84. وعلى آي حال فإن أنطونيوس لم يشف المرضى بإعطاء الأمر بل بالصلاة والنطق باسم المسيح، ولذا فقد كان واضحا للجميع أنه لم يكن هو الذى يعمل بل الرب الذى أظهر رحمة علي يديه، وشفى المتألمين، أما نصيب أنطونيوس فكان الصلاة والنسك، اللذين من أجلهما لبث فى الجبل، فرحاً بالتأمل في الإلهيات، وحزينا عندما كانت تجهده كثره الجماهير، مما كان يضطره للانسحاب إلى الجبل الخارجي. فطالما ألح عليه كل القضاة أن ينزل إليهم، لأنه كان مستحيلا عليهم الدخول بسبب المتقاضين الذين يتبعونهم، لذلك طلبوا منه أن يأتى إليهم ليروه ، وعندما رفض الذهاب إليهم ظلوا ثابتين، وأرسلوا إليه الأسرى تحت حراسة الجند، لعله ينزل من أجل هؤلاء. وإذ كانت تضغط عليه الضرورة ورآهم ينتحبون دخل الجبل الخارجي، ولم يصبح تعبه بلا جدوى، لأن مجيئه كان نافعا للكثيرين، وللقضاة أنفسهم، إذ نصحهم ليفضلوا العدل علي كل شئ، ويخافوا الله، ويعرفوا أنه بالدينونة التى بها يدينون يدانون[137]. أما هو فأحب إقامته في الجبل أكثر من كل شئ.
85. ومرة أخرى عاني نفس الضغط ممن كانت لهم حاجات ملحة وبعد توسلات كثيرة من قائد الجند نزل، وعندما جاء كلمهم بإيجاز عما يؤول إلى الخلاص، وعمن كانوا يحتاجون إليه، ثم أسرع في الانصراف. ولكن عندما توسل إليه الدوق ـ كما كان يدعى ـ لكي ينتظر، أجاب بأنه لا يستطيع البقاء بينهم وأقنعهم بابتسامة جميلة قائلا “إن بقى السمك طويلا علي الأرض الجافة مات. هكذا يفقد الرهبان قوتهم إن توانوا بينكم وصرفوا وقتهم معكم. لذلك كما يجب أن يسرع السمك إلى البحر، هكذا ينبغي أن نسرع إلى الجبل لئلا إذا تأخرنا ننسى ما بداخلنا”. ولما سمع القائد هذا وأشياء كثيرة غيرها منه ذهل وقال: “يقينا إن هذا الرجل خادم الله، لأنه لو لم يكن محبوبا من الله فمن أين كان مثل هذا الفهم العظيم لإنسان جاهل؟”.
86. وكان هناك قائد يدعى بلاسيوس اضطهدنا نحن المسيحيين بعنف بسبب رعايته للأريوسيين، ذلك الاسم المشئوم. وإذ اشتدت به قساوة القلب، حتى أنه ضرب العذارى، وجرد الرهبان وجلدهم. كتب أنطونيوس في ذلك الوقت خطابا وأرسله إليه، وهذه فحواه: “أنني أرى الغضب قادما عليك، لذلك كف عن اضطهاد المسيحيين لئلا يحل بك الغضب، لأنه الآن علي وشك المجيء إليك”.
أما بلاسيوس فضحك، وألقى بالخطاب علي الأرض، وتفل عليه وأهان حامليه، وأمرهم أن يبلغوا أنطونيوس ما يلى: “طالما كنت مهتما بالرهبان فسآتي إليك أنت أيضا سريعا”. ولم تمضى خمسة أيام حتى حل عليه الغضب، لأن بلاسيوس ونسطور [138] والي مصر. خرجا إلى أول مكان للاستراحة بعد الإسكندرية، ويدعي كيريو، وكان كل منهما ممتطيا جواده، وكان الحصانان ملكا لبلاسيوس وهما أهدأ ما في اسطبله. ولكنهما لم يبعدا كثيرا في طريقهما إلى المكان المقصود حتى بدأ الحصانان يطفران معاً كعادتهما، وفجأة عض الحصان الأهدأ ـ الذى كان راكبا عليه نسطور ـ بلاسيوس فأوقعه عن حصانه، ثم هجم عليه، فمزق فخده بأسنانه بحالة أليمة، حتى أنه حمل إلى المدينة في الحال، ومات بعد ثلاثة أيام. وتعجب الجميع لأن ما تنبأ به أنطونيوس تم سريعا.