رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بداياته في الرهبنة تخيلوا موسى الأسود -رعب المنطقة كما كان يُطلق عليه- ممسكًا الآن الصليب في يده عوض السيف كسلاح لا يفارقه.. وجالسًا في مسكنة في إحدى زوايا قلايته عوض وقفته فوق القمم شاهرًا سلاحه.. وبدلًا من الضرب بكفيه للانتقام، تمسك هاتان اليدان الدُف لتسبح لحنًا من ألحان الكنيسة.. كيف رآه رهبان الدير في أيامه الأولى؟.. وكيف نظر هو إلى الحياة الرهبانية؟.. وكيف أمكن ترويض هذه الكتلة من الشرور والجفاء إلى ذلك الإنسان الوديع المضياف؟!. نال موسى الصبغة المقدسة وانتقل من مملكة الشيطان الذي كان يأسره لسنوات عديدة إلى مملكة المسيح الذي سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا.. ولم يكتفِ موسى بصيرورته مسيحيًا بل قرر أن يصير راهبًا أيضًا، وهكذا تحولت البقع التي كانت مأوى للصوص وقطاع الطرق والوحوش (بشرية أم حيوانية) إلى أقدس أماكن في العالم. وبسبب موسى ومن على طقسه من الآباء تحولت شيهيت إلى مزار عالمي يأتي في مرتبته بعد الأماكن المقدسة في أورشليم(1). طلب موسى من القديس إيسيذورس في خشوع أن يجعله راهبًا، وأراد القديس أن يختبره فقال له: [إننا في ضيقات كثيرة من جهة محاربات الشياطين ولا تستطيع أن تكون معنا، لاسيما من جهة سد احتياجاتنا، إذ ليس لنا راحة على كافة المستويات، والأفضل لك يا ابني أن تذهب إلى مصر (ويقصد المدن والأرياف) لتحيا هناك](2). بل ويرد في سيرته أنه من شدة حرارة توبته وندمه جعل الشيطان الذي كان يرافقه منذ حداثته يعترف بالمسيح مقهورًا وعلنًا (كما قيل). فإن القديس إيسيذورس عندما ألبسه إسكيم الرهبنة أوصاه قائلًا [أمكث يا ابني في هذه البرية ولا تغادرها لأنه يوم أن تخرج منها تعود إليك كل الشرور، لذلك أقم زمانك كله فيها وأنا أؤمن أن الله سيصنع معك رحمة ونعمة وسيسحق الشيطان تحت قدميك]. وقيل أن الرهبان كانوا يتعجبون من منظره في البداية، فقد كان خبر توبته في حد ذاته حدثًا يشبه الزلزال فكم بالأحرى رهبنته. في هذا يقول يوحنا الدرجي عن التوبة أنها تأتى بالإنسان من [الماخور إلى البرية!]. ولكنهم سريعًا ما وجدوه إنسانًا لطيفًا حلو العشرة مثالًا في الجهاد والالتزام. وقد تساءل هو نفسه من قبل أن يصبح مثلًا في النسك -في السنوات التي تلت ذلك- كيف سيمكنهم في الدير توفير حاجته من الطعام؟ (فقد كان طعامه ما يعادل خروفًا في اليوم) غير أن الآباء الحاذقين في التدبير الروحي، اتفقوا معًا على اختيار فرع شجرة كبير يزنون له مقداره طعامًا كل يوم، وكان الفرع بالطبع يخف وزنه تدريجيًا وببطء بسبب تبخر الماء منه، حتى أصبح وزنه خلال عدة أشهر خفيفًا جدًا بما يتناسب مع وجبة طعام الراهب. أمّا عن توفير حاجته من الماء، فإنه لمّا عزم على السكنى عند منطقة "بترا"(3) حسبما أشار عليه القديس مكاريوس - شعر بمشقة المسافة، وتساءل فيما بينه وبين نفسه كيف سيحصل على احتياجه من الماء في ذلك المكان الموحش، فسمع صوتًا يقول له: "ادخل ولا تهتم بشيء" فتشجع وأقام هناك. وفي ذات مرة زاره بعض الآباء وأراد أن يطبخ لهم قليل من العدس ولكن الماء الذي كان لديه فرغ، ولاحظ الآباء أنه يخرج ويدخل قلقًا، وإذا بسحابة قد غطت المكان وما لبث المطر أن انهمر فملأ أوعيته، لقد كان يصلي قائلًا: "لقد أتيت بي يا الله إلى هذا الموضع، وهوذا ليس لدي الماء اللازم لعبيدك" وهكذا كان الله يهتم به. ولاشك أنه واجه حروبًا عنيفة في بداية حياته، فكيف يمكنه أن يحبس ذاته في قلاية ضيقة رطبة وهو الذي تعود ألا يصطدم بصره في الصحراء بأي شيء قريب. وكيف كان يطيق الجلوس فيها لساعات هادئًا متأمّلًا صامتًا، مثلما عاش يوحنا المعمدان -وهو رجل الجبال- في زنزانة ضيقة أسفل الأرض في قلعة ماكيروس بالجليل.. مما يجدر ذكره هنا أن الراهب ما لم تكن له عملية بناء داخلية مستمرة، فإنه لا يستطيع الاستمرار في الحياة الرهبانية، وبينما يفنى الخارج فإن الداخل يتجدد يومًا فيومًا. كما واجه القديس موسى حربًا شعواء في سنواته الرهبانية الأولى من جهة الأفكار والتي كانت تمر في مخيلته مثل شريط يعرض له جرائمه وقبائحه وهو واقف يصلي، فيصاب بالانزعاج وصغر النفس، وعند ذلك كان يطرح نفسه على الأرض ويبكي قدام الله قائلًا قولته الشهيرة: "يا رب أنت تعرف أني أريد أن أخلص ولكن الأفكار لا تتركني". وقليلًا قليلًا هدأت عنه هذه الحروب. مثل القديس مرقس الترمقي (من جبل برقة في ليبيا) والذي عاش تسعون عامًا لم يرَ فيها وجه إنسان، قال أنه حُورب في الثلاثين الأولى منها بحروب الشهوة دون هوادة إلى أن تحنن عليه الرب. وفيما بعد وعندما سأله أخ: "ما الذي يُعين الراهب في شدائده التي يقابلها في حياته"؟ فأجابه: ”مكتوبٌ: "إلهنا ملجأنا وقوتنا، وُجِد في الشدائد قويًا جدًا" (مز46: 1) قيل أن أخ سأل أنبا موسى قائلًا: ”ماذا يفعل الإنسان في التجربة التي تأتي عليه والفكر الذي من العدو“؟ فأجابه الشيخ: ”عليه أن يبكي أمام نعمة الله لكي يُعينه، وبسرعة سيجد راحةً إذا قدّم توسلاته بمعرفةٍ، لأنه مكتوب: "الرب معينٌ لي فلا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان"؟! (مز118: 6؛ عب13: 6). ولأنه اتصف بالعجرفة والكبرياء في حياته السابقة، كان لزامًا على الآباء أن يدربوه قليلًا قليلًا على الاحتمال وقبول الإهانة. لاسيما وأن الشياطين يمكن أن تتلاهى به متى كان مهزومًا من كبريائه. وقد اتبعوا معه بعض التداريب ليكتسب فضيلة الاحتمال، ففي البداية حدث أن انعقد مجمع للآباء في الإسقيط لمناقشة بعض الأمور (ربما المشكلة الأوريجانية) فلما دخل الأنبا موسى مع الداخلين وجلس بينهم حتى بادره أحدهم بالقول: [لماذا يأتي هذا النوبي هكذا ويجلس في وسطنا؟، ألعلّنا في احتياج إلى لصوص؟] فلما سمع ذلك الكلام سكت، وبعدما انتهى المجمع سأله بعضهم إن كان قد غضب أم لا! فقال "الحق أنني اضطربت ولكنى لم أتكلم شيئًا". ولمّا صار مرشدًا للرهبان كان يقول عن المديح والمذمة: + تمجيد الناس يولد للإنسان البذخ وتعظم الفكر. + حب الإطراء من شأنه أن يطرد المعرفة. + على مثال الصدأ الذي يأكل الحديد كذلك يكون مديح الناس الذي يفسد القلب إذا مال إليه. وكما يلتف اللبلوب (نبات اللبلاب) على الكرم فيفسد ثمره كذلك السبح الباطل يفسد نمو الراهب إذا كثر حوله. سأل أخوة شيخًا: ”عندما ازدرى بعض الإخوة بأنبا موسى الأسود سألوه قائلين: ’أَما تسجّس قلبك يا أبانا‘؟ فأجابهم: ’لقد تسجّس ولكنني لم أتكلم‘، فما معنى ذلك“؟ قال الشيخ: ”إنّ كمال الرهبان يتكون من جزءين: عدم التسجُّس بحواس الجسد، وعدم التسجُّس بحواس النفس. عدم التسجُّس بالجسد هو عندما يُشتَم الإنسان ويكبح جماح نفسه لأجل الله ولا يتكلم حتى ولو اضطرب، أما عدم التسجُّس بالنفس فيكون عندما تُساء معاملة الإنسان ويُشتَم ومع ذلك لا يغضب في قلبه. وذلك مثل القديس يوحنا القصير، لأنه حدث مرةً عندما كان الإخوة جالسين معه مرَّ عليه رجلٌ وعيَّره ولكنه لم يغضب ولا تغيَّر منظره، فسأله الإخوة: ’أَلم تضطرب في داخل قلبك يا أبانا عندما أُهِنتَ بهذه الطريقة‘؟ فأجابهم: ’لم أضطرب في داخلي، فأنا هادئ في داخلي كما ترونني من الخارج تمامًا‘. وهذا هو عدم التسجُّس الكامل“. ”وأنبا موسى لم يكن قد بلغ حتى هذا الوقت إلى هذه الدرجة من الكمال، وقد اعترف بأنه رغم عدم اضطرابه من الخارج إلاّ أنه كان هناك نزاعٌ في قلبه واحتفظ بصمته ولم يغضب من الخارج، وحتى هذه كانت فضيلة روحية، ولو كان لم يغضب داخليًا أو خارجيًا لكان ذلك أكثر كمالًا“. ”والقديس نيلوس السينائي عمل مقارنةً بين هذين المقدارين من الفضيلة في حالتي المباركين موسى النبي وأخيه هارون: حيث إنّ طقس تغطية الصدر والقلب بالصُدرة الكهنوتية الذي كان يُجريه هارون عند دخوله قدس الأقداس كان يمثل حالة الإنسان الذي رغم غضبه في قلبه فهو يُقمع هذا الغضب بالصراع والصلاة، أما حالة الإنسان الذي ليس في قلبه أي غضب إطلاقًا، لأنه بلغ إلى الكمال بنصرته على الأوجاع والشياطين، فيقارنها القديس نيلوس بما قيل عن موسى النبي، وذلك بقوله: ’قدّم موسى النبي الصدر كذبيحة لأن النفس تسكن في القلب والقلب في الصدر‘“. ”وسليمان الحكيم يقول: "الحكماء يصرفون الغضب" (أمثال 29: 8)، ويقول الكتاب بخصوص هارون: »اصنع ثيابًا مقدسة لهارون أخيك للمجد والبهاء، وتكلِّم جميع حكماء القلوب الذين ملأتُهم روح حكمةٍ أن يصنعوا ثياب هارون لتقديسه ليكهن لي .. صُدرة ورداء و.. إلخ،وتجعل في صُدرة القضاء الأوريم والتُميم (أي الأنوار والكمالات) لتكون على قلب هارون عند دخوله أمام الرب« (خروج 28: 2-4 و30). وهذا يعلِّمنا نحن الرهبان أنه من اللائق لنا أن نغطِّي على غضب القلب بأفكارٍ طيبةٍ متضعةٍ هادئةٍ، وأن لا نسمح للغضب أن يصعد إلى الحنجرة حيث يفضح اللسان نتانة هذا الغضب“. ”كما أن الراهب عليه أن يستأصل الغضب من قلبه، بل ويطلب المغفرة لمن يُغضبه كما فعل الطوباوي موسى النبي عندما احتقرته مريم أخته“(4). ولما التزم موسى بالإرشاد الروحي بدأ يرسخ في الحياة النسكية، وقد عاونه في ذلك كثيرًا، كل من القديسين مكاريوس الكبير وإيسيذورس القس، وجدير بالملاحظة هنا أنه على أي شاب يبحث عن حياة رهبانية حقيقية أن يعطي الأولوية في اختيار المكان للمرشد الروحي والهدوء (أي يطمئن إلى وجود هذين العاملين في الموضع الذي سيترهب فيه). هذا ويرد في مخطوط تفسير الباراديسوس (أي بستان الرهبان) ما يأتي: سأل أخوة شيخًا: لماذا ُيقاتل المتوحدون أولًا بالأفكار من الشياطين ثم بالتخويف والضرب كما جرى لذلك الرجل الذي حبس نفسه في القبر الذي أخبره عنه يوحنا النبي (الأسيوطى) أن الشياطين ضربوه ضربًا شديدًا. قال الشيخ: هذا هو طقس تدبير المتوحدين أنهم يتعبون أولًا في الأعمال الجسمانية ثم بحرب الأفكار ثم بالنظر الحسي والخوف والضرب، وحينئذ يصلون إلى نقاوة القلب وقوم آخرون يقاتلونهم الشياطين في أول خروجهم من العالم بالخوف والضرب وهذا يكون للذين تقلبوا في العالم في شرور كثيرة إذ يأتون من الابتداء بحرارة ونشاط في أعمال التوبة، ليعدموهم قوتهم الأولى، كما جرى لأنبا موسى الأسود وكما جرى لهذا الرجل الذي كان في القبور، لأنه لم يكن عرف شيئًا من حرب الأفكار إذ لم يكن ساكن أخوة في مجمع ولا عند إنسان يهديه، فمن أجل ذلك تجاسرت عليه الشياطين وضربوه، وتركه الله في أيديهم لسببين أحدهما لينادى بقوة الله والآخر لتعرف قوة التوبة وندامة النفس كم هي كريمة عند الله، إذ بصبره على عقوبة ثلاثة أيام ’رفع إلى الكمال وهزم شياطين كثيرة. اتضاعه ومحبته للتعلم: تنسكب النعمة والمواهب من أعلى إلى أسفل على المتضعين، وكل إنسان له اشتياق أن يخلص يكون بمثابة "نحلة" نشيطة تجوب الحدائق وتتنقل بين البساتين وتحط على مختلف أنواع الورود والزهور لتجمع من هنا ومن هناك ما تحتاجه، ومثلما يكون هناك شخص عبارة عن تجميع لأخطاء وضعفات الآخرين، فإنه هناك في المقابل من هو تجميع لفضائل الآخرين. لقد كان هذا هو منهج العديد من آباء البرية ومنهم القديس موسى الأسود. ويرد في سيرة القديس زكريا بن قاريون، أن الأنبا موسى ذهب ليستقي ماءً من البئر فوجده هناك، فوجد زكريا يصليّ وروح الرب مستقرًا عليه مثل حمامة، فقال له يا أبتاه قل لي ماذا أصنع لأخلص؟ ولمّا سمع زكريا ذلك انطرح على وجهه إلى الأرض عند رجليه قائلًا: يا أبي لا تسألني أنا، فأجاب الأنبا موسى: صدقني يا ابني أني رأيت روح الله حالًا عليك ولذلك وجدت نفسي مسوقًا من نعمة الله لكي أسألك، فتناول زكريا قلنصوته ووضعها عند رجليه وداسها، ثم رفعها ووضعها على رأسه وقال: إن لم يصر الراهب هكذا منسحقًا فلن يخلص. وعند نياحة زكريا قال له أنبا موسى أي الفضائل أعظم يا ابني؟ فأجاب: على ما أراه يا أبتاه ليس شيء أفضل من السكوت، فقال له حقًا يا ابني بالصواب حكمت. _____ الحواشي والمراجع: (1) التقليد الرهباني الحبشي يقضي بأن يزور الراهب في أخريات حياته برية شيهيت قبل أن ينطلق إلى القدس. (2) مخطوطة المتحف القبطي لسيرة القديس موسى. (3) بترا Petra اسم لموضعين، أولهما: صخرة شيهيت القديمة، وتبعد قليلًا عن دير البرموس الآن، وبالقرب منها كانت توجد بحيرات "البهلس" وهي المنطقة المسماة "كالاموس Kalamus" حيث ينمو نبات الغاب هناك بكثرة، والذي يستخدم كأقلام للكتابة. وثانيهما: صخرة مقاريوس وهي مكان دير أنبا مقار الحالي. وهكذا أطلقت لفظة بترا على منطقة صخرية بالقرب من مستنقع ماء يكثر فيه الغاب. (4) عن مخطوط سيرة القديس. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
سُمي موسى بالأسود لسواد بشرته |
بداياته في الرهبنة |
القديس موسى بالأسود وتدبيره الروحي |
القديس موسى بالأسود وحروب الشياطين |
لقطات من حياه موسى بالأسود الأولى |