فالكتاب المقدس لم يكن صناعة وصياغة الناس بهدف وضع تعاليم للرقي الإنساني، أو وضع مبدأ نسير عليه، لكنه وضع بالروح القدس لا بغرض المعرفة في حد ذاتها ولا بهدف أن نحيا كأُناس متعلمين قليل أو كثير من المبادئ السامية، أو نصير بحيثه في الكتب وعلماء فيها، لكن كُتب بغرض الإيمان (الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله - رومية 10: 17)، والإيمان هنا يختص بالله القدير للدخول في شركة حقيقية معه في واقعنا الإنساني المُعاش، لنرتقي للمستوى السماوي وندخل للحضرة الإلهية ونمتلئ بالنور، لأنه متى ضاع منا هذا الهدف فأنه سيتجرد (الكتاب المقدس كله) من معناه ليصير مجرد مبدأ أو فلسفة فكر عميق نختلف في تفسيره وشرحه، وندخل في متاهة المفسرين والشراح، ونتساءل هل أحداثه تعتبر أسطورية أم حقيقية وفيها مبالغات القصد منها التعليم، لأن كثير من الأحداث فيها معجزات لا يتقبلها علم ولا فكر إنسان، وهكذا نبدأ نتصارع ما بين الحرف والرمز، ونخرج خارج الهدف مبتعدين عن القصد والتدبير الإلهي، وهذه مصيبة العلم والفكر الذي جعل كلمة الله تحت المجهر بحجة الدفاع عنها وتنوير العقول.
يا إخوتي انتبهوا وافهموا واستوعبوا سرّ الكتاب المقدس،
لأنه فوق إمكانيات الإنسان الطبيعي، لأن الإنسان بعد السقوط أُصيب عقلة بالظلمة، ولم يعد يعي الإلهيات ويدرك قوتها، لأن بسبب السقوط أظلم العقل ودخلت الجهالة الروحية للإنسان، وصار يعتمد على المدركات الحسية واضعاً كل شيء تحت المجهر ليحلله ليتناسب مع عقليته، فضاعت منه بركة الله والحس الروحي انطفأ فيه، ولم يعد يدرك قوة الحياة المتدفقة من كلمة الله، فابتعد عنها بعيداً وانعزل قلبه تماماً عن الله ولم يعد يتذوق الوجود في حضرته كإله حي وحضور مُحيي.
فالإنسان الطبيعي الذي يحيا في إنسانيته العتيقة
دائماً ما يضع كل شيء تحت الفحص للفهم والاستيعاب، طبعاً هذا مشروع في كل ما يختص بالحياة على الأرض، لكنه لا ينفع ابداً مع كلمة الله، لأنها في الأساس سماوية مصدرها الله الحي القدير، لأنه هو منبعها، فهي تأتي من فوق من عند أبي الأنوار للإنسان، لا لكي تصير تحت تصرفه وعنايته وتخضع لتفكيره ويتقبل ما فيها حسب قناعته، بل الهدف أن تعمل فيه لترفعه هي بالقوة الإلهية التي تحملها للعلو المجيد الذي لله، لذلك يقول الرسول: من أجل ذلك نحن أيضاً نشكر الله بلا انقطاع لأنكم إذ تسلمتم منا كلمة خبر من الله قبلتموها لا ككلمة أُناس، بل كما هي بالحقيقة: ككلمة الله التي تعمل أيضاً فيكم أنتم المؤمنين (1تسالونيكي 2: 13)
ستظل كلمة الله مكتومة فينا وسيظل الصراع القائم على تفسيرها بين مؤيد ومعارض قائماً، بل وبكل كبرياء ستتعالى الأصوات وكل واحد يحرم أخيه ويتهمه بالهرطقة او الرفض، أو حتى يحتقر فكره في قلبه، لأنه يجده غير متفق مع فهمه وشرحه وتفسيره المستنير، لأنه هو الدارس والباحث المتعمق في أصول الكلمة الذي انفتحت بصيرته على الحق، ويا لها من استنارة التي تجعل الأخ لا يقبل أخيه وينقسموا ويتفرقوا بحجة الحق والدفاع عن الإيمان!
فيا إخوتي، أن لم تنغرس الكلمة فينا
فأننا لن نخلص أبداً مهما ما صنعنا حتى لو فهمنا الكلمة وصرنا معلمين عُظماء ومتعمقين في الأصول المعرفية والبحثية وصار يحترمنا العالم كله ويوقرنا جداً ويصدق على تعلمينا الصحيح والنافع، لأنه مكتوب: لِذَلِكَ اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ. فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ (يعقوب 1: 21)، فكلمة الله كالبذرة تُلقى في تربة القلب، فأن كان صالحاً فأنه يتقبلها بالإيمان ككلمة الله لا الناس، فتنغرس فيه وتأتي بثمر حسب قصد الله، فتصير مجد خاص لهُ ونور لسبيله، فيفرح ويسر جداً، ويتغير عن شكله بتجديد ذهنه، لأن كلمة الله تعمل في الإنسان للتغيير والتجديد ليصير إنساناً جديداً كلياً حسب صورة شخص المسيح الرب، لأننا كلنا مدعوين أن نتغير إليه، وهذا ليس بعمل إنسان ولا جهد بشر، بل هو عمل الله بزرع كلمته بروحه فينا، ولكن كيف يفعل ذلك ونحن لا نوقر كلمته ونستخف بها، ونهبط بها لمستوانا الإنساني الضعيف ونضعها تحت مجهر الفحص العقلي ونفرغها من قوتها الإلهية ونحسبها ككلمة أُناس دونوا شوية اختبارات شخصية بشكل ميثولوجي.
لنستفيق ونصحى للبرّ وننتبه لحياتنا الأبدية في المسيح يسوع،
ولا نركض وراء البحث العملي والفكري لئلا يفلت منا إنجيل خلاصنا ويضيع منا قوة كلمة الله، لأنها حاملة الحياة لتمد كل قلب بها، والله لا يتعامل مع الغير مؤمنين بكلمته، لأن حينما تأتي الكلمة كبذرة الله الحية وتجد القلب مغلق بعناد الشك، أو مغلق بسبب أنه لا يتقبلها بسهولة ويقف أمامها مُحللاً ومفسراً وشارحاً، حينئذٍ يخسر الإنسان قوتها وتضيع منه ويفلت منه خلاص نفسه ويضيع في متاهة الشروحات والتفسيرات ويقف في النهاية حيران هل يوجد إله حقيقي فعلياً أم أنه وهم الكتابات القديمة، ثم يبدأ في مرحلة الإلحاد وترك الله بعدما كان من أوائل المدافعين عن الكتاب المقدس والإنجيل.