رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
داود والسقطة الكبرى على أن هذه كلها، مهما كانت محزنة ومؤلمة، لا شيء على الإطلاق إلى جانب سقطته، بل وصمته الكبرى التي هوى فيها من القمة إلى القاع، في لحظة واحدة، وقد حرص الكتاب على تدوين القصة بكل بشاعتها ولوثتها وخستها، لكي تبقى مدى الأجيال عظة للأقوياء قبل الضعفاء، وللجبابرة قبل العاديين وللذين يأخذون المراكز في الصفوف قبل الذين هم في آخر الصفوف، أنه لا توجد في الإنسان مناعة ضد ميكروب الخطية، .. وأن جراثيمها يمكن أن تتكاثر وتسقط أعظم الأبطال، لولا رحمة الله ونعمته،.. ولقد عرف الشيطان كيف يأتي إلى الرجل، لقد جاءه في وقت الفراغ، وربما إهمال الواجب،.. كانت هناك معركة، ولو قاد داود الجيش، وقاتل في المعركة، لنجا،.. لكنه ترك غيره يؤدي الواجب، وصعد هو إلى أعلى السطح، ليرى امرأة تستحم، ومهما يكن جمال هذه المرأة، فإنها نعجة، لا يمكن أن تكون أجمل وأندر من النعاج الأخرى التي تملأ بيته،.. ولكنها الغريزة القبيحة في الإنسان التي تجعله يرى الممنوع -مرغوباً فيه، منذ ذلك اليوم الذي فيه أكل آدم من الشجرة الوحيدة المحرمة، دون أشجار الجنة العديدة الحلوة الشهية الثمر،... إلى أي حد كان بيت أوريا قريباً من بيت داود، لست أعلم!!؟.. لكنه يبدو أن التجربة كانت أقرب إليه بالكيفية التي خدرته، ولم يستطع معها محاولة الهروب،.. لكن لكن الأمر كان أفظع وأشد أو كما يقول توماس جودين في دراسته العميقة عن "تعدي الخطية": أنه أمر أوريا أكثر من "بثشبع" الذي أوقد غضب الله ضد داود،.. فإذا كانت الخطية قد فاجأته مع بثشبع، وأنه غلب منها بعنصر المباغتة والمفاجأة، فإن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لأوريا، ورفض الذهاب إلى بيته، فإذا لم يفلح التمويه، فلتكن القسوة الشديدة التي تترك البطل في مواجهة الحرب، مع التوصية بالتخلي عنه وتركه ليواجه الموت!!.. إن الخطية، تجر في ذيلها دائماً خطايا كثيرة متعددة، أشنع وأرهب وطريقها دائماً منزلق يسقط القديس الجالس على القمة إلى المنحدر الرهيب،.. والتستر على الخطية، يضيف إليها، خطايا أخرى متعددة، الكذب والغدر والنفاق والقسوة والكبرياء، والرياء،.. وأشر ما في الأمر أن داود استمر على هذا الحال ما يقرب من سنة حتى ولد الولد، وجاءه ناثان النبي،.. هل ذهب إلى بيت الله، هل رنم مع المرنمين؟؟ هل صلى مع المصلين؟؟ إننا نحمد الله كثيراً لأنه لم يترك مزموراً من مزاميره الخالدة في فترة الإثم،.. لقد تحطم تماماً، وعندما غنى مزمور التوبة العظيم كانت طلبته إلى الله "رد لي بهجة خلاصك" لأن الرجل لم تعد تحلو له القيثارة المغنية، ولم يعد له الصوت الطروب، ولم تعد له نقاوة القداسة، لقد أضحى صورة مخدوعة مخادعة للكثيرين والكثيرات!!.. كانت خطيته شنيعة هيهات أن تقتصر عليه، بل تجاوزت الظلام، لأنه ليس خفي لا يعرف ولا مكتوم لا يعلن أو يكشف، وكانت عثرة رهيبة للكثيرين من ذوي الإيمان النقي، وكانت شماتة وسخرية من أعداء الله والحق، وعلى قدر ما يأخذ الإنسان من امتياز ويتحمل من مسئولية على قدر ما تكون خطيته، لقد كانت خطية بيلاطس البنطي عظيمة جداً، لكن المسيح مع ذلك قال له: "لذلك أسلم إليه له خطية أعظم" لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر!!.. لماذا لم ينهض من تلقاء نفسه، ولما انتظر سنة بأكملها حتى جاءه ناثان النبي، أغلب الظن أنه كان أشبه بالوعل في الشبكة، أو العصفور في القفص، أو السمكة في السنارة،.. عندما ثار عليه الضمير، تصوره البعض يحاول مستميتاً أن يثبت أنه لم يفعل شيئاً،.. إنه ملك، وحقه على الرعايا لا ينازع فيه أحد، سواء كانت بثشبع أو أوريا، وله أن يتصرف فيهما كما يشاء أو يريد،.. ثم إنه لم يقتل أوريا، ولم تمتد عليه يد إسرائيل، بل قتل في الحرب، وحتى لو ذهب إلى أقسى مكان، فإن الله لو أراد له أن يحيا لأبقاه، والأرواح كلها بيد الله،.. وعندما مات لم يتنكر لزوجته فقد ضمها إليه، ورفعها إلى مركز الملكات، والوليد الذي جاء منها اعترف به، وأحبه، وتمنى أن يعيش!!... كل هذه وغيرها كانت بعض خياله حتى جاءه الحق أبلج كالنور ليقول: أنت هو الرجل!!.. إن السؤال الآخر الذي يمكن أن تلقيه علينا هذه القصة. كيف تاب داود، وما عناصر توبته الصحيحة؟!!.. من الغريب جداً أن داود يعتبر الشخص الثالث في هذه التوبة، وليس الأول أو الثاني،.. إن الأول هو الله الذي مد يده إلى الأسير في الخطية والله دائماً هو المحرك الأول لكل توبة في حياة الإنسان، ألم يقل إفرايم في لغة إرميا: "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" وألم يقل الرسول بولس: "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون".. والله دائماً هو الأعظم ألما، والأكثر رغبة، في أن ننهض من آثامنا، ونقوم من خطايانا،.. وكان الشخص الثاني ناثان النبي، ولم يتحرك ناثان من تلقاء نفسه بل حركة الله: "فأرسل الرب ناثان إلى داود".. وكان ناثان من أبرع الناس وأحكمهم وأشجعهم، والمثل الذي ينبغي أن يحتذى عندما يحمل المرء رسالة الله للناس، أن الشجاعة لابد أن تكون مقرونة بالحكمة والحكمة لابد أن تكون متسمة بالشجاعة، ونحن نعظهم أو نوبخهم، والله لا يطالبنا أن نكون مندفعين بدعوى الشجاعة أو الصراحة، ونحن نكلم الناس عن خطاياهم لأن رابح النفوس،.. وقد قال سقراط في بعض حكمه إذا وجدت ثوراً هائجاً، فليس من الشجاعة أن تقف في طريقه معرضاً صدرك لقرونه، بل إن الشجاعة أن تعرف كيف تقيده بالحرص والحكمة!!.. وكم يخطي بعض الوعاظ أو الخدام، أنه ما دامت هناك خطية ليقذفها الإنسان بكل حجر ممكن،.. لقد قتل داود جليات بحجر أملس، وقد جاءه هنا الحجر الأملس القاتل للخطية، من فم ناثان،.. لقد جهزه بالقصة المثيرة عن العدالة، وإذ رفع فيه روح العدالة، لم يفزع بعد ذلك، حتى ولو وضع رأسه على كفه أن يقول له: أنت هو الرجل!!.. كان دادو محظوظاً بإلهه، وكان داود محظوظاً بالواعظ الشجاع الحكيم الذي أيقظ إحساسه بالتوبة، ليكتب مزموره العظيم المزمور الحادي والخمسين، ولعلنا نلاحظ أن هذا المزمور قد سلم لإمام المغنيين، ليكون اعترافاً علنياً أمام الله والناس بالتوبة الصادقة!!.. ولعله من الغريب أن تلاحظ أن داود قال في المزمور: "إليك وحدك أخطأت" مع أنه أخطأ إلى بثشبع، وإلى أوريا، وإلى الأمة، ولكنه لم ير واحداً منها جميعاً، لأنها ابتلعت جميعها في الخطية أمام الله، وهو لم يعد يرى في الوجود كله، إلا الخطية، والخاطيء، والله، وخطيته أمام الله تجب كما يقولون رجال القانون كل خطية، وتحتويها، وتتضمنها،.. ومن الغريب أن هذا هو إحساس بولس عندما ركز النظر في خطيته بكيفية لم يعد يرى خاطئاً آخر أثقل منه وأرهب، وصاح: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا..". لم يكن داود في مزموره يبالي بما يصنعه الله به، أو أي عقوبة يوقعها عليه، إنما كان يعينه شيء واحد لا غير أن لا يطرح من أمام الله، أو يبعد عن وجهه: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"... لم تكن الخطية منفردة، بل مست الأمة كلها، وحتى لا يتصور الناس أن الله لا يبالي بالخطية، حفظ الله روحه، وكشف في الوقت نفسه عن عدالته الصحيحة، فإذا كان قد قتل أوريا بسيف بني عمون، فسيلحق السيف بيته إلى الأبد، وإذا كان قد ارتكب الخطية في جنح الظلام، فسيأتي أقرب الناس إليه ليضطجع مع نسائه في وضح النهار، وتحت عين الشمس!!.. كان الله صادقاً، وكان عادلاً، وكان محباً،.. ومات الولد، لكن من العجيب، أن أخاه سليمان سيكون هو المختار للملكة من بين أبناء داود، والذي من نسله يأتي المسيح مخلص العالم!!.. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
يتكلم داود بروح النبوة عن تجمع الشعوب حول الله وملكه داود |
أبانا الذي ف السموات داوى الذين كسرتهم الحياة داوى المجروحين |
سقطة داود الكبرى |
داود ومدارسه الكبرى |
داود ومدارسه الكبرى |