منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 09 - 01 - 2023, 12:24 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

اعتماد يسوع في نهر الأردن كما رواه إنجيل متى




اعتماد يسوع في نهر الأردن كما رواه إنجيل متى

الأحد الأول من السنة: اعتماد يسوع في نهر الأُردُنّ كما رواه إنجيل متى 3: 13-17





النص الإنجيلي (متى 3: 13-17)


13 في ذلِكَ الوَقْت ظَهَرَ يسوع وقَد أَتى مِنَ الجَليلِ إِلى الأُردُنّ، قاصِداً يُوحنَّا لِيَعتَمِدَ عن يَدِه. 14 فجَعلَ يُوحنَّا يُمانِعُه فيَقول: ((أَنا أَحتاجُ إِلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَأَنتَ تَأتي إِليَّ؟)) 15 فأَجابَه يسوع: ((دَعْني الآنَ وما أُريد، فهكذا يَحسُنُ بِنا أَن نُتِمَّ كُلَّ بِرّ)). فَتَركَه وما أَراد. 16 واعتَمَدَ يسوع وخَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء، فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه. 17 وإِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: ((هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت)).


مقدمة

تحتفل الكنيسة اليوم بعيد عماد الرب يسوع. ودُعي هذا العيد باسم عيد الظهور الإلهي أو "الدنح" أي الظهور والإعلان والإشراق. وعُرف أيضًا باسم "الغطاس" إشارة إلى عماد المسيح في نهر الأُردُنّ بالتغطيس. ويقدّم إنجيل متى هذا العماد في بدء رسالة يسوع العلنية كي يكشف عن هويته أنه المسيح، ابن الله الحي المُرسل إلى العالم ليُخلصه، ويكون يسوع النموذج الذي به نقتدي كل يوم. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

أولا وقائع النص الإنجيلي (متى 3: 13-17)

13 في ذلِكَ الوَقْت ظَهَرَ يسوع وقَد أَتى مِنَ الجَليلِ إلى الأُردُنّ، قاصِداً يُوحنَّا لِيَعتَمِدَ عن يَدِه"

تشير عبارة "في ذلِكَ الوَقْت" في الأصل اليوناني Τότε (معناها حينئذ) إلى الوقت الذي فيه كان يُوحنَّا يكرز ويُعمِّد، وهو الأرجح المدة التي مرَّت بين ظهور يُوحنَّا وموته وهي ثلاث سنوات حيث بدأ رسالة يسوع العلنيَّة حوالي سنة 27، وكـــان عمره يناهز30 عامًا (لوقا 3: 23)، وكان قد قضى حياته السابقة في الناصرة (متى 2: 23)؛ أمَّا عبارة " ظَهَرَ" في الأصل اليوناني παραγίνεται (معناها جاء) فتشير إلى ظهور يسوع في الساحة العلنية كما بشّر به يُوحنَّا المعمدان. يُرجح أنَّ المسيح كان حينئذ بلغ الثلاثين من عمره، وهو العمر الشرعي لممارسة الكاهن وظيفته وَفقا للشريعة "مِنِ ابنِ ثلاثينَ سَنةً فصاعِدًا إلى ابنِ خَمْسينَ سَنة، كُلُّ الدَّاخِلينَ لِيَقوموا بالخِدمةِ أَوِ الحَمْلِ في خَيمَةِ المَوعِد " (عدد 4: 47). لا يركز إنجيل متـــى على الاهتمام بعماد يسوع بقدر ما يركّز على الوحي السماوي الذي تبعها (متى 3: 16-17)؛ أمَّا عبارة " أَتى مِنَ الجَليلِ إلى الأُردُنّ قاصِداً يُوحنَّا لِيَعتَمِدَ عن يَدِه " فتشير إلى توجّه يسوع من الجليل إلى نهرالأُردُنّ بهدف واضح وهو الاعتماد من يوحنا المعمدان كي يتضامن مع الخطأة، هو الذي بلا خطيئة. جاء يسوع لا يدين أو يفصل، بل ليهدم الحواجز ويتمَّ كُلَّ بِرّ ويُخلص. أمَّا عبارة " الجَليلِ " فتشير إلى ناصرة الجليل كما ورد في إنجيل مرقس " وفي تلِكَ الأيَّام جاءَ يسوعُ مِنَ ناصِرَةِ الجَليل، وآعتَمَدَ عن يَدِ يُوحنَّا في الأُردُنّ " (مرقس 1: 9). وقد أقام يسوع منذ طفولته في الناصرة (مرقس 1: 9)؛ أمَّا عبارة "الأُردُنّ" فهو اسم عبري הַיַּרְדֵּן ومعناه "المنحدر" لان مجرى المياه يجري في انخفاض ويصب في البحر الميت الذي يُعرف أنه أخفض نقطة على سطح الكرة الأرضية، حيث يبلغ عمقه حوالي 400 متر تحت مستوى سطح البحر. ويبلغ طول نهر الأُردُنّ نحو 251 كم، وطول سهله نحو 360كم. ويصب فيه ثلاثة روافد من الشمال، وهي بانياس من سوريا ودان وحاصباني من لبنان وبحيرة طبرية، ومن الشرق نهر اليرموك ونهر الزرقاء ووادي كفرنجة وعين جالوت، ويفصل نهر الأُردُنّ بين فلسطين التاريخية والأُردُنّ؛ وكان مكان التعميد في وادي خرار في عبر الأُردُنّ حيث تتوفر مياه غزيرة في تلك الناحية لتكفي الناس ومواشيهم كما يروي الإنجيل. "جَرى ذلك في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يُوحنَّا يُعَمِّد"(يُوحنَّا 1: 28). أما " يُوحنَّا " في الأصل اليوناني Ἰωάννης مشتقة من العبرية יוֹחָנָן (معناها عطية الله) إلى يُوحنَّا ابن زكريَّا واليصابات، وهو أكبر من المسيح بستة أشهر. قضى حداثة في البَرِّية كما ورد في إنجيل لوقا " كانَ الطِّفْلُ يَترَعَرعُ وتَشتَدُّ رُوحُه. وأَقامَ في البَراري إلى يَومِ ظُهورِ أَمرِه لإِسرائيل" (لوقا 1: 80)، وكان من أنسباء مريم، أُم يسوع. وشهد ليسوع "أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه، ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه ... هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم. هذا الَّذي قُلتُ فيه: يأتي بَعْدي رَجُلٌ قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي. وأَنا لم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنِّي ما جِئْتُ أُعَمِّدُ في الماء إِلاَّ لِكَي يَظهَرَ أَمْرُه لإِسْرائيل" (يُوحنَّا 1: 26-34)؛ أمَّا عبارة "لِيَعتَمِدَ" في الأصل اليوناني βαπτίζω (معناه غطَّس وغسل) فتشير إلى الغرض من مجيء يسوع إلى يُوحنَّا المعمدان، وهو العماد، والعماد كان بالتغطيس، ويُمثل التغطيس موت المسيح ودفنه، والخروج من ماء التغطيس يرمز إلى الخروج من القبر وبالتالي إلى القيامة، أمَّا رمزية الماء فهو علامة تطهير أو حياة. فمعمودية يُوحنَّا المعمدان تختلف عن الحمام الطقسي اليهودي اليومي حيث يُغطَّس الشخص نفسه في الماء للتعبير عن الجهد في سبيل حياة طاهرة كما كانت تفعل جماعة الاسّينيين في قمران، أمَّا معمودية يُوحنَّا فهي معروضة على الشعب اليهودي بأسره، لا على الخطأة والمهتدين وحدهم، وهي معمودية من أجل التوبة وغفران الخطايا (مرقس 1: 4)؛ وهو عماد بالماء ويُعدُّ للعماد الموعود بالمسيح في الروح والنار كما اعلن يُوحنَّا المعمدان "أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار"(متى 3: 11). دخل يسوع في مسيرة التوبة التي سار فيها شعبه. ولكن يبقى السؤال مطروحا: أترى يسوع خاطئاً؟ (يُوحنَّا 8: 46) لهذا جاءت الكلمة النبوية: هذا الآتي ليعتمد هو ابن الله الذي نال رضى الآب (متى 3: 17). تعمّد يسوع حيث وقف على شاطئ نهر الأُردُنّ مع الخطأة تضامنًا معهم وصار خطيئة أي ذبيحة عن الخطيئة كما جاء في تعليم بولس الرسول "ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله" (2 قورنتس 5: 21)، وصار لعنة لأجلنا، كما ورد في الكتاب المقدس "إِنَّ المسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا"(غلاطية 3: 13). وتعتبر معمودية يسوع أهم الحوادث التي جرت في غضون خدمة يُوحنَّا المعمدان إعدادًا لخدمة المسيح. ويُعلق القديس ايرونيموس " تلقّى يسوع المُخلِّص معموديّة يُوحنَّا لثلاثة أسباب. الأوّل، وبما أنّه وُلِد إنسانًا، أراد تحقيق جميع الفرائض الوضيعة للشريعة؛ والثاني لتشريع معموديّة يُوحنَّا من خلال معموديّته؛ والثالث ليُظهِر، عندما قدّس ماء الأُردُنّ، حلول الرُّوح القدس في معموديّة المؤمنين من خلال هبوطه في شكل حمامة" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3).

14 فجَعلَ يُوحنَّا يُمانِعُه فيَقول: أَنا أَحتاجُ إلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟"

تشير عبارة " يُمانِعُه " إلى رفض يُوحنَّا المعمدان ودهشته وتردُّده بل تفاجئه بيسوع الذي يقف أمامه للاعتماد على يده، خاصة أنَّ يُوحنَّا المعمدان كان قد أعلن أنَّ معمــودية الـرب يسوع ستكون أعظم من معموديته "أَنا أُعمِّدُكم في الماءِ مِن أَجْلِ التَّوبة، وأَمَّا الآتي بَعدِي فهو أَقْوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار"(متى 3: 11)؛ كل ذلك يدلُ على سمو معمودية يسوع وتفوقها؛ ولم يَردْ ذكر الممانعة إلاَّ إنجيل متى. وهذا دليل على أنَّ هذه الممانعة لم يكن ذلك الموقف رفضا من يُوحنَّا أن يؤدي رسالته في عماد السيد المسيح، وإنما شهادة من يُوحنَّا أن الرب يسوع (الابن الكلمة المتجسد) بلا خطيئة، وأنه لم يعتمد لأجل نفسه بل لأجل البشرية، وهذا ما أوضحه بقوله: "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم"(يُوحنَّا 1: 29). وتذكرنا هذه الممانعة مع رفض بطرس ليسوع في علية صهيون " فجاءَ إلى سِمعانَ بُطرُس فقالَ له: ((أَأَنتَ، يا ربُّ، تَغسِلُ قَدَمَيَّ؟" لن تَغسِلَ قَدَمَيَّ أَبَداً" (يُوحنَّا 13: 6، 8). أمَّا عبارة " أَنا أَحتاجُ إلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟" فتشير إلى تفوق يسوع وتواضع يُوحنَّا المعمدان، كما في كرازة يُوحنَّا "إِنِّي لَستُ المَسيح، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يُوحنَّا 3: 28). لقد بحت كل من يُوحنَّا ويسوع عن إرادة الله، وكانا طيّعين حتى في الظروف التي بدت فيها غريبة وغير مُقنعة، منقلبة رأساً على عقب: " أَنا أَحتاجُ إلى الاِعتِمَادِ عن يَدِكَ، أَوَ أَنتَ تَأتي إِليَّ؟" أمَّا عبارة " أَنا أَحتاجُ" تشير إلى معرفة يُوحنَّا نفسه أنَّه دون المسيح مقاماً، إذ رأى احتياجه الاعتماد منه، وذلك لان المسيح أفضل منه (يُوحنَّا 3: 11)، ولأنَّ يُوحنَّا نفسه رأى أنه خاطئ يحتاج إلى غفران من يسوع، حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (يُوحنَّا 1: 39) الذي يُعمِّد بالروح القدس والنار (يُوحنَّا 1: 11)؛ أما عبارة "أَنتَ تَأتي إِليَّ؟" فتشير إلى تساؤل فيه التعجب من مجيء يسوع إلى يُوحنَّا يعتمد عل يده.

15 فأَجابَه يسوع: دَعْني الآنَ وما أُريد، فهكذا يَحسُنُ بِنا أَن نُتِمَّ كُلَّ بِرّ. فَتَركَه وما أَراد

تشير عبارة "دَعْني الآنَ وما أُريد" إلى طلب يسوع ليُوحنَّا أن يقبل طلبه ولو كان ذلك غريبا وفوق إدراكه، وذلك لبداية خدمته العلنية كالمسيح الآتي؛ أمَّا عبارة " الآنَ " فتشير إلى السبب الوقتي، وذلك بالنظر إلى مقتضى الحال وهو اتضاع المسيح بدلا من البشر باعتباره انه فادي، والذي كان في "هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 5: 2) وأُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكَثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم" (أشعيا 53: 12). وتتحقق إرادة يسوع حين يعمل حسب إرادة ومشيئة الله، والوقت الحاضر هو المجال الوحيد لتحقيق إرادة الله، " لا مَشيئَتي، بل مَشيئَتُكَ! " (لوقا 22: 42). ويعلق القدّيس ايرونيموس "لقد قال الرب "الآن" عن قصد لإظهار أنّه إن كان على المسيح أن يعتمد في الماء، فعلى يوحنّا أن يعتمِد من قِبَل الرّب يسوع المسيح في الرُّوح. وبكلمة أخرى، قال الربّ: أنت تعمّدني بالماء لكي أعمّدك أنا بدمك فتصير لي [معموديّة يوحنّا من خلال استشهاده] (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3). كان يسوع يعرف أن يوحنّا سيعتمد بمعمودية الاستشهاد. أمَّا عبارة "بِرّ" فتشير في إنجيل متى إلى الأمانة الجديدة والجذرية في السلوك والعمل بمشيئة الله وشريعته ممَّا يتوافق مع إرادة الله كما جاء في تعليم السيد المسيح "كونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل" (متى 5: 48)؛ ولا يصل الإنسان إلى الكمال إلاّ بالمسيح كما صرَّح بولس الرسول "بِه نُبَشِّرُ فنَعِظُ كُلَّ إِنسان ونُعلِّمُ كُلَّ إِنسانٍ بكُلِّ حِكمَة لِنَجعَلَ كُلَّ إِنسانٍ كامِلاً في المسيح" (قولسي 1: 28)؛ ولذلك ، فان يسوع تعمَّد ليتمّ كلَّ برٍ أي ليتمِّم مشيئة الله، "طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون"(متى 5: 6). وبناء على ذلك، خضع كل من يُوحنَّا المعمدان ويسوع معاّ لمُخطط الله. تضامن يسوع مع الخاطئين ليُخلّصهم، وفي رفضه العلني للحلم اليهودي بمسيح ظافرٍ سياسي كما تبَّيّن من تجاربه مع الشيطان وقهــــره لــــه (متى 4: 1-11)، وأعماله التي حققت نبوءات أشعيا "ِذهبوا، العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون"(متى11: 5)؛ فالمعمودية أكَّد ت بشكل علني مجيء يسوع وبداية رسالته لخلاص البشر، كما جاء في تصريح يُوحنَّا المعمدان "وأَنا لم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنِّي ما جِئْتُ أُعَمِّدُ في الماء إِلاَّ لِكَي يَظهَرَ أَمْرُه لإِسْرائيل" (يُوحنَّا 1: 31). أمَّا عبارة " فهكذا يَحسُنُ بِنا " فتشير إلى يسوع ويُوحنَّا وذلك يحسن ليسوع أن يكون نائبًا عن الخطأة، ويحسن ليُوحنَّا أن يكون سابقا للمسيح لكي يتمِّما ما يطلبه الله منه، وبالتحديد موته على الصليب من اجل خلاص الإنسان والبشرية. أمَّا عبارة "نُتِمَّ كُلَّ بِرّ " فتشير إلى بِرّ الشريعة وبِرّ النظام الطبيعيّ.

16 واعتَمَدَ يسوع وخَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء، فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه".

تشير عبارة "اعتَمَدَ يسوع" إلى يسوع الذي تمَّت معموديته بالتغطيس في الماء. وهذا التغطيس يدلُّ على موته وعلى تقدمة ذاته، حيث قام يُوحنَّا بتعميده. واستحقَّ يُوحنَّا أن يرى الروح القدس بهيئة حمامة، وأن يسمع صوت الآب قائلاً: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت " (متى 3: 17). وهكذا تمتَّع يُوحنَّا بالثالوث القدّوس روحاً وحِسَّاً، بل إنَّ الله أرشده إلى السيد المسيح قبل العماد، وفي هذا يقول القديس يُوحنَّا المعمدان: «رأيتُ الروح ينزل من السماء كأنَّه حمامة فيستقرُّ عليه، وأنا لم أكن أعرفه، ولكن الّذي أرسلني أعمِّد في الماء هو قال لي: إنَّ الّذي ترى الروح ينزل فيستقرُّ عليه هو ذاك الّذي يعمِّد في الروح القدس. وأنا رأيتُ وشهدتُ أنّه هو ابن الله" (يُوحنَّا 1: 32-34)؛ أمَّا عبارة " خَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء" فتشير إلى فعل يوناني ἀναβαίνω أي صعد، إذاً هو كان نازلاً في الماء، صعدَ الرّب يسوع من المياه، ويُعلق القدّيس غريغوريوس النازيانزي: "صعدَ الرّب يسوع من المياه، جاذِبًا معه العالم كلّه"؛ وطقس الخروج من الماء يرسلنا إلى لحظات جوهرية من العهد مع الله: رواية نوح والطوفان، الخروج من مصر وعبور البحر الحمر، وأخيراً الدخول في أرض الميعاد من خلال الأُردُنّ. ومن هذا المنطلق، نستنتج أنَّ معمودية يسوع كانت بالتغطيس؛ فالماء الذي يرمز إلى الموت، صار بقوة الروح يرمز إلى الحياة (تكوين 1: 3) والخليقة الجديدة. أمَّا عبارة "انفتَحَت" فتشير إلى السماوات التي كانت مُغلقة، فانفتحت وانشقت كقطعة قماش كما جاء في نبوءة أشعيا "لَيتَكَ تَشُقَّ السَّمواتِ وتَنزِل" (أشعيا 63: 19)، ويُعلق القديس ايرونيموس "إنّ السماوات قد انفتحت، ليس لأنّ العناصر منفصلة عن بعضها، ولكنها انفتحت أمام أعيننا الرّوحيّة، تلك الأعين التي رأى حزقيال من خلالها السماوات مفتوحة أيضًا، كما يُروي في بداية سفره (حزقيال 1: 1). انفتحت السماوات أمام الإنسان فأصبح الإنسان قادرًا أن يكون قريباً من الله لكي يعيش من روح الله وعلى نمط حياته تعالى بعلاقة بنوة وحب. أمَّا عبارة "رأَى" فتشير إلى رؤية نزول الروح القدس على يسوع مما يدلُّ على انه المُرسل المُخلص الموعود، كما تنَّبأ أشعيا "يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ "(أشعيا 11: 2)، وقد حلّ الروح القدس على يسوع، لا ليُنقّيه من الخطيئة فهو بلا خطيئة، بل ليقوّيه في عمله (قضاة 3: 10)؛ أمَّا عبارة "رُوحَ اللهِ يَهبِطُ" فتشير إلى الروح القدس الذي ظهر بهيئة جسدية (لوقا 3: 22) ويُعلق القديس غريغوريوس النازيانزي "ظهر الروح في صورة حمامة، أي في صورة جسدية، فكرّم بذلك الجسد الذي شمله اللاهوت" (PG 36/ 350 ( . نزل الروح من السماء واستقرَّ على يسوع دالا على انه هو المسيح، أي الممسوح من الروح القدس. ويُعلق القديس ايرونيموس "إنّه سرّ الثالوث الذي ظهر في هذه المعموديّة. الرّب يسوع قَبِل العماد، والرُّوح القدس هبط على شكل حمامة، وسمعنا صوت الآب الذي شهد لابن" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3). أمَّا عبارة "حَمامةٌ" فتشير إلى الصورة التي ظهر بها الروح، وهي تدلّ هنا على خلق العالم الجديد الذي تمّ في معمودية يسوع، وذلك يُذكرنا ما ورد في سفر التكوين "كانَتِ الأَرضُ خاوِيةً خالِية وعلى وَجهِ الغَمْرِ ظَلام ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه" (تكوين 1: 2)؛ وكما أن الروح حلّ على المياه في بدء الخليقة الأولى كذلك يحلّ الآن على ماء الأُردُنّ لتخرج الخليقة الثانية، وهم أبناء الله، وتدل الحمامة أيضا على الحمامة الذي ورد ذكرها في سفينة نوح التي تحمل غصن السلام، وتدل أيضا على الحياة (التكوين 8: 8-12)؛ وهناك من اعتبر الحمامة تمثِّل شعب الله، أو تشير إلى محبــة الله، كما جاء في النشيد الأناشيد " يا حَمَامَتـي، أَسمِعيني صَوتَكِ فإِنَّ صَوتَكِ لَطيفٌ ومُحيَاكِ جَميل" (نشيد الأناشيد 2: 14 )، وأخيرا تشير الحمامة إلى الرب الذي يَشبه طيرًا يغمر فراخه كي يحميها "كالعُقابِ الَّذي يُثيرُ عُشَّه وعلى فِراخِه يُرَفرِف" (تثنية الاشتراع 32: 11). وكما أخذ الروح القدس هيئة ألسنة كأنَّها من نار في يوم العنصرة، (أعمال الرسل 2: 3)، كذلك اخذ الروح القدس هيئة حمامة ليُبيِّن الاتصال بين الروح القدس وبين المسيح. وبكلمة وجيزة، الحمامة رمز السلام والطهارة والوداعة والبراءة والبساطة وهذه ثمار يعطيها الروح لمن يحلُّ عليه. أمَّا عبارة " يَنزِلُ علَيه " فتشير إلى استقرار الحمامة على رأس الرّب يسوع حتّى لا يظنّ أحد أنّ كلمة الآب كانت موجَّهة إلى يُوحنَّا وليس إلى الرّب يسوع. أعطنا يا رب موهبة الروح القدس لنتمِّم مشيئتك في حياتنا "الأن" وفي ساعة موتنا.

17 وإِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت"

تشير عبارة "صوت الآب" إلى صوت حقيقي كشهادة الآب، ويرجَّح انه سُمع من قبل كل الحاضرين. ولم يُسمع هذا الصوت منذ إعطاء الشريعة على جبل سيناء، وسُمع مثله وقت التجلي (متى 17: 5) وسُمع أيضا قبل موت المسيح على الصليب في الجلجلة (يُوحنَّا 12: 28)؛ أمَّا عبارة " هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت " فتشير إلى صورتين نبوءتين: صورة ابن الملك داود وصورة العبد. فقد قدّم متى الإنجيلي يسوع في صورة الملك الذي على مثال داود وصورة عبد الله المتألم كما تحدث عنه النبي أشعيا. قد ورد هنا أقانيم الثالوث الأقدس في هذه اللحظات المقدسة إمَّا منظورة للعيون أو مسموعة للآذان البشرية: الله الأب يتكلم، الله الابن يُعمَّد في الماء، الله الروح القدس بشكل حمامة يحلُّ على الابن على انه المخلص الموعود به، كما جاء في نبوءة أشعيا "يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ "(أشعيا 11: 2)، كان يسوع مع الروح القدس منذ الأزل، إنما جاء الـروح الآن ليجهّزه لخدمته العلنية. منذ بداية حياته العلنية، أعلن الآب أن يسوع هو ابنه وحبيبه وموضوع مسرّته (مرقس 1: 11). وهذا الإعلان لا يعني أن يسوع قد أدرك لأول مرة علاقته الفردية بالآب، فقد كان مُدركا بهذه العلاقة منذ طفولته كما جاء في جوابه إلى مريم ويوسف "أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟" (لوقا 2: 49). ونفس الإعلان نطق به الآب وقت التجلي " وبَينَما هُوَ يَتَكَلَّم إِذا غَمامٌ نَيِّرٌ قد ظلَّلهُم، وإِذا صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يقول: ((هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا" (متى 17: 5). ويُعلق العلاّمة أوغسطينوس "هنا أمامنا الثالوث متمايزًا، الواحد عن الآخر: الآب في الصوت، الابن في الإنسان، والروح القدس في شكل حمامة. إنهم الله الواحد، ومع ذلك فإن الابن غَيْرَ الآب، والآب غَيْر َالابن، والروح القدس ليس بالآب ولا بالابن ". الله واحد، ولكنه في نفس الوقت ثلاثة أقانيم. ويذكر الكتاب المقدس الأقانيم الثلاثة معا عدة مرات، قبل صعوده إلى السماء قال يسوع لتلاميذه "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس" (متى 28: 19) وقال أيضا إلى تلاميذه "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّـــذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي" (يُوحنَّا 15: 27). أمَّا عبارة " هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ" فتشير إلى قول نبوي مقتبس من نص سفر صموئيل " أَنَّا أَكونُ لَه أبًا وهو يَكون لِيَ ابنًا"(2 صموئيل 7: 14) وهو يدلُّ على اللقب المنسوب إلى المسيح لوعد لداود الملك الذي هو موضع عزة الله الخاص، كما جاء في سفر المزامير " أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُك" (مزمور 2: 7)؛ أمَّا النسبة بين الآب والمسيح فيه فهي نسبة بنوة أزلية. أمَّا عبارة "رَضِيت" فهي مقتبسة من النشيد الأول للعبد المتألم في سفر أشعيا "هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم" (أشعيا 42: 1)، وتشير العبارة أيضا إلى الرضى الاختياري للقيام برسالة وكَّلها الله ليسوع. ويُعلق القدّيس ايرونيموس " إنّه سرّ الثالوث الذي ظهر في هذه المعموديّة. الرّب يسوع قَبِل العماد، والرُّوح القدس هبط على شكل حمامة، وسمعنا صوت الآب الذي شهد لابنه" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3).


ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 3: 13-17)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 3: 13-17)، نستنتج انه يتمحور حول عماد يسوع على يد يُوحنَّا المعمدان؛ ومن هذا الإطار يمكننا أن نطرح سؤالين: ما هي ميزة عماد يسوع على يد يُوحنَّا المعمدان؟ ولماذا تعمَّد يسوع؟

1) ما هي ميزة معمودية يسوع على يد يُوحنَّا المعمدان؟

تميّز عماد يسوع عن عماد كل الناس، إذ اظهر معموديته أن يسوع كانت لــــه علاقة فريدة مع الله، إذ تكلَّل العماد بانفتاح السماوات، وبحلول الروح القدس وإعلان الأب السماوي لبنوة يسوع الإلهية.

ا) الميزة الأولى: انفتاح السماوات

السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت" (متى 3: 16 أ)، وهي اللحظة المرتقبة من الأنبياء خاصة أشعيا الذي صرخ بصوت عالٍ: لَيتَكَ تَشُقَّ السَّمواتِ وتَنزِل فتَسيلُ الجِبالُ مِن وَجهِكَ" (أشعيا 63: 19). وهي رؤية مأخوذة من النبي حزقيال "وكانَ مَنظر هذا الضِّياءَ مِن حَوله مِثلَ مَنظَرِ قوسِ الغَمام في يَوم مَطَر. هذا مَنظر يُشبِهُ مَجدَ الرَّبَّ. فَنَظَرتُ وسَقَطتُ على وَجْهي وسَمِعتُ صَوتَ مُتَكَلِّم" (حزقيال 1: 28). "انفتحت" فإنه يعني بذلك أن هنالك علامة على انه بالإمكان رؤية الأمور السماوية، كما صرّح يوما يسوع لليهود" فإِذا كُنتُم لا تُؤمِنونَ عِندَما أُكَلِّمُكم في أُمورِ الأَرْض فكَيفَ تُؤمِنونَ إِذا كلَّمتُكُم في أُمورِ السَّماء؟" (يُوحنَّا 3: 12-) 13)، ويُعلق القدّيس غريغوريوس النازيانزي "انفتحت السماوات التي سبق أن أقفَلَها آدم على نفسِه وعلى خاصَّتِه، هذا الفردوس الذي بدأ وكأنّه مُقفَل "بشُعلَةِ سَيْفٍ متقلِّبٍ" (التكوين 3: 24).

"انفتَحَت" السماوات للكشف عن وحي سماوي وهو تدخّل الله لتحقيق مواعده بإرسال الروح القدس ونزول ابنه يسوع على الأرض. اقتربت السماء من الأرض، كما شهد إسطفانس "ها إِنِّي أَرى السَّمواتِ مُتَفَتِّحَة، وابنَ الإِنسانِ قائِمًا عن يَمين الله" (أعمال الرسل 7: 56)، وصل صوت الله إلى البشر وعلى يد يسوع، كما جاء في نبوءة أشعيا " لَيتَكَ تَشُقَّ السَّمواتِ وتَنزِل فتَسيلُ الجِبالُ مِن وَجهِكَ" (أشعيا 63: 19).

انفتحت السماوات عند عماد السيد المسيح، إنما تحقق ذلك لأجلنا، فأصبحت أبوابها مفتوحة أمامنا، مفتاحها في يدّي يسوع المسيح عريسنا ورأسنا، بل صارت حياتنا الداخلية ذاتها سماوات مفتوحة يسكنها رب السماء! وكما يقول القديس كيرلس أسقف الإسكندرية: "انفتحت السماوات فاقتربَ الإنسان من الملائكة المُقدَّسين". فلتنفتح السماوات أيضًا اليوم وليحل علينا الروح القدس حتى نتجدَّد في أعماق قلوبنا ونسمع صوت الأب الذي يدعونا للانتماء إلى عائلته كأبناء محبوبين.

ب) الميزة الثانية: حلول الروح القدس

"رأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه" (متى 3: 16 ب)، كانت الحمامة ظاهرة للعيان وليست مجرد تشبيه شعري، وهذا ما يؤكِّده لوقا الإنجيلي بإضافة عبارة "في صورةِ جِسْمٍ " (لوقا 3: 22). وهذا الصورة تذكّر بما جاء في سفر التكوين "ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ (كطائر) على وَجهِ المِياه" (1: 2). ها هو يرفُّ على مياه الأُردُنّ ليُقيم منَّا نحن الأموات جسدًا حيًا مُقدَّسًا للرأس القدوس النازل في مياه الأُردُنّ. إنه الروح الإلهي الذي يُشكِّل الشعب الجديد خلال الخروج الجديد! إن المسيح قبِلَ الروح، وذلك كإنسان كي يمنح الخلاص للبشرية كما جاء في عظة بطرس الرسول " كَيفَ أَنَّ اللهَ مَسَحَه بِالرُّوحِ القُدُسِ والقُدرَة، فمَضى مِن مَكانٍ إلى آخَر يَعمَلُ الخيرَ ويُبرِئُ جَميعَ الَّذينَ استَولى علَيهم إِبليس" (أعمال الرسل 10: 38)؛ ومن حيث إنه إنسان أخذ يسوع في ذاته الطبيعة الإنسانية كلها ليُصلحها ويُعيدها إلى كمالها. ولهذا يَهب الآب روحه مُجدّدا للابن، لنحصل نحن به على الروح القدس، وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس أسقف الإسكندري "إن المسيح لم يقبل الروح لنفسه، بل قَبِله في نفسه من أجلنا: وفي الواقع جميع الخيرات تأتينا عن طريقه" (PG 73: 751-754).

وشهد يُوحنَّا المعمدان عن المسيح قائلا: "رَأَيتُ الرُّوحَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كأَنَّه حَمامَة فيَستَقِرُّ علَيه. وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس. وَأَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله" (يُوحنَّا 1: 32-34). وهنا ربطٌ بين معمودية السيد المسيح وحلول الروح القدس، وإظهارٌ لحقيقة أن المسيح هو الذي يُعمِّد بالروح القدس، بمعنى أن الروح القدس حلَّ على السيد المسيح كبداية للعهد الجديد، لكي يحلَّ على المؤمنين عبر المعمودية أي الولادة من الماء والروح، لذلك نحتفل بعد عماد المسيح كتمجيد للرب الذي تنازل وأتى ليُخلصنا ويُعلن عن نفسه في هذا العيد من خلال شهادة السماء وشهادة يُوحنَّا المعمدان أيضًا.

نستنتج مما سبق، إن حلـــــول الــــــروح القدس علــــى المسيح كان لتكريسه وإعـداد جسده لتقديمه ذبيحة، ويقول القديس كيرلس: "حلّ أولاً على المسيح الذي قَبِلَ الروح القدس لا من أجل نفسه، بل من أجلنا نحن البشر، لأننا به وفيه ننال "نعمة على نعمة" (يُوحنَّا 1: 16). فحلول الروح القدس على يسوع هو علامة تنصيب يسوع تتميمًا لما جاء في نبوءة أشعيا " يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روح المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ " (أشعيا 11: 2)، وهو في الوقت نفسه إعلان عن العنصرة، التي تدشّن تأسيس العماد بالروح أمام الكنيسة، كما جاء في أعمال الرسل "ِأَنَّ يُوحنَّا قد عَمَّدَ بِالماء، وأَمَّا أَنتُم ففي الرُّوحِ القُدُسِ تُعَمَّدونَ بَعدَ أَيَّامٍ غَيرِ كثيرة" (أعمال الرسل 1: 5) ولكل الذين يدخلون فيها (أفسس 5: 25-32).

حلول الروح القدس على يسوع هو شهادة على انه ابن الله، كما يُعلق القدّيس غريغوريوس النازيانزي "لقد شَهِدَ الروح على ألوهيّة المسيح"؛ وهنا نجد أقانيم الثالوث الأقدس في هذه اللحظات المقدسة، والثالوث معناه أن الله ثلاثة أقانيم، ولكنه واحد في الجوهر. فالله واحـد في طبيعته، ولكنه فـي نفس الوقت ثلاثة أقانيـم: فالله الآب تكلم، والله الابن اعتمد، والله الروح القدس نزل على يسوع.

قد ظهر الثالوث الأقدس في عماد السيد المسيح ظهورا متمايزًا، لكنه غير منفصل: الابن المتجسد خارجا من المياه لكي يهبنا الخروج من خطايانا لندخل به وفيه إلى شركة مجده، والروح القدس نازلاً على شكل حمامة ليُقيم كنيسة المسيح، وصوت الآب صادرًا من السماء مُعلنا بنوتنا له في ابنه، ويُقيم منا "حِجارَةِ حَيَّة" روحية لبناء الكنيسة الأبدية (1 بطرس 2: 5). لكن يجب تأكيد ما قاله القديس أوغسطينوس: "هذا ما نتمسك به بحق وبغيرة شديدة، وهو أن الآب والابن والروح القدس ثالوث غير قابل للانفصال، إله واحد لا ثلاثة".

وأخيرا، حلَّ الروح القدس على يسوع لتقديسنا؛ المسيح لم يكن محتاجاً للمعمودية، لكن معمودينا هي التي كانت محتاجة للمسيح لكي يقدَّس الماء لنعتمد نحن بالماء والروح. ففي المعمودية نموت مع المسيح ونقوم معه فنصبح مستعدِّين لحلول الروح القدس فينا. وكان قبول المسيح للمعمودية هو قبول للموت كما صرّح يسوع " عَلَيَّ أَن أَقبَلَ مَعمودِيَّةً، وما أَشَدَّ ضِيقي حتَّى تَتِمّ! (لوقا 12: 50). ونحن نموت معه في المعمودية ليُدخلنا معه بقيامته للأمجاد السماوية.

ج) الميزة الثالثة: إعلان الآب السماوي لبنوَّة يسوع الإلهية

سُمع صوت الآب يشهد لابنه أثناء عماده: "إِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى 3: 17)؛ منذ بداية الحياة العلنية، أعلن ألآب أنَّ يسوع هو ابنه الحبيب وموضوع مسرته: "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت". وهذا استشهاد من نشيد "عبد الله المتألم" في أشعيا (أشعيا 42: 1) يربط عماد الرب يسوع بآلامه وموته وقيامته ويعطي لعيد العماد طابع عيد القيامة. وتذكّر كلمة الحبيب بذبيحة إسحاق "خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّه، إِسحق، وآمضِ إلى أَرضِ المورِيِّا وأَصعِدْه هُناكَ مُحرَقَةً على أَحَدِ الجِبالِ الَّذي أريكَ " (التكوين 22: 2).

في العهد القديم سمع الصوت الإلهي خلال النبوءة " هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم." (أشعيا 42: 1). والآن جاء الصوت عينه من السماء ليؤكِّد أن يسوع هو كلمة الله، الابن الوحيد الذي صار خادماً لتحقيق رسالة الخلاص كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلَمَّا ظَهَرَ لُطْفُ اللهِ مُخَلِّصِنا ومَحَبَّتُه لِلبَشَر، لم يَنظُرْ إلى أَعمالِ بِرٍّ عمِلْناها نَحنُ، بل على قَدْرِ رَحَمَتِه خَلَّصَنا بِغُسْلِ الميلادِ الثَّاني والتَّجديدِ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذي أَفاضَه علَينا وافِرًا بِيَسوعَ المسيحِ مُخَلِّصِنا" (طيطس 3: 4-6).

جاء هذا الصوت من أجلنا نحن حتى نُدرك أننا فيه ننعم بسرور الآب السماوي، ونُحسب أبناء له بالتبني من خلال مياه المعمودية، وعمل روحه القدوس، فنصبح خليقة جديدة. وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس: "المسيح هو حقًا ابن الله الوحيد، وإذ صار شبيهاً لنا أعْلنت بنوته لا من أجل نفسه، لأنه كان ولا يزال وسيبقى الابن، لكن هذه البنوة أُعلنت من أجلنا نحن البشر الذين صرنا أبناء الله، لأن المسيح بِكرنا وسندنا. إذ ورد: "فإِذا كانَ أَحَدٌ في المسيح، فإِنَّه خَلْقٌ جَديد. قد زالتِ الأَشياءُ القَديمة وها قد جاءَت أشياءُ جَديدة" (2 قورنتس 5: 17).

وقد سُمع صوت ألاب أيضا يوم التجلي "ظَهَرَ غَمامٌ قد ظَلَّلَهم، وانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ الغَمامِ يَقول: هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا" (مرقس 9: 7)، وسُمــــع أيضا صوت الآب يشهد أمام اليونانيين الذين جــاءوا يروا يسوع "فانطَلَقَ صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: قَد مَجَّدتُه وسَأُمَجِّدُه أَيضًا" (يُوحنَّا 12: 28). وهذه الكلمات تُذكرنا بما جاء في المزمور "أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ" (مزمور 2: 7).

بالرغم من أننا نجد هنا إعلانا صريحا للثالوث الأقدس إلاَّ أن التركيز النهائي على الابن، فمع أنَّ الله ثالوث، فإن أول لقاء للإنسان معه يجب دائما في المسيح، كما صرّح هو نفسه " لأَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً"(يُوحنَّا 1يُوحنَّا 15:5). لا توجد "حياة" روحية ممكنة خارج المسيح: خُلق الإنسان ليعيش في "المسيح" ابن الله الحي، كما شهد القديس بولس الرسول بقوله "الحَياةُ عِندي هي المسيح" (فيلبي 1: 21). فإعلان يسوع ابن الله، يجعلنا أن نشترك في بنوته نتيجة لهبات الروح القدس كما جاء في تعليم بولس الرسول "والدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: ((أَبَّا))، ((يا أَبتِ))" (غلاطية 4: 6).

المؤمن الذي يقبل العماد باسم الثالوث الأقدس يصير هيكلا للروح القدس، كما جاء في تعليم بولس الرسول "أوَما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس، وهو فيكُم قد نِلتُمُوه مِنَ الله، وأَنَّكُم لَستُم لأَنفُسِكُم؟"(1 قورنتس 6: 19)، ويصبح المعمَّد ابناً بالتبني للاب، " الدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: أَبَّا، يا أَبتِ" (غلاطية 4: 6) وأخًا ووارثًا مع المسيح فيشاطره مجده ِ " فلَستَ بَعدُ عَبْدًا بلِ ابنٌ ، وإِذا كُنتَ ابنًا فأَنتَ وارِثٌ بِفَضْلِ اللّه"( غلاطية 4: 7) . وكم هذا المنطلق، الإنسان المُتعمِّد باسم يسوع، يصبح إنسانا جديدًا، ابنًا لله ويعيش بقوة حبه تعالى.


2) لماذا تعمَّد يسوع على يد يُوحنَّا؟

يتساءل القديس كيرلس أسقف الإسكندرية: "هل كان المسيح في حاجة إلى العماد المقدس؟ وأية فائدة تعود عليه من ممارسة هذه الفريضة؟ فالمسيح كلمة الله، قدوس كما يصفه النبي أشعيا في مختلف التسابيح "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوس، رَبُّ القُوَّات، الأَرضُ كُلُّها مَمْلوءَةٌ مِن مَجدِه" (أشعيا 6: 3). لم يكن يسوع خاطئاً كي يعتمد؛ فقد ورد: "إنَّه لم يَرتكِبْ خَطيئَةً ولَم يُوجَدْ في فَمِه غِشّ" (1 بطرس 2: 22)، "قُدُّوسٌ بَريءٌ نَقِيٌّ ومُنفَصلٌ عنِ الخاطئين، جُعِلَ أَعْلى مِنَ السَّمَوات" (عبرانيين 7: 26). والكنيسة الأولى بقيت راسخة غير متزعزعة في إيمانها بعصمته المطلقة عن الخطيئة؛ إنما تعمّد يسوع لثلاث غايات:


الغاية الأولى: اعتمد "كي نُتِمَّ كُلَّ بِر" (متى 3: 15):

أعتمد يسوع ليتمَّ كل بِرٍّ تتميماً لما تنبَّأ به أشعيا النبي " أَنا الرَّبَّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم لِكَي تَفتَحَ العُيونَ العَمْياء وتُخرِجَ الأَسيرَ مِنَ السِّجْن والجالِسينَ في الظُّلمَةِ مِن بَيتِ الحَبْس" (أشعيا 42: 6-7). وأمَّا بولس الرسول فعبَّر عن هذا بقوله " ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله " (2 قورنتس 5: 21). إنه حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم.

والبِرُّ في أسلوب يسوع معناه القداسة والتقوى القائمة في ممارسة الشريعة، وبالتالي طاعة روحية وأمانة لوصايا الله وإرادته الإلهية بعيدا عن المفهوم الحرفي الضيّق للوصايا. والمسيح أتمَّ الديانة المبنيَّة على الشريعة، وأتمَّ بأمانة إرادة الله. ويُعلق القديس ايرونيموس "بما أنَّ المسيح وُلِد إنسانًا، أراد تحقيق جميع الفرائض الوضيعة للشريعة" (شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3).

ويدل البِرُّ بمفهوم متى الإنجيلي على الأمانة الشخصية في العمل بمشيئة الله. ومشيئة الله في يسوع هي التضامن مع الخاطئين ليُخلصهم، لا ليُدينهم بل ليُبشِّرهم بالسلام والخير، ويُبرئ جميع الذين استولى عليهم إبليس ويجعلهم خليقة جديدة. فكانت معمودية يسوع خطوة لا بدَّ من اتخاذها حتى يُتمِّم يسوع مشيئة الله. ومن هذا المنطلق، نزل يسوع إلي معمودية التوبة ليُبرِّر، أي ليعطي سببا لكل من يتعمد الخلاص من الخطايا ليحملها عنه، فالمسيح الذي حمل خطايانا ووضع شرط أن من يؤمن يعتمد لكي يخلص ليكون المسيح بالفعل حمل خطاياه بإرادة هذا المؤمن.

وسلك يسوع بمعموديته على يد يُوحنَّا طريق التواضع، وهو كمال كلِّ برٍ. وان مبادرة تواضع يسوع في اعتماده على يد يُوحنَّا مكَّنته من الحصول على تنصيبه مسيحًا. ويُعلق القديس أوغسطينوس "جاء يسوع واعتمد على يد يُوحنَّا، الرب بواسطة العبد، مثالًا للتواضع. أظهر لنا في تواضع أن المحبّة قد كملت".

وهذه المعمودية رمز إلى المعمودية العظمى التي كان على المسيح أن يجتازها على الجلجلة حيث كان مزمعًا أن يتمَّم إرادة الله ومخططه في إرساله إلى العالم كي يأخذ مكان الخاطئ ويُحيه ويكون عهداً للشعب ونوراً للأمم. وهذه المعمودية العظمى يدعوها إنجيل متى "الموت والقيامة" إذ قال يسوع ليُوحنَّا ويعقوب ابني زبدى "إِنَّكُما لا تَعلَمانِ ما تسأَلان: أَتستطيعانِ أَن تَشرَبا الكأَسَ الَّتي سَأَشرَبُها؟ " (متى 20: 22).

أعلن يسوع بقبوله معمودية يُوحنَّا أنَّه يقبل مهمته أي موته، وأنَّه يطيع حتى الموت موت الصليب. فالمعمودية هي مثال لسرِّ موته وقيامته. وعُمَّاده في نهر الأُردُنّ كان بمثابة إعلان التزامه في تقديم رسالة الخلاص لكل الناس. وقد أوصى يسوع تلاميذه بان يتذكروا رسالة الخلاص الذي قدّمها على الصليب في كل قداس يُقيمونه في العالم بقوله لهم " هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري" (1 قورنتس 11: 25).

وأسَّس المسيح سر المعمودية الذي به يُكمل كل برٍّ للإنسان، فصار هناك وسيلة يتبرَّر بها الإنسان الذي كان قد حُكِمَ عليه بالموت بسبب الخطيئة. بموتنا مع المسيح وقيامتنا معه نتبرَّر. والتبرير يشتمل على غفران الخطيئة، وذلك يتمُّ من خلال موتنا مع المسيح من ناحية، واتحادنا مع المسيح من ناحية أخرى.


الغاية الثانية: اعتمد يسوع كي يتضامن مع الخطأ

لم يبدا يسوع رسالته العلنية معلنًا انه المسيح المنتظر الذي جاء لهزيمة الشر بقوته، ولكنه جاء وضعًا نفسه بجانب الإنسان ويتضامن مع الناس الخاطئين، لانَّ الحب يُلغي المسافة بين الله والخاطئ. جاء يسوع واعتمد ليس من أجل نفسه، بل من أجلنا نحن البشر. غطس المسيح في مياه الأُردُنّ، لكي نستطيع الغطس معه والخروج منها، أحياء، مولودين من جديد من الماء والروح. لم يحتاج يسوع إلى توبة، ولم تكن لديه خطايا للاعتراف بها، لأنَّه لم يخطئ قط، ومع ذلك أخذ بخضوعه للمعمودية مكان الخاطئ، واعترف بخطيئة الشعب مثلما فعل وموسى ودانيال ونحميا وعزرا. وهكذا تعمّد يسوع ليتضامن مع الخاطئين، فوحّد نفسه مع عامة الشعب، كما تنبأ عنه أشعيا "أُحصِيَ مع العُصاة وهو حَمَلَ خَطايا الكثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم" (أشعيا 53: 12). فقد جعل نفسه واحداً معنا في بشريتنا، وحمل على نفسه خطايانا، كما ورد في الكتاب المقدس " لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه "(لوقا 19: 10).

اعتمد يسوع ليرى العالم فيه المسيح المُرسل الذي يتضامن مع الخاطئين وعامة الشعب. فالمسيح أسس سر المعمودية، فمن خلال هذا العماد يدخل المعتمد إلى حياة الله التي ظهرت بيسوع المسيح، فكل معمَّد بعد ذلك حين نزوله للماء وصعوده منه يموت مع المسيح ويقوم معه. ويدخل يسوع على حياة المعتمد، فيصبح الاثنان شخصاً واحداً. وفي هذا الصدد يُعلق القديس غريغوريوس النازيانزي" أعتمد المسيح، فننزل معه إلى جرن المعمودية، حتى نصعد معه أيضا" (الخطاب 39 في الأنوار المقدسة).

وشهد صوت الآب أن يسوع الذي يضع نفسه في عداد الخاطئين هو ابن الله في الواقع. "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى 3: 17). يجمع متى الإنجيلي في يسوع ابن الله وابن الإنسان الذي اختاره الله للقيام برسالة الخلاص. وقد تمّ هذه الإعلان أيضا وقت التجلي (متى 17: 5). وعماد يسوع هو مثال لعمادنا. أُعلن أنه ابن الله في عماده. ونحن، في قبولنا العماد نصبح حقا أبناء الله وخليقة جديدة. فلا يمكن لأي إنسان أن يعُمّد ذاته، كما أن لا أحد يلد ذاته للوجود، بل يجب قبوله بالدخول في المعمودية.

يقول القديس مكسيموس، أسقف تورينو " أعتمد يسوع لا ليُقدَّس بالمياه، بل ليُقدِّس المياه، فيُطهَّر بطهارته كل ما تمسُّه المياه" (العظة 100في عيد ظهور الرب 1: 3). وهكذا تعمّد يسوع لتقديس ينابيع المياه، ولكي تكون المعمودية التي أمر بها المدخل إلى ملكوته، والشرط للالتحاق بكنيسته إذ قال: "ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَدخُلَ مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِنَ الماءِ والرُّوح (يُوحنَّا 3: 5). يقول القديس كيرلس أسقف الإسكندرية: "لم يُعَّمد يسوع ليُطهر، وإنما ليطهِّر الماء، فإذ نزل إليها المسيح الذي لم يعرف أية خطيئة، صار له سلطان على التطهير، وبذلك فإن كل من يدفن في جرن المسيح يترك فيه خطاياه". ويصرِّح القديس بروقلوس، أسقف القسطنطينية: "مياه المعمودية، بقوة يسوع من تعمّد فيها، تُعيد الحياة إلى الموتى". كقول الرسول بولس: فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة" (رومة 6: 4). وفي هذا الصدد جاء قول العلامة ترتليانوس: "يا لقدرة نعمة المياه في نظر الله ومسيحه لتثبيت المعمودية! لن تجد المسيح بدون المياه!".

تعمَّد يسوع ليُقدِّم لنا مثالاً لنتبعه، كما يشهد بولس الرسول: "فقد ظهرت نعمةُ الله، ينبوعُ الخلاص لجميع الناس، وهي تعلمنا " (طيطس 2:11). والآن أخذنا المسيح مثلنا الأعلى، فلنقترب إلى نعمة العماد الأقدس. فيفتح لنا الله الآب أبواب السماوات ويرسل لنا الروح القدس، الذي يقبلنا كأبناء له، "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت" (مرقس 1: 11). فالمعمودية تقيم علاقة شخصية مع يسوع المسيح، وتجعلنا أعضاء في جسده السري أي الكنيسة، وتغفر خطايانا وتُعلن بدء حياة جديدة كابن الله وكأخ ليسوع المسيح نفسه، ويؤكِّد ذلك بولس الرسول "أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟ (رومة 5: 4)، فمعموديتنا هي سر هذا العبور من الموت مع المسيح إلى الحياة معه.


الغاية الثالثة: اعتمد يسوع تكريسا لخدمته العلنية

اعتمد يسوع ليتَّم الاعتراف به علنا بواسطة يوحنا المعمدان الذي جاء ليُعدَّ له الطريق، ويدعو الناس للتوبة استعدادا لمجيئه " صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: ((أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وآجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة" (أشعيا 40: 3). وفي الواقع، كان يسوع على أهبة خدمته العلنية مُكرّسًا نفسه بمعموديته لكي يتلقَّى قوة الروح القدس لتنفيذ مهمته المسيحانية. ويتكلم أشعيا على هذه المهمة بقوله "قد جَعَلتُ روحي علَيه فهو يُبْدي الحَقَّ لِلأُمَم. أَنا الرَّبَّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم لِكَي تَفتَحَ العُيونَ العَمْياء وتُخرِجَ الأَسيرَ مِنَ السِّجْن والجالِسينَ في الظُّلمَةِ مِن بَيتِ الحَبْس" (أشعيا 42: 1، 6-7). نزول الروح القدس على يسوع هو تأكيد لتكريسه للخدمة العلنية، كما جاء في تعليم بطرس الرسول "وأَنتُم تَعلَمونَ الأَمرَ الَّذي جرى في اليَهودِيَّةِ كُلِّها وكانَ بَدؤُه في الجَليل بَعدَ المَعمودِيَّةِ الَّتي نادى بِها يُوحنَّا، في شأنِ يسوعَ النَّاصِرِيّ كَيفَ أَنَّ اللهَ مَسَحَه بِالرُّوحِ القُدُسِ والقُدرَة، فمَضى مِن مَكانٍ إلى آخَر يَعمَلُ الخيرَ ويُبرِئُ جَميعَ الَّذينَ استَولى علَيهم إِبليس، لأَنَّ اللهَ كان معَه"(أعمال الرسل 10: 37-38).

إنَّ المسيحَ قَبِلَ الروحَ، وذلك كإنسان. ولم يقبَلِ الابنُ الوحيدُ الروحَ القدسَ لنفسِه، بل في نفسه من أجلنا. فهو روحُه، ويقيمُ فيه، وبه يُوهَبُ. ومن حيث إنه إنسان أخذ يسوع في ذاته الطبيعة الإنسانية كلها ليُصلحها كلها ويُعيدها إلى كمالها. ويُعلق القديس كيرلس "حلّ أولاً على المسيح الذي قبل الروح القدس لا من أجل نفسه، بل من أجلنا نحن البشر، لأنَّنا به وفيه ننال "نعمة على نعمة" (يُوحنَّا 1: 16).

في الواقع، جميع الخيرات تأتينا عن طريق يسوع المسيح. جاء الروح ليمسح يسوع في خدمته العلنية. ومن هذا المنطلق، بدأ يسوع رسميا خدمته العلنية بالمعمودية (يُوحنَّا 1: 31-34). وغرض هذه الخدمة هي مقاومة قوة الشيطان في الناس وكسر شوكته ليُخلص الإنسان من الخطيئة والموت وليُعيد إليه نعمة الخلاص والحياة الأبدية.

وقبل الآب تكريس الابن نفسه "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متى 3: 17)، ولذلك، يهب الآن الآب روحه مُجدّدا للابن، لنحصل نحن به على الروح. والروح الإلهي يُشكل الشعب الجديد خلال الخروج الجديد! ونحن نستطيع أن نُدرك مدى أهمية المعموديّة من كلمات القديس ايرونيموس "لم يكرز المخلّص نفسه بملكوت السماوات إلاّ بعد تقديسه الأُردُنّ بتغطيسه في العماد". والكنيسة تهتم بالمعمودية، لأنه حتى المسيح لم يبدأ خدمته إلا بعد أن اعتمد. بالمعمودية نصح الإنسان الجديد الذي ينال الروح القدس، ويعيش بحبٍ بنويٍ مع الله في تواضع وإيمان.


الخلاصة

ركَّز متى الإنجيلي ليس على تواضع يسوع واعتماده في نهر الأُردُنّ بقدر ما كان تركيزه على صوت الآب الذي سُمع من السماء "هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت" كي يشهد انه ابن الله كما أكد يُوحنَّا المعمدان "وَأَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله (يُوحنَّا 1: 34). فالرّب يسوع المسيح هو ابن بالطبيعة، ابنٌ حقيقيّ، وليس ابنًا بالتبنّي أمَّا نحن المعمَّدين فأصبحنا أبناء الله بالتبنّي، وفقًا للنعمة، كما كُتِبَ: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يُوحنَّا 1: 12). ونحن قد وُلِدنا بالماء والروح (يُوحنَّا 3: 5)، غير أنّ الرّب يسوع المسيح لم يولد من الآب بالطريقة نفسها. لأنّه في وقت اعتماده، رفعَ الله الصوت وقالَ: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ". ويعلق القديس كيرلس الاورشليمي " هو لم يقلْ هذا أصبح الآن ابني"، بل هذا هُوَ ابنِيَ، ليُظهرَ أنّه حتّى قبل عماده كان ابنا".

حلّ الروح القدس على يسوع لدى اعتماده على يد يُوحنَّا كي يرى العالم فيه المسيح المُرسل الذي يحمل بُشرى الخلاص إلى معشر الناس، كما أعلن سمعان الشيخ " قَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل" (لوقا 2: 30)، وذلك تتميمًا "لنبوءة أشعيا "هاءَنَذا جَعَلتُه لِلشُّعوبِ شاهِداً، لِلشُّعوبِ قائِداً وآمِراً" (أشعيا 55: 4).

ظهر الرب في عماده إنسانًا والهًا، فلِنَسِرْ في نورِ الرَّبّ" (أشعيا 2: 5) ولنعكس حياته بأعمالنا وحياتنا، كما أوصانا الرب "لْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات ” (متى 5: 16) ووثيقة العماد لا تجدينا نفعا إن لم نجعل من حياتنا بالعماد إنجيلا حيّا وشهادة لنخلص نفوسنا ونقود الآخرين ليسوع ليقبلوه ربا والها ومخلصا. لذا لنجتهد أن نكون أبناء الله حقيقيين وتلاميذاً مُخلصين في سماع صوت المسيح ربنا والهنا. آمين.


دعاء

يا من تجسّدت واعتمدت اليوم في مياه الأُردُنّ، آتيًا من ذات الله المطلقة واللامتناهية لتشفي جراح بشرّيتنا وتقودها إلى ما وراء الآفاق الضيّقة، لتبلغ بنا نحو سّر الأبد حيث نجد كياننا وغاية وجودنا، إملاءنا من فيض روحك، وجدّدنا بروحك القدوس الذي يُطّهر عمق نفوسنا ويجعل منها هياكل مقدّسة حيّة لروحك القدوس، وألهمنا فنتحرّر من خطايانا ونحيا سّر عمادنا الذي هو نعمة تفوق إدراكنا فنكون موضع رضاك على الدوام. أمين.

رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
تَجَلِّي يسوع كما رواه مَتَّى الإنجيلي
عيد الصعود كما رواه إنجيل متى
يسوع المَلِك كما رواه لُوقا الإنجيلي
التجلي في حياة يسوع كما رواه لوقا الإنجيلي
اعتماد يسوع


الساعة الآن 06:38 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024