هل أستطيع أن أتحدث عن الله أو أصف حبه ؟ لابد أولاً أن أُطهر شفتى بالنار المقدسة، وأزيح عن قلمى تلك الغبار الملوثة، وأشد أوتار قلبى الذهبية وخيوط أفكارى الفضية لكى تعطينى القواميس الإلهية كلمات روحية ذات أحرف نورانية، أصف بها حب ربى.
كيف أُصور شعلة روحانية، تنبثق من قدس الأقداس، لتسقط على الخليقة كلها، لا تميز بين بار وشرير؟ أو أصف نهـراً بلورياً يسير متدفقاً، مترنماً، حاملاً في أعماقه أسرار السماء؟ أو أتحدث عن شعلة سمائية مقدسة، تلتهم الهشيم وتنير الطريق أمام الضعيف والبائس والمسكين؟
من يستطيع أن يصف شمس البر وهو يختفى فى صدر الحياة المظلمة؟ أو زهرة السماء وهو يُسحق تحت الأقدام القاسية؟! أو شجرة الحياة المثمرة، وهو يٌقطع من أرض الأموات، لكى تحيا البشرية المائتة بموته؟ أخشى أن تصير كلماتي كخيوط العنكبوت الواهية، أو كأوتار قلب ضعيفة لا تُعطى نغمات جيدة.
أمام عظـم محبته، يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة، والمفكرون صوامعهم الباردة، والشعراء أوديتهم الخيالية، ويقفون جميعهم على جبلٍ عالٍ، صامتين مصغيين، إلى صوت الحب وهو يقول لقاتليه : " يا أبتاه أغفر لهم "
وهكذا تحولت الكلمات في فمي إلى ألفاظ متقطعة، والأنغام في صدري إلى سكينة، فقلت أُسكت يا قلمي فمن أنت حتى يسمعك الفضاء الهواء المثقل بالهموم والعويل، ولكن أى إنسان لم يرتشف من كأس حبه في إحدى كاساته ؟ أى زهرة لم يسكب الصباح قطـرة من الندى بين أوراقها؟
إن شعلة نارية أوقدتها السماء بين رماد قلبى وقد ألهبت قلبي، وما علىّ إلا الكلام ولماذا نصمت كالموت الأخرس وأنفاس الحياة لا زالت فينا ؟ ألم يقـل الكتاب: " أما سر الملك فخير أن يُكتم وأما أعمال الله فإذاعتها والاعتراف بها كرامة " (طوبيا12: 7)
حتى وإن ابتلعت اللجة نغمة العصفور، ونثرت الرياح أوراق الورود، وسحقت الأقدام كأس البركة.. فالشعاع الذى أنار قلوبنا لهو أقوى من الظلام وإن فرقت العاصفة الهوجاء على وجه هذا البحر الغضـوب أقوالنا، فالألوان الطاهرة على الشاطئ الهادئ سوف تجمعنا، وإن قتلتنا الحياة فذاك الموت يحيينا
فالله يريد أن تصعد أشواقنا مع همس الزهور، وحفيف الغصون، لتنتصب أمام عرش مجده كعمود من نور! فلتكتب إذن الأصابع المرتعشة الحائرة عن حبه الأقدس، وليزح الثرثار نقاب اليأس عن قلمه فماذا يقول :
شيئان لا يمكن للعين أن تحدق فيهما: الشمس والله و لكن الله تجسد وقد حجب مجد لاهوته عنا، فولد في كهف، ووضع في مزود ! فالتقت السماء والأرض وتعانقا في شخصه.
وبسرعة كان ينمو نمو الهلال، فلما صار قمراً انعكست ملامح أبيه السماوية على وجهه، مثلما تنعكس أشعة النجوم في حوض ماء هادئ لم تعكره رياح خريفية.. إذا ظهر بثيابه البيضاء تشعر وكأن أشعة قمرية قد دخلت من بلور النافذة.
وإذا مشى كانت خطواته الهادئة أشبه بمقاطع ألحان سماوية، وصوته سيمفونية معزية، فالكلام كان ينساب من شفتيه، مثلما تتساقط قطرات الندى على تيجان الزهور، ووجهه، ومن يا تُرى يستطيع أن يصف وجهاً، يُعلن في كل دقيقة سراً من أسرار الله، هل يكفى أن نقول: إنه أبرع جمالاً من بنى البشر
إن جمال يسوع كان غريباً كحلم لا يفسر، أو كفكر سماوى لا يُعبر عنه ! لا يُنسخ بقلم كاتب، أو يتجسد بريشة فنان، ولا يتجسم على رخام بأزميل النحات جمال يسوع لم يكن في شعره المسترسل الذهبى، بل في هالة الطهر المحيطة به، ولم يكن في عينيه الواسعتين، بل في النورالمنبعث منهما، ولا في شفتيه الورديتين ، بل في الحلاوة السـائلة عليهما ، ولا في جمال جسمه، بل في نقاء وجهه الشبيهة بشعلة بيضاء، متقدة سابحة بين السماء والأرض
في وادي ظل الحياة المرصوف بالعظام والجماجم، قد عاش، وليس له مكان يسند إليه رأسه، وهناك على ضفاف نهر الدماء والدموع، كان يقف مصغياً إلى همسات قلبه، ناظراً إلى ما وراء النجوم، متأملاً في آلامه، فالألم صديق رافقه كالظل في كل خطواته.
فهل لنا أن نقول إن حياته كانت رحلة مع الآلام وقد محت الدماء والدموع سطور الفرح من كتاب حياته ! لأن من طبع المحبة أن تشقى ليسعد الآخرين، تولد في الفقر، وتحيا في القفر، وتصعد كل يوم على الجلجثة، وتُسمر على صليب الإنسانية لتكحل عيون البشر بأنوار الخلاص، وهكذا من أحب الله، فيه تُصب ضعفات البشر، لكى يخفيها في لججه العميقة
لقد أحبنا، نعم، وبوشاح حبه الطاهر غمرنا، وقد ترك شعلته السماوية تتقد في صدورنا، لتلتهم ميولنا وعواطفنا الأرضية الفاسدة.. وكأن الإنسان عندما يمتلئ قلبه بتلك العاطفة السامية، أو ذلك الشعور الراقى، يصعد على أجنحة حبه الطاهر إلى السماء، ليُمسح مسحة روحية، ثم يعود إلى الأرض ثانيةً، لا ليحيا كإنسان وإنما كملاك يرتدى زي إنسان
ألم تشعر مرة بملامس أيدى حريرية طاهرة خفيفة، تقبض على روحك في وحدتـك، فتمنيت ألا تتحرر من أسرها ! ألم تتساءل مرة عن سر الأجنحة السمائية، التى رفرفت ولو مرة حول مضجعك، فنمت فرحاً والنور يملأ زوايا غرفتك، وعلى فراشك الذى تقدس، تتمايل خيالات من أحببته، وقد صرت إلى الأبد أسير حبه
الله يحبنا، وملائكته تحيط بنا، وأعتقد أن كثيرين يتذكرون، كيف نجاههم الرب من حادث مروع، أو حل لهم مشكلة بطريقة معجزية، مثل شيك البريد بنفس المبلغ الذى يحتاجونه
أما إذا أبطأ فهذا لتقويتنا وامتحان قوة إيماننا، فقد كان هناك إبطاء إلى أن جاء المسيح لإقامة لعازر، ووقعت مرثا أخت لعازرالميت فى مصيدة (لو) عندما قالت لرب المجد يسوع " لو كنت ههنا لم يمت أخى" ! أما يسوع فقال لها : " ألم أقل لكِ إن آمنتِ ترين مجد الله " (يو11: 21،39،40) !
إذن ضع الشمس على عرشها الطبيعى تنتظم حركات الكواكب، ضع يسوع على عرش الحياة تصبح الأشياء فى توافق وسلام، أُطلبوا أولاً ملكوت الله وبره فلا تغيب شمسك بعد وقمرك لا ينقص لأن الله يكون لك نوراً أبدياً (إش60:20) .
والآن أعترف بأن القلم يرتعش بين أصابعي، وألفاظي قد صارت كخيوط العنكبوت في ضعفها، وفى حاجة ماسة إلى أحرف ذهبية أو قل نورانية، لكي أصف يسوعى في أيامه الخريفية، التى عرّت فيها رياح الأشرار شجرته الحية والمحيية، متلاعبة بأوراقها الصفراء
ففى بستان جثسيمانى، في لحظة خاطفة تراءت له البشرية في جميع عصورها، تجرجر في خزى قبح معاصيها وآثامها، وطفقت جميع الخطايا تخرج من خفايا القلوب، وشقوق الضمائر فاتحة أفواهها، تفح كأفاعي الصحراء لتنفث سمها وتفرغ خبثها في الحمل الوديع، فراحت عروقه تنفجر حزناً " وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض " (لو22:44 )
وكأفاعي البحر السامة، التى تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة، وتمتص دماءها بأفواه عديدة، قبضوا على البار وقيدوه، لكن الحب والرحمة كانا عن يمينه ويساره، كأنهما جناحان، يطير ويحلق بهما فى سماء المجد..
وقادوه إلى بيلاطس البنطى، الذى لا يختلف عنهم إلا إختلاف اللص عن القاتل وأمام هذا الثعلب البشرى وقف يسوع، وقد غمر النور وجهه وعنقه، فنظر إليه ومثل أخرس قد فاجئه النطق قال: " أأنت ملك اليهود ؟ " فقد رأى النبل ينبثق من عينيه، والعفاف يسيل على وجهه، إلا أنه ضـحى بالعـدل والضمير قرباناً رخيصاً على مذبح قيصر
وهكذا ظن القش الضعيف، أنه يقدر أن يقف أمام اللهيب ! وتناسى أن العواصف الهوجاء قد تفنى الزهور، ولكنها لا تُميت بذورها ! أما العدل والرحمة والحق... فلن تطول إقامتهم تحت صخرة الظلم الصلدة
وبكل قسوة ووحشية ينزعون ثيابه، وهو اللابس النور كرداء، ويرصّع ذيل ثوبه بالنجوم ! فكان لابد لآدم الثاني أن يتعرى من ثياب الأرض البالية، قبل أن يعود إلى ملكوت أبيه ، متشحاً بطهره ، متسربلاً بمحبته.. ويوضع يسوع على سرير الألم، أعنى الصليب، كطفل رضيع، يريد أن يرتاح على صدر أمه من عناء السنين، ويسمر بمسامير كأنها محماة في آتون الجحيم، فتجرى دماءه تحرقها نيران المحبة الإلهية اللاهبة.
أما أشباح الظلمة فقد أحاطت تلك المنازل في أورشليم، فانتصب الموت والحياة يتصارعان بجانب صليبه، وانتصر الموت لكي تنبثق منه الحياة ! لا تتعجب ! فلولا الظلام ما رأينا نجوم السماء
أمام هذا الحب الفريد نصرخ: مهلاً يا رب ! لماذا تُسرع هكذا إلى الموت من أجل جثة باردة ؟ لماذا هذا الإسراف الغريب بالدم الثمـين ؟ هل تجهل مـن أنا ؟ فيُجيب رب المجد: لا، لست أجهل ضعفك، ولكنى أموت لأجلك لتعلم أن الحب أقوى من الكراهية، والغفران أسمى من الانتقام.
لقد مات البار ولف شبابه بالأكفان، وبصمت ينام فى قلب الأرض الصامتة، لينهض بالروح، ويخرج بجيوشه من الأرض التى تولد فيها الشمس، إلى الأرض التى تُقتل فيها الشمس، لأنه سيكون لنا شمس وقمرونجوم
مات يسوع وقد أفصح بسكوت الموت الرهيب وجلاله،عن مفهوم الحياة وشرح سر السعادة والخلود، وأعلن أنه يحبنا، وبدون حبه لا حياة ولا أمل في حياة إنما يعم القحط كل قلوبنـا