المسيحيون يقولون بأن الله ضحى بإبنه الوحيد لكى يُخلصنا، إذاً لمن أعطى الله الضحية إذا كان الله يملك الكون كله؟
فى هذا السؤال خداع فلسفى.
الله لا يملك حرية إرادة الكائن
فعلاً الله يملك كل ما فى الوجود لكنه لا يملك حرية إرادة أى كائن. يملك الكائن نفسه، لكنه لا يملك حرية إرادته. لأنه إذا ملك حرية إرادته، فهو ليس حراً فكيف يُحاسب. هذه الحقيقة غائبة فى السؤال.
ويمكننا شرح هذه النقطة بأمثلة:
الطاعة والعصيان: هل يمكن إنكار أن الشيطان عصى الله؟ فرغم أن الله يملك الشيطان إلا أن الشيطان عصاه (وواضع السؤال لا يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة) فهل الله يملك العصيان؟ إذا كانت إجابته بالإيجاب يكون قد خرج عن حدود المنطق. العصيان هو كسر وصايا الله، والخطية هى التعدى.
إذن الله يملك الكون كله، لكنه لا يُلغى حرية إرادة الخليقة العاقلة، ويعطيها الفرصة أن تصنع الخير فترضيه، فيتنسمها رائحة رضى وسرور، أو تصنع الشر فتُغضبه. هذه أساسيات للحوار.
المسيح نائباً عن البشرية:
إذن يوجد هنا تغييب لجزء هام من الحقيقة، إن الذى قُدم للآب على الصليب هو طاعة كاملة، أرضت قلب الآب، وقُدِمَتْ من خلال الإنسان، لأن المسيح أخذ طبيعة الإنسان. فكما أن الإنسان عصى الله الآب حتى الموت، فالمسيح أطاع الله حتى الموت. لأن الله حذّر آدم قائلاً “مَوْتاً تَمُوتُ” (تك2: 17)، فالعصيان كان إلى حد الموت والمسيح أطاع الله حتى الموت. إذن الذى قُدّم لله الآب هو طاعة كاملة، وهذه الطاعة هى ملك الكائن العاقل.
إذا قُلت أن المسيح هو والآب واحد ولهم جوهر واحد إلهى عاقل، أجيبك بأن السيد المسيح فى هذه الحالة أخلى نفسه آخذاً صورة عبد وصار هو آدم الجديد. “كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ” (رو 5: 12). وأيضاً “لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ” (1كو15: 22). وكما قاد آدم البشرية كلها إلى حالة التعدى والعصيان، قاد أيضاً السيد المسيح المفديين إلى حالة الطاعة الكاملة لله الآب، كرأس للكنيسة، وكنائب عن البشرية، قدم رائحة رضا وسرور لأبيه السماوى مُمثلاً للإنسان.
فعلى الصليب أخذ الآب دور الديان لأن هناك تمايز بين الأقانيم. لكن ليس معنى هذا أن الآب ديان والإبن ليس دياناً، أو أن هناك فرق فى الجوهر. لا.. الإبن سيُدين العالم كله فى النهاية، والله الآب سيقول له: أنت الذى دفعت الثمن فمن حقك أن تطالب بحقك من البشرية. فالخلاص هو منحة وهبها السيد المسيح للخطاة الذين يحتاجون الحياة كنعمة وهبة للبشرية.
إذن الذبيحة قُدمت للآب السماوى بواسطة إبنه الوحيد فى الروح القدس. فى رسالة العبرانيين يقول “الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ” (عب9: 14). أى بالروح القدس قدّم نفسه كحمل بلا عيب للآب السماوى.
الثالوث فى مشهد الجلجثة:
هناك تمايز فى الأدوار بين أقانيم الثالوث، ليس هناك إنفصال إنما تمايز فى الأدوار. الابن يقدم نفسه للآب فالثالوث فى مشهد الجلجثة هو مثل مشهد الأردن تماماً: آب وابن وروح قدس. “الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ” (عب 9: 14)، لأنه كرئيس كهنة قدم نفسه بالروح القدس. لكن قدم نفسه لمن؟ قدم نفسه للآب ففى يوم الدينونة يجلس على كرسى مجده ويقول “فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ” (زك 12: 10). وهى ليست “إلى” بل “إِلَيَّ” كما وردت فى سفر زكريا، أى إِلَيَّ أنا، لأنه كنبى كان يتكلم بلسان الرب نفسه ويقول قال الرب. أما يوحنا الحبيب فهو يحكيها كحدث فيقول “سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ” (يو 19: 37 ). هو سوف يجلس على كرسى مجده ويحضر من طعنوه ويحاسبهم. “وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: اُسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ” (رؤ 6: 16-17). المسألة أن الآب على الصليب أخذ موقف الديان والنار التى كانت تنزل من السماء لتلتهم الذبيحة كانت هى عمل الروح القدس فى الجلجثة.
هناك تمايز فى الأدوار بين الثلاثة أقانيم لكن هناك وحدة فى العمل. العمل واحد وهو الفداء. أما الأدوار فلكل دوره: الآب هو قابل الذبيحة، الابن هو الذبيحة، الروح القدس هو النار التى تصعد الذبيحة. فالنار رمز للروح القدس. والروح القدس حل فى يوم الخمسين على هيئة “أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ” (أع 2: 3).
إذن لمن أعطى الضحية؟ الإجابة: لقد قدم الابن نفسه ذبيحة لأبيه السماوى وبذلك استوفى العدل الإلهى حقه. الابن كان هو الكفارة والآب كان هو الذى يستوفى للعدل الإلهى حقه. و”لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ” (يو 5: 23) فالابن هو الذى سوف يكون الديان فى يوم الدينونة.
الضحية هى عبارة عن ذببيحة للتكفير عن خطايا العالم، قُدمت باسم البشرية، وتقبلها الآب السماوى بفعل الروح القدس الذى رافق تقديم هذه الذبيحة، التى قدمها الابن الوحيد كنائب عن البشرية وكرئيس كهنة الخيرات العتيدة (انظر عب 9: 11).
إن جسد يسوع المتحد باللاهوت هو من جانب تقدمة البشرية للآب ومن جانب آخر هو هدية الآب للبشرية.
وكلمة “بذل” هى غير كلمة ضحى. لقد ” بَذَلَ” الآب، لكن التقدمة مقدمة للآب: “الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ” (عب 9: 14). إذن التقدمة مقدمة للآب ولكن البذل هنا فى عبارة “بَذَلَ ابْنَهُ” تعنى أن الآب وافق على أن ابنه يبذل نفسه عن كثيرين. لكن ليس أن الآب قدم تقدمة الصليب للآب، ولكن الذى قدّم هو الابن بالروح القدس، فإن “بذل” تعنى أن الآب وافق أن يصير الابن “فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ” (مت 20: 28).
إذن فإن إجابة السؤال (لمن قدمت ذبيحة الصليب؟) بالتحديد هى إن ذبيحة الصليب قدمت للآب السماوى.. من الذى قدمها؟ قدمها الابن الوحيد الجنس. وأين كان الروح القدس؟ قدمها الابن بالروح القدس، باعتباره رئيس كهنة، وكان يعمل فى رئاسة كهنوته ليس بعيداً عن الروح القدس.