الراهب القمص بطرس البراموسي
قوة الإرادة
تقوية الإرادة من الفوائد المهمة التي يساعدنا الصوم على اقتناءها، والتي تُسْتَفَاد من الصوم.. والصوم من أهم التدريبات التي نأخذها في حياتنا لِتَقوية الإرادة.. فبعض الأشخاص تكون نِيَّتهم حسنة ويريدون أن يفعلوا أفعالًا جيدة، ولكن لضعف إرادتهم لا يستطيعون اتخاذ القرار. وقد يكونون أشخاصًا مُعتدلين وذو وقار وهيبة، ولكنهم لا يستطيعون اتخاذ قرار لصالِحهم أو لصالِح الآخرين.. فهذا عيب في الشخصية، وهو ضعف الإرادة. ولذلك عَلَّمتنا الكنيسة أن الصوم تدريب روحي لِتَقوية الإرادة، فالأمس كنا نأكل ونشرب كل ما نشتهي ولا نمنع أنفسنا عن شيء، ولكن بحلول الصوم واندماجنا فيه نستطيع أن نقول للفم: "سوف لا تَذُق هذا الطعام فترة من الزمن". وأُخاطِب حاسة الشَّم التي تَشِم وتَشْتَهي المأكولات المُحَبَّبة قائِلًا: "سوف لا أعطيكي ما تشتهينه". وسوف أَتَحَكَّم في نظري الذي يَتَلَهَّف على رؤية المأكولات والمشروبات الشهية وأقول لعيناي: "سوف لا أعطيكي ما تَشْتَهينَهُ". فدائِمًا الشهوة تَلِد خطية: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا" (رسالة يعقوب 1: 15).
وهنا تبدأ إرادة الإنسان أن تَتَقَوَّى رويدًا رويدًا حتى يصل الإنسان إلى أن يصبح صاحِب قرار قوي دون تَرَدُّد، يستطيع أن يُفَكِّر ويَتَغَلَّب على الصِّعاب ويتخطَّى كل المعوقات، بِحُسن تفكيره واتخاذه القرار المُناسِب في الوقت المناسب. ولا نَحِد الكلام هنا عن ملاذ الجسد من مأكولات ومشروبات، فالمُحارَبات كثيرة، ولا تُحصى..
* فتعالى بنا ننظر أيها الحبيب عن تجارب السيد المسيح المُعْلَنة على الجبل، وكيف تَصَدَّى لها بكل قوة، لِيُعَلِّمنا كيف نَقِف أمام حِيَل إبليس ومُحارَباتهُ المُتَعَدِّدة..
* فِعندما يجوع الجسد يكون الفِكر مُنْشَغِل بكيف آكُل، ومتى، ونوعية الطعام، وغير ذلك من الأفكار الكثيرة.. فَمَع جوع الجسد يكون مُتَلَهِّفًا للغِذاء، وقد يَصِل الإنسان إلى عدم التمييز بين الأكل الضار أو المُفيد، فهو مُهْتَم بِسَدّ الجوع بشبع أيًّا كان هذا الأكل. وهنا تَبْرُز إرادة الإنسان: هل هي قوية أم ضعيفة؟ هل يُحْسِن الاختيار، أم يأكُل ما يَضُرّهُ أكثر من الجوع.. "فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا" (إنجيل متى 4: 2) حسب طبيعته الناسوتية، ولكنه كان قوي الإرادة أمام حَرْب الشيطان عندما خاطَبهُ حسب طبيعتهُ اللاهوتية: "فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا»" (إنجيل متى 4: 3)، فكان رد السيد المسيح عليه بكل قوة لِيُعَلِّمنا أن ليس غِذاء الجسد هو الذي يُحيي الإنسان، ولكن كلمة الله الحية هي التي تُحيي الروح والجسد أيضًا: ".. لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (سفر التثنية 8: 3؛ إنجيل متى 4: 4؛ إنجيل لوقا 4: 4)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهكذا انتصر على شهوة الجسد.
* وهكذا في التجربة الثانية التي وُجِّهَت إلى شهوة العيون والامتلاك والعَظَمة عندما أخذه ".. وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ.. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ»" (إنجيل متى 4: 5-7). نجِدهُ بقوة إرادته انتصر على شهوة العيون.
* وفي التجربة الثالثة أخذه لِيُريه مجد العالَم: ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا.. لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (إنجيل متى 4: 8-10). وهكذا انتصر السيد المسيح مُمَثِّلًا للبشرية كلها على تَعَظُّم المعيشة ومجد العالَم الفاني.
* إذًا، فلنأخُذ هذه التجارب وكيفية النُّصرة عليها مَثَلًا حيًّا لنا في حياتنا لنستطيع أن نُقَوِّي إرادتنا الضعيفة، ونقف أمام خَديعة الشيطان المُسْتَمِرًّة، ونقلع عن الخطية المُسَيطِرة علينا بقوة السيد المسيح الذي صام عنَّا ليعطينا مِثالًا لكي نَتبع خطواته.