يا رب ارحمني أنا الخاطئ
عندما دخلت ُ الى محطة الوقود القريبة من بيتنا كي أتزود بالوقود لسيارتي لم أكن قد سمعت ُ بالحادث المؤسف الذي حدث لصاحبها . في الواقع اني لم أكن معتادا ً على ارتياد هذه المحطة لعلمي السابق بكراهية صاحبها لي . ولولا انشغالي الشديد في هذا اليوم وحاجة سيارتي الشديدة للوقود لما دخلت ُ هذه المحطة ، فصاحبها شخص ٌ متعصب لايمانه ولا يحب من هو مثلي . وفي كل مرة ٍ كنت آتي اليه كان يسمعني كلمات حادة حول الكتاب المقدس والمسيح والايمان المسيحي . فدائما ً كنت لا أسلم من لسانه ِ السليط وسخريته ِ اللاذعة . ولكن اليوم كانت سيارتي تحتاج الى الوقود بشدة ولا مجال لأن أقودها لابعد من ذلك . فدخلت الى المحطة وأنا أصلي الى الله ليعطيني روح الصبر والتسامح في تحمل دعاباته السخيفة وكلماته الجارحة . وعندما دخلت وجدت ُ ابنته ُ الشابة تزود السيارات بالوقود على غير العادة ، وعندما نظرت ُ اليها وجدتها حزينة ، فنزلت بسرعة من سيارتي واتجهت اليها قائلا ً :
- ماذا حدث يا بنيتي ؟
اين والدك ؟
- أجابت بصوت ٍ حزين مهزوز :
ألم تعلم بالحادث الذي حصل لوالدي يا سيدي القس ؟
- كلا ماذا حدث ؟
- لقد وقع بالامس والدي في مرجل القار المغلي واخرجناه الى المستشفى في حالة ٍ يُرثى لها وهو بين الحياة والموت ، وكل عائلتي لديه الآن .
ثم صرخت باكية :
والدي يموت يا سيدي القس .
نظرت ُ اليها في شفقة وربت ُ على كتفها قائلا ً :
هوني عليك ِ يا بنيتي ، إن رحمة الله واسعة . زوديني بالوقود سريعا ً واعطيني عنوان المستشفى حتى أذهب اليه .
فقالت لي :
لا داعي يا سيدي ، سيظن انك تشمت ُ فيه وسيمطرك بالكثير من السباب .
اجبتها والهلع قد أخذ مني الكثير :
بسرعة يا بنيتي كي لا أتأخر .
وخرجت ُ من محطة الوقود وانا مليء ٌ بالمشاعر . كانت آخر مرة ٍ تعاملت ُ فيها مع ذلك الرجل السليط اللسان من خلال ابنتي الصغيرة في الاسبوع الماضي . كان الطقس شتاء ً والبرد ُ قارصا والثلج ُ قد ملأ المكان ولم يكن بالبيت أي وقود للاستدفاء في تلك الليلة . فالبست ابنتي الصغيرة الكثير من الثياب واعطيتها قنينة كاز وارسلتها اليه كي يمدني بالكاز الذي يدفئ ليلتي الباردة . وعندما ذهبت اليه امطرها بوابل من الشتائم ورفض ان يعطيها الكاز رغم ان معها ثمنه ُ وطردها قائلا ً :
دعي والدك الكافر يجعلك تستدفئين بصلاته .
وعندما ولت راجعة تابع صراخه ُ فيها قائلا ً :
أو ربما يميته الله في هذه الليلة فيستدفئ هو في نار جهنم .
لم اعرف السر وراء غلاظة قلبه وسلاطة لسانه ، لم أفهم . كان الرجل صعب المراس جدا ً ولسانه سببا له في مشاجرات ٍ كثيرة ، ولولا موقعه المتميز لفقد الكثير من زبائنه . والآن ها هو قد وقع في الزيت المغلي . لم أفهم كيف رغم ان البنت شرحت لي لكني لم أستطع أن أتخيل الموقف . عرفت انه فقد جلده ُ كله ُ ويعيش ألم ٍ مبرح ٍ منذ الأمس وفرصته ُ في الحياة ِ شبه معدومة .
قال القس متابعا ً حديثه ُ :
وصلت ُ الى المستشفى وبسرعة اتجهت ُ الى قسم الحروق . كان الجو متوترا ً جدا ً والعائلة كلها كانت متجمعة . بسرعة دخلت اليه وما أن رآني من بعيد حتى صرخ :
أخرج من هنا هل جئت كي تتأكد من موتي يا عميل الشيطان . ابتعد من أمامي فأنا لا أطيق أن\أنظر اليك .
كان صوته ُ عاليا ً ، فخرجت ُ مسرعا ً حتى لا تكون هناك فضيحة داخل المستشفى ولكني ذهبت ُ الى الطبيب وسألته ُ عنه فقال لي :
لقد فقد الكثير من جسده ِ وحياته ُ شبه منتهية ولكنه الآن يحتاج الى كثيرا ً من الدم خلال فترة ٍ قصيرة .
فقلت له :
أستطيع أنا أن أعطيه من دمي .
أجابني الطبيب وبصوته ِ خيبة أمل كبيرة :
نحن نقوم ببذل مجهود ٍ بلا أمل وهو كلما يعيش أكثر يتألم أكثر ، فلو تركناه ....
قاطعته بسرعة وقلت له :
تكون قد ارتكبت جريمة في حقه ِ يا دكتور ، المحاولة هي أهم شيء ٍ وليفعل الله ما يراه مناسبا ً له .
قال الطبيب :
لست أدري ما الفائدة من اطالة عمره تلك الساعات القلائل ، هو سيعيشها في ألم . لولا المسؤولية لكنت وفرت له هذا العناء الشديد رحمة ً به .
أجبته :
أنت لا تنقص او تزيد من عمر اي انسان يا دكتور ، هو الرب ، ومن يدري فقد يحتاج المرء الى دقائق قليلة تغير مصيره ُ كله يا سيدي الطبيب ، وليس من حق أي انسان أن يُنقص ثانية ً واحدة من عمر انسان آخر . في شريعة السماء هذا اسمه قتل . هل ستأخذ مني الدماء ؟
نظر الي ساخرا ً وقال :
يبدو انك تحبه كثيرا ً هل هو قريبك ؟
اجبته لا بل من يهمني أمره وأنا اريد أن أتبرع له بدمي .
ساعات تمر وأنا جالس امامه في المستشفى . لقد سحبوا مني الكثير من الدم ، وهو الآن في غيبوبة ، الله وحده يعرف متى يستفيق منها . وفجأة فاجئتني صرخة ٌ هائلة ، ألم ٌ فظيع ٌ يشعر به ذلك الرجل ، كان الله في عونه . اتجه بنظرهِ الي ولكنه لم يصرخ بل قال :
أنت لا زلت هنا ؟
كيف حالك ايها البطل ؟
أنت اعطيتني دما ً أليس كذلك ؟
اجبته : نعم
دمعت عيناه تأثرا ً وقال :
لماذا ؟
لماذا لم تتركني أموت ؟
وتحولت الدموع الى بكاء .
تقدمت جهته وقلت :
كيف اتركك تموت الآن وأنت شخص ٌ عزيز ٌ جدا ً علي ّ وأيضا ً عزيز ٌ في عيني الرب ، هل تعلم أين أنت ذاهب اذا انتقلت الآن ؟
الى الجحيم قال صارخا ً
فقلت له :
هل رأيت عذاب الحرق ؟
هل تستطيع أن تحتمل هناك والى الأبد ؟
لم يتكلم بل اغرورقت عيناه بالدموع ثم راح يهذي قائلا ً :
- هو الثمن ، ثمن الخطايا والأعمال الشريرة الذي يدفعه ُ كل انسان ، كلنا سنذهب الى هناك أنت وأنا .
- ولماذا تكلف نفسك عناء دفع ثمن خطاياك وهناك من دفعها عنك يا رجل ؟
يسوع انت تعرفه ؟
- ومن لا يعرفه نبي ٌ عظيم ٌ عاش وعمل الكثير من المعجزات وأراد اليهود قتله ُ .
أجبته :
أنت لا تعرفه اذا ً
أجاب :
أعرف الله وحاولت ارضائه بكل قوتي .
فقلت له :
وهل أرضيته ؟
اجابني :
اعرف أنني حاولت أن أرضيه ولكني لا اثق في هذا الآن ، بداخلي شيء ٌ غير راض ٍ عنه . أعرف أن أعمالي لن تدخلني السماء ولا أعمال أي شخص .
- كلنا عبيد ٌ بطالون . كلنا حاولنا وفشلنا في هذا يا رجل .
- صرخ قائلا ً :
قلت لك كلنا لنا مصير ٌ واحد .
- أتذكر الصليب ؟
- نظر الي ولم يجب .
فاكملت ُ :
افتح قلبك يا رجل . صلي الى الله واطلب غفرانه ُ ، سلّم له حياتك . لقد بقي القليل ، اطلب منه أن يستلم ذلك الجسد المحروق وتلك النفس المريضة ، هو يريدك كما أنت .
أجابني :
لم أفعل في حياتي حسنا ً .
- ولا أنا فعلت ُ شيئا ً حسنا ً في حياتي ، ولكني صرخت ُ لله يوما ً وقلت ُ له ارحمني يا رب أنا خاطئ .
- سكت الرجل قليلا ً واغمض عينيه ، ظننت انه راح في غيبوبة ، فرفعت ُ صلاة ً الى الهي ان لا تكون هذه هي غيبوبة الموت ، لكنه فتح عينيه وقال :
- يا رب ارحمني أنا الخاطئ . اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك .
- ابتسمت وقلت :
لا تخف الموت يا صديقي .
وبقيت أنا وهو قرابة الساعتين نصلي ، وقد علمته بعض الترانيم القصيرة التي راح يترنم بها بصوته ِ المنهك ، فقال باسما ً
- هل هذه هي التي سأرنمها في السماء ؟
- أجبته ُ :
بل وأحلى
شُفيتْ أوجاع الرجل تماما ً ، انه الآن في السماء مع يسوع . أذكر انني عندما خرجت ُ من عنده وقابلني الطبيب ، قلت له :
لقد أنتهى الأمر .
- أرأيت ان دماك لم تفده ُ بأي شيء ؟
لقد عاش ساعات ٍ قليلة فقط
- اجبته :
هي أهم ساعات عمره .
وخرجت من المستشفى وركبت سيارتي ، كنت ُ مشغولا ً جدا ً اليوم لكني أجلت كل شيء في سبيل ذلك الرجل الذي استقبلته السماء بالفرح . ادرت ُ سيارتي راجعا ً الى البيت ، فلم يضع اليوم هباء ً .
* * *
يارب أشكرك أحبك كثيراً...
بركة الرب لكل قارئ .. آمين .
وكل يوم وأنت في ملء بركة إنجيل المسيح... آمين
يسوع يحبك ...