الحريـــــــة المسيحيــــــــة
إنَّ الحريّة الحقيقية هي في الإنسان علامة مُميَّزة عن صورة الله فيه، لأنَّ الله أراد أن ''يتركه لمشورته الخاصّة'' (ابن سيراخ 14/15)حتى يَتمكَّن بذاته أن يبحث عن حالته وخالقه ويلتحق به بحريَّته ويبلغ هكذا إلى تمام سعادته الكاملة (فرح ورجاء/17).
المقدمـة:
لم يَتوصَّل البشر كما تَوصَّلوا اليوم إلى إدراك معنى الحريَّة بكلِّ أبعادها، ولكن في الوقت نفسه تظهر أشكال جديدة من الإستعباد الإجتماعي والنفسي. فالأفراد والجماعات ظمئون لحياة حرَّة، وطريق الحريَّة وطريق الإستعباد مفتوحان أمامه، وكذلك طريق التقدُّم أو التقهقر، وطريق الأخوَّة والبغض. غير أنَّ الإنسان يَتَّجه نحو الخير بملء حريَّته، هذه الحريَّة التي يعتبرها معاصرونا إعتباراً عظيماً ويبحثون عنها بكلِّ حماس، وهم في ذلك على حقٍّ، ولكن غالباً ما يُعزِّزونها بطريقة منحرفة. إذ يعرِّفونها على أنَّها إجازة لصنع كلِّ شيء يجلب السرور حتى وإن كان شراً. إنَّ وعي الناس في عصرنا لكرامة الشخص البشري يتزايد يوماً بعد يوم، كما أنَّه يتزايد عدد أولئك الذين يطلبون بإلحاح حتى يَتمكَّن الناس من أن يَتصرَّفوا وفقاً لآرائهم الخاصَّة مُتحمَّلين مسؤوليتهم ومُتمتّعين بكامل حريَّتهم، لا يواجههم ضغط، بل شعورهم بالواجب.
يقول القديس بولس: ''إنَّكم أيُّها الأخوة، قد دُعيتم إلى الحريَّة'' (غلاطية 13/5)، هذه الدعوة هي رُكن أساسيّ من أركان إنجيل الخلاص. لقد جاء يسوع ''ليُبلِّغَ المأسورين بإطلاق سبيلهم ويفرج عن المظلومين'' (لوقا18/4)، والكنيسة إذ تضطلع بدورها في فهم الأمور على ضوء الإنجيل الذي هو بطبيعته رسالة حريَّة وَتحرُّر، تتبنَّى هذه التَطلُّعات التي تنكشف على ضوء معاني الخلق والفداء. ''الحقيقة تُحرِّركم'' (يوحنا 32/8)، تتمحور هذه الحقيقة المُنزَلة من الله حول المسيح مُخلِّص العالم الذي منه - وهو ''الطريق والحقّ والحياة'' (يوحنا 6/14)، - تنهل الكنيسة ما تُزوِّد به الناس، وتستقي، من سرِّ الكلمة المُتجسِّدة وفادية العالم، الحقيقة عن الأب ومحبَّته لنا، كما الحقيقة عن الإنسان وحريَّته.
ماذا يعني أن تكون حراً؟
إنَّ الإجابة العفوية على هذا السؤال هي أنَّ الحرَّ هو مَن إستطاع أن يفعل فقط ما يريده من دون أن يردعه إكراه خارجي، وَتمتَّع بالتالي باستقلال تامّ، وعليه كان إنقياد إرادته لإرادة غريبة نقيضاً للحريَّة.
لكن، هل يعلم الإنسان دائماً ماذا يريد؟
وهل يستطيع أن يفعل كلَّ ما يريده؟
وهل الاكتفاء بحدود الذات والإنفصال عن إرادة الآخر مطابق لطبيعة الإنسان؟
غالباً ما لا تكون إرادة اللّحظة الراهنة هي الإرادة الفعلية، وقد يتواجد في الإنسان الواحد إرادات متناقضة، وبالأخصِّ يصطدم الإنسان بحدود طبيعته الخاصّة، فهو يريد أكثر ممّا يستطيع، وبالتالي فإنَّ الحاجز الذي يعترض إرادته لا يتأتّى دائماً من الخارج، بل من حدود كينونته.