رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
”صبرنا“ و التغييرات الجذرية! الحقيقة أنه لكي نفهم تفسير الله عن الصبر، علينا أن نلقي نظرة على المثال الأشهر للصبر البشري المتاح لنا؛ وأقصد أيوب، والذي شهد عنه الرسول يعقوب «هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ» (يعقوب5: 11). ومن يدقق في دراسة قصة أيوب المؤلمة، ويقارن بين بدايتها الكارثية (أيوب1)، وبين نهايتها الاحتفالية (أيوب42)، يدرك أن الله المُحب في تجاربنا المتنوعة، لا يهتم فقط بقُدرتنا على التحمل اللطيف أو الانتظار السلبي لنهاية التجربة، ولا حتى بمضاعفة الممتلكات (كما فعل مع أيوب)، أو التعويض عن الخسائر المادية والمعنوية (كما يفعل معنا)، وإلا ما كان لزوم التجربة من البداية؟!! ولكن الله يهتم بالأساس، أن ينجز عمله هو فينا خلال وقت التجربة، وأن يُنضِّج شخصياتنا لتناسب مع خدمتنا له، ومع مجده المراد لنا، سواء هنا أو في الأبدية، وأن يغير جذريًا الأفكار الراسخة في أذهاننا، والسلوكيات الخاطئة في أفعالنا، والتي لا تتناسب مع خططه الصالحة لحياتنا، بمعنى أن الصبر هو فترة من الزمن يحتاجها الإنسان لكي يغنم بركات التحمل والانتظار، ويحتاجها الله أيضًا لإنضاج شخصياتنا وتغيير سلوكياتنا وأفكارنا. وهذا ما حدث بالتمام مع أيوب الصابر؛ فنتيجة صبره، لم تكن مجرد مضاعفة الأملاك والتعويض بالأولاد، ولكن أنظر إلى تغيير أفكاره الجذرية عن الله؛ فبدأ يدرك أن الله هو الخالق القدير، وهو السيد على كل المخلوقات والكائنات، وعلى أيوب أن يخضع لسيادة الله عليه دون شروط فصرخ «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ»، وأنظر إلى إدراكه أن الله هو البار والعادل، وأن قضيته لا تختلف عن مليارات القضايا أمام الله، وعليه أن يتقبل حكمه الصالح، ويتحرر من أي مرارة أو إدانة لله، فهتف بيقين «فَمَنْ ذَا الَّذِي يُخْفِي الْقَضَاءَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ وَلكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا» (أيوب42: 2، 3). وأنظر إلى تغيير أفكار أيوب الجذرية عن نفسه، فأدرك أنه معدوم المعرفة ومحدود العلم، فترك اعتماده على فلسفته وحكمته، وشعر باحتياجه أن ينهل من نبع العلم نفسه، فطلب «اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي»، وفي نفس الوقت نجده على غير عادته، يرفض أن يعتد بذاته، بعد أن كان يفخر ببرها أمام أصحابه، فيقول «بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي، لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ» (أيوب42: 4، 5). وملخَّص هذه التغييرات الفكرية الجذرية، أن الله أصبح بالنسبة لأيوب هو القدير والسيد والعليم والبار والعادل والصالح، وأن أيوب أصبح بالنسبة لنفسه هو المخلوق والمحدود والمعدوم والجاهل والرافض لذاته، وكلها تغييرات تحتاج عشرات السنوات لكي تتم في حياة الإنسان، وبدونها لا علاقة صحيحة مع الله، ولا أي بركة روحية تأتي للإنسان، وكان السبب المباشر لها هو الصبر!! |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|