أبينا الجليل في القديسين تيخون زادونسك العجائبي أسقف فورونيج الروسي (+1783م)
13 آب شرقي (26 آب غربي)
أبصر النور سنة 1724م، في قرية Koretzk، في كنف عائلة قندلفت فقير في أبرشية نوفغورود. عمل تيخون كولد لدى بعض الفلاحين ليحصل خبزه اليومي. تقي ومثابر في دروسه في المدرسة الإكليريكية ثم المعهد اللاهوتي في نوفغورود. عُين أستاذاً للخطابة. خلال سنيه التعليمية نعم بشعور بالحضرة الإلهية. كان يحب القراءة والتأمل ليال بطولها. في إحدى تلك الليالي، فيما كان غارقاً في تأمل الغبطة الأبدية انفتحت السماء فجأة والتمع أمامه نور يفوق الوصف. هذا أشعل في قلبه رغبة قوية في الحياة الرهبانية والصلاة والتأمل. في خلال أربع سنوات، وتحديداً في العام 1758م ترهب واتخذ اسم تيخون. وبعد أن سيم كاهناً، في السنة عينها، أسندت إليه إدارة معهد تفير اللاهوتي.
رغم أنه كان راغباً في الحياة الرهبانية، في الهدوء والصلاة، فقد جرى ترفيعه إلى الدرجة الأسقفية وهو في سن السابعة والثلاثين. للحال سُمي على أبرشية فورونيج. ذات الخليط السكاني نصف البربري. واجه في إدارة أبرشيته صعوبات قاسية. أبدى حيوية رعائية فذة خصوصاً لرفع المستوى الثقافي والأخلاقي للكهنة. زار الرعايا وأصلح وعلم دونما كلل. وعظ وكتب. ربط الكل بشخص الرب يسوع. حث المسيحيين على اعتبار أنفسهم أعضاء الجسد الذي رأسه المسيح. وكما أن أعضاء الجسد هي أدوات الرأس هكذا ينبغي أن يكون المسيحيون أدوات المسيح. المسيح تألم، هم، أيضاً، في العالم يتألمون ويُسخر منهم، كان صارماً في تصديه للاعتقادات الشعبية الباطلة، لكنه كان مستعداً لأن يواجه كل العقبات بتقديم نفسه، في زي راهب بسيط، إلى كل نفس تعاني ليحمل إليها تعزية من فوق. وداعته وتواضعه لم يكن لهما حد ومتى ظن أنه جرح أحداً كان، للحال، يسأل الصفح ويسجد إلى الأرض. على هذا النحو دُعي، مرة، إلى منزل أحد النبلاء الريفيين. فوجئ هناك بشاب من أتباع فولتير يتباهى بآرائه المعادية للمسيحية. وداعة ودقة رجل الله في إجاباته جعل محدثه يفقد سيطرته على نفسه فوجه للأسقف صفعة. للحال وقع القديس عند قدمي مهينه وطلب منه الصفح لأنه جعله، بكلامه، يغضب. فندم الشاب عما فعله وصار مسيحياً صالحاً. أخذ تيخون بمحبته وغيرته ولما يُعر قواه الجسدية اهتماماً. هذا، في خلال خمس سنوات، أجبره على التخلي عن مهامه لأسباب صحية. كان ذلك عام 1768م. اعتزل في دير زادونسك، على بعد ثمانين كيلومتراً من فورونيج. هناك أمضى بقية أيامه في نسك مرضي لله، جاداً في الصلاة لأجل الكنيسة المقدسة ومنكباً على الكتابة.
كانت قلايته خالية من أسباب الراحة ولباسه خشن. كل ما كان مخصصاً له كان يحوله إلى الفقراء. وعندما لم يكن له شيء يعطيه كان يستدين ليعطي. الفقراء كانوا له تعزية. بابه دائماً مفتوح للفقراء والمسافرين. هؤلاء كانوا يجدون لديه الطعام والكسوة وكلام التعزية الروحية. لم يكن يخرج البتة إلا للاشتراك في الخدمة الإلهية، يرتل مع الرهبان دون أن يؤم الخدمة. يساهم القدسات بدموع. الدموع كانت رفيقه الدائم نظير نبعين من المياه الحية. بعد القداس الإلهي كان ينصرف إلى تحرير أعماله اللاهوتية والأخلاقية. خلال الطعام كان أحد تلاميذه يقرأ العهد القديم. وكثيراً ما يحدث أن ينسى طعامه ويسترسل في البكاء، خاصة عند قراءة النبي إشعياء. بعد وجبة الطعام كان يرتاح مقدار ساعة ثم يقرأ سير القديسين أو كتباً أخرى. في ساعة الغروب كان يطلب أن يقرأ العهد الجديد ويمضي بعض الوقت يشرح لتلاميذه المقاطع الغامضة. وإذ تمتع بذاكرة غير عادية كان يغني شروحه بشواهد عدة من الكتاب المقدس والآباء القديسين حتى لم يكن للكاتب وقت كاف ليدونها. ومتى حل المساء كان يدعو تلاميذه للانكباب على الصلاة والمطانيات حتى الفجر. من قلبه الملتهب المنسحق توبة كانت تتدفق، كلهب، تضرعات قصيرة أو صلوات شكر. ذات ليلة، ظهر له مسيح الرب مدمى مغطى بالجراح فارتمى القديس عند قدميه وأمطرهما قُبلات وهو يهتف: "أأنت، أنت، يا مخلصي تأتي إلي؟!"
مرة أخرى، فيما كان، كعادته، يقوم بدورة على الكنيسة، يسجد أمام كل من أبوابها ويسبّح الله بدموع، اتجه نحو الهيكل فرأى السموات مفتوحة ويدفق منها نور متلألئ يسطع على كل الدير، وإذ خر أرضاً سمع صوتاً يقول له: "هذه هي الخيرات المعدة للذين يحبون الله!" مرة أخرى عاين والدة الإله تعترش الغيوم مع القديسين بطرس وبولس عن جانبيها. فسجد على ركبتيه وسألها أن تتشفع لدى الله أن يُسبغ نعمته على العالم بأسره.
حين كان يقوم بنزهة في الحديقة كان يطلب من العابرين به أن يتنحنحوا قبل بلوغهم إليه ليتسنى لذهنه أن يستفيق من استغراقه في التفكير بالله. وأحياناً كان يوجد مسترسلاً في صلاته وذراعاه إلى فوق حتى كان لازماً أن يصرخ المرء في أذنه ليُخرجه من تأملاته.
بعض الرهبان كان يسيء فهمه وكان هو يرأف بالذين كانوا ينمون عليه أو يجرحونه، معتبراً الشيطان من يلام في أمرهم. كان أول من يسأل الصفح من المسيء إليه، لا فرق أكان مبتدئاً أم خادماً.
حين كانت تكده الأفكار القاتمة كان يحب أن يردد: "خير لي أنك أذللتني" (مز71:118). اختبر كثيراً حرب الأفكار وهجمات الأبالسة. كتب، في هذا الشأن، يقول: "في التجارب يبين لنا الله ما نحن عليه وإِلام نميل بطبيعتنا.... ما هو مخبوء في قلبنا".
ولم يكف حبيس زادونسك عن ممارسة دوره كراع، إذ كان، أبداً، يلتمس الخلاص لشعب الله. في كتاباته الفياضة كان يشهد لنور المسيح. كان الزوار القادمون من البعيد يتدفقون عليه للارتشاف من نبع المياه الحية لديه. كان يلعب دور الوسيط بين الأعداء ويبتهل من أجل الفلاحين والأبرياء المدانين. على فمه ارتسمت دائماً ابتسامة وجرت كلمة تعزية على لسانه لكل واحد، وفق حاجته. يده كانت، أبداً، ممدودة للبركة ولتقديم بعض الحسنات.
ابتداء من السنة 1779م دخل القديس تيخون في عزلة كاملة. لم يعد يستقبل الزوار ولا عاد يوجه كلمة لخدام قلايته ولا يتوجه إلى الكنيسة ولا يخرج للزيارة، أيام الأعياد الكبرى، للموقوفين في السجن. كان، في خلوته، يستغرق في الصلاة دونما شرود ويتأمل في الموت بإزاء الضريح الذي جرى إعداده له. بقي يسلك على هذا النحو أربع سنوات. ثم، على أثر رؤيا، انفلج في جنبه الأيسر واضطر إلى ملازمة الفراش. وإذ شعر بقواه تتضاءل، قبل ثلاثة أيام من وفاته، دعا المقربين منه إليه. وإذ أشار إلى الصليب قال: "أستودعكم السيد". هذه كانت آخر كلماته. بعد ثلاثة أيام رقد وقد بلغ من العمر التاسعة والخمسين.
في وصيته كتب كالذهبي الفم يقول: "المجد لله على كل شيء! المجد لله على العناية التي أحاطني بها، أنا غير المستحق. المجد لله على التعزيات التي أسبغها علي عندما كنت متضيقاً... كم هي البركات، كم هي النعم التي نلتها منه؟"
اعتباره في عداد القديسين جرى مباشرة بعد وفاته. وقد انتشر إكرامه في كل الأرض الروسية. رسمياً مجدته الكنيسة لدى استخراج رفاته المقدسة، بحضور مئات ألوف المؤمنين، يوم الخامس والعشرين من آب سنة 1861م.