إن قصة يونان النبي هي قصة صراع بين الذات الإنسانية والله، فيونان النبي كان إنسانا تحت الآلام مثلنا.
من هو يونان النبى؟
يونان اسم عبرى معناه “حمامة” وهو ابن أمتاى، وأحد أنبياء إسرائيل (يون 1:1)، وكان من مدينة جت حافر فى سبط زبولون (2مل 14: 25). كان نبى فى مملكة إسرائيل (المملكة الشمالية) وتنبأ فى الفترة بين 793 – 735 ق.م. حيث عاصر يربعام الثانى ويذكر سفر الملوك الثانى أنه قد تنبأ بأن يريعام بن يهوآش ملك إسرائيل سيرد تخم إسرائيل من مدخل حماة إلى بحر العربة (خليج العقبة).
كلف الله يونان بالذهاب إلي نينوى , والمناداة بهلاكها، وكانت نينوى عاصمة كبيرة فيها أكثر من 120 ألف نسمة، ولكنها كانت أممية وجاهلة وخاطئة جدا. ولكن بدلاً من الذهاب إلى نينوى التى تقع الى الشمال الشرقى من السامرة ذهب الى يافا – مدينة على البحر – وأخذ سفينة ذاهبة إلى ترشيش والتى تقع إلى غرب مدينة السامرة فى البحر المتوسط.
لماذا هرب يونان من وجه الرب؟
هناك عدة أسباب لذلك:
• كان يونان يعلم أن الله ”إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان“ (خر 34: 6) ولذلك إذا تاب أهل نينوى فسوف يصفح الله عنهم وهكذا تسقط كلمته, ويكون الله قد ضيع كرامته علي مذبح رحمته ومغفرته.
• كان اليهود يعتبرون أن الله (يهوه) هو إلههم الخاص – كما كانت لكل أمة آلهتها – ولذلك كانت فكرة أن الله (يهوه) يطلب خلاص وتوبة الأمم غير مقبولة بالنسبة لهم.
• البعض يرى أن هروب يونان كان إعلان لرفضه القيام بهذه المهمة وليس الهروب من الله ذاته وهكذا يرسل الله شخصاً آخر غيره، فهو أعلن أنه يؤمن بأن الله هو ”إله السماء الذي صنع البحر والبر“ (يون 1: 9).
• وهناك رأى آخر يقول أن يونان كان يعلم أن أشور هى الآلة التى سيستخدمها الرب لعقاب أمَّـته إسرائيل فأراد أن تفنى بسبب خطاياها بدلا من أن تبقى وتقضى على مملكة إسرائيل.
لم يشأ الله أن يصل يونان إلي ترشيش, وإنما أمسكه في البحر, وهيج الأمواج عليه وعلي السفينة كلها… والعجيب أن يونان كان قد نام في جوف السفينة نوما عميقا. لا أيقظه الموج, ولا صوت الأمتعة وهي تلقي في الماء, ولا صوت ضميره!!
نام يونان, لم يهتم بمشيئة الله وأمره, ولم يهتم بنينوى وهلاكها أو خلاصها, ولم يهتم بأهل السفينة وما تجره عليهم خطيئته… لكنه تمركز حول ذاته, وشعر أنه حافظ علي كرامته فنام نوما ثقيلا…
هذا النوم الثقيل كان يحتاج إلي إجراء حاسم من الله ينقذ به ركاب السفينة جسديا وروحيا, وينفذ مشيئته من جهة نينوى وخلاصها, وينقذ نفس هذا النبي الهارب, ويعلمه الطاعة والحكمة. مستبقيا إياه في خدمته بطول أناة عجيبة, علي الرغم من كل أخطائه ومخالفته…
وهكذا استخدم الله خليقته الغير عاقلة من جماد وحيوانات ( الموج, الرياح, البحر والحوت ) ليبكت خليقته العاقلة (الإنسان).
أمر الله الرياح, فهاج البحر, وهاجت أمواجه, وصدمت السفينة حتى كادت تنقلب. وتصرف ركاب السفينة بحكمة وحرص شديدين… وبذلوا كل جهدهم, صلوا كل واحد إلي إلهه وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم. الوحيد الذي لم يذكر الكتاب أنه صلي كباقي البحارة, كان يونان. وحتى بعد أن نبهه أو وبخه رئيس النوتية, لم يلجأ إلي الصلاة. كأن عناده أكبر من الخطر المحيط به . وعندما ألقوا قرعا ليعرفوا بسبب من كانت تلك البلية, أصابت القرعة يونان.
”خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر“ (يون 1: 9)
اعترف يونان أنه خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر!! إذا فهو يؤمن بسلطان اللـه على الخليقة كلها ولكن كبريائه كانت ما تزال تسيطر عليه
كان يونان يدرك الحق, ومع ذلك تمسك بالمخالفة, من أجل الكرامة التي دفعته إليها الكبرياء, فتحولت إلي عناد… قالوا له: ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا؟. فأجابهم: خذوني واطرحوني في البحر.
علي الرغم من كل هذه الإنذارات والضربات الإلهية, لم يرجع يونان. لم يقل أخطأت يارب في هروبي, سأطيع وأذهب إلي نينوى… فضل أن يلقي في البحر, ولا يقول أخطأت..! لم يستعطف الله. لم يعتذر عن هروبه. لم يعد بالذهاب. لم يسكب نفسه في الصلاة أمام الله. إنما يبدو أنه فضل أن يموت بكرامته دون أن تسقط كلمته!! وهكذا القوه في البحر…
اللـه ينفذ مشيئته:
مشيئة الله كانت لابد أن تنفذ. هل ظن يا يونان أنه سيعاند الله وينجح؟! هيهات, لابد أن يذهب مهما هرب, ومهما غضب. إن الله سينفذ مشيئته سواء أطاع يونان أو عصى, ذهب أو هرب…
ألقي يونان في البحر, وأعد الرب حوتا عظيما فابتلع يونان. وكأن اللـه يقول له: ”يا يونان, صعب عليك أن ترفس مناخس. إن شئت فبقدميك تصل إلي نينوى. وإن لم تنشأ فستصل بالبحر والموج والحوت. بالأمر, إن لم يكن بالقلب“.
صلاة يونان:
فى جوف الحوت وجد يونان خلوة روحية هادئة, ففكر في حاله. إنه في وضع لا هو حياة, ولا هو موت. وعليه أن يتفاهم مع الله, فبدأ يصلي. إنه لا يريد أن يعترف بخطيئته ويعتذر عنها, وفي نفس الوقت لا يريد أن يبقي في هذا الوضع. فاتخذ موقف العتاب, وقال: ”دعوت من ضيقي الرب, فاستجابني… لأنك طرحتني في العمق… طردت من أمام عينيك“ (يون 2: 6).
من الواضح أن الله لم يضع يونان في الضيق, ولم يطرحه في العمق, ولم يطرده ولكن خطيئة يونان هي السبب.
هو الذي أوقع نفسه في الضيقة, ثم شكا منها, ونسب تعبه إلي الله… ولكن النقطة البيضاء، هي أنه رجع إلي إيمانه في بطن الحوت. فآمن أن صلاته ستستجاب, وقال للرب: ”أعود أنظر هيكل قدسك“. لقد آمن أنه حتي لو كان في جوف الحوت, فلابد سيخرج منه ويري هيكل الرب.
أتت هذه القضية الكبرى بمفعولها. ونجح الحوت في مهمته. والظاهر أن يونان نذر نذراً بأنه إن خرج من جوف الحوت, سيذهب نينوى لأنه قال للرب وهو في جوف الحوت ”أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك, وأوفي بما نذرته“ (يون 2: 9). أي نذر تراه غير هذا؟!
”قم اذهب إلى نينوى“:
لما قذف الحوت يونان إلي البر, صدر إليه أمر الرب ثانية ”قم اذهب إلى نينوى“ (يون 3: 1-2), فنفذ نذره, وذهب إلي نينوى. ولكن الظاهر أنه ذهب بقدميه مضطراً, وليس بقلبه راضياً. ذهب من أجل الطاعة, وليس عن اقتناع، والدليل على ذلك أنه لما تاب أهل نينوى وندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه غم ذلك يونان غما شديدا فاغتاظ. (يون 3: 5 – 4: 1)
اللـه يبكت يونان:
عاتب يونان الله, وبرر ذاته, وظن أن الحق في جانبه. فصلي إلي الله وقال: ”آه يا رب أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي؟ لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر“ (يون 4: 2)
اغتاظ يونان من أجل محبة اللـه ورحمته وقبوله توبة أهل نينوى ونسى (أو تناسى) أنها نفس المحبة التى قبلت توبته عندما كان فى بطن الحوت. ولذلك قال أحد الآباء ”إذا وجدت أن اللـه يطيل أناته على من أساء إليك لا تحزن بل تذكر أن اللـه أطال أناته عليك من قبل عندما أسأت أنت إلى آخرين“.
خرج يونان وجلس شرقي المدينة ليري ماذا يحدث فيها. كما لو كان ينتظر أن يعود الله فيهلك الشعب كله إرضاء لكرامة ؟!!
ولكن الله للمرة الثانية يستخدم خليقته الغير عاقلة من جماد وحيوانات (اليقطينة، الدودة، الرياح، والشمس) ليبكت الإنسان. فجعل يقطينة ترتفع فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه وفى الصباح أرسل دودة فضربت اليقطينة فيبست ثم أرسل ريحا شرقية حارة فضربت الشمس على رأس يونان فذبل. وعندما يتذمر يونان يبكته الله قائلاً: ”أنت شفقت على اليقطينة … أفلا أشفق أنا على… اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم !“ (يون 4: 10-11).
سفر يونان:
سفر يونان يلقى الضوء على:
• طول أناة الله. فهو لم يهلك أهل نينوى بسبب خطيئتهم بل أرسل لهم يونان لينذرهم ولم يهلك يونان عندما هرب من وجهه بل أرسل له حوتاً لينقذه.
• محبة الله للإنسان وفرحه بتوبته. فهو الذى قبل صلاة يونان فى بطن الحوت وفرح بتوبة أهل نينوى بل العجيب إنه التمس لهم العذر – إن جاز التعبير- ”اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم“ (يون 4: 11).
• محبة الله تظهر أحياناً فى عدم تنفيذ صلواتنا وطلباتنا. فيونان طلب الموت ثلاث مرات (عندما طلب من النوتية أن يلقوه فى البحر ثم مرتين قال لله ”يا رب خذ نفسي موتي خير من حياتي“ (يون 4: 3، 8)
• الخليقة الغير العاقلة تبكت الإنسان على تمرده فهى تطيع الله والإنسان يعصى خالقه.
• خطورة الذات والكبرياء على الإنسان فقد تؤدى إلى هلاكه. بل العجيب أن يونان اهتم بكرامته وكيف يقول كلمة ثم لا تتحقق بسبب محبة الله، أما الله لم يفكر بنفس الطريقة فقبل أن لا ينفذ تهديده لأهل نينوى عندما تابوا بل فرح أيضاً بتوبتهم.
يونان النبى في الكتاب المقدس:
بالإضافة إلى السفر المسمى باسمه ذكر يونان أيضاً في الكتاب المقدس في المواضع التالية:
• ”هو (يربعام الثانى) رد تخم إسرائيل من مدخل حماة إلى بحر العربة حسب كلام الرب إله إسرائيل الذي تكلم به عن يد عبده يونان بن أمتاي النبي الذي من جت حافر.“ (2مل 14: 25)
• فأجاب (السيد المسيح) وقال لهم: ”جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان وهوذا أعظم من يونان ههنا!“ (مت 12: 39-41)
• جيل شرير فاسق يلتمس آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي”. ثم تركهم ومضى. (مت 16: 4)
• وفيما كان الجموع مزدحمين ابتدأ يقول: “هذا الجيل شرير. يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضا لهذا الجيل. (لو 11: 29-30)
• رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان وهوذا أعظم من يونان ههنا! (لو 11: 32)
يونان النبى كرمز للسيد المسيح:
يونان يرمز لموت السيد المسيح وقيامته، فكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا أيضاً كان السيد المسيح في القبر ثلاث أيام وثلاث ليال.
نينوى :
”نينوى“ هو اسم الإلهة ”عشتار“ مكتوبا بالرموز المسمارية على شكل سمكة داخل إطار، والأرجح أنه من أصل حورانى . كانت نينوى تقع على بعد نحو نصف الميل إلى الشرق من نهر الدجلة، وتدل الاكتشافات الأثرية على أن الموقع يرجع إلى ما قبل التاريخ (نحو 4500 سنة ق.م.) ويذكر سفر التكوين (10: 11) أن نمرود أو أشور هو الذي بناها. وقد كانت فى أيام يونان مدينة عظيمة تبلغ مساحتها نحو خمسة كيلومترات طولاً، ونحو اثنين ونصف كيلومتر عرضاً محاطة بسور يبلغ طوله نحو ثلاثة عشر كيلومتر وكان يلزم مدة ثلاثة أيام لاختراقها والمرور بكل أحيائها (يون 3: 3). وكانت عاصمة للإمبراطورية الأشورية في أوج عظمتها وهذه الإمبراطورية هى التى أفنت مملكة إسرائيل سنة 722 ق.م. وسبت أهلها إلى آشور.
ترشيش :
ومعناها فى العبرية ”الزبرجد“ ويرى البعض أنها كلمة فينيقية بمعنى ”معمل تكرير“. تذكر دائما بالارتباط بالسفن ”لأنه كان للملك (سليمان) في البحر سفن ترشيش مع سفن حيرام“ (1مل 10: 22 )، مما يدل على أن ترشيش كانت تقع على البحر. كما أن يونان نزل فى سفينة ذاهبة إلى ترشيش (يونان 1: 3، 4: 2) من ميناء يافا ليهرب إلى أرض بعيدة (إش 66: 19). وكانت تلك البلاد غنية بالمعادن مثل الفضة (ارميا 10: 9) والحديد والقصدير والرصاص التي كانت تصدر إلى البلاد الأخرى مثل صور ويافا (حز 27: 12) والأرجح أنها كانت بلادا فى غربى البحر المتوسط .