بعد أن تحدث عن طريق الحكمة من الجانبين الإيجابي والسلبي (ص4)، بدأ يحذرنا من حبائل المرأة الزانية، خاصة من صوتها اللَين كالزيت، مخصصًا الأصحاحات 5-6-7 لهذا التحذير.
كل إنسان يميل بأذنيه الداخليتين إلى صوت المرأة الزانية المخادعة بالعذوبة الظاهرة لا يستطيع أن يميلهما إلى صوت الحكمة. يروي لنا سفر الملوك الأول القصة المُرة لسليمان نفسه وقد مال بأذنيه لابنة فرعون وغيرها من الأجنبيات ففقد ملكوت الله الذي في أعماقه. "وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون... فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه... وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تمامًا كداود أبيه" (1مل1:11-6).
يطالبنا الحكيم أن نتجنب كل ما يمكن أن ينحرف بنا إلى خطية الزنا، أو مجرد الميل إليها بالفكر. فإن أفكار الشهوة قاتلة لكل بذور الفضيلة، والذين يسقطون في حبائلها يصيرون على مقربة من أبواب الهاوية.
1. دعوة لطلب الحكمة
لكل إنسانٍ أذنان في أعماقه تنصتان إلى صوتٍ أو آخر، فمن لا تنصت أذناه لصوت الحكمة حتمًا تنصتان إلى الأصوات الغريبة مثل صوت المرأة الزانية المخادعة. لهذا قبل أن يحذرنا من هذا الصوت المدمر يقدم لنا الصوت الأبوي الحكيم البنَّاء.
يكرر الحكيم هذه الدعوة لكي يصغي المؤمن ويميل بأذنيه كما بقلبه إلى صوت أبيه الروحي، ويحفظ التدابير وتصير له معرفة تنطق بها شفتاه.
"يا ابني أصغِ إلى حكمتي.
أمل أذنك إلى فهمي،
لحفظ التدابير،
ولتحفظ شفتاك معرفة" [1-2].
يدعونا للتمتع بالخبرات الحية الروحية التي يعيشها الأب الروحي في الرب.
تحدث القديس يوحنا كاسيان في الكتاب الرابع من "المؤسسات" في الفصلين 9 و10 عن التزام الحديثين في الرهبنة ألا يعتمدوا علي تمييزهم الشخصي، ولا يخفون شيئًا من أفكارهم عن الشيخ المختبر الذي يتعهدهم. بهذا لا يقدر الشيطان أن يدمر الشخص الحديث اللهم إلا إذ أغواه بالكبرياء وإخفاء أفكاره. وأن تكون طاعة الرهبان الحديثين كاملة، حتى أنهم لا يستطيعوا مغادرة قلاليهم ولا الذهاب لقضاء احتياجاتهم الطبيعية بدون إذن. يطيعون بثقة ويقين وبلا تردد كما لو كان الأمر صادرًا من السماء.
* من كان له الفكر الصالح وفي اتضاع مع شوق يتمثل بإخلاص بما يراه، سواء خلال التعليم أو اقتداءً بما يراه في الآباء، بدلًا من الانشغال في الجدال، بهذا تستقر فيه معرفة كل شيء باختبارٍ عملي. أما الذين ابتدأوا تعلمهم بالجدال، فلن يدخلوا إلى غاية الحق.. لذلك فإن عدونا (الشيطان) يدفعهم بسهولة بعيدًا عن معرفة الآباء، حتى لتبدو لهم الأمور المفيدة والنافعة كأنها غير ضرورية، بل ومضرة. بهذا يلعب العدو الماكر بفطنة، جاعلًا إياهم يتمسكون برأيهم الخاص في عناد ، مقتنعين بأن ما يملأ عقولهم النجسة من أخطاء هو صلاح وحق ومقدس[134].
الأب بيامون
* مكتوب: يا ابني أصغِ إلى حكمتي، أمل أذنك إلى تعقلي، لكي تُحفظ أفكارك [1]. فإنه حقًا ليس شيء مثل القلب يحاول الهروب (من الحكمة)، هذا الذي يخذلنا عندما ينزلق بالأفكار الشريرة، لهذا يقول المرتل: "قلبي قد تركني" (مز12:40)[135].
الأب غريغوريوس (الكبير)
يطلب الحكيم من ابنه الروحي أن يصغي كما يسأله أن يميل بأذنه إلى فهمه، فإن كان الإصغاء يشير إلى الرغبة في التعلم والاستعداد للطاعة، فإن ميل الأذن الداخلية يشير إلى العلاقة السرية الخفية، فمن يميل بأذنه ليستمع همسات آخر إنما يعلن عن شوقه للاستماع إلى كلمات خاصة غير معلنة. يقدم الإنسان مع أذنه قلبه وكل مشاعره وأحاسيسه.
استخدم الحكيم تعبير "أمل أذنك إلى فهمي" ربما نقلًا عن والده الذي كان يحلو له أن يناجي الله قائلًا: "أمل أذنك إلىَّ (مز6:17). فقد أمال الآب أذنه إلى البشرية بنزول ابنه إلينا، يتحدث معنا ونحن معه كما في علاقة شخصية سرية، يسمعها القلب وتتجاوب معها النفس بكل طاقاتها الخفية.
لكي لا نستمع إلى صوت المرأة الزانية أو الخطية المخادعة فلنمل أذننا إلى حبيبنا السماوي قائلين: "صوت حبيبي، هوذا طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال" (نش8:2).
يرى القديس إكليمنضس السكندري في الآية 2 "لحفظ التمييز ولتحفظ شفتاك معرفة" كشفًا عن نظرة المسيحية إلى الثقافة أو المعرفة العلمانية، إذ يقول:
* إنه ينصحنا أن نستخدم حقًا الثقافة العلمانية، لكن لا نتباطأ ونقضي وقتًا (طويلًا) فيها. فما يُمنح لكل جيل بطريقة نافعة وفي أوقات مناسبة، هو تدريب بدائي لكلمة الرب. فإنه فعلًا إذ سقط البعض في حبائل الوصيفات احتقروا فلسفتهم المرافقة لهم، وشاخوا. سقط البعض خلال الموسيقى، وآخرون الرياضيات، وآخرون النحو، والغالبية البلاغة[136].
القديس إكليمنضس السكندري
استخدم ملاخي النبي تعبير "حفظ الشفتين للمعرفة" قائلًا: "لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (ملا7:2). وكأن فم المؤمن الحيّ يصير أشبه بخزانة للمعرفة تحت حراسة الشفتين الحكيمتين، تخرجان من هذه الكنوز حسب الحاجة وبالقدر اللائق لبنيان النفوس.