يأتي الليل بهدوئه النقي، ونسمات منعشة توقظ في النفس السعادة والشجن معا، كثيرا ما اجدني ما بين الاستمتاع بهبوبها و ما بين قلق غامض لا اعلم مصدره، ربما لأنها تتشابه مع الحياة من حيث كونها متعة قصيرة الأمد يليها فراق و اختناقات تطول، وكأن تلك النسائم تحمل معها ذكريات بعضها لا يحضرني و لكن احاسيسها ما زالت في القلب و ان نسيتها الذاكرة، تلك التي تقلقني لأني لا اعرف ما هي لا يمكن لعقلي اصطيادها و ترويضها بتحليلاته و تحايلاته. العتمة وراحتها لعينّي اللتين ضاقتا ذرعا بالوجوه و التلفت و الاستدارات السريعة، عيناي اللتان تمنعهما الشمس من الامعان في عمق السماء و تجبرني احيانا على العبوس و ما اقبح عبوسي. و خلوة تقربني من روحي تجعلني اسمع اصواتا خافتة داخلي ضاعت وسط الضجيج النهاري و الروتين اليومي. انه الليل، خير من يشعرني بالحرية و يضعني في اجمل حالات التأمل، تنير ظلمته ما في قلبي من مصابيح مخبأة خلف ستائراصطناع المشاعر و الثرثرات الخاوية.
الا انني محرومة من المشي تحت مظلته الكبيرة ، لا استطيع الخروج للقياه، ارى حالي اشبه بحال حبيبة ينتظرها حبيبها كل يوم تحت نافذتها و لا يبلغ منها سوى اطلالة قصيرة الأمد و نظرة خاطفة، نعم هي تراه، لكنها لا تستطيع الخروج اليه.
و احيانا اكتفي بهذا و ارضى بالقليل من محبوبي الأسود، كأن اقف في الشرفة في اهدأ اوقاته لا يصاحبني سوى فنجان قهوة و ربما بعض انغام مقطوعاتي الموسيقية المفضلة و اغان اغار عليها كثيرا و لا اُسمعهن لأحد. اقف هنالك انتظر تلك النسائم التي ترغمني على الابتسام و اغماض عينّي، و اذا ما اشتدت وددت لو فتحت لها ذراعيي و تناسيت اين انا، حبذا لو كان القمر امامي، و لا اقول البدر بل القمر، فأنا اعشقه في جميع اطواره، و اي عشق ذاك الذي لا يكون للمعشوق في كل حالاته، انظر اليه بتعجب في كل مرة، و كأنني اراه لأول مرة، و اتبع انعكاس نوره، و اود لو تنطفئ كل انوار المدينة ليبرز لي اكثر دون أن تزاحمة تلك الأضواء الفظة. مرات اعاتبه على المسافات البعيدة بيني و بينه خاصة اني لا استطيع أن امشي اليه، و اعاتبه على سرعة سيره غير المدركة مبتعدا عن ناظريّ للتواري خلف تلك البنايات، لا ادرى لما يبنونها بهذا العلو!.
و احيانا لا اكتفي بل اجن من الحرمان من الخروج الى محبوبي. عندما ينكمش الناس الى منازلهم و ارى فراغ الطرقات يستفزني لأفرض عليها خطواتي، سواء كانت متثاقلة و انا مطرقة او سريعة و انا متشوقة الى مكان فسيح ينتشلني من ضيق الامكنة او ربما ضيق نفسي. الشتاء قادم، هل سأحتمل أن تمطر السماء ليلا و ابقى حيث أنا؟ ماذا عن رغبتي في الركض كالاطفال تحت المطر، او في رقص الفلامنكو و ضرب قدميّ في الماء و الوحل؟ و ماذا لو اردت الوقوف بثبات تحت زخاته العنيفة لأصرخ بغضب و توعد لهذا العالم؟. بيني و بينك ايها الليل آلاف البشر، لكني يوما سأهزمهم.