ممارسة الراهب أنطونيوس: حياة التوحد في قلب الصحراء
ذكر القديس ماراسحق المتوحد أنه توجد رتب في عبادة الله تبارك اسمه وهذه الرتب هى:
الأولى - العلمانيون الأتقياء الأبرار.
الثانية - الرهبان.
الثالثة - المتوحدون داخل الدير ويحفظون سكون الأسابيع ويخرجون إلى المجمع في يوم الأحد
الرابعة - المتوحدون المنفردون بالكلية في الجبال والبراري.
الخامسة - السواح.
يقول القديس مكاريوس الكبير عن الوحدة:
"مجد الوحدة غير محدود وفرحها هو الله.. غذاؤها الصبر وخدمتها الكاملة هي الطهارة، وفرحتها هو الاتضاع، هي التي لا يفسدها سوس ولا يتدنس لها ثوب لأنها ساكنة في الطهارة.. (كتاب حياة الصلاة).
ويقول القديس مار اسحق المتوحد:
"السكون يصلح جدًا لعمل الله ولأجل هذا القديسون قبضوا حواسهم أولا عن العالم وبعد ذلك اهتموا باستعداد القلب لعمل الله الخفي لأنه إن لم يرتبط الجسد أولًا بعمل الفضيلة لا يتفاوض الفكر بفلاحة الفضيلة لأن منه يقتنى ذهنًا مجموعًا وضميرًا هادئًا وأفكارًا غير مضطربة بمناظر العالم".
إن حياة الوحدة حياة عنيفة وشاقة لأنها بعيدة عن مجمع الرهبان - فالمتوحد معرض للمرض والتعب وليس من يعتني به. كما يحتاج إلى التنقل في قلب الصحراء إلى الدير لجلب ما يلزمه من مأكل ومشرب فضلًا عن ذلك فهو عرضة لمواجهة الوحوش المؤذية والحشرات السامة التي لا تخلو منها الصحراء فإذا لم يكن المتوحد جبارًا في محبته لله وإيمانه فكيف يستطيع أن يثبت في مغارته أو يستقر في خلوته إذا رأى ذئبًا يرعبه أو حشرات سامة تهدده.
من أجل هذا قليلون هم الذين يثبتون في الوحدة لأنه لا يستطيع أن يثبت فيها كما قلنا إلا كل جبار قوى في إيمانه لأن الله هو الذي يحيى ويميت وهو الذي به نحيا ونتحرك ونوجد.
وحدث مرة أن كان أبونا أنطونيوس (غبطة البطريرك الحالي) سائرًا في البرية رافعًا نظره إلى السماء في تأملات طويلة ثم وقف وقفة قصيرة في قلب الصحراء، وما أن نظر إلى أسفل حتى وجد حية كبيرة قريبة منه، فابتعد عنها وكان هذا بأمر من الله الذي بيده نفس كل حي.
مرة أخرى كان قد ترك مغارته في الصحراء فترة من الزمن وعاد إليها ليفتح الباب وكانت صعوبة بالغة في فتحه، وما أن أراح يده قليلًا وترك الباب حتى رأى عقربًا كبيرًا بجوار الباب..
إن هذه الأمور تبين لنا أن المتوحد لابد أن يتعرض كثيرًا لمثلها، لذلك قلت أن الرهبان كثيرون أما المتوحدون فقليلون - وعدد المتوحدين أربعة هم:
(1) الراهب عبد المسيح الحبشي قضى أكثر من ثلاثين عامًا في قلب الصحراء متوحدًا، هو أبو المتوحدين ومعلمهم ورائدهم الأكبر، أحب التوحد والتأنس بالوحوش - الوحوش لا تضره بل تأتى فتأنس إليه، كما كانت تزور القديسين القدامى وتطلب هي أيضًا شفاءها من أمراضها، كما قدم إلى القديس مكاريوس الإسكندري الضبع - وإذا نام في الصحراء فأنه يضع دائرة على الرمل ويصلب عند أركانها الأربعة على الرمل - فتأتى الوحوش إلى علامة الصليب وتقف، لأنه غير مأذون لها أن تقترب من أحباء الله المختارين.
حقًا ما قاله الكتاب المقدس: تدوس الحيات والعقارب وتسحق الأسد والتنين، وفي صلاة الشكر يقولون ".. لأنك أنت الذي أعطيتنا السلطان أن ندوس الحيات والعقارب".
(2) المتنيح البابا كيرلس السادس، الرب ينيح نفسه في أحضان آبائنا القديسين إبراهيم وإسحق ويعقوب.
(3) القمص متى المسكين رئيس دير القديس مكاريوس وهو جبار عظيم في الروحيات وفي قداسة السيرة وطهارة الحياة وغزارة العلم والتقوى وتمتاز كتبه الكثيرة بالعمق في كل فروع المعرفة.
(4) بطريركنا المعظم الأنبا شنودة.
مارس حياة التوحد وكان يحمل إلى مغارته مجموعات الكتب المقدسة حيث يعكف على الدراسة إذ يقضى في خلوته أوقاتًا طويلة ولاسيما أوقات الصوم كعادة الآباء القديسين العظام وقد شابه في ذلك القديس أرسانيوس الكبير معلم أولاد الملوك فإنه لما خرج من العالم إلى البرية سمع نداءين:
الأول "فر واهرب من الناس وأنت تحيا".
الثاني "اهرب، احفظ السكون، عش حياة التأمل في السكون لأن هذه هي الأمور التي تحفظ الإنسان من الخطية".
وقد فسر أحد الشيوخ القدماء هذين النداءين فقال: (أنظر كتابنا القديس أرسانيوس ص 42).
أن النداء "فر واهرب من الناس وأنت تحيا" وراءه هذا المعنى وهو أنه إن أردت أن تخلص من الموت الكامن في الخطية وأن تحيا الحياة الكاملة في الصلاح اترك ممتلكاتك وعائلتك ووطنك وارحل إلى البرية، إلى الصحارى والجبال، إلى الرجال القديسين واتبع معهم وصاياي وأنت تحيا حياة النعمة والمقصود من النداء الثاني: "اهرب، الزم السكون، عش حياة التأمل في السكون "أنك لما كنت في العالم مسوقًا بمشاغل الأمور التي تجرى فيه أخرجتك منه وأرسلتك للسكنى مع الرهبان، حتى بعد فترة من السكنى في مجمعهم تستطيع أن تسمو باتباع وصاياي بانطلاق وتأمل في السكون.
والآن إذ قد تدربت التدريب الكافي فيما يتعلق بالنداء الأول تستطيع أن تنأى عن الدير (مجمع الإخوة) وتدخل إلى الوحدة في قلايتك، تمامًا كما انطلقت من العالم ودخلت إلى الدير.
احفظ السكون، إذ قد دخلت إلى الوحدة فلا تعطى فرصة للزائرين أن يأتوا إليك وبذلك تجنى ثمار السكون والتأمل، كما انه بالنظر والسمع والحديث مع الزائرين الذين يأتون إليك تطيش الأفكار فيك فتنقلك بعيدًا أو تشتت تأملاتك وسكوتك..
ولقد كتبنا الكثير عن آباء الكنيسة القديسين من القدماء الذين تركوا العالم وصاروا أعمدة في الكنيسة الواحدة الجامعة، وخُيِّل للبعض أن الكنيسة بدأت تقفر من أمثالهم من الحديثين فتطغى السلبية، أو أنه قد أصابها ما يشبه العقم فإذا هي عاقر لا تنجب من لهم القدرة على خلق المواهب وبعث النشاط وتدعيم الشخصية الإيجابية في الأفراد والجماعات ورعاية الشعب الرعاية المثلى.
نعم كان يخيل للبعض أن هذا الزمان شرير، لن نرى فيه من له هذه القدرة الخارقة، أو يمتاز بالعبادة الحسنة الصادقة.
لقد جنى الأنبا شنودة ثمار توحده النادر البعيد المثال فاكتسب القدرات التي جعلته أجدر ما يكون على القيام بما يتطلبه مركزه الخطير من مهام جسام، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.وما أن تبوأ قداسته كرسي مار مرقس حتى أخذ يحيى فينا الآمال الكبار ويجدد العهود ويحطم القيود، فهو على مستوى عالمي له القسط الأكبر في تحرير التفكير الديني وتنقية القلوب من الشوائب. إن نشاطه الروحي الغزير ظاهر لدى كل إنسان فيكفى أن يُرى قداسته في اجتماع ما فتدب فيه الحياة والنشاط. وأنك لترى بعينيك كيف فعل بشيطان التهاون والتواني في اجتماعاته المتعددة وفيها كل يوم ألوان شتى من محاسنه، فيفر من قدام وجهه صريعًا، وهكذا كل من عمل وعلم يدعى عظيمًا في ملكوت السموات وإن اختلفت النجوم في سماء المعرفة والأعمال الصالحة المرضية.
ولعل أصدق ما نستطيع أن نصف به أعماله قبل توليه الكرسي البطريركي أن نقول أنها أعمال مجيدة لا يقدر أن يأتيها إلا مصلح من أعلم الممتازين في نقاء فكره وصفاء ذهنه يكون قادرًا على أن يستجمع قواه في خلوته بعيدًا عن الانعزالية والأنانية نشيطًا لأعلى درجات النشاط، وفي الوقت نفسه عابدًا حسن العبادة، كثير الشغف بالمعرفة الروحية لنفع الآخرين بدون تمييز، وتخليص النفوس من مخالب الشيطان لأن المحبة المسيحية لا تعرف حدودًا بل انطلاقًا، ومن يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل فهذه خطية.
قد توفرت كل هذه الصفات في قداسة الأنبا شنودة ومصداق ذلك ما نراه جميعًا من اطلاعه الواسع على الكتب المقدسة وانطباق ما يدعو إليه على أعماله التي تثمر كل يوم ثمرًا عجيبًا هائلًا كروضة تأنى ثمارها. إنه بعلمه وعمله وجهاده منار مرفوع أو سراج موضوع يستضيء به ألوف الناس في كل وقت، بل هو صاحب مدرسة روحية نازلة من السماء لا تعرفها جميع أنحاء الكرازة المرقسية فحسب بل جميع أهل العلم والأدب والدين في العالم لأن مواهبه الفريدة وأنشطته المتعددة تظهر أنوارًا قوية من النعمة والبر.
وهو أيضًا سفير المسيح الحامل لإنجيله، المفسر لتعاليمه بما لا يدعو مجالًا لباطل يعتريها، أو غموض في استجلاء معانيها مع القدرة على إثارة الحوافز المعنوية في نفوس سامعيه فتدفعهم إلى اتباع الوصايا ومداومة العبادة وتنقية الفكر والأعمال الحسنة.
لقد حان الوقت أن يقطف المستقيمون من هذا الثمر فلم يقض القديسون السنين الطوال في جوف الصحراء عبثًا ولم يفعلوا ذلك حتى يخلصوا أنفسهم وحدها بل ليضيء الله للعالم بواسطتهم متى شاء وأن العالم ليقصر عن أن يذكرهم أو يشيد بأعمالهم. ففي كل موعظة أو محاضرة جديد مبتكر وعلم غزير مع الإلمام التام بالتاريخ المقدس واستخلاص المعاني الفريدة التي يستفيد منها الناس في الدين والدنيا.
ألقى محاضرة في نقابة الصحفيين لما كان أسقفًا (في سنة 1966 قيد عضوًا بنقابة الصحفيين بوصفه رئيسًا لتحرير مجلة مدارس الأحد ومجلة الكرازة.) حضرها أكثر من 7000 نفس من كبار الفكر وغيرهم، طبعت ونفذت النسخ المطبوعة بعد ظهورها بساعات، وفي محاضرة حديثة للأنبا شنودة بنقابة الصحفيين بتاريخ 5 ديسمبر 1971 حضرها حوالي 20 ألف مواطن وجمعت الكثيرين من رجال الفكر وأرباب القلم وذوى المناصب في الدولة، وهكذا يتمجد الله - هكذا فليضيء نوركم قدام الناس فيروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات.
لابد أن يأتي يوم تعلن فيه في هذا الدهر أو في اليوم الخير أعمال القديسين.
نعم من مبلغ إلينا تفاصيل ما تمخضت به السنون الطوال التي قضاها أنبا انطونيوس أبو الرهبان أو القديس أرسانيوس الكبير معلم أولاد الملوك أو غيرهما؟
تبارك الله، أينما حل الأنبا شنودة بطريركنا المعظم حل المشكلات وشرع يقيل الشباب من العثرات ويجنب المسترشدين وجميع السائلين ما قد يتعرضون له من أزمات ويبين أفضل الطرق فلا يتردون في مهاوي الزلل أو الانزلاق..
وهكذا بما يبذله من عصارة ذهنه وروحه في مواعظه ومؤلفاته، وكتاباته، وندواته ومناقشاته، ودروسه واجتماعاته، وبما يطالعنا به كل يوم من خلال إخلاصه وتضحياته، وبصلاته وبركاته ربحت الوزنات أكبر الأرباح وعكست شخصيته الصافية تلك الأنوار الساطعة الكشافة فارتفعت القيم الروحية وتمجد الله في السموات.
وفي مؤتمر جينيف الذي جمع كبار لاهوتي العالم للتقريب بين المذاهب المسيحية أمكنه أن يناقش ويحدد دون أن يسبب البعض الزلل أو يشعل نار المجادلة وإذ المؤتمر يسفر بعد الأبحاث العميقة بين فطاحل العالم على نص يصوغه أسقف التعليم المصري غبطة البطريرك الحالي لملايين المسيحيين في شتى أنحاء العالم ليعرض على جميع الرئاسات الدينية لتقول فيه كلمتها.