اشتياقات النفس وخبرة الإيمان المسيحي
يوجد في النفس اشتياق طبيعي نحو الله؛
لأن دائماً المثيل (الشبيه والمثال) ينطبق على مثيله (الموضوعة فيه ملامحه الخاصة)، فالإنسان مخلوق على صورة خالقه وهذا ما تم إعلانه في كلمة الحق: وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا؛ فخلق الله الانسان على صورته على صورة الله خلقه (تكوين 1: 26، 27)، والإنسان بهذا الشكل مدعو لينمو نحو الله لكي تنطبق الصورة على أصلها، وهذه الدعوة تتحقق باشتعال هذا الاشتياق، الذي بدونه لا توجد غيرة المحبة الصالحة التي تدفع الإنسان دفعاً لمشابهة الله حسب قصده: كونوا قديسين لأني أنا قدوس؛ فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل (1بطرس 1: 16؛ متى 5: 48)، ولذلك يُدعى كل من يحب الله بـ "رجل (أو امرأة) الأشواق"، وهذا هو حال نطق القلب في هؤلاء المشتاقين: كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ هَكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ؛ تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلَهِ الْحَيِّ (مزمور 42: 1؛ 84: 2)
وهذا الشوق الصالح
الذي هو الدافع الحقيقي لصدق المحبة التي تجعلنا نحفظ الوصية بالطاعة متممين مشيئة الله بمسرة، قد حوله العدو فينا إلى شهوة الخزي، التي تحملنا على اشتهاء كل ما هو مخالف للصورة التي خُلقنا عليها، وبالتالي أصبحنا نسير في اتجاه مخالف، غير طائعين لله بل طائعين دائماً لحركات شهوات الجسد التي تهتاج فينا فلا تجعلنا ننتبه لاشتياق الروح فينا، فصرنا تائهين ضالين عن الحق الذي صرنا لا نعرفه حسب إعلان ذاته، بل نعرفه بجهل أفكارنا لأننا نتحرك بطبيعتنا الساقطة المنطفئ فيها الشوق من نحو الله، لذلك مكتوب: وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً (أو: الإِنْسَانَ الْبَشَرِيَّ لاَ يَتَقَبَّلُ أُمُورَ رُوحِ اللهِ إِذْ يَعْتَبِرُهَا جَهَالَةً وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْرِفَهَا لأَنَّ تَمْيِيزَهَا إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى حِسٍّ رُوحِيٍّ) (1كورنثوس 2: 14)
فالإنسان وهو عايش في إنسانيته الساقطة،
فأنه طبيعياً وتلقائياً سيحيا فاقداً للحس الروحي وأشواق نفسه تتجه لأشياء تافهة بلا قيمة، حتى أنه يتمادى أيضاً بخداع الشر الزائف ليحيا في شكل ومظهر الجو الروحي في حالة من العمى التام الذي يجعله يدخل في الحياة مع الله ليجعله خادماً لاحتياجاته وأطماعه الخاصة وشهوات قلبه المنحصرة في هذا العالم الحاضر الذي كل ما فيه: شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة، (التي كلها ليست) من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد (1يوحنا 2: 16، 17)، ومن هذا المُنطلق يُسمى الإنسان الساقط [الإنسان الجسداني]، لأنه ميتاً عن العالم الروحاني عائشاً حسب الجسد وليس حسب الروح، فهو ميت وليس فيه حياة، لذلك فأن شوق قلبه دائماً يتجه للأرضيات والحسيات التي يجد فيها حياته ومسرته، لذلك يقول الرسول: لأن كل جسد كعشب وكل مجد إنسان كزهر عشب، العشب يبس وزهره سقط (1بطرس 1: 24)، ولذلك مكتوب بالحق: المولود من الجسد جسد هوَّ، والمولود من الروح هو روح؛ لأنه ان عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن ان كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون (يوحنا 3: 6، رومية 8: 13)
لذلك علينا أن نكون فاهمين طبيعة سقوطنا
من مرتبتنا الأولى لكي نفهم عمل المسيح الرب الخلاصي وكيف تكون توبتنا الحقيقية، لنستعيد مكانتنا بضمان ختم دم حمل الله رافع خطية العالم الذي دان الخطية في الجسد لنصير برّ الله فيه، ويتولد فينا الأشواق الروحية التي تدفعنا دفعاً لمحبة الله، لنحيا خليقة جديدة في المسيح الرب ونتبعه في التجديد، لأننا لو صرنا سمائيين مولودين من الله فعلياً، سنصير روحانيين وسيرتنا هي في السماوات مكتوبه جهاد المحبة، وطلباتنا بالتالي ستصير وفق مشيئة الله لذلك يقول الرسول: فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ (كولوسي 3: 1)، لأن طلبتنا تُعبر عن حال وضعنا، فلو كنا من العالم منحصرين في حاجة الجسد فأشواقنا كلها ستتجه إلى أسفل، طالبين كل ما على الأرض فقط، أما لو عشنا حسب الروح بكوننا مولدين ثانية لا من زرع يفنى، بل مما لا يفنى: بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد (1بطرس 1: 23)، فأشواقنا ستتجه طبيعياً إلى ذلك العلو السماوي البهي فنستطيع أن نُصلي ونقول أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأتي ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.
وما هي إرادة الله ومشيئته الصالحة حسب التدبير:
لأن هذه هي إرادة الله قداستكم؛ لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، لأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. (1تسالونيكي 4: 3؛ يوحنا 6: 38 – 40)
ومن إرادة الله ومشيئته التي أعلنها لنا الابن الوحيد،
حينما تستمع إليها كل نفس بإصغاء من يُريد أن يحيا مع الله وفق مشيئته، تتولد في النفس غيرة شوق الإيمان الصالح حسب طبيعة قوة الجذب الإلهي، لأن بدون تلك الغيرة لأجل الله لن نتقدم ولن نفلح في السير نحو حضن الأبوة الصالح في المسيح يسوع، لأن كل من لا يُترجم إيمانه التصاق بالابن الوحيد فلن يدخل لحضن أبوة الله، لأن الابن كائن في حضن أبيه، لأن طبيعته اللاهوتية تظهر لنا أنه قائم في حضن الآب، وبدونه لن يصل أحد للحضن الأبوي إطلاقاً مهما ما صنع وفعل: اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ (يوحنا 1: 18)
فهذه الحقيقة اللاهوتية التي أعلنها لنا الرسول،
ليست نظرية مطروحة للدارسة والشرح والتفسير والاختلافات العقائدية أو الفكرية، ولا تخضع لمنطقية الإنسان وفلسفة تفكيره الطبيعي، إنما حقيقة أُعلنت للجميع للتذوق الاختباري، لأن معنى إيماننا المسيحي، أننا نؤمن بالابن الوحيد الكائن في حضن أبيه، وهذا الإيمان يتحقق فينا بالروح القدس الذي يُشخص فينا البنوة، فكبنين نتجه نحو الله أبينا في شخص المسيح الرب لننطق بالروح الذي أرسله في قلوبنا كشاهد أننا أبناء ونقول: [أبانا الذي في السماوات]، فتخرج منا قوية تحمل سلطان التبني:
وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه؛ ثم بما إنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب؛ إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب (يوحنا 1: 12؛ غلاطية 4: 6؛ رومية 8: 15)
يا إخوتي انتبهوا جداً
فهنا أُسلم لكم خبرة لكي تتذوقوا معي عطية الله الثمينة الصالحة، فتغيروا غيرة حسنة وتشتاق نفوسكم للحياة المجيدة التي لنا في المسيح الرب حسب مسرة مشيئة الآب المعلنة لنا في ملء الزمان حسب التدبير، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل، ولا تجعلوا توبتكم بعيدة عن الإنجيل المعلن فيه برّ الله بالإيمان بالمسيح الرب من السماء، فنحن نتوب لا من أجل أن نكون صالحين ونُرضي الله من ناحية الشكل والأخلاق الحسنة، بل نتوب لكي ندخل في سرّ التبني ونتمتع بالحضن الأبوي، ونحيا في شركة مقدسة مع القديسين في النور، لأن شركة القديسين هي شركة إلهية بالدرجة الأولى، وكل من يدخل في تلك الشركة فأنه يغتسل بالنقاوة ويلبس حُلة البنين ويرتدي خاتم البنوة، ويجلس على المائدة الملوكية المهيبة، ويتناول طعام الخلود ويفرح ويُسر بكل مسرة سماوية، فينطق تسبحة الغلبة والخلاص التي لنا ليُمجد الله كل حين ويبارك اسمه العظيم القدوس:
+ مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ،
الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ. الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ، لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ. (أفسس 1: 3 – 12)