الإيمان مسيرة نموّ وامتداد
تشدّد الأرثوذكسيّة أيضًا على أنّه لا يوجد خلاص خارج عن الإيمان؛ بمعنى أنّ الخلاص يستند بشكل رئيس إلى الإيمان بيسوع المسيح، وبكلّ عمل الفداء الذي حقّقه لأجلنا، وهذا واضح في العهد الجديد1. لكنّ هذا الخلاص والتجديد والتبرير واقتناء النعمة، لا يمكن أن يتحقّق في لحظة واحدة باعتراف شفويّ بيسوع المسيح أنّه ربّ ومخلّص. الخلاص أساسه الإيمان، لكن ماذا يعني الإيمان؟
في الأرثوذكسيّة، الأسس التي يُبنى عليها الإيمان الحقيقيّ تكمن في تحويل مسيرة النفس نحو الله. ويُثمر هذا الإيمان في شوق الإنسان وجهاده للدخول في شركة شخصيّة مع الله كإله شخصيّ. هذا يعني أنّ الإيمان الأوّل هو بدء الطريق إلى الملكوت وليس الملكوت، إنّه قبول الدعوة إلى عرس الملكوت وليس العرس. من اكتفى بالدعوة فقط، أي بالإيمان النظريّ فقط، ولم يدخل إلى العرس يبقى خارجًا. هذا العرس ندخل إليه ونعيشه في الكنيسة وفي حياتها الأسراريّة، في ليتورجيّتها، هناك نلتقي مع المسيح ونتّحد به ونصير أصدقاء العريس.
مَن يقرأ العهد الجديد بحسٍّ روحيّ، لا بدّ وأن يجد كيف أن الإيمان الشخصيّ بالله هو مسيرة نموّ، يزداد وينقص؛ وكيف أنّ هذا النموّ ينعكس في حياة المؤمن وعلاقته بالآخرين: «بل راجين إذا نما إيمانُكم أن نتَعظّم بينكم» (2كورنثوس 10: 15؛1تسالونيكي 3: 10؛ فيليبي 1: 25). وحين أعطى بولس الرسول مَثل ابراهيم، في رسالته إلى أهل رومية، فهو كان يُحدّد أن ابراهيم تبرّر بسبب إيمانه الثابت والقويّ لا الضعيف والمشكّك: «وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبر جسده… وتيقّن أنّ ما وعد به هو قادر أن يفعلَه أيضًا، ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوّى بالإيمان مُعطيًا مجدًا لله؛ لذلك أيضًا حُسِبَ له برًّا» (رومية 4: 18-24).
ويكشف لنا الربّ يسوع معنى الإيمان بهذا المثل: «لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل…» (متّى 17: 20). الأمر الذي يشير إلى حقيقتين: أوّلاً، حين قال المسيح عن إيمان مثل حبّة خردل فهو أشار إلى أصغر نقطة ينبغي أن نبلغها في الإيمان حتّى يكون حقًا إيمانًا. تاليًا، لكي يكون الإيمان إيمانًا حقًّا، ينبغي أن يحوي هذه الثقة والقوّة والقدرة على نقل الجبال أو ما يُشبهها. ثانيًا، الإيمان ليس أمرًا جامدًا أو اعترافًا عقلانيًّا مجرّدًا يحصل مرّة واحدة وإلى الأبد، على حسب طريقة الإنجيليّين المعمدانيّين. فحين تكلّم المسيح على إيمان مثل حبّة خردل، فهو عنى أنّ هناك ما هو أعظم في الإيمان ينبغي السعي المتواصل لأجل بلوغه.
هذا هو الإيمان الأرثوذكسيّ، مسيرة نموّ في الروح وفي معرفة الله، مسيرة امتداد لا تتوقّف إلى قدّام، كما عبّر عنها بولس الرسول: «أيّها الإخوة، أنا لست أحسب نفسي أنّي قد أدركت، ولكنّي أفعل شيئًا واحدًا: إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتدّ إلى ما هو قدّام» (فيليبيّ 3: 13). يبدأ الإيمان بالاعتراف بالله كربّ ومخلّص وديّان، لكنّ نهاية الإيمان هي معاينة الله والاتّحاد به، في هذه الحياة الحاضرة ذاتها. مسيرة لا تتوقّف، صعود لا ينتهي نحو ملاقاة الله.
التراث الأرثوذكسي