مصر وكنيستها الفريدة
كثيرًا ما نُتهم في حواراتنا اللاهوتية مع الكنائس الأخرى، خاصة في الشرق الأوسط بأننا متشددون، خاصة في بعض العقائد مثل "خلاص غير المؤمنين".
أقيم حفل أثناء أحد مؤتمرات مجلس الشرق الأوسط، وفي الصباح قال نيافة الأنبا بيشوي لأحد القادة (تربطه به صداقة قوية ودالة): "ماذا فعلتم هذه الليلة حيث سهرتم حتى بعد منتصف الليل؟" في ابتسامة مع محبة قال القائد: "أود أن أقول لك يا سيدنا، نحن فيما بيننا نقول: "إن الأمل في الكنيسة هو في الكنيسة القبطية".
وفي مؤتمر آخر إذ كنا نأكل جميعًا في يوم جمعة وكان نيافة الأنبا بيشوي وضعفي ممثلين الكنيسة، قال أحد القادة في جو من المرح: "كل الأعضاء لا يصومون ماعدا نيافة الأنبا بيشوي وفلان... هل لا يدخل أحد السماء غيرهما؟!" علّق أحد الآباء الأساقفة السريان قائلًا: "الحقيقة نحن نشكر اللَّه على تمسك الكنيسة القبطية بالأصوام. نحن في سوريا تساهلنا مع الشعب ثم مع رجال الكهنوت في الأصوام قليلًا قليلًا حتى كاد الصوم ينعدم. نود أن نرجع إلى ما كنا عليه لكن قد فات الأوان. نود أن تبقى الكنيسة القبطية في حزمها وتمسكها بما تسلمته عبر الأجيال".
هاتان شهادتان من قائدين لهما مركزهما في كنائس الشرق الأوسط أحدهما أرثوذكسي والآخر غير أرثوذكسي.
هذا وإن تطلعنا إلى ظروف الكنيسة الإسكندرية (مصر) نقول مع مدام بوتشر أنه إن وُجد في العالم سبع عجائب فإن بقاء الكنيسة في مصر هو أحد عجائب الدنيا! سرّ هذا كله الوعد الإلهي: "مبارك شعبي مصر" (إش25:19)، ومجيء السيد المسيح إليها.
فإلى مصر دون غيرها من الأمم جاء يوسف بن يعقوب ليُقيم المخازن ويُشبع احتياجات المصريين وغيرهم في وقت المجاعة. وإليها وحدها جاء السيد المسيح ليُقيم بحضوره مذبحًا مقدسًا ويجعل منها كنيسة فريدة سبق أن تنبأ عنها إشعياء النبي.
بماذا امتازت كنيسة مصر أو كنيسة الإسكندرية؟
1. ملجأ للسيد المسيح: هرب إليها الطفل يسوع مع أمه والقديس يوسف، راكبًا على سحابة خفيفة سريعة (إش1:19)، فحطّم أوثانها، وجعل منها شعبًا مباركًا، فدون سواها قيل: "مبارك شعب مصر" (إش25:19). لازالت تعتز كنيسة الإسكندرية بمسيحها، تخفيه في داخلها، وتختفي هي فيه.
2. كنيسة رسولية: أنشأها الرسول مرقس الإنجيلي، وقد حافظت على الفكر الرسولي الإنجيلي. ترفض كل نقد لكلمة اللَّه، تقدس الكتاب لكلمة اللَّه الموحى بها بالروح القدس.
3. كنيسة مُحِبة للمعرفة: أنشأت أول مدرسة علمية مسيحية في العالم، هي مدرسة الإسكندرية،فهي تؤمن بالمعرفة والدراسة والبحث. لا تقاوم العلم والفلسفة بل تقدس كل معرفة لحساب ملكوت اللَّه. ظهر فيها فلاسفة مؤمنون جبابرة مثل القديسين بنتينوس وإكليمنضس الإسكندري والعلامة أثيناغوراس، عميدو مدرسة الإسكندرية.
4. كنيسة إنجيلية كتابية: قادت العالم كله في تفسير كلمة اللَّه. يعتبر العلامة أوريجينوس في القرن الثاني أمير شرّاح الكتاب المقدس، تأثر به حتى الذين قاوموه وهاجموه.
الكتاب المقدس بالنسبة لها حياة معاشة، فلا فصل بين الدراسة والخبرة الإنجيلية اليومية.
في كل حواراتها مع الهراطقة تعتمد على الكتاب المقدس بكونه يقدم القرار الأخير والقاطع لكل عقيدة إيمانية.
5. كنيسة شجاعة: قدمت مدن استشهدت بأكملها، وهي تسبح للرب وتهلل مثل مدينتي إسنا وإخميم. وبقيت ولا تزال تصدِّر للفردوس أعدادًا بلا حصر من الشهداء منذ بدء نشأتها وحتى يومنا هذا. رصيدها من الشهداء يتزايد، يمثل قوة وسندًا لها في جهادها.
6. كنيسة ناسكة: فهي رائدة العالم المسيحي في بدء انطلاق الحركات الرهبانية بكل أنواعها، كالتوحد على يديّ الأنبا أنطونيوس، والشركة على يدي القديس باخوميوس، ونظام الجماعات على يديّ القديسين مقاريوس الكبير والأنبا آمون.
في نسكها لا تهاجم الجسد بل ترى فيه قدسية خاصة. تؤمن بأنه يشارك النفس مجدها الأبدي. لهذا فإن قادة الفكر الرهباني مع ما بلغوه من نسك يطالبون المؤمنين بالاعتدال في الحياة النسكية، كل حسب قامته، وأن يكون غايته هو الاتحاد مع اللَّه في ابنه الوحيد بالروح القدس.
7. كنيسة أخروية: ترى أبواب السماء مفتوحة، فتحمل قلوب أبنائها إلى السماء، فيختبرون عربون الأبدية في صلواتهم وأصوامهم وكل عبادتهم وهم بعد على الأرض.
8. كنيسة كارزة: بقيت قرون طويلة ممنوعة من اللقاء مع العالم الخارجي لكن روح الكرازة في داخلها لن تستطيع الظروف أن تحطمها. الآن قد انطلقت للكرازة في أفريقيا ونرجو أن تشهد لمسيحها في كل موقع بروح التواضع الحقيقي مع غيرة إنجيلية نارية، وفي أمومة صادقة نحو كل إنسانٍ في العالم.
9. كنيسة قديسين: غنية بقديسيها عبر كل الأجيال، وتبقى في شركة مع القديسين كأعضاء أحياء يشاركون المجاهدين حبهم ويصلون عنهم، ويشاركهم المجاهدون بروح الوحدة الحقة. يتمتع المجاهدون بالشركة مع طغمات السمائيين كأصدقاء يلتقون معهم ويشاركونهم تسابيحهم وحياتهم السماوية الفائقة.
10. كنيسة تقدر النفس البشرية: فتحترم الرضع والأطفال ولا تستخف بحياتهم وإيمانهم، لهم حق العضوية الكنسية بالعماد المقدس، ومسحة الميرون المقدسة، والشركة في سرّ الأفخارستيا. إنها لا تحتقر هؤلاء الأصاغر، بل تعتز بهم وبعضويتهم في المسيح يسوع مخلص الجميع.
11. كنسية أم: لعل من سرّ قوتها أنها تمارس الأمومة الصادقة خلال اتحادها باللَّه أب البشرية. أحد علامات هذه الأمومة أن الكاهن يتمتع بروح الأبوة. لا يعمل كموظف بل هو أب، لن يحرمه المرض ولا الشيخوخة عن روح الأبوة بل يبقى أبًا لشعبه حتى آخر نسمة من عمره، فينطلق إلى الفردوس بقلب متسع بالحب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "أيها الكاهن أنت أب كل العالم!"
12. كنيسة إيمان مستقيم: ثابتة في إيمانها الثالوثي، فلا تركز تارة على عمل الرب يسوع وأخرى على عمل الروح القدس. هي كنيسة ثالوثية تركز أنظارها دومًا وبطريقة عملية على محبة الآب الفاتح أحضانه ليجد كل إنسان له موضعًا فيه، وعلى ربنا يسوع المسيح بكونه المخلص والصديق السماوي والرأس المدبر والذي يهبنا شركة أمجاده، كما تركز على الروح القدس الناري الذي يلهب القلب بنار الحب الإلهي، واهبًا الإنسان تجديدًا في طبيعته ليصير أيقونة المسيح، ويتهيأ كعروس مزينة لعريسها السماوي، ويرشده في الطريق الملوكي حتى يعبر به من أرض الغربة ويدخل به إلى الحياة السماوية، واهبًا له خبرة عربونها وهو بعد على الأرض.
13. كنيسة متهللة وسط آلامها: تحتفل غالبًا في كل يوم بعيدٍ أو أكثر، إما أعياد سيدية خاصة بأحداث الخلاص التي قدمها رب المجد يسوع أو أعياد وشهداء وقديسين أو أعياد سمائيين... وهي في هذا كله تشتهي أن يمارس المؤمن حياته اليومية كعيدٍ دائمٍ لا ينقطع، يرى في المسيح يسوع مخلصه سرّ فرحه الذي لا يقدر العالم أن ينزعه منه.