الأمانة على الوكالة
قال السيد المسيح :
إِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟
(لوقا 16 : 12)
عندما خلق الله الانسان، جعله مُتسلّط على جميع الخليقة. فالإنسان هو قمة ابداع الله في هذا الكون، وهو مخلوق على صورته. إلا انه عندما خطئ الانسان، انحرف عن مسالك الحق التي صمّمها الله القدوس وفق حكمته اللامتناهية. ونتيجة هذا الانحراف، تشوّه كل شيء فعمّ الفساد.
ومن جُملة ما تشوّه هو تسلّط الانسان على الخليقة، فالسُلطة في مفهوم الله تعني الخدمة، حيث يقول السيد المسيح "مَن أراد أن يكون الأول فيكم، فليكُن لكم عبدًا." بمَعنى ان الله سلّط الانسان على الخليقة لكي يعتني بها ويُنظّمها ويُحافظ عليها.
ان فساد الانسان أدى به إلى تدمير الخليقة، ومحاربة أخيه، وسقوطه عبدًا لنزوات الغضب والشهوة والطمع...
اي أن الانسان بفساده، خسِر مكانته الحقيقية في السلطة، وبدل أن يكون مُتسلّط، اصبح عبد! وكل يوم نخطو فيه في الخطيئة، نحن نُكبّل انفسنا اكثر فأكثر في عبوديّة الاشياء.
بل الفساد وصل إلى صميم اعماقنا بحيث حتى الطرق التي نستخدمها في مُعالجة فسادنا هي طرق فاسدة، بحيث لا نستطيع بها ان نتحرّر. فهناك اسلوبين للتقويم استخدمهما الانسان عبر الزمن ويستخدمهما كل يوم: الترهيب (المنع) والترغيب (الوفرة).
¬ المنع: هو اعتبار ان كل ما في الكون من ملذات هو شر، وان تقويم الانسان لنفسه يكون بإبتعاده عن كل هذه، واكتفائه بأقل الموجود.
¬ الوفرة: هي اعتبار ان كل ما في الكون من ملذات هو خير، وان تقويم الانسان لنفسه يكون بتمكّنه من الحصول على هذا الخير قدر الامكان.
هذان الاسلوبان كلاهما خاطئ، ومع ان كل منهما يقود الانسان إلى نهايات مُختلفة، إلا أن القاسم المشترك هو ان الانسان يبقى عبدًا في الحالتين للخليقة وليس مُتسلّط عليها. في المنع يُصبح الانسان عبدًا للأشياء بأن يمقتها ويخاف شرّها ويهرب منها. وفي الوفرة يصبح الانسان عبدًا للأشياء بأن يجعلها هدف حياته ويبذل نفسه جريًا وراءها.
اما الاسلوب الذي قصده الله منذ البداية، اسلوب الكرامة، الاسلوب الذي يرفع الانسان - هو اسلوب الوَكالَة - وهو أن كل ما في الكون هو لله، وان الله هو "المالك" الوحيد والحقيقي لكل شيء، هو خلقها كلّها لذلك هو المالك الحقيقي لها وهي ملكه، وان دور الإنسان هو "وكيل" عليها. إن فهم هذه الحقيقة يجعل الانسان يُغيّر فكره عن كل شيء. فالانسان ما عاد له شيء في الحياة (وهذا واقع لأننا لا نأخذ معنا اي شيء بعد موتنا سوى نفوسنا)، وان دوره الحقيقي هو أن يكون مسؤول (متسلّط) ووكيل على الخليقة، فيُديرها (يخدمها) بالشكل الذي يجب أن تُدار به، فيعود ويأخذ مكانه بالتسلّط عليها وتكون هي خاضعة له بحسب تسلسل السُلطة الذي خلقه الله.
وكل انسان في النهاية سيُحاسَب على وَكالته، مهما كانت صغيرة... إن كُنت لا تملّك اي شيء، فانت تملُك جسدك (الجسد هو ملكية الانسان الأولى في هذه الخليقة) وستُحاسَب على كيفية تنظيمك حتى لهذه الوَكالة الصغيرة.