رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 88 - تفسير سفر المزامير ليلة عصيبةيحسب البعض هذا المزمور بأنه أكثر المزامير حزنًا، فقد بحث المرتل عن أمَّر الألفاظ والتعبيرات، ليصف ما بلغ إليه من مرارة في مأزقٍ، يبدو كأن لا رجاء للخلاص منه[1]. ويرى البعض أنه يعبر عما احتمله السيد المسيح حين قبل بإرادته أن يحمل خطايانا، فثارت القوى المحيطة به عليه، وتعبت نفسه من المصائب، ونزل إلى الهاوية كمن بلا قوة. وحسبه الصالبون أن رجسة موضع غضب الله الخ. المزمور الوحيد الذي لم ينته بالفرح والتسبيح أو الشكر لله. وإن كان القديس جيروم يرى في المزمور تسبحة تقدم من أبناء القيامة بعد أن تلمسوا ما صنعه السيد المسيح حين نزلت نفسه إلى الجحيم، وحملت المسبيين لتدخل بهم إلى الفردوس. 1. استغاثة وطلب عون إلهي 1-2. 2. مرثاة لبارٍ متألم 3-9. 3. تساؤلات تصدر ممن على حافة القبر 10-12. 4. تساؤلات عن سبب الضيق 13-17. من وحي المزمور 88 وضعت كنيسة إنجلترا هذا المزمور ليتلى بين مزامير الجمعة العظيمة. العنوان تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِبَنِي قُورَحَ. لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْعُودِ لِلْغِنَاءِ. قَصِيدَةٌ لِهَيْمَانَ الأَزْرَاحِيِّ يرى القديس جيروم أنه جاء في عنوان هذا المزمور الآتي: "تسبحة، مزمور لبني قورح، للنهاية. لـ Mahalath في تجاوب معًا لفهم هيمان الأزراحي". يلاحظ هنا: 1. "بنو قورح" كما رأينا في المزمور 85 تشير إلى أبناء القيامة حيث أن قورح تعني جلجثة Calvary. 2. للنهاية: فإن هذا المزمور يُسبح به ليس في البداية حيث الآباء البطاركة، ولا في المنتصف حيث الأنبياء، وإنما في النهاية حيث الرسل، وإلينا نحن الذين وُعد لنا فرح التسبحة. 3. كلمة mahalath العبريةمعناها "خورس"، وهي تستخدم حيث يُوجد كثيرون يسبحون معًا في انسجام كما بصوتٍ واحد. 4. أما التجاوب معًا in antiphonal response فيشير إلى كل الجموع التي تتجاوب معًا في التسبيح لله. إنه سرّ الكنيسة التي تجتمع معًا من أمم كثيرة وأماكن متفرقة وأقاليم مختلفة وعادات متباينة، جميعها تكون خورسَ واحدًا يمجد الله. التجاوب بترديد مرد المزمور لا يكون بالكلام والتسبيح بالفم فقط، وإنما بالاقتداء بالمسيح يسوع في آلامه من أجل الغير. وكأن غاية هذا المزمور أن نتشبه بمحبة السيد المسيح العملية والباذلة من أجل إخوتنا. 5. هيمان فهو أحد رؤساء الفرق الموسيقية مثل آساف وغيره. أما كلمة "الأزراحي" فهي مشتقة من "عزرا" والتي تعني معين. فأزراحي معناها "عون الله"، فإن هذا الخورس الكنسي من كل الأمم يتحقق خلال عون الله. في اختصار يرى القديس جيروم أن العنوان يشير إلى أن هذا المزمور خاص بأبناء القيامة الذين بنعمة الله وعونه، يكونون خورسَ متناغمًا معًا من كل العالم، يسبحون الله في ملء الزمان حيث الكرازة بالإنجيل، الكل يتجاوبون معًا بروحٍ واحدةٍ بفرح الروح الموعود به. * هنا نبوة عن آلام ربنا. يقول الرسول بطرس: فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا، تاركًا لنا مثالًا لكي تتبعوا خطواته" (1 بط 2: 21). هذا هو معنى "التجاوب بالمرد". أيضًا يقول الرسول يوحنا: "ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة" (1 يو 3: 16). هذا أيضًا معنى "التجاوب بالمرد"... من يسلم جسده ليحترق وليس فيه محبة، لا يكون قد تجاوب مع الخورس بالمرد، فلا ينتفع شيئًا (1 كو 13: 3)... تقدم المسيح أولًا وتبعه خورس الشهداء حتى النهاية لينالوا أكليل في السماء[2]. القديس أغسطينوس 1. استغاثة وطلب عون إلهي يَا رَبُّ إِلَهَ خَلاَصِي، بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ صَرَخْتُ أَمَامَكَ [1]. هذه البداية هي الشعاع الوحيد المبهج وسط الظلمة القاتمة التي سادت على المرتل في هذا المزمور، أو النجم الوحيد الذي اخترق ليلة داكنة الظلام. بعدها قدم المرتل وصفًا محزنًا للغاية، وصرخات نحو الرب، وكأنه ليس من راحة. قبل أن يبدأ شكواه إلى الرب إله خلاصه، معلنًا أنه وإن بلغت الضيقة إلى درجة خطيرة، كان يترجى الرب القادر وحده أن يخلصه. "أمامك": تحت شدة الضيقة ومرارتها يصرخ الإنسان، لكن الحاجة هي أن يصرخ أمام الرب كإله خلاصه. اعتاد الكثيرون أن يملأوا أذان البشر بشكواهم مما حلّ بهم، وآخرون يملأون الهواء بالشكوى بلا جدوى، وآخرون يكبتون صرخاتهم في داخلهم، مما قد يسبب لهم الدخول في حالة إحباط! ليتنا ننسكب أمام الله، ونقدم له صرخات قلوبنا، فإنه وحده قادر أن يهبنا الخلاص. * "يا رب إله خلاصي" يُنشد هذا المزمور بالحقيقة باسم المخلص الذي بتدبيره أخذ الناسوت. فما جاء فيه من تعبيرات متواضعة، إنما ينطق بها بناسوته من أجل خلاص البشرية. "بالنهار أصرخ، وبالليل أطالب أمامك" (راجع مز 88: 1). فإنني وإن كنت أصرخ بالليل، إلا أن الشعور بالثبات هو نور لي[3]. القديس جيروم * لنسمع الآن صوت المسيح يسبح أمامنا في النبوة، حيث يتجاوب معه الخورس الخاص به بالإقتداء به أو بالشكر[4]. القديس أغسطينوس فَلْتَأْتِ قُدَّامَكَ صَلاَتِي. أَمِلْ أُذْنَكَ إِلَى صُرَاخِي [2]. إذ تمرر قلبه من الضيق، صار صوته خافتًا. لذلك يطلب من إله خلاصه أن يميل أذنه ليسمع صرخات القلب الخفية. يود المرتل في حزنه أن يشعر بأنه أمام وجه الرب، وفي حضرته. كأن الله قد ترك الكل ليصغي إليه. ربما شعر المرتل أن اللغة لم تعد تسعفه في التعبير عما حلّ به، لهذا لم يُعد حديثًا منمقًا للشكوى، إنما يود من الله أن يسمع لغة الحزن التي تسيطر على أعماقه. * "فلتاتِ قدامك صلاتي". "يا أبتاه، في يديك، أستودع روحي" (لو 23: 46)، لتبلغ صلاتي أمامك. "أمل أذنك إلى صراخي للمعونة"... إنه صوت الابن يتحدث باسمنا للآب. "أمل أذنك". إنها علامة على الضعف الشديد، إن كانت عندما تريد أن تسمع يلزمك أن تميل أذنك لتصغي بأكثر قربٍ لما يُقال لك. فقط فكروا كيف أنه أمر غير لائق أن يقال بأن الآب لا يقدر أن يسمع الابن ما لم يمل برأسه. يتحدث الكتاب المقدس بعبارات خاصة بضعفنا البشري حتى يمكننا أن نفهم بأكثر سهولة[5]. القديس جيروم * حتى ربنا صلى، لا في شكل الله، بل في شكل العبد، فإنه في هذا تألم. لقد صلى في وقت الفرج، أي بالنهار، وفي وقت الضيق أي بالليل. دخول الصلاة إلى حضرة الله يعني قبولها. وميل أذنه هو حنوه وإصغاؤه إليها، لأن الله ليس له أعضاء جسدية مثلنا[6]. القديس أغسطينوس * هكذا يسوع أيضًا في الحقيقة، حينما تعب من رحلته جلس إلى بئر (يو 6:4). تعب لأنه لم يجد شعب الله الذي كان يبحث عنه، لقد خرجوا من أمام وجه الرب (تك 16:4). الإنسان الذي يتبع الخطية يبتعد عن المسيح، فالخاطئ يخرج، أما البار فيدخل. لقد اختبأ آدم حقًا كخاطئ" (تك 16:4). لكن البار يقول: "فلتأتِ قدامك صلاتي" (مز 2:88)[7]. القديس أمبروسيوس 2. مرثاة لبارٍ متألم لأَنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ الْمَصَائِبِ نَفْسِي، وَحَيَاتِي إِلَى الْهَاوِيَةِ دَنَتْ [3]. يشكو المرتل من أن المصائب والمتاعب والأحزان قد تجمعت معًا عليه، فلم يعد قادرًا أن يقدم شكوى معينة. لقد امتلأ قلبه بالأحزان ولم يعد به مكان لضيقة أخرى. صارت حياته أشبه بمن دنى إلى الهاوية، يحسب نفسه وسط الأموات. يرى القديس جيروم أن المرتل يصف ما قد حمله السيد المسيح على الصليب، إذ حمل خطايا العالم كله، ونزل إلى الهاوية ليحرر الأسرى. لقد دنا منها، لكن لم يكن ممكنًا للهاوية أن تحجزه فيها، لأنه بلا خطية. * لماذا لا نقول بأن نفس المسيح امتلأت بمصائب البشرية، وإن كان ليس بسبب خطاياها؟ يقول عنه نبي آخر، إنه حمل أحزاننا (إش 53: 4). ويقول الإنجيلي: "ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب" (مت 26: 37). وقال ربنا لهم عن نفسه: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت 26: 38). سبق فرأى النبي واضع هذا المزمور ما سيحدث، فتكلم عنه، قائلًا: "قد شبعت من المصائب نفسي، وحياتي إلى الهاوية دنت" [3]... والجسد (الكنيسة) مثل خورس يتبع قائده، يلزم أن يتعلم من رأسه أن تلك الأحزان ليست بسبب خطايا، إنما برهان على الضعف البشري. نسمع عن الرسول بولس كعضوٍ رئيسي في هذا الجسد يعترف أن نفسه مملوءة بمثل هذه المصائب، إذ يقول إنه يشعر: "لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع... لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد، الذين هم إسرائيليون" (رو 9: 2-4)[8]. القديس أغسطينوس * "لأنه قد شبعت نفسي من المصائب". إنني أحمل خطايا الكثيرين، إذ أتألم من أجل الكل. نفسي تفيض بالأحزان؛ إنني أحمل أثقالًا شريرة لألقي بها على الصليب. "وحياتي إلى الهاوية دنت" حسنًا قال: "دنت"، فإنه لم يُحتجز في الهاوية، وإنما دنا منها لأجلنا. بالحقيقة يقول باسم الرب في مزمور آخر: "لن تترك نفسي في الهاوية، لن تدع تقيك يرى فسادًا" (مز 16: 10)[9]. القديس جيروم حُسِبْتُ مِثْلَ الْمُنْحَدِرِينَ إِلَى الْجُبِّ. صِرْتُ كَرَجُلٍ لاَ قُوَّةَ لَهُ [4]. في وسط ضيقه عاد المرتل بذاكرته حين ألقى أولاد يعقوب يوسف أخيهم في الجب، وصار كإنسانٍ لا حول له ولا قوة. بسببنا نزل السيد المسيح إلى جب الهاوية، وظن الصالبون أنه إنسان بلا قوة، ولم يدركوا أنه بنزوله حطم متاريس الهاوية، وخلص الذين ماتوا على الرجاء وحُبسوا في الجحيم زمانًا هذه مدته! * أما عن البئر الجافة (تك 24:37)، فما العجيب في أن بئر اليهود لم يكن بها ماء؟ لأنهم تركوا ينبوعَ الماءِ الحي، وحفروا لأنفسهم آبارًا مشققة (لا تضبط ماءً) (إر 13:2). ولتعرفوا أن هذا السرّ حقيقي، يقول الرب ذاته عن نفسه: "وضعوني في الجب (البئر) إلي أسفل، في ظلماتٍ في ظلِ الموت" (مز6:87- سبعينية)[10]. القديس أمبروسيوس * "أُحصيت مع المنحدرين إلى الجب". ظن قاتلي أنني انحدرت مع بقية البشرية في سجن العالم السفلي، لم يعرفوا أنني نزلت لكي أسحب معي الذين كانوا محتجزين هناك. "صرت كرجلٍ لا قوة له؛ إنني حُر بين الأموات". البشر الآخرون احتجزوا في الهاوية بقيود الخطية. فإنه ليس إنسان بلا خطية ولو كانت حياته يومًا واحدًا (راجع أي 14: 4-5 LXX). نحن جميعًا مربوطون في الخطية، لذلك من ينحدر في العالم السفلي يُمسك هناك بناموس العالم السفلي. "بحبال خطيتك يُمسك" (أم 5: 22). بالطبيعة أنا حر، وإنما صرت مثل خاطي لحساب خطايا البشر[11]. القديس جيروم بَيْنَ الأَمْوَاتِ فِرَاشِي، مِثْلُ الْقَتْلَى الْمُضْطَجِعِينَ فِي الْقَبْرِ، الَّذِينَ لاَ تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ، وَهُمْ مِنْ يَدِكَ انْقَطَعُوا [5]. جاء النص في KJ: "Free among the dead". وجاء في الترجمة السبعينية: "صرت حرًا بين الأموات، مثل قتلى مطروحين راقدين في القبور..." وقد أفاض الآباء في الحديث عن السيد المسيح الذي بكامل حريته قبل الموت من أجلنا، وصار كقتيلٍ مطروحٍ في القبر. * "مثل القتلى المضطجعين في القبر". حسنًا قال: "مثل القتلى". ليس فيه جراحات، لكنه قبل الجراحات من أجل خلاص البشر، وكما يقول إشعياء: "أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها" (إش 53: 4)[12]. القديس جيروم * دُعي "ميتًا"، لا كمن هو بين الأموات الذين في الجحيم جميعهم، بل وحده الحر بين الأموات (مز 88: 5)[13]. * لقد أظلمت الشمس (لو 23: 45) من أجل "شمس البرّ" (مل 4: 22). والصخور تشققت من أجل الصخرة الروحية (1 كو 10: 4). القبور تفتحت والموتى قاموا بسبب هذا الذي هو "حر بين الأموات" (مز 88: 5). إذ حرر أسراه من الحفرة التي بلا ماء (زك 9: 11)[14]. القديس كيرلس الأورشليمي* من يحرر من الموت ومن العبودية إلاَّ ذاك الذي هو "حرّ من بين الأموات" (مز ٨٨: ٥)؟ من هو "الحرّ من بين الأموات" إلاَّ ذاك الذي بلا خطية وسط الخطاة؟ يقول مخلصنا نفسه، منقذنا: "رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيَّ شيء" (يو ١٤: ٣٠). (رئيس هذا العالم) يمسك بمن يخدعهم ومن يغويهم، ومن يحثهم على الخطية والموت، هذا "ليس له فيَّ شيء". تعال أيها الرب، تعال أيها المخلص. ليتعرف عليك الأسير. دع من اقتيد إلى السبي أن يهرب إليك. كن فاديًا له! إذ كنت مفقودًا وجدني ذاك الذي لم يجد الشيطان له فيه شيئًا آتيا من الجسد. لقد وجد في رئيس هذا العالم جسدًا، لقد وجده، لكن أي نوع من الجسد؟ هل يمكن لجسدٍ مائتٍ أن يمسكه ويقدر أن يصلبه وأن يقتله! لقد أخطأت يا أيها المخادع، فإن المخلص لا يُخدع... إنك ترى فيه جسدًا قابلًا للموت، لكنه ليس جسد الخطية، بل على شبه جسد الخطية. "الله أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو ٨: ٣). في جسد، لكن ليس في جسد الخطية بل "في شبه جسد الخطية". لأي هدف؟ "لكي بالخطية التي بالتأكيد لم يكن منها شيء فيه، يدين الخطية في الجسد، فيتحقق برّ الناموس فينا، نحن الذين لا نسلك حسب الجسد بل حسب الروح (رو ٨: ٤). لا يدع أحد نفسه حرًا لئلا يبقى عبدًا. لا تبقى نفوسنا في عبودية، لأنه يُعفى عن ديوننا يومًا فيومًا[15]. * باستحقاق فعّال يخلص من عبودية الخطية هذه، هذا الذي يقول في المزامير: "صرت إنسانًا بلا سند، حرًا بين الأموات" (مز ٨٨: ٤-٥). فإنه وحده كان حرًا، إذ لم يكن فيه خطية. إذ هو نفسه يقول في الإنجيل: "رئيس هذا العالم يأتي" يقصد الشيطان الذي يأتي في أشخاص اليهود المضطهدين له، "وليس له فيَّ شيء" (يو ١٤: ٣٠ - ٣١). فلا يجد فيَّ نسبة ما من الخطية كما في أولئك الذين يُقتلون كأبرارٍ، لا يجد قط شيئًا ما فيّ... إنني لست أدفع عقوبة الموت كضرورة بسبب خطاياي، لكنني أموت متممًا إرادة أبي. في هذا أنا أفعل إذ أحتمل الموت، فلو كنت لا أريد الألم ما كنت أتألم. يقول بنفسه في موضع آخر: "لي سلطان أن أضع حياتي، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو ١٠: ١٨). بالتأكيد هنا ذاك الذي هو حر بين الأموات[16]. * جزئيّا نحن في حرية، وجزئيًا في عبودية. ليست الحرّية كاملة بعد، ولا نقيّة بالتمام، لأننا لم ندخل بعد الأبدية. نحن لا نزال في الضعف جزئيًا، لكنّنا نلنا الحرّية جزئيًا. ما قد ارتكبناه من خطايا قد غُسل في المعموديّة سابقًا، لكن هل قد محيّ كل الشرّ وبقينا بلا ضعف؟[17] القديس أغسطينوس * لقد بذل حياته لأجلنا، وكان من بين الأموات كمن هو حرّ [٥]. فإن الموت لم يهاجمه بسبب الخطية مثلنا، إذ كان ولا يزال بلا خطية، غير قادر على صنع شرّ ما، إنما احتمل الآلام بإرادته لأجلنا من أجل محبته لنا غير المحدودة[18]. القديس كيرلس الكبير وَضَعْتَنِي فِي الْجُبِّ الأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ فِي أَعْمَاقٍ [6]. جاء النص عن الترجمة السبعينية: "جعلوني في جب سفلي، في مواضع مظلمة وظلال الموت". ظن الأشرار أنهم قادرون أن يدفنوا النور الحقيقي، ولم يدركوا أن النور الحقيقي يبدد الظلمة. يئن المرتل من أن الذين يعرفونه وأصدقاءه اختفوا كما في مكان مظلم، كأنهم لا يرونه، وحتى لا يراهم ويطلب معونتهم. هكذا يصور المرتل نفسه بالشخص الذي لا يرافقه إلا الضيق والألم والظلمة، ليس من رفيق يسنده أو يشاركه مشاعره. * "أغرقتني في عمق الجب". لقد نزلت إلى ذات أعماق الهاوية لكي أحرر كل البشرية من قيود الهاوية. "في ظلمة الجب، في ظل الموت" (راجع مز 88: 7). لم يقل "الموت" وإنما "ظل الموت"، فإن الموت لم يُحكم بعد عليّ من اليهود، وإنما ظل الموت. فإن هذه هي إرادتي أن أنزل لأجل خلاص البشرية. أنا الذي هو النور، نزلت إلى الهاوية لأحرر النفوس من هاوية الظلمة. القديس جيروم * حقيقة تحقق هذا بالأكثر في المسيح، فقد صار في سلطانه ليس فقط أولئك الذين أُلقوا في السجن، بل استدعى ببسالة ونجاح حتى الذين في سجن الجحيم الذين قبض عليهم الشيطان. فقد صعد إلى العلاء وسبى سبيًا وأعطى حياة للذين دفع بهم الشيطان إلى الموت[19]. الأب قيصريوس أسقف آرل * إذ لم يعرفوا ماذا يفعلون، وضعوه هناك... لم يعرفوا ذاك الذي لم يعرفه أحد من كل رؤساء هذا العالم. بالنسبة لظلال الموت لست أعرف إن كان يُفهم منها موت الجسد أو ذاك الذي كتب عنه: "الجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور" (إش 9: 2). فإنهم بالإيمان اُخرجوا من الظلمة وموت الخطية إلى النور والحياة[20]. * لم يمت بسبب خطية ارتكبها، إنما شاركنا عقوبتنا لا خطايانا. الموت هو عقوبة الخطية. جاء المسيح ليموت لا ليخطئ، إذ شاركنا العقوبة دون الخطية أبطل العقوبة والخطية. ما هي العقوبة التي أبطلها؟ نلك التي كانت مصيرنا بعد هذه الحياة[21]. القديس أغسطينوس عَلَيَّ اسْتَقَرَّ غَضَبُكَ، وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي. سِلاَهْ [7]. الكلي الحب قبل بإرادته أن يحتل مركزنا، فيحمل خطايانا، ويصير كأن الغضب الذي ضدنا يحل عليه، فيصالحنا مع الآب، ويكسونا ببرِّه. * "عليّ ثقل غضبك". سقط كل غضبك عليّ، حتى ينسحب من الآخرين. "وبكل تياراتك غمرتني". كل العاصفة ثارت عليّ، لكي يحل الهدوء في العالم. القديس جيروم * لقد ظنوا أن غضب الله ليس فقط ثار ضده، بل سقط بشدة عليه، هؤلاء الذين تجاسروا وحكموا عليه بالموت. ليس فقط بالموت، بل ذاك النوع من الموت الذي يحسبونه ألعن أنواعه، وهو موت الصليب. لذلك يقول الرسول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من عُلق على خشبة" (غل 3: 13). لهذا إذ أراد أن يمدح طاعته التي مارسها إلى أقصى درجات التواضع، يقول: "وضع نفسه، وأطاع حتى الموت" (في 2: 8)، إذ بدا هذا قليل أضاف: "موت الصليب". وبذات الفكرة -كما أظن- يقول في هذا المزمور: "وجميع أهوالك" ويترجمها البعض "وبكل أمواجك"، وآخرون "تياراتك" أذللتني. نجد في مزمور آخر: "كل تياراتك ولججك طمت عليّ" (مز 42: 7)[22]. القديس أغسطينوس أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي. جَعَلْتَنِي رِجْسًا لَهُمْ. أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ [8]. إذ عُلق على الصليب هرب تلاميذه وكل الذين أفاض عليهم بعطاياه. وإذ اقترب وقت الغروب، طلب اليهود رفعه عن الصليب حتى لا يتنجس يوم السبت، وكأن القدوس الذي بروحه يقدس الخطاة كأنه في أعينهم رجسًا لهم. يتساءل القديس أغسطينوس عن ما يقصده بقوله معارفي، فإن السيد المسيح الخالق يعرف كل البشرية، لكنه يحسب من هم أبرار معارفه، أما الأشرار فلن يستحقوا أن يُحسبوا معارفه. إذن يقصد بهم تلاميذه الذين هربوا ولم يقفوا حتى في لحظات محاكمته. ولعله يقصد أنهم وإن كانوا معارفه، إلا أنهم لم يكونوا بعد عرفوه في حقيقته أنه كلمة الله. * "أبعدت عني معارفي" [8]. إن كنا نفهم بالمعارف أولئك الذين يعرفهم، فإنهم كل البشر، فمن منهم لا يعرفه؟ إنما يدعو هؤلاء المعارف أولئك الذين هم يعرفوه قدر ما كانوا يعرفونه في ذلك الوقت، على الأقل كانوا يعرفونه كبارٍ، وإن كانوا يحسبونه فقط كإنسان وليس كإله. ومع ذلك فهو يدعو الأبرار الذين يستحسنهم معارفه، أما الأشرار فيحسبهم غير معروفين. هؤلاء الذين سيقول لهم في النهاية: "لست أعرفكم" (مت 7: 23)... فهل قيل هذا لأن تلاميذه كانوا خارجًا حين كان يُحاكم في الداخل (مت 26: 56)؛ أو نعطي لهذه الكلمات معنى أعمق: "أبعدت" بمعنى "بقيت مخفيًا بالنسبة لمشيري الخفيين، لم أظهر لهم من أنا، لم أعلن لهم نفسي، لم يُكشف عني"؟[23] القديس أغسطينوس * "أبعدت عني معارفي". في ألم الصليب هرب حتى رسلي مني؛ نأى الكل عني تمامًا، حتى بطرس نفسه قال: "لست أعرف هذا الرجل" (مر 14: 71). "تطلعوا إليّ كرجسة"، لقد صرخ اليهود حتمًا: "أصلبه، ليس لنا ملك إلا قيصر" (راجع يو 19: 15). "سُجنت ولم أهرب". لقد خانني اليهود، ومع هذا ففي رحمتي المملوءة حنوًا لم أتركهم، بل أحببتهم. سلموني إلى بيلاطس ولم أهرب منهم، بل صليت على الصليب: "يا أبتاه اغفر لهم، إنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). لنعبِّر عن هذا بطريقة أخرى: "لقد سُجنت ولم أهرب". عندما طلبوا أن يلقوه من على قمة التل عبر في وسطهم في أمانٍ (لو 4: 29-30). هذا إذن ما يقوله: أليس في إمكاني الآن وأنا مسجون أن أهرب من شِباك البشر ومخاطر الموت بقوة لاهوتي؟ إذ جئت لكي أتألم، فإن هذه هي إرادتي الكاملة أن أتألم. إرادتي هي أن أُسجن، وبإرادتي لا أهرب. لنقدم تفسيرًا آخر. لقد سُجنت كإنسانٍ، ولم أفارق جلال لاهوتي. يوجد أيضًا تفسير آخر: لقد سُجنت بواسطة البشر، ولم أترك حضن الآب. وأيضًا: لقد سُجنت كإنسانٍ على الأرض، وبكوني الله لم انسحب عن السماء. القديس جيروم عَيْنِي ذَابَتْ مِنَ الذُّلِّ. دَعَوْتُكَ يَا رَبُّ كُلَّ يَوْمٍ. بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ [9]. ذاك الذي عيناه على المسكونة كلها، لا ينعس، ولا ينام، ضابط الكل، أحنى رأسه على الصليب، وأسلم الروح كمن في مذلةٍ. لم يدرك الصالبون أن يديه مبسوطتان ليضم كل من يرجع إليه، ويفتح بصيرته ليدرك الحق الإلهي، ويتعرف على الأسرار الأبدية. يرى القديس أغسطينوس أن عيني السيد المسيح الجسديتين لم تذبلا حتى في لحظات الصلب. فالعينان هنا هما تلاميذه، لأنه إن كانت الكنيسة هي جسد السيد المسيح، فإن عينيه يشيران إلى التلاميذ الذين نالوا نوعًا من الرؤية مثل القديس بطرس الذي أعلن له الآب عن المسيح أنه ابن الله الحي (مت 16: 16). بطرس هذا ضعُف في أثناء محاكمة السيد المسيح وآلامه وصلبه. أما عن بسط يديه طول اليوم، فيشير إلى بسط يديه على الصليب، أما تعبير "اليوم كله"، فقد اعتاد اليهود أن ينسبوا ما هو بعض إلى الكل، كالقول بأنه دُفن ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. هذا ويرى القديس أغسطينوس بسط اليدين يشير إلى صنع الخير، إذ لم يتوقف قط عن عمل الخير، كصالحٍ. * "عيني ذابت (أعتمت) من الذل". أنا السليم بقوة لاهوتي صرت ضعيفًا من أجل خطايا البشر. * "دعوتك يا رب"، ليس فقط بصوتي، بل وأيضًا بقلبي. هذه هي بالتأكيد الطريقة التي بها يلزم أن ندعو الآب. نصرخ في قلوبنا: "يا أبّا، الآب" (غل 4: 6). "كل يومٍ بسطت إليك يديَّ". هذه شهادة من الكتاب المقدس استخدمها الرسول باسم المخلص في رسالته إلى أهل رومية (رو 10: 21). ها أنتم ترون أننا لسنا نفسر المزمور قهرًا (بتفسير من عندنا) وإنما نستخدم سلطان الرسول. إن كان استخدام شهادة عبارة واحدة باسم الرب، فلماذا لا نختار نحن أن نفسر كل المزمور هكذا في اسمه؟ القديس جيروم 3. تساؤلات تصدر ممن على حافة القبر أَفَلَعَلَّكَ لِلأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ، أَمِ الأَخِيلَةُ تَقُومُ تُمَجِّدُكَ؟ سِلاَهْ [10]. جاءت الترجمة السبعينية: "أو الأطباء يقومون فيعترفون لله". ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك بقوله إن الأطباء وإن كانوا لا يشفون المرضى بقوتهم الشخصية، فان الأطباء الروحيين لا يقدرون أن يجتذبوا أحدًا إلى الحياة بدون النعمة الإلهية، كقول السيد المسيح: "لا يقدر أحد أن يُقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب" (يو 6: 44). مادام الإنسان ميتًا بعدم إيمانه لا يتمتع بعجائب الله أي الدخول إلى البنوة لله وتجديد طبيعته خلال المعمودية، ولا يقدر أي طبيب روحي بدون نعمة الله أن يقيم ميتًا بالروح ليمجد الله معترفًا بخطاياه وبعمل الفداء. هَلْ يُحَدَّثُ فِي الْقَبْرِ بِرَحْمَتِكَ، أَوْ بِحَقِّكَ فِي الْهَلاَكِ؟ [11] يشعر المرتل أن ظروفه قد صارت خطيرة للغاية، وقد صار على حافة الموت، فهل يصنع الله أعاجيب أو آيات لإنقاذه بعد موته، أو لعل الله يتمجد فيه بعد أن يصير أشبه بخيالٍ لا وجود له. هل من رجاء بعد أن يتم هلاكه تمامًا بموته؟! أما عن السيد المسيح، فأسلم روحه بإرادته، وبإرادته أخذها. وقد سبق فأعلن عند إقامته للعازر: "أنا هو القيامة" (يو 11: 25). لقد ظن الصالبون أن حياة السيد المسيح قد انتهت، وقد خلصوا من العجائب التي كان يصنعها، ولم يدركوا أن قيامته من الأموات هي أعظم أعجوبة، وهبت الحياة والقيامة للمؤمنين به. إن كان في حياته على الأرض قد كشف عن حبه ومراحم للكثيرين، فبموته وقيامته قدم المراحم الإلهية للخطاة، وفتح أبواب السماء لكل الداعين إليه من كل الأمم. كلمة "أبدون" مشتقة من الفعل العبري "أباد"، وهو يُطابق الفعل العربي، الذي يعني "أباد" أو "أهلك"، وكأن أبدون تعني "إبادة" أو "المبيد" أو "المهلك". يقابلها في اليونانية "أبوليون". وقد وردت مرة واحدة في العهد الجديد (رؤ 9: 11) كاسم لملاك الهاوية أو الشيطان المُهلك. استخدم هذا الاسم في العهد القديم تارة لعالم الموتى في جانبه المرعب والمُدمر كما جاء في المزمور: "هل يُحدث في القبر برحمتك، أو بحقك في الهلاك (أبدون)؟" (مز 88: 11). وقد جاءت كلمة أبدون موازية للهاوية في أيوب 26: 6؛ أمثال 15: 11؛ 27: 20. كما جاءت موازية للموت، وأحيانًا مع للقبر[24]. هَلْ تُعْرَفُ فِي الظُّلْمَةِ عَجَائِبُكَ، وَبِرُّكَ فِي أَرْضِ النِّسْيَانِ؟ [12] باسم البشرية المتألمة يتحدث المرتل في لحظات ضعفها، تشعر أنه يلزم أن يتحرك الله سريعًا، فمن جهة ليس من عجائبٍ يتمتع بها الإنسان بعد موته، ومن جهة لا يتمجد الله، ولا تُعلن رحمته بعد دخول الإنسان إلى ظلمة القبر. لم تدرك البشرية ما أعده الله ببِّره لها خلال موت السيد المسيح ودفنه في القبر، حيث تتحقق الكفارة لا للصارخين إليه في أيامه فحسب، وإنما يعبر إلى الجحيم ليبشرهم بالخلاص، ويمتد عمله عبر الأجيال إلى انقضاء الدهر. يرى القديس أغسطينوس أن الظلمة هنا تعادل عدم الإيمان، كقول الرسول: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة" (أف 5: 8). أما أرض النسيان، فهي الإنسان الذي ينسى الله: "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز 14: 1). * معنى العبارة كلها [9-12] يمكن أن يكون: "يا رب دعوتك وسط آلامي كل النهار؛ أبسط يدي إليك. لم أتوقف قط عن بسطهما للعمل لأجل مجدك. فلماذا يثور الأشرار عليّ، إلا لأنك لا تُظهر عجائب بين الأموات؟ لأن تلك العجائب لا تحركهم نحو الإيمان، ولا يقدر الأطباء أن يصلحوهم إلى الحياة ليمجدوك. لأن نعمتك الخفية ليست فيهم لكي تجتذبهم إلى الإيمان. فإنه لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إلا الذي تجتذبه أنت. فهل يمكن لحنوك أن يظهر في القبر؟ أي في قبر النفس الميتة، التي ترقد تحت ثقل الجسد. "أو بحقك في الهلاك؟" أي في مثل هذا الموت، حيث لا يقدر أن يؤمن أو يشعر بأي شيء من هذه الأمور. فكيف إذن في ظلمة هذا الموت، أي في الإنسان الذي ينساك والذي فقد نور هذه الحياة يمكن لعجائبك أن تعمل ولبرك أن يُعرف[25]. القديس أغسطينوس 4. تساؤلات عن سبب الضيق أَمَّا أَنَا فَإِلَيْكَ يَا رَبُّ صَرَخْتُ، وَفِي الْغَدَاةِ صَلاَتِي تَتَقَدَّمُكَ [13]. إن كانت البشرية في ضعفها تتعجل معونة الله لئلا يحل بالمتألمين الموت، ولا يتمجد الله فيهم، فإن المرتل يصرخ إلى الرب بالليل، وفي الصباح الباكر يجد الاستجابة. لعل الحديث هنا باسم السيد المسيح، فبينما ظن الصالبون أن قصة يسوع بالنسبة لهم صارت في دور النسيان، فإنه إذ جاء فجر الأحد قام من الأموات، وتحقق الخلاص العجيب بموته! * تتقدم، إذ قيل: "في الغداة (الصباح) صلاتي تتقدمك" (مز 13:88)... هو يدعونا عندما يقول: "طول النهار بسطت يدَيَّ إلى شعبٍ معاندٍ ومقاوم" (رو21:10). ونحن ندعوه إلينا عندما نقول: "كلَّ يوم بسطت إليك يدَيَّ" (مز 9:88). هو ينتظرنا كقول النبي: "ولذلك ينتظر الرب ليتراءَف عليكم" (إش 18:30). ونحن ننتظره عندما نقول له: "انتظارًا انتظرت الرب فمال إليَّ" (مز 1:40)، و"رجوت خلاصك يا رب ووصاياك عملت" (مز 166:119). هو يقوينا عندما يقول: "وأنا أنذرتهم، وشدَّدت أذرعهم، وهم يفكرون عليَّ بالشر" (هو 15:7). ويحثنا أن نقوي أنفسنا بقوله: "شدّدوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبّتوها" (إش 3:35). ويصرخ الرب يسوع: "إن عطش أحد فليُقبِل إليَّ ويشرب" (يو 37:7). كما يصرخ النبي إليه: "تعبتُ من صراخي، يبس حلقي. كلَّت عينايَ من انتظار إلهي" (مز 3:69). الرب يطلبنا عندما يقول: "طلبتهُ فما وجدتهُ دعوتهُ فما أجابني" (نش 6:5). والعروس أيضًا تطلبه، إذ تبكي بدموع قائلة: "في الليل على فراشي طلبت من تحبهُ نفسي، طلبتهُ" (نش 1:3)[26]. الأب شيريمون لِمَاذَا يَا رَبُّ تَرْفُضُ نَفْسِي؟ لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ [14] جاء عن الترجمة السبعينية: "يا رب لماذا تقصي صلاتي؟" في وقت الضيق كثيرًا ما يشعر المتألم كأن الله قد رفضه، وحجب وجهه عنه لكي لا يسمع صرخاته. وإذ حمل السيد المسيح خطايانا على الصليب، صرخ: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟". * يمكن مقارنتها بمزمور آخر: "إلهي إلهي، انظر إليّ، لماذا تركتني؟" (راجع 22: 1). جاء في شكل سؤال ليس كما لو كانت حكمة الله مُلامة كما لو كانت تفعل شيئًا بدون سبب. هكذا أيضًا هنا: "يا رب لماذا تقصي صلاتي؟" لكن إن كنا ننتبه بدقةٍ إلى ذلك نجد أنه يُشار إليه: فإنه بالنسبة لصلوات القديسين تبدو كأنها مرفوضة بسبب التأخير لنوال بركة عظيمة هكذا، وبسبب المحنة التي تحل بهم في اضطرابات الحياة، لكي ما يُنفخ في الشعلة، فتنفجر في لهيب أكثر بهاءً[27]. القديس أغسطينوس أَنَا مِسْكِينٌ وَمُسَلِّمُ الرُّوحِ مُنْذُ صِبَايَ. احْتَمَلْتُ أَهْوَالَكَ. تَحَيَّرْتُ [15]. في شدة الضيق ينسى الإنسان إحسانات الله عليه، ويشكو كأن حياته كلها منذ صباه ليس فيها إلا الأهوال والمتاعب. دخل المرتل في أهوال شديدة، وتحيرت نفسه، لكنه لم يسقط في اليأس، لأنه لازال يصرخ إلى الرب إله خلاصه. * تحققت كل هذه الأهوال [15-18] وحدثت في أعضاء جسد المسيح، وصرف (الرب) وجهه عن صلواتهم، بعد الاستماع لها حسب مشيئاتهم، إذ لا يعرفون أن تحقيق رغبانتهم ليس لمنفعتهم. فالكنيسة مسكينة، إذ تجوع وتعطش في تجوالها للطعام الذي ستشبع به في مدينتها. إنها في الأتعاب منذ حداثتها [15]، كما يقول جسد المسيح نفسه في مزمور آخر: "كثيرًا ما ضايقوني منذ شبابي" (مز 129: 1). ولهذا السبب ارتفع بعض أعضائها حتى وهم بعد في هذا العالم، حتى ما يتعظم التواضع. خلال ذاك الجسد الذي يضم القديسين والمؤمنين، والذي رأسه هو المسيح، يأتي سخط الله لكن لا يستقر عليهم. أما فقط بالنسبة لغير المؤمن كتب عنه: "يمكث عليه غضب الله" (يو 3: 36). مفزعات الله تربك ضعف المؤمن، فإن هذا هو ما يُمكن أن يحدث، وإن كان هذا لا يحدث بالفعل، إنما كُتب لأجل التحذير فيخاف. وأحيانًا تثير هذه المفزعات النفس للتفكير في المتاعب المحيطة بها والتي تبدو كأنها تفيض عليها من كل جانب مثل المياه وتكتنفها في المخاوف. وكما كانت الكنيسة في رحلتها لا تتحرر تمامًا من هذه المصائب، تحل تارة على أعضائها، تارة على عضوٍ ما، وأخرى على عضوٍ آخر، لذلك قيل "اليوم كله"، بمعنى أنها مستمرة في الزمن إلى نهاية العالم. أيضًا فإن الأصدقاء والمعارف في اهتماماتهم الزمنية يتركون القديسين في وقت الرعب. وكما قال الرسول: "الجميع تركوني، ولا يُحسب عليهم" (2 تي 4: 16)[28]. القديس أغسطينوس عَلَيَّ عَبَرَ سَخَطُكَ. أَهْوَالُكَ أَهْلَكَتْنِي [16]. عندما تشتد الضيقة، يتحير الإنسان، وغالبًا ما ينسب ما يحل به أنه من غضب الرب عليه وسخطه الشديد نحوه. أَحَاطَتْ بِي كَالْمِيَاهِ الْيَوْمَ كُلَّهُ. اكْتَنَفَتْنِي مَعًا [17]. في وسط الضيقة يشعر الإنسان، ليس فقط أنها تلاحقه من صباه [15]، وإنما تلازمه طول اليوم، بل ويوميًا، فيصير كغريق في مياه غامرة. * "أحاطوا بي كالمياه اليوم كله": اليهود في أمواجٍ من الاضطهاد. "اكتنفتني معًا (من كل جانب): الفريسيون مع الكهنة، بيلاطس مع الحكام والشعب! القديس جيروم أَبْعَدْتَ عَنِّي مُحِبًّا وَصَاحِبًا. مَعَارِفِي فِي الظُّلْمَةِ [18]. * "أبعدت عني محبًا وصاحبًا، أصدقائي بسبب بؤسي" (راجع مز 88: 18) في عار الآلام اعتزلني حتى الرسل. القديس جيروم تكررت كلمة "لأن" كثيرًا في هذا المزمور، فمع كل طلبة يقدم تبريرًا لها، وأيضًا مع كل عبادة. الطلبة أو العبادة السبب محتاج إلى معونة. 2. يحفظ الرب نفسه [2]. لأنه تقي. 3. طلب الرحمة [3]. لأنه يصرخ إليه اليوم كله. 4. أن يفَّرح نفسه [4]. لأنه كثير الرحمة. 5. في ضيقه يدعوه [7]. لأنه يستجيب إليه. 6. يمجد اسمه أبديًا [12]. لأن رحمته عظيمة. 7. يطلب آية للخير [17]. لأن الله يعينه ويعزيه. من وحي المزمور 88 لأسكب صرخات قلبي قدامك! * صوتك يخترق كل كياني: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ من أجلي حملت عقاب خطاياي، قبلت الموت لتبطل شوكة الموت والفساد، وتحررني من سلطان إبليس والخطية * إذ تنصب عليّ الأهوال، أحسب كأني وُلدت لأتألم، وكأن الأهوال ترافقني منذ صباي. أظن كأن غضب الآب حلّ عليّ، وتياراته تحوط بي، وقد صرف وجهه عني، ولم يعد ينصت إلى صلاتي. * إليك يا رب أشتكي نفسي. في ضيقي أحيانًا ألجأ إلى صديق أملأ أذانه بشكواي. وفي مرارتي أحيانًا أصرخ في أعماقي، وأحطم نفسي بنفسي. علمني ودربني أن ألجأ دائمًا إليك. أصرخ قدامك، فأنت وحدك إله خلاصي. بأبوتك وحكمتك وقدرتك تسندني فأخلص. * أصدقائي ومعارفي يهربون مني، فليس من معين، ولا من يشاركني آلامي. لكنك وعدت أن الغضب يمكث على الأشرار. وليس على من يؤمن بك، ويسلك في طريقك! * إلهي في وسط ضيقي أشعر كأني وحيد. لساني يعجز عن أن يعبر عما في داخلي. لتمل بأذنك وتسمع تنهدات قلبي. أود أن أرى وجهك، وأشعر بحضرتك وسط ضيقي. * كثيرًا ما أشعر كأن الألم فوق قدرتي. أحسب نفسي أشبه بالميت، لا حياة فيّ! وإن مُت، فأنت قادر أن تقيمني. تُخرج من الحبس نفسي، وتحررني! * لماذا تئن نفسي، وأنت احتملت كل عارنا. صرت على الصليب كقتيل وأنت واهب القيامة. رقدت في القبر كالأموات، وأنت الحرّ واهب الحرية. نزلت إلى أسافل الجحيم لتحملني إلى فردوسك! * سرت بيننا تشرق بمراحمك على الكثيرين. لكن بموتك وقيامتك فتحت لنا أبواب سماواتك. بسطت يديك لكل العالم، وقمت من بين الأموات لتهب حتى الأموات الحياة الجديدة. * قيامتك أنارت أعماقي، فإني وإن سقطت في الأهوال، وإن امتلأت نفسي بالحيرة، أصرخ إليك يا إله خلاصي. * حقًا كثيرًا ما أشعر كأن سخطك حلّ عليّ، وأهوالك تكتنفني. صرت كمن في ظلمة، حتى أقربائي وأصدقائي يهربون مني! * سرعان ما أدرك حكمتك، وأنعم بفيض نعمتك. أية كرامة تحل بي أن أصلب معك. تحررني من الموت، يا من أنت حُر بين الأموات. وإن تأخرت في استجابة صلاتي، تلهب فيَّ شعلة محبتك، وتملأ أعماقي ببهاءٍ لا يُعبر عنه! في وسط الضيق اكتشف صداقتك الفريدة. التصق بك وينفتح لسان قلبي بالتسبيح لك. لك المجد أيها العجيب في حبك! |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|