منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 25 - 02 - 2023, 05:11 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,467

الأحد الثامن من السنة: العِنَايةُ الإِلهِيَّة



الأحد الثامن من السنة: العِنَايةُ الإِلهِيَّة




النص الإنجيلي (متى 6: 24-34)





24 ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال. 25 ((لِذلكَ أَقولُ لكُم: لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟ 26 أُنظُرُوا إِلى طُيورِ السَّماء كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ 27 ومَنْ مِنكُم، إِذا اهْتَمَّ، يَستَطيعُ أَن يُضيفَ إِلى حَياتِه مِقدارَ ذِراعٍ واحِدة؟ 28 ((ولماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟ إِعتَبِروا بِزَنابقِ الَحقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل. 29 أَقولُ لكُم إنَّ سُلَيمانَ نَفسَه في كُلِّ مَجدِه لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها. 30 فإِذا كانَ عُشبُ الحَقْل، وهُوَ يُوجَدُ اليومَ ويُطرَحُ غداً في التَّنُّور، يُلبِسُه اللهُ هكذا، فما أَحراهُ بِأَن يُلبِسَكم، يا قَليلي الإيمان! 31 ((فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أوماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ 32 فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه. 33 فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه. 34 لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه.






مقدمة



يصف نص إنجيل متى عناية الله بحياتنا ومعيشتنا ومستقبلنا، حيث يطلب يسوع المسيح مِنَّا أن نثقَ في الله تعالى كأبٍ سماوي يعتني بنا وينزع منا كلَّ قلقٍ ووهم ٍللعيش في طمأنينة تحت تدبيره تعالى (متى 6: 24-34)، إذ يهتمُّ حتى في الطُيورِ وعشب الحقل. لذلك كم نحن بحاجة إلى تجديد ثقتنا في العِنايَة الإِلهِيَّة، خاصة أنَّنا نعيش في مجتمع تسوده الأمور المادية، فيأخذ كثيرون المال سيدا لهم حيث أنَّ شهوتهم للمال تفوق كثيرا التزامهم لله وللأمور الروحية. وهكذا يدعونا المسيح اليوم إلى الثقة بالله وطلب ملكوته قبل طلب الحياة اليومية واحتياجاتها. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.





أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 6: 24-34)



24 ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال.



تشير عبارة "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن" إلى نمطَي حياةٍ متناقضين: النمط الدنيوي والنمط الإنجيلي، لأنَّ روح العالم ليس هو روح يسوع. لا يجوز إشراك أي شيء في الحياة مع حب الله، لانَّ قلب الإنسان لا يَستَطيعُ أن يحب ربَّين معا، إذ قلبه لا يتَّسع إلاَّ لربٍ واحدٍ لا لربّين، وبالتالي لا يَستَطيعُ أن يحبَّ المال إلاّ على حساب الله، لان قلب الإنسان لا يقدر أن يكون مُكرَّسا بكامله إلاّ لهدف واحد، كما هو واضح في الوصية الأولى من الوصايا العشر "لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي"(الخروج 20: 3)؛ وفي هذا الصدد يُعلمنا القدّيس يعقوب الرسول: " أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوًّا لله " (يعقوب 4، 1). وتوضح القدّيسة كلارا هذا الإمر بقولها: "لأنّنا حين نتمسّك بأمور هذه الدنيا نفقد ثمار المحبة، ثمار خدمتنا لله" (الرّسالة الأولى إلى القدّيسة أغنِس من براغ). أمَّا عبارة فتشير "يَعمَلَ" في الأصل اليوناني خ´خ؟د…خ»خµل½»خµخ¹خ½ إلى خدمة العبادة. إن قلب الإنسان لا يمكن أن ينال الاكتفاء إلاَّ من خلال عبادة الله الواحد كما جاء في الشريعة الإِلهِيَّة "لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي" (خروج 20: 3). يعرف الله أنَّ التجربة الكبرى للإنسان تتمثَّل، لا في عدم الإيمان به، ولكن بالأحرى في خلق إله حسب معاييره، ووضعه جنبا إلى جنب مع الله الواحد الحق. أمَّا عبارة "إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر "فتشير إلى جمع المال لا يمنعنا من خدمة الله فحسب، إنَّما أيضا يجعل قلوبنا عليه واكتسابه غايتنا العظمى. فكل إنسان مُجبر أن يختار بين هذين السَيِّدَيْن، لانَّ عدم اختيار الله إنما هو اختيار العالم وما فيه من المال. فمن الضروري ألاَّ نجعل من أنفسنا عبيداً للمال، بل نرفض كل سيد عدا الله الذي يستوجب منّا ثقة مطلقة لقدرته وحكمته وحبِّه الأبوي (متى 6: 24-34)، فنجعل الله يملك على حياتنا وعملنا وممتلكاتنا وخططنا وعلاقاتنا. وفي هذا الصدد يقول صاحب المزامير " مَلْعونٌ الرَّجلُ الَّذي يَتَّكِلُ على البَشَر ويَجعَلُ مِنَ اللَّحمِ ذراعاً لَه وقَلبُه يَنصَرِفُ عنِ الرَّبّ. مبارَكٌ الرَّجُل الَّذي يَتَّكِلُ على الرَّبّ ويَكونُ الرَّبّ مُعتَمَدَ " (إرميا 17: 5 ،7). أمَّا عبارة " لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" إلى الإنسان الذي لا يَستَطيعُ أن يُكرِّس نفسه في خدمة المال للحصول على اللذة في الحاضر، وفي خدمة الله للأمن في المستقبل. ما يأمر به الواحد ينهى عنه الآخر وكل منهما يطلب خدمة تامة دائمة لا يشاركه غيره فيها. لان الله لا يقبل خدمة جزئية مشتركة إذ محبة العالم عداوة لله. وليس للإنسان إلاّ قلب واحد. وقبله صُمِّم لتحقيق غاية واحدة بشكل كامل. ألم يقل يسوع " كُلُّ واحدٍ مِنكم لا يَتَخَلَّى عن جَميعِ أَموالِه لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلْميذاً" (لوقا 14: 33). وأعمالنا تشهد بأنَّنا عبيد لمن نخدم كما ورد في تعليم بولس الرسول "لا تَعلَمونَ أَنَّكم، إِذا جَعَلتُم أَنفُسَكم عَبيدًا في خِدمَةِ أَحَدٍ لِتَخضَعوا لَه، صِرتُم عَبيدًا لِمَن تَخضَعون: إِمَّا لِلخَطيئَةِ وعاقِبَتُها المَوت، وإِمَّا لِلطَّاعَةِ وعاقِبَتُها البِرّ؟" (رومة 6: 16). أمَّا عبارة "المال" في الأصل اليوناني خ¼خ±خ¼د‰خ½ل¾· (معناها ما هو ثابت وأمين)، وفي الآرامية "ماموناه " (معناها المخبّأ أو المطمور) فتشير إلى المُقتنيات الماديّة بشكل عام، وما يعتزّ به الإنسان من مال وثروة، لكن مفهومها تطوّر للدلالة على المال كإله وسلطان يستعبد قلب الإنسان (لوقا 16: 9)، وبالتالي إلى عبادة المال حيث يضع المرء أمنه وأمانه وحياته في المال فيصبح المال وثنًا معبودأ، كما جاء في تعليم بولس الرسول " الطَمَعٍ هو عِبادَةُ الأَوْثان" (قولسي 3: 5). يحيا الإنسان من أجل المال، ويعيش لكي يمتلك المال. ويؤكد الحكماء أنه باطل الاعتماد على الغنى "مَنِ اْتَكَلَ على غِناه يَسقُط" (أمثال 11: 28), وفي الواقع، يبدو أن المال إله كاذب، أي إنه صنم يتعبّد له الإنسان، وبالتالي يُشكل خطراً عليه. ولكن عندما نعطي المال نتغلب على الخطر. لذلك نسمع يسوع يدعو الشاب الغني أن يتبعه بهذه لكلمات "إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني" (متى 19: 21). ويُعلق القديس ايرونيموس "الشيطان يَعد بمملكة وغنى ليحطّم الحياة، والرَّبّ يَعد بالفقر لكي يحفظ الحياة!"



25 لِذلكَ أَقولُ لكُم: لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟



تشير عبارة "لِذلكَ" في الأصل اليوناني خ”خ¹ل½° د„خ؟ل؟¦د„خ؟ (معناها لهذا) تربط كل ما سيقوله السيد المسيح عن العِنايَة الرَّبّانية والآية السابقة التي تأمرنا بعد خدمة سيِّدين. أمَّا عبارة " أَقولُ لكُم" إلى كلام يسوع لتلاميذه والجموع كمعلم مُقدِّمًا لهم ما هو جوهري، وطالبا منهم بأن لا يقلقوا بشأن طعامهم أو لباسهم؛ أمَّا عبارة "لا يُهِمَّكُم" في الأصل اليوناني خ¼ل½´ خ¼خµدپخ¹خ¼خ½ل¾¶د„خµ (معناها لا تهتموّا) فتشير إلى تعيين السيّد المسيح موقف التلاميذ إزاء حطام الدنيا ، وهو الاضطراب الذي يوَّلد التوتر وبالتالي القلق والشك، لكنه لا يقصد المسيح بها عدم الاهتمام في أمر معيشتنا ولا التشجيع على الكسل واللامبالاة، بل قصد أن يُدرّب الناس على الثقة بالله، كما جاء في تعليم بولس الرسول "إذا كان أَحدٌ لا يُريدُ أَن يَعمَل فلا يَأكُل" (2 تسالونيقي3: 10). المطلوب هو عدم الاهتمام أكثر من الواجب باحتياجاتكم الجسدية والاتكال على الله والثقة به غير خائفين من هموم المستقبل لكن دون اللامبالاة أو الكسل أو الخمول والاتكالية (لوقا 12: 50) التي تجعلكم عِبئا ثقيلا على أكتاف الآخرين ومتطفلين عليهم، كما يؤكد ذلك بولس الرسول "فإِنَّكم تَذكُرونَ، أَيُّها الإِخوَة، جَهْدَنا وكَدَّنا فقَد بَلَّغْناكم بِشارةَ الله ونَحنُ نَعمَلُ في اللَّيلِ والنَّهار لِئَلاَّ نُثَقِّلَ على أَحَدٍ مِنكم" ( تسالونيقي 2: 9) وتشير العبارة أيضا إلى عدم القلق والاتكال المُعبّر عنه في الصلاة (متى 6: 11) المرفوعة إلى الله، الآب السماوي الذي يُحرّر الإنسان من القلق الذي يُنسيه أن حياته هي في يد الآب (متى 16: 5-12)، وكأن الرَّبّ يسوع يقول "لا تقلقوا" بل ثقوا في عناية الله المُحب الذي يهتم بأبنائه (لوقا 12: 22-31). وقد وردت هذه عبارة في هذا النص ست مرات لأهميتها (متى 6: 25، 27، 28، 31، 34)، ويُعلق القديس ايرونيموس "فُرض علينا أن نعمل من أجل الضروريّات، لكن دون قلق؛ أمَّا عبارة "لِلْعَيشِ " فتشير إلى لوازم حياة الإنسان واحتياجاته هنا في هذا العالم. أمَّا عبارة "أَلَيْسَتِ الحَياةُ" فتشير إلى صيغة الاستفهام كي تكون عقولنا شاهدة على ما يقول، وهي أن الله الذي منحنا هذه الحياة يعتني بها، والذي أعطانا أجسادنا لا يتركها تحتاج إلى لوازمها من الطعام والرعاية والحماية. أمَّا عبارة "الحَياةُ" في الأصل اليوناني دˆد…د‡ل½µ (معناها النفس المرادفة بالعبرية ×*פض°×©×پض° والتي تعني الشخص أو الذات) فتشير إلى الحياة الطبيعة، وحياة الذات بالمقارنة مع الحياة الروحية (العبرانيين 4: 12). إنَّ النفس هي مركز العواطف والرغبات، وفي الكتاب المقدس يُعتبر الأكل والشرب من وظائف النفس. فالحياة هي هبة من الله، ولا يقدر أن يعطيها إلاّ الرَّبّ الذي "بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (أعمال 17: 28)، والجسد هو هيكل لله، أمَّا الطعام واللباس فهما وسيلة فقط. فإن كان الله أعطى الإنسان الحياة فلا بدَّ أنه سيعطيه كل ما يحفظ هذه الحياة، ويضمن له الطعام والشراب. واضحٌ هنا أن السيّد المسيح لا يُنهى عن التفكير في احتياجات الجسد، بل علَّمنا أن نصلي "أُرزُقْنا خُبزَنا كَفافَ يَومِنا" (لوقا 1: 3)، لكنه يمنعنا نت القلق من طعامنا وشرابنا وكسائنا، لأنه هو يعتني بنا. ويُوضح القديس يوحنا الذهبي الفم "لا يُطلب الخبز من خلال قلق الروح بل من خلال تعب الجسد". المال سيِّدٌ فاسِدٌ عندما يستعبد الإنسان نفسه له ويصرف جلَّ وقته بالتفكير فيه، وقد يحصل عليه بطرق خاطئة فيصبح "المالُ خادمًا جيّدا وسيّدا فاسد"، كما قال الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما. وتكمن المشكلة هنا أنَّ الإنسان يهتم بالأشياء أكثر من اهتمامه بخالق الأشياء ومعطيها. يهتم بالأكل والشرب والملبس أكثر من اهتمامه بالحياة ذاتها وبالرَّبّ الذي هو مصدر الحياة وما عندنا من مالٍ.



26 أُنظُرُوا إلى طُيورِ السَّماء كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟



تشير عبارة "أُنظُرُوا" إلى التأمل في عجائب الرَّبّ، كما ترنّم صاحب المزامير "ما أَعظَمَ أَعْمالكَ يا رَبّ لقد صَنعتَ جَميعَها بِالحِكمة فاْمتَلأَتِ الأَرضُ مِن خَيراتِكَ... الجَميعُ يَرْجونَكَ لِتُعطِيَهم طعامَهم في أَوانِه، تُعْطيهم فيَلتَقِطون تَبسُطُ يَدَكَ فخيرًا يَشبَعون"(مزمور 104: 24-28)؛ وهذا هو السبب الثاني لعدم اهتمامنا بالدنيويات الذي نتعلمه من خلال اعتناء الله بالطُيورِ حيث يُعلمنا يسوع أن نتق بالله، لأنه يعتني بنا. أمَّا عبارة " طُيورِ السَّماء " فتشير إلى الحيوانات التي لها أجنحة ورجلين ويبلع عددها نحو 10000 نوع من الطُيورِ، وسُمِّيت طُيورِ السَّماء، لأنَّها تطير في الجو. والله يرزقها، كما ورد في الكتاب المقدس "مَن يَرزُقُ الغُرابَ صَيدَه إِذ تَنعَبُ فِراخُه إلى الله وتَهيمُ لِعَوَزِ القُوت؟ "(أيوب 38: 41). أمَّا عبارة " لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء" فتشير إلى أتعاب الإنسان الثلاثة لتدبير معيشته وهي: الزرع والحصاد والجمع إلى المخازن بعكس الطُيورِ، كما يقول صاحب المزامير:" يَرزُقُ البَهائِمَ طَعامَها وفِراخَ الغِرْبانِ حينَ تَصرُخ" (مزمور 147: 9). أمَّا عبارة "أَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها" فتشير إلى الله، أبوكم وليس إلى أبو الطُيورِ. فكأنه يقول إذا كان خَلْقُ الله للطُيورِ يجعله يعتني بها، فكم يعتني بنا نحن أبناؤه وهو أبونا. أمَّا عبارة "أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ " فتشير إلى قيمة الإنسان عند الله الذي تفوق على طُيورِ السَّماء. فإذا كان الله يَهتم بالطُيورِ ويُرزقها طعامها، أتراه لا يهتم بأبنائه؟ توضّح هذه الآية مدى رعاية الله بالكون خاصة بالإنسان وروحه وجسده وحتى بطعامه وشُرْبه ومَلبسِه، واهتمامه أيضا بطُيورِ السَّماء التي خلقها لأجل الإنسان. ويُعلق القديس ايرونيموس "إن كانت الطُيورِ بلا تفكير والتي توجد اليوم ولا تكون غدًا يعولها الله بعنايته، كم بالأحرى يهتم بالبشر الذين وعدهم بالأبديّة!". وقد اكّد الرَّبّ اهتمامه بالإنسان بقوله إلى يشوع بن نون "لا أُهمِلُكَ ولا أَترُكُكَ" (يشوع 1: 5). فإن كان قد أعطى الله الحياة للإنسان (أعمال 17: 28)، فلا بدَّ أنه سيعطيه ما يحفظ هذه الحياة، ويَضمن له الطعام والشراب.



27 ومَنْ مِنكُم، إِذا اهْتَمَّ، يَستَطيعُ أَن يُضيفَ إلى حَياتِه مِقدارَ ذِراعٍ واحِدة؟



عبارة "ومَنْ مِنكُم، إِذا اهْتَمَّ، يَستَطيعُ أَن يُضيفَ إلى حَياتِه مِقدارَ ذِراعٍ واحِدة" تشير إلى عجز الإنسان عن إطالة قامته ذراعاً واحدة؛ وهذا الأمر يقلق الإنسان ويزيد اضطراباته ويضاعف مخاوفه. لذلك يُوصينا صاحب المزامير "أَلقِ على الرَّبّ حِملَكَ وهو يَعوُلكَ ولا يَدَعُ البارَّ يَتَزَعزَعُ لِلأَبد" (مزمور 55: 22). أمَّا عبارة "حَياتِه" في الأصل اليوناني ل¼،خ»خ¹خ؛ل½·خ± (معناها القامة) إلى طول الإنسان، وليس إلى العمر. أمَّا عبارة "اهْتَمَّ" فتشير إلى تعلق الفكر بشيء وتأمل فيه والعمل على تحقيق. وأمَّا عبارة "ذِراعٍ واحِدة؟" فتشير إلى نصف متر تقريبا. وعليه فإن زيادة نصف متر إلى طول الإنسان فلا معنى لها وليس بالأمر القليل (لوقا 12: 26)، تدل على زيادة نصف متر إلى القامة أو إلى مسافة رحلة العمر. ومن هنا نستنج أن معنى قول يسوع أنكم لا يُمكنكم أن تزيدوا إلى طول قامتكم أو عمركم شيئا.



28 ولماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟ إِعتَبِروا بِزَنابقِ الَحقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل.



لا تشير عبارة "زَنابقِ الَحقْلِ" إلى زهور الزنبق بالمعنى الحقيقي فقط (هوشع 14: 6)، بل بالمعنى الجماعي أي إلى عدة أنواع من الفصيلة الزنبقية وأزهار من فصائل أخرى، وهكذا في أيام المسيح كانت لفظة الزنبق تدل على أنواع شتى من الزهور. قصد المسيح بهذه العبارة إلى الإشارة إلى جمال الأزهار، لا إلى أسمائها العلمية. ويدل الزنبق على بياضها ونقائها كمالها. وتبيّن هذه الآية إلى اهتمام الله بالإنسان. فإن كان الله يهتم بالزنابق قصيرة العمر، والتي لا حياة أبدية لها، فكم يهتم بالإنسان الذي له حياة أبدية في الدهر الآتي. أمَّا " تَجهَدُ " فتشير إلى بذل جُهْدٍ بَالِغٍ وطَاقَةٍ كَبِيرَةٍ. أمَّا عبارة " تَغزِل "فتشير إلى فتَل الصوفَ أو القطنَ إلى خيوط.



29 أَقولُ لكُم إنَّ سُلَيمانَ نَفسَه في كُلِّ مَجدِه لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها.



تشير عبارة "سُلَيمانَ" إلى الملك سليمان بن داود التي وصفت ملكة سبأ غناه بقولها "ورَأَت مَلِكَةُ سَبَأ كُلَّ حِكمَةِ سُلَيمان والبَيتَ الَّذي بَناه، وطَعامَ مائِدَتِه ومَسكِنَ مُوَظَّفيه وقِيامَ خُدَّامِه ولباسَهم وسُقاتَه ومُحرَقاتِه الَّتي كان يُصعِدُها في بَيتِ الرَّبّ، فلَم يَبقَ فيها رُوح" (1ملوك 10: 4). أمَّا عبارة "لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها" فتشير إلى "الزنابق الملوكية"، كما ورد في المِشنة. ومن اسمها الملوكية. أخذ المسيح المثل وقارن بينها وبين ملابس سليمان الملك.



30 فإِذا كانَ عُشبُ الحَقْل، وهُوَ يُوجَدُ اليومَ ويُطرَحُ غداً في التَّنُّور، يُلبِسُه اللهُ هكذا، فما أَحراهُ بِأَن يُلبِسَكم، يا قَليلي الإيمان!



تشير عبارة "فإِذا كانَ" في الأصل اليوناني خµل¼° خ´ل½² (معناها لكن إذا) إلى الاستنتاج وهو إن كان الله يهتم بالمخلوقات، أفلا يهتم بكم؟؛ أمَّا عبارة "عُشبُ الحَقْل " إلى النباتات الصغرى كالحشائش الجافَّة والأشواك وفروع الأشجار الصغيرة، قصيرة الحياة والتي كانت تستخدم كوقود بسبب ندرة الخشب؛ أمَّا عبارة " يُوجَدُ" فتشير إلى العشب الحي والنامي والزاهي. أمَّا عبارة " اليومَ ويُطرَحُ غداً" فتشير إلى اصطلاح يدل على مدتين زمنيتين قريبتين، وبالتالي ترمز إلى الزوال؛ أمَّا عبارة "التَّنُّور" فتشير إلى الفرن الطيني التي يُخبز بها الخبز، وفي فلسطين يُسمَّى طابون؛ غاية هذه المثل إظهار الفرق بين فترة حياة العشب وحياة الإنسان. إذا كان الله يهتم بالعشب القصير الحياة فلا داعي للقلق، فإنه لا بدَّ أن يعتني بأبنائه الذين خُلقُوا للحياة الأبدية. أمَّا عبارة "يا قَليلي الإيمان!" فتشير إلى تحذير يسوع من أن نكون "قَلِيلِي الإِيمَانِ" تجاه عناية الرَّبّ بنا. وهذه العبارة مأخوذة من أقدم التقاليد (لوقا 12: 28) التي أوردها متى الإنجيلي إظهار كيف أن التلاميذ الذين يتبعون المسيح مُعرّضون لضعف الإيمان، والتلاميذ قليلي الإيمان هم الذين لا يَحيون بالنور الذي يأتيهم من إيمانهم، ولذلك فهم يتركون الهموم تستولي عليهم، كما حدث مع بطرس الرسول لدى غرقه في بحيرة طبرية، كما ورد في إنجيل متى "مَدَّ يسوعُ يَدَه لِوَقْتِه وأَمسكَه وهُو يقولُ له: يا قَليلَ الإِيمان، لِماذا شَكَكْتَ؟ " (متى 14: 31). هذه الأمثلة وكثيرة من الأمثلة تحيط بنا تُعلمنا الثقة بالله والإيمان به، والرغم من ذلك لا نزال، نشك في الله وبعنايته الإِلهِيَّة.



31 فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟



تشير عبارة "فلا تَهْتَمُّوا" إلى طلب يسوع لتلاميذه أن يُبعدوا عنهم كل ريب وخوف وقلق من جهة احتياجاتهم الجسدية. أمَّا عبارة " فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ " فتشير إلى أكثر الاحتياجات الأولى التي يطلبها اليوم أكثر البشر. وإذا قلقنا على أكلنا وشربنا ولبسنا، يكون اهتمامنا إهانة لأبينا السماوي وإقراراً منا بضعف ثقتنا به. والواقع ما ينقص تلميذ المسيح هو الإيمان والثقة التامة بالله الذي يعرف ما نحتاج إليه، فيُعطينا خبزنا حين نطلب ذلك، بل قبل أن نطلب؛ وهنا يتساءل بولس الرسول "إنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومة 8: 32). الرَّبّ الذي وهب الإنسان الجسد ألا يهبه ما يُغديه من الطعام والشراب، وما يكسوه من لباس، كما جاء في تعليم بولس الرسول "اللهِ يَجودُ علَينا بِكُلِّ شَيءٍ لِنَتَمَتَّعَ بِه" (1طيموثاوس 6: 17). ويؤكد ذلك صاحب المزامير " اْمتَلأَتِ الأَرضُ مِن خَيراتِكَ. الجَميعُ يَرْجونَكَ لِتُعطِيَهم طعامَهم في أَوانِه. تُعْطيهم فيَلتَقِطون تَبسُطُ يَدَكَ فخيرًا يَشبَعون" (مزمور 104: 24، 27-28). تدعونا هذه الآية أن نتحرَّر من الحاجة إلى الانشغال بأنفسنا دائما بوضع حياتنا بين يدي الرَّبّ. وكما يعتني الرب بنا كذلك يعلمنا الاعتناء ببعضنا البعض.



32 فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إلى هذا كُلِّه.



تشير عبارة "فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون" إلى السبب الخامس لعدم تعلق تلاميذ يسوع بالدنيويات، لانَّ تلاميذ المسيح واتباعه عندما يهتمون بالمستقبل يكونون كالوثنيين الذين لا يعرفون عناية الله ومحبته الأبوية. أمَّا عبارة "الوَثَنِيُّون" في الأصل اليوناني ل¼”خ¸خ½خ· (معناها أمم لا تعبد الله) فتشير إلى الأمم الوثنية كمثال للمَسْلك الدنيوي وغير الروحي. فهم ليسوا قادرين على النظرة الإيمانية الهادئة والواثقة في الله، حيث أن أفكارهم قاصرة عن الله وعنايته، ويطلبون ما يظنونه لسعادتهم أي الأكل والشرب والملبس. لذلك لا ينبغي على تلاميذ المسيح أن يسلكوا كالذين لا يعرفون الله أباً لهم، بل عليهم أن يعلموا أن الله يهتم بكل احتياجاتهم، كما جاء في تعليم بولس الرسول "وَصِّ أَغنِياءَ هذِه الدُّنْيا بِألاَّ يَتعَجرَفوا ولا يَجعَلوا رَجاءَهم في الغِنى الزَّائِل، بل في اللهِ الَّذي يَجودُ علَينا بِكُلِّ شَيءٍ لِنَتَمَتَّعَ بِه" (1طيموتاوس 6: 17). أمَّا عبارة "أَبوكُمُ السَّماويُّ" فتشير إلى الله كونه أبًا يُحب المؤمنين كحبِّ الوالد لأبنائه، وهو قادرٌ أنْ يعتني بهم بعكس الأب الأرضي الذي لا يَستَطيعُ أحيانا أن يؤمِّن كل احتياجات أولاده. أمَّا عبارة " يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ " فتشير إلى الله الذي خلقنا وأحبنا ويعلم كل احتياجاتنا، كما صرّح لنا يسوع المسيح " أَنَّ أَباكُم يَعلَمُ ما تَحتاجونَ إِلَيه قبلَ أَن تَسأَلوه" (متى 6: 8). وهو قادر أن يُشبعنا من خيراته. يدعونا يسوع هنا أن نبني الثقة في العِنايَة الرَّبّانية، إذ أنَّ الآب السماوي يعرف ما تحتاج إليه طُيورِ السماء وزنابق الحقل (متى 6: 26-28) فكيف يحرمنا مما نحتاج إليه!



33 فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه.



تشير عبارة "اطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه" إلى إحدى العبارات الأساسية والمألوفة في الإنجيل، وتعني أن نطلب أولا الأمور الروحية في صلواتنا وأتعابنا وهدفنا ونبذل جهدنا للدخول في الملكوت بأنفسنا، ونجذب الآخرين إليه لأنها أعظم قيمة وأكثر أهمية من الأمور المادية؛ وهكذا إن طلْبَ الملكوت يُعيد إلى الحاضر النظام الهدوء النفسي. أمَّا عبارة " أَوَّلاً" فتشير إلى سُلّم الأولويات، حيث يريد يسوع منا الانتباه إلى ما هو أساسي في جداول أعمالنا اليومية دون أن يُبعدنا عن مسؤولياتنا وواجباتنا الزمنية، حيث لا يجوز الاهتمام برزق الحياة على حساب الله، ويُعلق القديس أوغسطينوس "بقوله كلمة "أولًا" أشار إلى طلبنا هذه الأشياء، ولكننا لا نطلبها أولًا، لا من جهة الزمن بل حسب الأهمّية، فملكوت الله نطلبه كخير نسعى نحوه، أمَّا ضروريّات الحياة نطلبها نحن كضرورة نحتاج إليها لتحقيق الخير الأعظم الذي نسعى نحوه"؛ أمَّا عبارة "مَلَكوتَه" فتشير إلى النظام الذي أتى المسيح ليُشيده في هذا العالم ويُنظِّمه (متى 4: 17)، ويدل أيضا على مجد المسيح وسلطانه (متى 16: 28) وسلطان الله على الكل (متى 6: 10)، وخاصة يدل على إرادة الله الذي يُحبنا ويُخلصنا. وأرسل المسيح تلاميذه للتبشير بهذا الملكوت وتقدُّمَه وانتشاره. أمَّا عبارة " بِرَّه" “فتشير إلى برّ المسيح الكامل الذي يُنسبه إلى الله لكل مؤمن، كما جاء في تعليم بولس الرسول "هو بِرُّ الله وطَريقُه الإِيمانُ بِيَسوعَ المسيح، لِجَميعِ الَّذينَ آمَنوا" (رومة 3: 21-22)؛ حيث أن البر الذي نطلبه من الله هو مطابقة إرادته الإِلهِيَّة حيث إننا نصبح نظراء الله في القداسة والمحبة. أمَّا عبارة "تُزادوا هذا كُلَّه" فتشير إلى ضروريات الحياة فيما نشرب وما نأكل وما نلبس (متى 6: 25، 31) والتي يسهل أن ينشغل الإنسان بها على حساب الله وملكوته. هذه الآية تدعو إلى طلب ملكوت الله بخيره الروحي قبل خيرات هذا العالم. إذا كان الله قد أعطى الناس حياة الروح فهو كفيل أن يعطيهم حياة الجسد، وما يحفظها ويصونها، كما قال الله إلى سليمان الحكيم "حتَّى ما لَم تَسأَلْه قد أَعطَيتُكَ إِيَّاه مِنَ الغِنى" (1 ملوك 3: 13)؛ فينبغي أن نعمل ونكد ونبحث عن القوت، ولكن بدون قلقٍ وهمٍّ، فالله هو الرازق، كما يقول بطرس الرسول "أَلقُوا علَيه جَميعَ هَمِّكم فإِنَّه يُعنى بِكم" (1بطرس 7:5). الاهتمام باحتياجاتنا الروحية هو العلاج الشافي للاهتمام بأمورنا الجسدية. وقد طوَّب يسوع هؤلاء الذين يشعرون بحاجتهم أن يعتمدوا على الله لتيسير ضروريات الحياة الروحية "طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات"(متى 5: 3). أمَّا عبارة "هذا كُلَّه" فتشير إلى احتياجات الجسدية والزمنية لهذه الحياة كالطعام والشراب والملبس والتي يعلم الآب السماوي إننا حاجة إليها ويَعد بها كثواب للتقوى وليس بالغنى الجزيل، كما يؤكد صاحب المزامير" كُنتُ شابًّا وقد شِختُ ولم أَرَ بارًّا مَتْروكًا ولا نَسلَه يَلتَمِسُ خُبزا" (مزمور 37: 25) 19) ويوضِّح ذلك أيضا دعاء بولس الرسول "إِلهي يَسُدُّ حاجاتِكم كُلَّها على قدْرِ غِناه بِالمَجدِ، في المسيحِ يسوع" (فيلبي 4: 19). قول المسيح في هذه الآية لا يمنع من وجوب الصلاة للحصول على الاحتياجات الزمنية، بل يمنع أن نطلبها أولا ونجعلها أولى طلباتنا.



34 لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه.



تشير عبارة "لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد" إلى عدم حمل هموم المستقبل، والواقع "لم يقل لا يُهِمَّكُم أمرُ اليوم" نظراً لضرورة العمل والجهاد من أجل قوتنا، كما جاء في حياة بولس الرسول "ونَحنُ نَعمَلُ في اللَّيلِ والنَّهار لِئَلاَّ نُثَقِّلَ على أَحَدٍ مِنكم" (1 تسالونيقي 2: 9). وأفضل استعداد لإتمام واجبات الغد هو إتمام واجباتنا اليوم. ويسمح الله لنا أن نهتم بالحاضر كيلا نقلق في المستقبل؛ لانَّ المستقبل في يد الله، ولا يعلم أحد غيره بكل ما يحدث فيه، لأنَّه من خلال الإيمان بالله يطمئن القلب بشأن المستقبل، أما القلق والمتاعب لأجل الغد تعكِّر صفو الوقت الحاضر. لذلك يُنذر يعقوب الرسول الأغنياء الذين يتَّكلون على أنفسهم دون الله "يا أَيُّها الَّذينَ يَقولون: ((سنَذهَبُ اليَومَ أَو غَدًا إلى هذه المَدينَةِ أَو تِلكَ فنُقيمُ فيها سَنَةً نُتاجِرُ وَنَربَح))، أَنتُم لا تَعلَمونَ ما تكونُ حَياتُكم غَدًا. فإِنَّكم بُخارٌ يَظهَرُ قَليلاً ثمَّ يَزول. هَلاَّ قُلتُم: ِن شاءَ الله، نَعيشُ ونَفعَلُ هذا أَو ذاك!" (يعقوب 4: 13-15)؛ أمَّا عبارة "لِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" فتشير إلى الأتعاب والمشقَّات والهموم اليومية التي تواجهنا. لذلك يكفي الإنسان أن يحمل همَّ كل يوم بيومه لان الله يعطي نعمة قوة ونعمة لكل يوم بيومه. فمن يهتمُّ بنا اليوم لا يتركنا غدا. أمَّا عبارة "العَناءِ" في الأصل اليونانيخ؛خ±خ؛ل½·خ± (معناها شر) فلا تشير إلى شرّ الخطيئة، وإنما إلى "التعب" والمشاكل التي نقابلها. فلا نهتم بما سنتعبه غدًا، إنّما يكفي أن نتعب اليوم ونجاهد، وكأن الله يمنعنا من القلق في المستقبل، ويَحثّنا على الجهاد في الحاضر. وهذا ما حدث مع الشعب العبري في خروجه إلى الصحراء وهو بحاجة إلى الخبز، إذ قالَ لَهم موسى: "لا يُبْقِ أَحَدٌ مِنه شَيئاً إلى الصَّباح" (خروج 16: 19). وخلاصة القول، تُعتبر هذه الآية مثلا مقتبسا من أمثال الحكمة الشعبية القديمة الذي ينص بعدم تكديس الهموم ليوم غدٍ، بل لنعش هموم اليوم الحاضر فقط، وسيأتي الغد بهمومه. لكن يسوع أعطى هذه الحكمة بُعداً جديداً، فالإيمان بالله الآب يُخلص الإنسان من قلق الغد، لن يكون الإنسان غدا وحده، لان نعمة الله ستكون معه. نحيا يومنا ونترك غدنا لنعمة إلهِنا. لذلك من الخطأ أن نقلق أو نرتبك بخصوص المستقبل. فالعبادة الحقيقية هي حياة بلا قلق كما يقول صاحب المزامير "أَلقِ على الرَّبّ حِملَكَ وهو يَعوُلكَ ولا يَدَعُ البارَّ يَتَزَعزَعُ لِلأَبد" (مزمور 55: 23). هذه الآية هي خلاصة ما سبق بحيث لا نهتم بالاحتياجات المستقبلية بل لنثق بالله ونتكل على عنايته الإِلهِيَّة.





ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 6: 24-34)



بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 6: 24-34)، نستنتج انه يتمحور حول العِنايَة الإِلهِيَّة التي تتطلب من الإنسان الثقة الكاملة والثبات في الأمانة. ومن هنا نتساءل ما هو مفهوم العِنايَة الإِلهِيَّة؟ وما هو مضمون متطلباتها؟



1. ما هو مفهوم العِنايَة الإِلهِيَّة؟



يقدِّم لنا السيد المسيح شخص الله بصفات الآب الذي يسهر على خلائقه ويُوفِّر حاجاتها لها حيث يُرزق الله الطُيورِ مثلما يرزق البشر "أُنظُرُوا إلى طُيورِ السَّماء كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟"(متى 6: 26). وتتلخص هذه الاعتبارات بلفظ "العِنايَة". ويؤكد أيوب البار رعاية الخالق نحو خلائقه بقوله "حَياةً ونعمَةً آتيتَني وحَفِظَت عِنايَتُكَ روحي" (أيوب 10: 12).



الواقع لم ترِدْ لفظ "العِنايَة" في الكتاب المقدس في اللغة العبرية، إنَّما وردت في الترجمة السبعينية اليونانية بلفظ د€دپل½¹خ½خ؟خ¹خ±. في سفر الحكمة "عِنايَتَكَ، أيها الآبُ هي الَّتي تَقودُه" (حكمة 14: 3). العِنايَة الإِلهِيَّة هي الوسيلة التي يحكم من خلالها الله كل شيء في الكون أنَّ حيث لديه السيطرة التامة على كل شيء. وهذا يشمل الكون ككل (مزمور104)، والعالم المادي "يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار."(متى 45:5)، وشؤون الأمم (مزمور 7:66)، وميلاد البشر ومصائرهم، كما اختبره بولس الرسول نفسه " لَمَّا حَسُنَ لدى اللهِ الَّذي أَفرَدَني، مُذ كُنتُ في بَطْنِ أُمِّي، ودَعاني بنِعمَتِه" (غلاطية 15:1)، ونجاح البشر وفشلهم، كما جاء في ترنيمة تعظم "حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 52:1)، وحماية شعبه، كما ترنمّ صاحب المزامير "قُمْ يا رَبِّ خَلِّصْني يا إِلهي فإِنَّكَ لَطَمتَ جَميعَ أَعْدائي وحَطَّمتَ أَسْنانَ الأَشْرار. (مزمور 8:3: 8) وتتعارض فكرة العِنايَة الإلهي تمامًا مع فكرة الصدفة (أي المصادفة وهي حدثٌ دون علة، أو غايّة) أو القدر يحكم الكون. والعِنايَة الإِلهِيَّة لا تدمِّر حرِّيتنا، ولكن، تُمكِّننا من استخدام هذه الحرِّية بشكل صحيح.



2. ما هي متطلبات العِنايَة الإِلهِيَّة



تقوم عناية الله بالإنسان على طريقة أبٍ يُطالب ابنه بان يكون شريكًا له في العمل. وهذه الشراكة تتطلب من الإنسان الثقة الكاملة والثبات في الأمانة:



ا) الثقة الكاملة



دعا السيّد المسيح تلاميذه في إنجيل اليوم إلى الثقة من خلال ستة مبادئ:



المبدأ الأول: لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ



"لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟ أُنظُرُوا إلى طُيورِ السَّماء كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ (متى 6: 25-26). إذا كان الرَّبّ قد أنعم عليكم بالحياة الطبيعيّة، فهل يبخل عليكم بالطعام الّذي تطلبه هذه الحياة. إنّ الّذي وهبكم الأجساد لا يبخل عليكم بإطعام هذه الأجساد وبسترها بالكساء. ومن أجل أن يوضِّح هذا المبدأ أقام من طُيورِ السَّماء برهان على جودة الرَّبّ وعنايته بالمخلوقات.



المبدأ الثاني: لماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟



"لماذا يُهمُّكُمُ اللِّباس؟ إِعتَبِروا بِزَنابقِ الَحقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل (متى 6: 28). واستمدّ الرَّبّ يسوع من عالم النبات مثالاً لتعزيز المبدأ الثاني، فقال تأمّلوا زنابق الحقل". يذكر السيّد المسيح النتيجة الّتي يُتوّج بها بالزنابق، وهي أنّ الإنسان الخالد أفضل من الزنابق التي تهبُّ عليها الريح فتزول. وهُي توجَدُ اليومَ وتُطرَحُ غداً في التَّنُّور.



المبدأ الثالث: فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟



"فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أو ماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إلى هذا كُلِّه"(متى 6: 31 -32). "لا تهتمّوا ... ولا تقلقوا". لأنّه من شأن شعوب غير المؤمنة والذين ليس لديهم ثقة بالرَّبّ ولا مطمح لهم في الوجود سوى أن يأكلوا ويشربوا وغداً يموتون. أمّا أنتم فتؤمنون بحياة خالدة لا نهاية لها تلي هذه الحياة الزائلة. فإذا كان الله قد أعطانا حياة الروح، فهو كفيل أن يعطينا ما هو دونها، حياة الجسد، وما يحفظها ويصونها.



المبدأ الرابع: أَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إلى هذا كُلِّه



"هذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إلى هذا كُلِّه" (متى 6: 32). لا تهتموا لأنّ الرَّبّ الإله أبوكم. فمن طبيعة الله كآب أن يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه. لدينا آب في السَّماء يُفكّر فينا أكثر بكثير من تفكيره بزنابق الحقل وطُيورِ السَّماء. إذاً والحالة هذه، يكون قلقنا باحتياجاتنا الجسدية إهانة لأبينا، وإقراراً منا بضعف ثقتنا به. فما هو مطلوب منّا هو أن نقوم بكلّ ما في استطاعتنا للتعامل مع الشدائد، وأن نكل ما يتبقّى إلى العِنايَة الإِلهِيَّة.



نستنتج مما سبق أنَّ يسوع يدعو الإنسان أن يضع ثقته فيه تعالى، من خلال هذه المبادئ الواردة أعلاه؛ وما دام الله يعتني بالإنسان، يتوجب على الإنسان أن يحيا في جو ثقة في الله. فالإنسان بحاجة إلى ثقة بالله لمواجهة مسئوليات الحياة ومخاطرها لكيلا يشله القلق، ولكي يثبت رغم التجارب، ولا يفقد الأمل في بلوغ هدفه. وهذا المطلب يقتضي سلم الأولويات. لذلك يقول الرَّبّ " فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33). من يثق بالله عليه ألا يضع الأولوية في الأكل والشرب واللبس والحاجات المادية التي وعد الله أن يمدهَّ بكل ما يلزم حياته، بل عليه أن يتكل عليه تعالى أولاً، والله لا يهمل من يتكل عليه.



المبدأ الخامس: لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد



"لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" (متى 6: 34). وهناك تحديات يُريدنا الله أن نواجها خاصة القلق. والقلق يجعل الفرد منقسماً في داخله، ويشغل كلّ أفكاره ويؤثّر سلبيّاً في أسلوب معاملته مع الآخرين، وبالتالي إن قلقنا بالغد يُعرقل جهودنا اليومية ويُقلل من قدرتنا على الاتكال على الله "أُنظُرُوا إلى طُيورِ السَّماء كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟" (متى 6: 26)، والقلق يضرُّ ولا يفيد، ويدلُّ على عدم الثقة والإيمان بالله. فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إلى هذا كُلِّه" (متى 6: 32).



تحفظنا الحياة كل يوم كي لا يضنينا القلق "لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" (متى 6: 34). وخير مثال على مواجهة امر الغد هو مثال أنطونيوس الكبير التي تكلم عنه القدّيس أثناسيوس بطريرك الإسكندريّة " دخل أنطونيوس الكنيسة مرّة أخرى، وسمع الربّ يقول في الإنجيل: "لا يهمّكم أمرَ الغد". لم يتحمّل أنطونيوس الكبير أنّه أبقى بعض الأموال جانبًا، فوزّعها كذلك على أكثرهم فقرًا. عهد بأخته إلى عذارى معروفات ومؤمنات، كُنَّ يَعِشْنَ في منزل مع بعضهنّ البعض، لكي تتعلّم هناك. وبعدها كرّس نفسه، قرب منزله، لعمل الحياة التقشفيّة. وإذ كان متيقّظًا على نفسه، واظب على عيش حياة تقشّف" (حياة القدّيس أنطونيوس، أبي الرهبان).



حسن أن نصرف وقتا في التخطيط للغد، ولكن من الخطأ أن نعتمد على طرقنا دون الاتكال على الله والثقة به، الذي خلق الكون ويُحبنا، ويَعلم ما نريد، وما نحتاج إليه. أمَّا الوقت الذي نصرفه في القلق على الغد، فهو وقت ضائع. فالتخطيط يستلزم تفكيرا مقدماً في الأهداف والخطوات وجدولة ذلك مع الاتكال على إرشاداته تعالى.



باختصار، يقول لنا صاحب المزامير: "فَوَضْ إلى الرَّبّ طَريقَكَ وتَوَكَّلْ علَيه، وهو يُدَبّرُ أَمرَكَ " (مزمور 37: 5). وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول: "وإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ الله " (رومة 8: 28)، ولن يَستَطيعُ أي شيء أن يفصل المؤمن عن محبة الله له في ربِّنا يسوع المسيح، كما يصرّح بولس الرسول "وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا"(رومة 8: 31-39). تلاميذ المسيح يعلمون على مَن اتكلوا (2 طيموتاوس 1: 12).



المبدأ السادس: الثقة بالله لا بالمال



"ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال"(متى 6: 24). كشف يسوع هنا للبشر أبوة الله لهم، وما تتطلب عنايته الإِلهِيَّة، وذكّر يسوع بضرورة الاختيار منذ البداية، الاختيار بين كنوز الأرض وكنوز السَّماء. بين الله والمال، والمال يعني هنا قوة استعباد. ولا يمكن أن نخدم إلا سيداً واحداً، وإلاّ يجد الإنسان نفسه مُمزَّقاً بين خدمة المال وخدمة الرَّبّ. ومن هنا جاء قول الرَّبّ يسوع: "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" (متى 6: 24).



تكمن تجربة الإنسان الكبرى في خلق "إله" على قياسه ومزاجه يكون ند الله الاله الحقيقي والوحيد، وهو إله المال حيث يصرف الإنسان جلَّ وقته يفكر فيه، ويجعله في المقام الأول، ويهتم به أكثر من اهتمامه بخالق الأشياء ومُعطيها. وعندما يجد نفسه ممزقاً بين خدمة المال وخدمة الرَّبّ يفقد الإنسان طُمأنينته. فالعلاقة مع الله لا تصحّ إلا بثقة كاملة به. أمَّا إذا اتخذ الإنسان المال كإله الذي يعطيه الأمان والحياة، عندئذ يستعبد المال الإنسان فلا يُصبح المال في خدمة الإنسان، بل الإنسان في خدمة المال. إذ يستملك المال على أفكاره وعواطفه ومشاعره وإرادته، فلا يعيش الإنسان إلاّ لهدف واحد وهو المال. وفي هذا الصدد يقول يعقوب الرسول "أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله" (يعقوب 4: 4).



المال ليس إلها في ذاته، ولا هو شرّ نتجنّبه، فالمال جزء من الرزق إنّما يصير هكذا حينما يسحب المال القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه، فيفقده سلامه ويدخل به إلى ظلمة القلق. فيصبح المال سيد صعب ومخادع وذو قوة وسلطة ينتزع مكانة الله في حياتنا. إذ يجعل من يَعبده يتخلى عن الله وعن ضميره وأحبائه جاريًا وراء المال لان "حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ، وقَدِ استَسلَمَ إِلَيه بَعضُ النَّاس فضَلُّوا عنِ الإِيمان وأَصابوا أَنفُسَهم بِأَوْجاعٍ كَثيرة" (1 طيموتاوس 6: 10). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يُسمَّى حب المال سيدًا ليس بطبيعته الخاصة به، وإنَّما بسبب بؤس المنحنين له".



يدعو الله الإنسان أن يضع ثقته فيه تعالى أيضا في كل ما يتعلق بالتمييز بين الخير والشر (تكوين 2: 17). فالإيمان بالكلمة الإِلهِيَّة معناه أن نختار بين حكمتين. والمطلوب منا أن نضع الثقة في حكمة الله، ونعدل عن الاعتماد على حكمتنا الذاتية، كما يقول سفر الأمثال "تَوَكَّلْ على الرَّبّ بِكُلِّ قَلبِكَ ولا تَعتَمِدْ على فِطنَتِكَ" (أمثال 3: 5)، لذا لا بدَّ من الثقة بقدرة الخالق ضابط الكل، وبعنايته، لأن كل ما في السَّماء وعلى الأرض هو من صنع يديه (تكوين 1: 1). إنه يسهر على نظام العالم (تكوين 8: 22). ويضمن خصوبة الأرض (أعمال 14: 17)، ويطلع شمسه وينزل غيثه للجميع، أبراراً كانوا أم أشراراً (متى 5: 45)، ويُدبِّر كلّ شيء، بحيث يطلبه الجميع (أعمال 17: 24-28)، ويُسخِّر الشرّ في خدمة الخير، كما اكّد يوسف ابن يعقوب " فالآن لم تُرسِلوني أَنتُم إلى ههُنا، بَلِ اللهُ أَرسَلَني، يقول يوسف لأخوته(تكوين 45: 8) واردف يوسف قائلا "أَنتُم نَوَيتُم عَلَيَّ شَرًا، واللهُ نَوى بِه خَيرًا، لِيَهَبَ الحَياةَ لِشَعبٍ كَثير" (تكوين 50: 20).وبحسب أقوال "الحكماء" أيضاً " لِلإِنْسانِ إِعْدادُ القَلْب ومِنَ الرَّبّ جَوابُ اللِّسان" (أمثال 16: 1). كما تقول الحكمة الشعبية "الإنسان في التفكير والرَّبّ في التدبير. فعقل الإنسان يسعى في تخطيط طريقه والرَّبّ يوجه خطواته.



نجد صدى هذا الثقة في صلاة المزامير. إنّ الله يتسلط على خلقه ويمنح له الخصب (مزمور 65: 7-14)، ويحفظ شعبه في كل شيء وفي كل حين (مزمور 121) وبدونه، باطل هو مجهود البشر وباطلة حراستهم كما جاء في سفر المزامير "إِن لم يَبْنِ الرَّبّ البَيتَ فباطِلاً يَتعَبُ البَنَّاؤون. إِن لم يَحرُسِ الرَّبّ المَدينة فباطِلاً يَسهَرُ الحارِسون" (مزمور 127: 1). وهو، كراع صالح، يقود نعاجَه مطمئنّة إلى قلب الظلمات نحو السعادة (مزمور 23). فلا عجب أن صاحب المزامير يُطلق نداءاته بثقة: " أَنا بائسٌ مِسْكين السَّيِّدُ يَهتَمُّ لي" (مزمور 40: 18)، " أَنا توكَّلتُ على رَحمَتِكَ" (مزمور 13: 6)، "أمَّا المُتَوَكِّلُ على الرَّبّ فالرَّحمَةُ تَحوطُه" (مزمور 32: 10)، "فطوبى لِجَميعِ الَّذينَ بِه يَعتَصِمون" (المزمور 2: 12). والمزمور 131 هو التعبير الصادق عن هذه الثقة المتواضعة، التي سوف يعطيها يسوع كمالها الأخير.



يعطي يسوع الثقة كمالها طالبا من تلاميذه أن يصلوا "يا أبانا، أُرْزُقْنا اليومَ خُبْزَ يَومِنا" (متى 6: 11)، وألاّ يقلقوا بالغد، ولا يخشوا على حياتهم، لاًن "أباكم يعلم " كل ما تحتاجون إليه وكل ما يحدث (متى 6: 25-34). وفي الواقع، إنَّ يسوع يدعو تلاميذه للانفتاح كأطفال لعطية الله "مَن لم يَقبَلْ مَلكوتَ اللهِ مِثْلَ الطِّفل، لا يَدخُلْه"(مرقس 10: 15)، حينئذ ستكون الصلاة إلى الآب السماوي على يقين من نيل كل شيء " اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم. لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له. فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟ أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟ فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه "(لوقا 11: 9-13).



ب) الثبات في الأمانة



لا تتطلب العِنايَة الإِلهِيَّة الثقة الكاملة فحسب، إنما تتطلب أيضا الثبات في الأمانة. إن هذه الثقة التي لا تتزعزع، هي أحد شروط الأمانة، كما جاء في تعليم بولس الرسول " فقَد صِرْنا شُرَكاءَ المسيح، إِذا احتَفَظْنا بِالثِّقَةِ الَّتي كُنَّا علَيها في البَدْء ثابِتَةً إلى النِّهاية، فلا نَدَعُها تَتَزَعزَع"(عبرانيين 3: 14)، لان عناية الله لا تقوم على طريقة قَدَر محتوم يؤدي بالإنسان إلى سحق حريته، بل تتطلب منه أن يكون شريكًا في العمل من خلال ثباته في الأمانة. ويدبِّر الله حاجات من يدعوهم ليكونوا أبناءه، لكي يساعدهم على الثبات في الأمانة نحو دعوتهم كشهود لمحبته. ونرى صدى لهذا التصرف في حكمة صاحب المزامير: " تَوَكَّلْ على الرَّبّ ومارِسِ الإِحْسان" (مزمور 37: 3).



كشف يسوع للناس عن المحبَّة اللامتناهية التي تعبّر عنها العِنايَة الإِلهِيَّة، وعلّمهم أيضاً، بمثله وكلامه كيفية التجاوب مع هذه العِنايَة. فيكون هذا التجاوب في البحث، قبل كلّ شيء، عن محبة الله، ورفض الخضوع لأي سيد آخر غيره "فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33).



وتقوم التجاوب مع العِنايَة الإِلهِيَّة في التوسل إلى الآب بأن تتمَّ مشيئته على الأرض كما هي في السَّماء. وتقوم التجاوب أيضا على أن ننتظر من الله، خبزنا كفاف يومنا، وكل ما يحتاج إليه أبناء الله، لينفّذوا مشيئة أبيهم "لِيَأتِ مَلَكوتُكَ لِيَكُنْ ما تَشاء في الأَرْضِ كما في السَّماء"(متى 6: 10).



يحتاج أبناء الله، قبل كل شيء، إلى الثبات في الشدائد التي لمّا عانى منها يسوع نفسه الذي عرف شعور الخذلان من أبيه، كما صرّح بعض الحاضرين عند الجلجلة "دَعْنا نَنْظُرُ هل يَأتي إِيليَّا فيُخَلِّصَه!" (متى 27: 46)، وإذ كان مُطيعاً حتى الموت، أكّد ثقته البنوية بكلمته الأخيرة على الصليب: " يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي!" (لوقا 23: 46). بهذه الأمانة المقترنة بالثقة، عَبَرَ يسوع المسيح الموتَ، وأعطانا الضياء الوحيد الذي يسمح لنا بأن نعبرَ ظلمات الشر والشقاء.



إن اقتداء التلميذ بالمسيح، يتبع هو بدوره سبل العِنايَة، ويحظى بفرح الشرف أن يكون شاهدا للحب الذي وضع ثقته فيه وشريكاً أميناً له في العمل، كما أعلن بولس الرسول "إِنِّي على يَقينٍ مِن أَنَّ ذاكَ الَّذي بَدَأَ فيكم عَمَلاً صالِحًا سيَسيرُ في إِتمامِه إلى يَوم المسيحِ يسوع" (فيلبي 1: 6).





الخلاصة



يمكننا أن نبحث عن العِنايَة الإِلهِيَّة ونُدركها من خلال النظر والتأمل في كلمات يسوع "أُنظُرُوا إلى طُيورِ السَّماء كَيفَ لا تَزرَعُ ولا تَحصُدُ ولا تَخزُنُ في الأَهراء، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَرزُقُها. أَفَلَسْتُم أَنتُم أَثْمَنَ مِنها كثيراً؟ (متى 6: 26)؛ وإذا نظرنا بإيمان سندرك أنَّ الله الآب يعرف ما نحن بحاجة إليه. "إنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومة 8: 32). فلا داعي للقلق، لانَّ يسوع يدعونا للتعزية، إذ لدينا آبٌ في السَّماء يُفكّر فينا أكثر بكثير من تفكيره بزنابق الحقل وطُيورِ السَّماء، ويدعونا أيضًا إلى الثبات والأمانة عن طريق صلاة الطلب "فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33).



نستنتج مما سبق أنَّ الله يدعونا ألاَّ نخدم إلاَّ الله، سيداً مطلقاً ويدعونا الاتكال عليه اتكال طُيورِ السَّماء وزنابق الحقل؛ ودعوته هذه تستكمل دعوة الله للإنسان الأول "بِعَرَقِ جَبينِكَ تأكُلُ خُبزًا" (التكوين 3: 19) ولا تتعارض معا، لكنها تجعل خبز الدنيا بعد ملكوت الله "اطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه" (متى 6: 33). ولذلك الله ليس ضد المال، ولكن الله ضد أن نكون عبيداً للمال مُتَّكلين عليه للحياة الأبدية، كما صرّح يسوع للشاب الغني "ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ عَلى ذَوي المال" (مرقس 23:10).



من الواضح أن يٌمكن للمال أن يشتري سريرا، ولكنه لا يشتري النوم، يمكن أن يشتري ساعة، لكنه لا يشتري الزمن، يمكن أن يشتري كتابَا، لكنه لا يشتري المعرفة، يمكن أن يشتري الدواء، لكنه لا يشتري الصحة، نفهم من ذلك أن الحياة لن تستقيم بالمال وحده إذا غابت القيم والأخلاق والغذاء الروحي. ولا يمكن لأي قدر من المال أن يهب الإنسان الصحة والسعادة والحياة الأبدية فهده الأمور هبة من الله. فكم يكون أفضل لنا لو اتخذنا الله، لا المال سيدا لنا، متبعين وصية صاحب الرسالة إلى العبرانيين "تَنَزَّهوا عن حُبِّ المال واقنَعوا بما لَدَيكم. قالَ الله: لن أَترُكَكَ ولَن أَخذُلَكَ" (عبرانيين 13: 5).

رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
الأحد الثاني من السنة: عرس قانا الجليل
الأحد الثامن أحد عيد القيامة من بين الأموات كارتون رائع للأطفال
الكنيسة القبطية في القرن الثامن عشر البابا مرقس (يؤانس) الثامن البطريرك الثامن بعد المائـة
عظة الأحد والخط العام لقراءات الأحد على مدار السنة
لماذا اليوم الثامن بالذات ! الأحد القادم هو أحد توما


الساعة الآن 07:34 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024