مع بخور أبى الكاهن إرتفعت الصلوات " تفضل يارب نيح نفوسهم جميعاً ... علهم فى موضع خضرة على ماء الراحة فى فردوس النعيم ، الموضع الذى هرب منه الحزن والكآبة والتنهد فى نور قديسيك " ..
كنت أحضر الصلاة وأرى صندوقاً يضم جسدى ، كل الحضور يبكون ويحزنون ويتنهدون ، أنا وحدى الذى يرى وقد تغرب عن هذا الشعور فلا أجد له معنى ( حزن ، كآبة ، تنهد ) .. كلمات بلا معنى !! ..
رأيت البخور يمر بين صفوف الباكين المتنهدين ، يجمع الصلوات ويرتفع بها ، وما وصلت إلى حيث الموضع ، إلا وهرب الحزن والكآبة والتنهد فصارت الصلوات نقية منها ، فسمعتها أصوات أفراح وأنغام سرور وحبور ..
هو اليوم الأول لى فى هذا المكان ، ياااه ، لماذا أستعمل هذه التعبيرات ، " يوم أول " !! .. وهل هناك ثان وثالث ؟ إننى الآن فى الأبدية التى إرتفعت فوق الزمن .. و " مكان " !! .. كيف لى أن أصفه بهذه المحدودية وقد ملأه غير المحدود ؟ ، إننى الآن فى الأبدية ، يااااه ، حتى تعبير " الآن " غير دقيق ، لازلت أستعمل تعبيرات الزمن والمحسوس .. هل من معين يشرح لى ما أنا فيه وما أنا عليه من حال ؟
أين ذهبت آلامى ؟ ، إلى أين صارت أوجاعى ؟ ، أرى وجوه من حولى مشرقة بنور حلو فى فرح لا يوصف ، أرى من عرفته وقد ترك الجسد بمرض أسموه ( الخبيث ) وأشبعوه من المسكنات حتى يوقفوا آلامه المبرحة بلا جدوى ، وها هو معى لا يعرف حتى ماذا تعنى كلمة ألم .. وأرى من مات حزناً وكمداً بعد سنوات طويلة من التجارب التى فاقت إحتمال البشر ، سألته : أين ذهبت كآبتك ؟ قال فى دهشة والإبتسامة تنير وجهه : ماذا تعنى ؟
بحثت داخل نفسى عن شعور كانوا يسمونه " الحقد " وآخر أطلقوا عليه كلمة " حسد " وعن شيء كثيراً ما أثقلنى وأزعجنى وكثيرا ما شكوته إلى أذنى أبى الروحى " شهوة الجسد " ، ( جسد ؟؟ ) ، هل نسيت ؟ لقد خلعت الجسد ، فكيف لك بكل هذه الأوجاع ؟؟ أبشر يا فتى ، أنت الآن لا تعرف الحقد والحسد ولا شهوة الجسد ، كلها راحت وصارت بلا معنى .. !!
رأيت مشلولا يتحرك الآن فى سرعة الروح وأجنحة الشاروبيم بلا سجن الجسد ، رأيت من عرفته ضريرا لا يرى فإذا به مملوء أعينا وسط السيرافيم ببصيرة النور الإلهى ، رأيت كل من كان عليلاً أو ذليلاً ، فما وجدت فيه إلا الصحة والصفاء والنقاء مفتخراً بطبيب الأرواح الذى فدى من الحفرة حياته ..
والبخور يرتفع فى يد أبى الكاهن ، شاهدت يداً تخترق سحاب حباته الدقيقة جداً ، إمتدت إلى الأعين الباكية تمسح عنها دموعها ، فهذا هو " مسكن الله مع الناس " ، ورأيت ملاكاً يحمل سفر الحياة بين يديه ، فتحه على الإصحاح الحادى والعشرين من كتاب رؤيا الرائى يوحنا وأشار إلىّ بإصبعه لأقرأ : ( وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم ، وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم ، والموت لا يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت ) رؤ ٢١ : ٣ .
تجرأت وسألت الملاك : ( سيدى أجبنى ، أين ذهبت آلامى وأوجاعى ومشاعرى المتعبة وكل ما كنت أشكو منه ) ، قال لى : ( ولماذا تذكرها ؟ ، وحتى هذا التعبير " ذكرى " لا وجود له عندنا ، أنت الآن " حى " لا ميت ، هم الأموات بأوجاعهم وآلامهم وذكرياتهم الملبسة الموت ، هل لى أن أطلب منك أن تغير عنوان المقال ؟ .. " من مذكرات ميت !! " ، لا يا عزيزى ، لقد كنت ضالاً ووجدناك ، كنت ميتاً وأنت الآن حي ، فلا تعد تذكر وتكتب مذكرات الأموات ، ودع الموتى يدفنون موتاهم ولا تطلب الحى من بين الأموات ، هو القيامة والحق والحياة ، إطلبه بين الأحياء الذين عبروا من الموت إلى الحياة ، إطلبه فى بيت الآب السماوى ولا تتذكر مزرعة الخنازير وقد ركض إليك أبيك وإحتضنك وقبلك فرحاً بعودتك إلينا )
..
ابونا بيسنتي جرجس