعله إناءً للكرامة يصلح لعمل الله. * فلما سمع منه الأخان هذه النصائح تخشعا وانتفعا جدًا وأخذا في محاكاته والتشبه به. * أمره الأب أن يصوم كل يوم إلى المساء، وأن يأكل دون الشبع قليلًا. وقال له: من اليوم احفظ جسدك بطهارة ولا توافق شيئًا من الأفكار الرديئة التي تخطر على قلبك، واحرص على أن تعمل ليالي سهر في الصلاة مرارًا كثيرة لكي يتغرب عنك بالكمال ذلك الروح الشرير (روح الزنا) الذي صرت له عبدًا. وعندما تتنسك وتتعبد كن بكل اتضاع قلب، قائلًا في نفسك: إني قد أغضبت الله مرارًا كثيرة، فإذا أنا حفظت كل الذي أعطى لي (من نصائح وقوانين) استحق الحياة وأخلص من النار التي لا تُطفأ والدود الذي لا ينام. * وإذا نظرك الإخوة تتنسك وأكرموك لكونهم غير عالمين بما فعلت من الخطايا، قل في قلبك هكذا: يا رب لو كان هؤلاء يعلمون الخطايا والآثام التي صنعتها وأعمالي الردية" ليس أنهم لم يكونوا يكرمونني فقط بل ولا كانوا ينظرون إلىّ بالجملة، حتى لا يصعد على قلبك شيء من أفكار المجد الباطل لئلا تزيد خطايا على خطاياك. * وإذا أساء إليك أحد في أمر ما، احتمل بشكر قائلًا في قلبك: إنني قد أغضبت الله دفوعًا كثيرة وأسأت إليه بأعمالي الردية. وكن أيضًا خاضعًا مطيعًا للإخوة الذين أنت تحت طاعتهم مثل القوانين الموضوعة لنا، لكي ينظر الله إلى تواضعك وتعبك ويغفر لك جميع خطاياك كما هو مكتوب (مز18:25). 1- نصيحة بخصوص الصوم: * لما كانت أيام البصخة المقدسة تقدم إليه تادرس قائلًا: يا أبي، حين كنت علمانيًا كنت أصوم يومين، والآن ماذا ينبغي وقد أدخلني الرب إلى هذا الكمال (الرهبنة)، هل أصوم إلى رابع البصخة ثم أصوم اليومين الأخيرين. * قال له الأب: يا تادرس، في جميع زمانك لا تخرج عن قوانين آبائنا، كما سلموها لنا في جميع وصاياهم، أن نصوم يومين يومين وأن نسهر في الصلاة ونعمل عمل أيدينا من أجل وصية الرب حتى نكون في عذاب الجسد أكثر من الذين يصومون الأربعة أيام أو البصخة كلها، وهؤلاء لا يستطيعون أن يدوموا في الصلاة ولا أن يعملوا لكي يكملوا الوصيتين، حب الله وحب القريب، لأن ما المنفعة التي ينتفع بها أولئك الذين يصنعون هذا؟! * بل يجب على الإنسان التقى أن يجرب أولًا كل عمل قبل أن يبتدئ به إن كان فيه منفعة أم لا، ثم أننا نسمع عن الذين يفعلون هكذا أنهم يُتعبون أناسًا آخرين في خدمتهم وينفرونهم بضجرهم عليهم من أجل ضعفهم بسبب كثرة الصوم، ثم بعد البصخة أيضًا يهتمون لأنفسهم بأطعمة كثيرة حتى يتقووا. * أما النساك الكاملون فليس الستة أيام (البصخة) فقط كائنة لهم عذابًا بل جميع عمرهم كائن لهم بصخة إلى يوم افتقادهم، وجسد الرب الطاهر يأخذونه كل حين في الأيام المحددة، لأن طهارتنا وحياتنا كائنة به. * فلما سمع تادرس هذا الكلام قبله كما من الروح القدس نفسه. * في أحد الأيام كان الإخوة يأكلون وتادرس يخدمهم، وكانت أيام الخماسين، فأعطى لهم جبنًا ليأكلوا، وبعد فراغهم من الطعام أعطى المدبر (الربيتةoikonomoc) لتادرس جبنًا لكي يأكل فلم يشأ أن يأخذه، ولما ألح عليه قال: لا. فقال له الأب باخوميوس: ما هذه الكلمة التي قلتها يا تادرس، لا. لقد أعطيت للشيطان فيك موضع معصية، إن كنت لا تريد أن تأخذ قل: لا أريد الآن أن آخذ وأستعمل منه يسيرًا ثم ضعه، ولا تترك عادة أن تقول لا أن تثبت فيك لأنها ليست ثمرة مستقيمة. فلما سمع تادرس هذا تألم جدًا ولم يعد يصنع هكذا. * دعا مرة الأنبا باخوميوس تلميذه تادرس ليلًا والقمر يضئ ثم قال له: ارفع عينيك إلى فوق لترى هذا القمر المضيء، وفكر كيف يضئ على الأرض وهو مخلوق وأحد خلائق الله، فالذي خلق هذا القمر وخلق الشمس وجميع المخلوقات وهو غير منظور، فيا تُرى كم يكون ضياؤه ومجده. * فخف الآن منه جميع أيام حياتك، عالمًا أنه هو الذي خلقنا نحن وجميع المخلوقات الأخرى، ونحن جميعًا في يديه. فإذا أنت خفته وتأكدت أنه ينظر إليك دائمًا، فأحفظ نفسك ألا تخطئ إليه، واعلم أن المعونة الحقيقية تعبر إليك من قِبَله، فتسبحه كل حين جميع أيام حياتك. وفيما يقول هذا بكى الاثنان وصليا ومضيا. * مرض الأنبا باخوميوس مرة، فأخذه تادرس إلى الموضع الذي يأكل فيه الإخوة المرضى لكي يطعمه هناك، فطبخ له الأخ الطباخ قليل سليق جيد، فلما ذاقه الأب على انه طبيخ جيد، قال لهم: أنتم لا تعرفون أن تطبخوا الطعام، أيتوني بقليل ماء، فلما احضروا له الماء سكبه في طبق الطعام وابتدأ يأكل. * وبعد الأكل سكب تادرس ماءً على يدي الأب لمى يغسلهما، وفيما هو يغسل يديه رش الأب الماء من يديه على رجلي تادرس كأنه يغسلهما. * ولما فرغ سأله تادرس: ما هذا الذي فعلته يا أبى، سكبت الماء على الطعام حتى فسد؟! قال له الأنبا باخوميوس: في كل زمانك، كل شيء تصنعه احفظ نفسك من المجرب لئلا يخسرك، لأن الأخ الذي أعد لي الطعام أعده لي طعامًا جيدًا وبنشاط، والنشاط لا يكون دائمًا مع الإنسان، فلت لئلا أكل طعامًا جيدًا ويأتي الغد وأنا مريض فأنتظر أن يعد لي طعامًا جيدًا، وبهذا السبب يضطرب قلبي، من أجل هذا أفسدت ما أعده لي جيدًا حتى إذا أتى الغد ولم يعد لي طعامًا جيدًا لا يهمني، لأننا لا نجهل أن الرجل المؤمن يجربه المجرب. * ثم سأله تادرس أيضًا: لماذا وقت أن غسلت يديك سكبت الماء على رجلي كأنك تغسلهما؟! قال الأب: رأيت أن أفعل هذا لكي لا تتشامخ نفسي وحتى لا تدينني أفكاري أنك خدمتني إذ أن خدمة الكل لازمة على كما قال السيد المسيح "لم آت لأُخدم بل لأخدِم" (مت28:20) وبهذا أصير مثالًا نافعًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فانتفع تادرس جدًا. * اعلم (يا تادرس) أن حفظ الوصية هو أول السيرة ورأس الفضائل، والإله جل اسمه هو أول من شرعها لأبينا آدم وصارت فريضة على الكل ولاسيما الرهبان الذين تجردوا لهذا العمل وحفظ الوصايا وإن كانت لأجل أمر صغير وشيء حقير، فلحفظ الوصية من الأجراء أو فره ومن الثواب اغرزه. * وتلك الخلائق الكثيرة الذين أحاطوا بمدينة أريحا لما أُمروا من مقدمهم يشوع بن نون بالصمت مدة الستة أيام التي داروا فيها، ولما هتفوا في اليوم السابع أُسقطت أسواره * امتثلوا كلهم -كبيرهم وصغيرهم- بوصية رئيسهم بالإذعان والطاعة، وكان الناظر يشاهد عجبًا عجابًا، يشاهد آلافًا وربوات من الناس يعسر عدهم وكأنهم خرس لا يبدون كلمة ولا نطقًا، ولما أُمروا بالكلام امتثلوا للأمر وتكلموا، فتتموا في الحالتين رضى الروح ومسرته. * وهؤلاء الإخوة فقل لهم أن يتحفظوا في المستقبل ليصفح لهم الله عن خطاياهم السابقة واجتهد من الآن ألا تتهاون لئلا يكون في الناس مخالفة وتكون أنت المطالب أمام الرب بخطاياهم. * كان الإخوة في الحصاد وتادرس معهم يهتم بالموائد والطعام، وفي إحدى العشيات كان الأب باخوميوس مجهد الجسم مُتعبًا جدًا، فقال لتادرس: ابسط لي حصيرًا على الأرض لأرقد عليها، فبسط له حصيرًا وطرح فوقها مسحًا، فلم يؤثر الأب ذلك بل قال له: خذ المسح واترك الحصير وحدها مثل جميع الإخوة، فأخذ المسح وترك الحصير. * ثم وضع تادرس يده في وعاء مملوء ثمرًا وملأها ومده إليه لكي يأكل فلم يأخذ بل كانت دموعه تجرى، فلما رآه تادرس وعيناه تدمعان بكى هو أيضًا وقال له: إنك مريض ولم تشأ أن ترقد على مسح شعر، وحتى كف (ملء يد) ثمر لم تشأ أن تأكله أيضًا قال الأب باخوميوس: نعم، لأنني خفت من حكم المسيح لئلا أدان بهذا السبب، لأنه قد يكون أحد الإخوة مريضًا أكثر منى ولم نعلم به، ونكون نحن الذين تحت أيدينا حاجات الإخوة (الرهبان) ننال نياحًا أكثر منهم. لا يكون ذلك أبدًا. * فمقدم (رئيس أو أب) الرهبان هو قدوة لهم ومثال، عنه يأخذون وبه يتشبهون، فيجب أن يكون الرئيس المعلم إشارة صالحة للكل. يتصرف في جميع أموره الجسدية والروحية بإفراز كثير حتى لا يصير لإخوته حجر عثرة في أي أمر من الأمور، ويكون تعليمه لهم من سيرته وتصرفه ونسكه وهيئته ومن سائر أموره أكثر من تعاليمه لهم بأقوالهم وعظاته ويجب عليه أن يتفقدهم في حال الصحة والمرض. لأن المريض يكون أحيانًا من الشيطان العين بإطلاق (بسماح) من الله على سبيل الامتحان، فهنا نحتاج إلى إفراز كثير يمنحنا الله جل اسمه لئلا نستلقي كالفاشلين ونصير أضحوكة للشياطين بل نجاهد مقابله ولا نمل، حينئذ إلهنا الناظر إلينا يزيله عنا سريعًا. * أما إن كان المرض قد حدث عن عارض طبيعي معروف، فما سبيلنا أن نعاند الجسد ونزيده آلامًا. * كان القديس الأنبا باخوميوس سائرًا في أحد الأيام في طريق ومعه تادرس تلميذه، فعبرا على قبور وكان عندها نسوة يندبن وينحن وتنهمر الدموع من أعينهم، فقال لتادرس: هل ترى هؤلاء النسوة كيف ينحن ويبكين على أموات لا سبيل لهن على إقامتهم، فكم بالأكثر يجب علينا نحن المدعوين رهبانًا أن نندب ونبكى على أنفسنا المائتة بزلاتها التي نأمل من رحمة إلهنا أن يقيمها ويحييها، لأن الكتاب يقول "استيقظ أيها النائم وقم من بين الأموات فيضئ لك المسيح" (اف14:5). * وعلى كل حال فالبكاء ممدوح إذا كان بقصد صالح، وقد قال المرتل "عجبت من زفراتي، أحمي في كل ليلة مضجعي وابل فراشي بعبراتي" (مز6:6) وقال أيضًا: في المساء يحل البكاء وفي الصباح الفرح (مز6:30)، وقد عنى الآخرة. وقد بكى يوسف على إخوته وندب لأجل خلاصهم ليس دفعة بل دفعات، كذلك ناح أرميا النبي نادبًا على سبى الشعب إذ كانت منزلتهم منه منزلة الأولاد. وسائر الآباء القديسين بالبكاء فازوا. 1- في طاعة المرشد الروحي. 2- في التحفظ من الشهوة. 3- بخصوص عدم الخلطة بالنساء. 4- الالتصاق بالأطهار والمجاهدين. 5- في العمل والمثابرة " غير متكاسلين في الجهاد" (رو11:12). 6- في اليقظة والسهر. 7- الهذيذ الدائم في اسم الرب يسوع. 8- الإسراع في التوبة. 9- طريق الاتضاع. 10- عدم التذمر. 11- الهروب من المجد الباطل. 12- احتمال التجارب. 13- الحث على فضيلة الصبر. 14- الشجاعة الفكرية. 15-المحبة وعدم الحقد. _____ (*) المراجع: 1- الأنبا باخوميوس أب الشركة نيافة الأنبا متاؤس. 2- مؤتمر الأسرة السادس كنيسة مار جرجس القللي. 3 الرهبنة القبطية الأنبا يوأنس. 4 تاريخ الكنيسة القبطية القس منسى يوحنا. 5 موسوعة الخادم القبطي (تاريخ كنسي) كنيسة مارجرجس المطرية. |
|