الروح والحرف
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
هذا الموضوع يشمل الحياة.. كلها ونود أن نتأمل معا كيف نبعد عن حرفية الوصية الإلهية وندخل في روح الوصية,حسب قصد الله,لكي نحول الوصية إلي حياة بعيدين عن الشكليات...
أود أن أحدثكم عن قول الكتاب:لا الحرف بل الروح.لأن الحرف يقتل,ولكن الروح يحيي2كو3:6
هذا الموضوع يشمل الحياة.. كلها ونود أن نتأمل معا كيف نبعد عن حرفية الوصية الإلهية وندخل في روح الوصية,حسب قصد الله,لكي نحول الوصية إلي حياة بعيدين عن الشكليات...
فلا نكون فريسيين ولا ناموسيين بل روحيين.
فالفريسيون كانوا يتمسكون بالحرف,كما فعلوا مع الرب في وصية السبت مثلا.حتي أنه حينما منح البصر للمولود أعمي,وكان ذلك في يوم سبت,قالوا:هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبتيو9:16وقالوا للمولود أعميأعط مجدا لله نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطيءيو9:24.
ولما شفي السيد مريض بيت حسدا بعد مرضه38 عاما يقول الكتاب أن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه لأنه فعل ذلك في يوم سبتيو5:16
إنه الحرف الذي يقتل لأنه يدل علي عدم فهم لروحانية الوصية.
وسنحاول أن نتأمل بعض نقاط في الحياة الروحية لنري ماهو الحرف فيها وما هو الروح؟...
الصوم:
كثيرون يصومون ويظنون أن الصوم هو فقط الطعام النباتي ويحاولون أن يجهزوا لأنفسهم أطعمة نباتية شهية جدا في أكلها,ومغذية جدا فيما يضيفونه عليها من ألوان الطعام النادرة والغالية الثمن..!!ويتساءلون عن السمن النباتي والجبنة النباتي واللبن النباتي والشيكولاتة النباتي وينسون قول دانيال النبي عن صومه:
كنت نائحا ثلاثة أسابيع أيام لم آكل طعاما شهيا ولم يدخل فمي لحم ولاخمر ولم أدهندا10:3,2.
وأحب أن أركز هنا علي عبارة لم آكل طعاما شهيا..لأنه حيث يأكل الإنسان أطعمة شهية أثناء صومه كيف يمكنه أن يسيطر علي رغبات الجسد وهو يعطيه ما يشتهيه من طعام؟!
أليس الصوم في روحه وليس في حرفيته -هو إذلال للجسد,وانتصار علي شهوة الطعام وارتفاع عن مستوي المادة؟
ألسنا نسلك بالحرف إن اعتبرنا الصوم هو مجرد الطعام النباتي ولم نضع أمامنا عنصر المنع, منع الجسد عما يشتهيه..
لذلك يصوم كثيرون ولايستفيدون روحيا.
لأنهم سلكوا في الصوم بطريقة حرفية شكلية.
ولم يدخلوا إلي روحانية الصوم,ولا إلي روحانية الوصية الخاصة بالصوم والقصد الإلهي منها...
المطانيات:
المطانيات هي السجود فما المقصود بهذا السجود.
ليس السجود هو مجرد انحناء الجسد.
إنما أيضا:انحناء الروح مع الجسد.
لذلك يقول المرتل في المزمورأما أنا فبكثرة رحمتك أدخل إلي بيتك وأسجد قدام هيكل قدسك بمخافتك..
وعبارة مخافتك تدل علي خشوع الروح أثناء السجود,وعبارة بكثرة رحمتك أدخل إلي بيتكتعني الشعور بعدم الاستحقاق وهكذا يصيح الشماس أثناء القداس:
اسجدوا لله بخوف ورعدة...
هنا المشاعر الروحية تصحب حركة الجسد.
أحيانا تعتذر لإنسان وتضرب له مطانية فلا يقبلها منك إذ يشعر أنها عمل جسداني لا روح فيه.
وقد تقول بعد ذلك ماذا أفعل له أكثر من هذا؟لقد ضربت له مطانية وانحنيت برأسي إلي الأرض!!
يا أخي المهم أن تنحني روحك..لاتتمسك بحرفية المطانية دون روحها ولذلك نسمع داود النبي يقول:
لصقت بالتراب نفسيمز119:25.
ولم يقللصقت بالتراب رأسي..
النفس التي تلتصق بالتراب هي المقبولة أمام الله والناس.
قرأت لأحد الرهبان مقالا في عيد الغطاس,شرح فيه كيف أن السيد المسيح انحني أمام المعمدان لكي يكمل كل بر, مع أن يوحنا المعمدان أقل من المسيح بما لا يقاس وليس أهلا أن ينحني ويحل سيور حذائه..ثم ختم مقاله بعبارة:أعطنا يارب أن ننحني أمام من هم أقل منا,لكي نكمل كل بر..!!
إن كنت تري أنهم أقل منك,فما معني الانحناء إذن؟!أهو حرفيات بغير روح؟!إننا نريد انحناء الروح.
الصلاة:
الصلاة حرفيا هي الحديث مع الله.
وهي روحيا:اتصال روح الإنسان بروح الله.
وقد يصلي إنسان أو يظن أنه يصلي,بينما لا توجد هذه الصلة بينه وبين الله!! لذلك وبخ الله اليهود بقوله:هذا الشعب يكرمني بشفتيه أما قلبه فمبتعد عني بعيداأش29:13مت15:8.
إنها صلاة غير مقبولة لأن الله يريد القلب...
أتظن أنك تصلي لأنك تحرك شفتيك أمام الله؟
وقد يكون ذلك بلا فهم وبلا روح وبلا مشاعر:بلا حب بلا خشوع,بلا اتضاع..!!أتريد أن ترضي ضميرك من جهة الصلاة؟!حتي لو كانت هكذا؟!!أم تصلي بروحك وتصلي بذهنك تقصد كل كلمة تقولها في صلاتك..
صدق مارإسحق عندما قال عن مثل هذه الصلاة.
قل لنفسك :أنا ما وقفت أمام الله لكي أعد ألفاظا.
ذلك لأن كثيرين يهمهم أن يطيلوا الصلاة بغير فهم أو أنهم يتلون عددا كبيرا من المزامير بسرعة لا تأمل فيها ولا يتابعون معني الألفاظ أثناء صلاتهم!!
والمزامير كلها روحانية لكنهم يقتصرون علي الحرف.
وبالمثل من يرددون كلمات التسبحة في الأبصلمودية بسرعة عجيبة,لايتابعون فيها المعني..وكذلك بالنسبة إلي كثير من الألحان..المهم أمامهم هو الحرف وليس الروح والشعور بأن الإنسان أديقانونه في الصلاة واستراح ضميره بذلك بينما لم تصعد هذه الصلاة إلي الله لأنه لم تكن هناك صلة ولم تشترك الروح فيها ولا القلب..ما أجمل قول القديس بولس الرسول:
أصلي بالروح وأصلي بالذهن أيضا1كو14:15
أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضا1كو14:15.
القبلة:
نسمع في القداس عبارة قبلوا بعضكم بقبلة مقدسةوالقبلة هي تعبير عميق عن الحب وعبارة مقدسةتعني أنها تكون طاهرة وبغير رياء...
ويسلم كل منا علي من يجاوره رمزا إلي سلامه مع الناس جميعا..فهل نقتصر علي هذا الشكل أو هذا الحرف؟!بينما لايكون سلام في قلوبنا مع الناس!!
يهوذا الاسخريوطي قبل السيد المسيح.
بالحرف لا بالروح والحرف يقتل..مظهر خارجي يدل علي المحبة تختفي وراءه خيانة, لذلك تحرم الكنيسة التقبيل من أربعاء البصخة احتجاجا علي قبلة يهوذا الخائنة.
وأنت كلما تقبل أناسا تبدأ بالسلام.
أهي حرفية كلمة سلام؟أم هو سلام حقيقي بالمعني الروحي؟..ما أكثر ما نقول من كلام ومن تحيات ومن مجاملات بمجرد الحرف وبلا روح.
أنمتنع عن المجاملات إذن؟كلا..
بل ندخل إليها الروح والحق فتدل علي الحب وعلي التعاطف وعلي حسن المعاملة وتقدير الناس..نفعل هذا من كل قلوبنا ويظهر هذا في ملامح وجوهنا وفي نظرات عيوننا ليس بالحرف بل بالروح.
العطاء:
بالروح هو تعبير عن الحب وعن المشاركة القلبية في احتياجات الناس واحتياجات الكنيسة.
ولكن البعض يأخذونه بالحرف: مجرد العطاء!!
فيقدمونه ولو اضطرارا بلا حب!
وينسون قول الكتابالمعطي المسرور يحبه الرب2كو9:7العطاء يبدأ من القلب وليس بمجرد اليد,والمعطي روحيا هو الذي يفرح حينما يعطي لأنه يشعر أنه اشترك في إسعاد إنسان أو أخذ بركة المساهمة في احتياجات الكنيسة.
غير أن البعض يحاسبون الله حسابا عسيرا!!
يقتصرون علي العشور إن دفعوها!!ويدققون في حساباتهم جدا حتي لايزيد العطاء عن العشور وقد يدخلون فيها بعض واجباتهم الاجتماعية اللازمة نحو الأقرباء والمعارف وما اضطروا لدفعه في مناسبات معينة لبعض المشروعات ولشئون الخدمة.
ويظهر أن القلب غير مشترك في العطاء.
وإن محبة المحتاجين غير مرتبطة بالعطاء بل قد يصحبه تحقيق شديد معهم وربما انتهار للفقراء وربما شيء من التعالي والكبرياء وربما تأخير هذا العطاء فترة قد تطول.
ونظن أننا نعطي وننسي عبارة من يدك أعطيناك1 أي29:14.
أما الحرف مجرد تأدية واجب.
وكأن العطاء ضريبة ندفعها اضطرارا.
الخدمة:
أحيانا نأخذ من الخدمة حرفيتها أو شكليتها ونظن أننا نساهم في عمل الكنيسة دون أن ندخل إلي روح الخدمة بل حتي من جهة الحرف ننسي المعني الحرفي لكلمة خادم.
وننسي الاتضاع اللازم للخدمة.
وتصبح الخدمة مجالا لإظهار الذات ويختلط بها حب السيطرة والنفوذ والتنافس بين الخدام الأمر الذي لايتفق مطلقا مع كلمةخادموكأننا في الخدمة نركز حول ذواتنا وليس حول ملكوت المسيح الذي قال عنه يوحنا:
ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقصيو3:30
وتصبح الخدمة مجرد معلومات يلقيها خادم مدارس الأحد, أو مجرد أعمال إدارية ومالية يقوم بها مجلس الكنيسة ولجانه أو مجرد أنشطة تقوم بها الهيئات العاملة في الكنيسة..وفي كل هذا ننسي روح الخدمة.
ربما يكون إنسان عضوا في مجلس احدي الكنائس ويظن أنه يخدم الله في هذا المركز بينما ربما غالبية شعب الكنيسة يصلون أن يتغير المجلس ويبعد عنه هذا العضو!!
ليس الأمر إذن في حرفية الخدمة بل في روحها.
السبت:
حفظ السبتحاليا يوم الأحدهو وصية قديمة نفذها اليهود حرفيا في قول الربأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لاتصنع فيه عملا ماخر20:10.
الحرف هو أنك لاتعمل عملا ما.
أمما الروح فهو أنه سبت للرب,أي راحة للرب يستريح فيه الرب معك ويستريح أولاده أيضا.
إنه يوم للرب,فإن قمت فيه بعمل الخير تكون قد عملت ما يريح الرب وما يريح الناس..
ويصبح هذا اليومسبتاأي راحة...
وهذه النقطة موضع جدل بين السيد المسيح واليهود:
هل يحل فعل الخير في السبوت؟مت12:12,10.
وكانت إجابة الرب أنه يحل فعل الخير في السبت لأن فعل الخير يريح الناس وهذا هو روح الوصية.
إذن لاتقتصر علي الحرف وهو عدم عمل أي عمل من الأعمال أيا كانت..
لأنك بهذا تريح جسدك فقط ولاتريح روحك ولاتريح الناس.
الطقوس:
هل أنت تدري روحانية كل طقس في الكنيسة؟
هل تشترك فيه بروحك؟
0الكاهن مثلا يحمل الإنجيل فوق رأسه ويدور به حول المذبح.. فهل تدري أن هذه الدورة إشارة إلي انتشار الإنجيل في المسكونة كلها؟وهل تصلي من أجل هذا؟
0والشماس يمسك الشمعة أثناء قراءة الإنجيل إشارة إلي قول المرتلسراج لرجلي كلامك ونور لسبيليمز119فهل تقبل كلمات الإنجيل لتستنير بها في ذهنك وقلبك وضميرك؟
0ورئيس الكهنة يرفع تاجه من فوق رأسه خشوعا لكلمة الإنجيل فهل تكون أنت في نفس الخشوع.
هل روحك تشترك في نفس الطقس؟
وهل روحك تشترك مع الطقوس الخاصة بكل تحركات الأب الكاهن في الكنيسة وكل عمله؟
إن فعل هذا تشترك روحك في صلوات القداس الإلهي,وفي كل الصلوات الليتورجيات ولاتقتصر فقط علي شركة الحواس..لأن الروح هو الذي يحيي 2كو3:6.
ونفس الوضع بالنسبة إلي الأعياد.
هل أنت تفرح فيها لأن مجرد الصوم قد انتهي؟!أم تدخل إلي روحانية العيد؟فتفرح مثلا بميلاد المسيح لأنه بدء قصة الخلاص,بما به من اتضاع وحب وتفرح بقيامته بما في ذلك الانتصار علي الموت وباكورة القيامة وفتح أبواب الفردوس..ويدخل كل هذا إلي قلبك ومشاعرك.
العقيدة:
هل تأخذها حسب الحرف-كمجرد لاهوتيات وأمور عقلية تكون موضع جدل مع الطوائف الأخري؟!
0 المعمودية مثلا تكون بالتغطيسأع8:39,38
هل هذه مجرد فكرة تجادل من أجلها؟أم تدخل إلي روحياتها فتدرك أنها موت مع المسيح وقيامة معهرو6:8,4مدفونين معه في المعموديةكو2:12.
وتدرك أنه في هذا الدفن صلب الإنسان العتيق وقام إنسان جديد في حياة جديدةرو6:4,6.
ثم تسأل نفسك:هل لايزال الإنسان العتيقموجودا في حياتك؟وأيضا ماهي الحياة الجديدة التي نلتها في المعمودية؟وهل أنت في المعمودية قدلبست المسيححسب قول الرسولغل3:27أي لبست ما فيه من بر ولبست الصورة الإلهية التي جاء بها...
وهنا تدخل روح المعمودية.. وهكذا باقي العقائد.
0الولادة من الله:هل هي حسب الحرف مجرد عقيدة تجادل فيها متي ينالها المسيحي؟
أم تدخل إلي روحها وتتذكر قول الرسول كل من هو مولود من الله لايفعل خطية..ولايستطيع أن يخطيء لأنه مولود من الله1يو3:9
وأيضا المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لايمسه1يو5:18وهكذا كلما تقولأبانا الذي في السمواتتشعر بوخز في ضميرك وتقول للربلست مستحقا أن أدعي لك ابنالو15:21ذلك لأنني أخطيء ولم أحفظ نفسي.
الأسرار:
كلمة الأسرار لا نأخذها حسب الحرف كما لو كانت مجرد أسرار من جهة لمعرفة مجرد أمور لم تعلن لنا,سوف يكشفها الله في الحين الحسن.
إنما هناك حسب الروح,أسرار تعني نعمة مخفاة لا نراها بالعين ولكنها تعمل فينا..
منقول