|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نظرة تأمل 1 وقد وهبه الخالق أن ينسج شبكته بمهارة فائقة لاصطياد الفريسة، وكلما حاولت الفريسة تحرير نفسها ازدادت التصاقًا بخيوط الشبكة، ويبلغ قطر خيط العنكبوت واحد من الألف من الملليمتر، حتى أن 320 جم من هذا الخيط تكفي لإحاطة العالم كله، وهو أقوى من مثيله المصنوع من الصلب، فمن أعطى العنكبوت هذه الإمكانية لو إنه تطوُّر من حيوان سابق لا يمتلك بتاتًا هذه الإمكانية؟ نقَّار الخشب: يستطيع أن ينقر في جذع الشجرة بسرعة كبيرة، وعمله هذا يشبه إنسانًا يضرب مسمارًا في الجدار برأسه، فكيف لا يصاب هذا الطائر بنزيف في المخ؟ لقد وضع الله في جمجمته نظام عجيب يُخفّف شدة الطرقات ويمتصها، ويوجد نحو 200 نوع من هذا الطائر، وجاء في مجلة العلم عنه " طائر نقار الخشب من الطيور ذات الطابع المميَّز بين سائر الطيور، فهو شرِه جدًا للطعام، فالنوع الأسود منه والذي يعيش في أمريكا الشمالية يمكن أن يأكل 900 يرقة من يرقات حشرة الخنافس، أو ألف نملة في وجبه واحدة، وهناك نقار أوربي أخضر يمكن أن يلتهم ما يصل إلى 2000 نملة في يوم واحد، ولكي يصل النقار إلى طعامه فإنه ينقر الخشب أكثر من 15 مرة في الثانية، وكل نقرة تستغرق 1 / 1000 من الثانية أو أقل من ذلك، وتعتبر سرعة النقر ضعف سرعة الرصاصة، وأكثر من ذلك فإن رأس نقار الخشب تتحرك بسرعة 2100 كيلومتر في الساعة، أي أنها أكثر من ضعف سرعة القذيفة " الطلقة".. ولعل المتتبع لكل هذه الحركات الفجائية السريعة لرأس النقار يُدهش من عدم تعرض هذه الرأس للكسر، ولكن الباحثين أثبتوا أن جمجمة هذا الطائر مقواة ومسلَّحة بإطار عظمي شديد.. كما إن المنقار والمخ مبطنان ولهما وسائد وقائية تمتص كل هذه الصدمات.. وكم في جعبة الحياة من أسرار وغرائب وعجائب وسبحان الله!!" (1). الأسماك الكهربائية: تستطيع هذه الأسماك أن تدافع عن نفسها، بإصدار تيار كهربائي عالٍ يُقدَّر بخمسمائة فولت، وأيضًا تحدد اتجاهاتها في الأعماق عن طريق إصدار إشارات كهربائية تصطدم بالأجسام الصلبة ثم ترتد، والأمر العجيب أنه عند استهلاك هذه الشحنة تستطيع هذه الأسماك أن تستعيدها كما يعاد شحن البطارية (راجع هارون يحيى - خديعة التطوُّر ص 192) وجاء في مجلة العلم عن هذه الأسماك المكهربة " تعيش في مياه نهري الأمازون وأورينكو بأمريكا الجنوبية نوع من السمك " الحنكليس المكهرَّب " وهما المكانان الوحيدان في العالم اللذان يعيش فيهما هذا النوع الرهيب، ويستطيع هذا الحنكليس الثعباني أن يُولّد تلقائيًا تيارًا كهربائيًا يعادل قوته 600 فولت بلمسة واحدة. أما الصدمة المشتركة التي تصدر عن حنكليسين مُكهربين فهي كافية لقتل إنسان" (2). الطفل: نظرة إلى الطفل الوليد تخبرنا بقصة الخلق العجيب، ويقول الدكتور " لويس ايفانز".. " في جسم الإنسان 250 عظمة تتحرك بدقة بواسطة مئات العضلات، وفي عينيه وحدها 400 مليون مخروط صغير، و300 مليون من الألياف، و500 ألف عصب صغير، وكلها تتحرك بدقة وبدون ألم، وهناك ملايين الأفران الصغيرة في الجسم (الخلايا) تحرق الغذاء لتوليد الطاقة، وعدد كبير من المؤكسدات الصغيرة، كما نجد أن الكرات البيضاء التي تضحي بنفسها في حربها ضد الأمراض، والرئتين اللتين تعملان على تنقية الدم، والقلب الأمين طول العمر، فهو يدفع 280 ألف طن من الدم سنويًا، ليصل إلى أجزاء الجسم المختلفة، حقًا إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يصنع هذا كله" (السيد الذي ينشده الشباب ص 44، 50) (3). وعندما نجح " كلود م. هاناواي " في تصميم المخ الإلكتروني بعد عناء شديد قال " فإذا كان هذا الجهاز (الذي اخترعه) يحتاج إلى تصميم، أفلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيميائي البيولوجي الذي هو جسمي، والذي ليس بدوره إلاَّ ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون في اتساعه وإبداعه إلى مبدع يبدعه" (الله يتجلى ص 92) (4). لغة التخاطب: حقًا إن الذي يدرس لغة التخاطب والتواصل في المملكة الحيوانية يجد عجبًا، فهناك طرق ووسائل مختلفة للتخاطب قد تكون مسموعة، أو مرئيَّة، أو حسية (كيميائية) عن طريق الشم والتذوق، ونعرض باختصار شديد لهذه الوسائل:
والرائحة الصادرة من القندس وهو أحد القوارض تحدد منطقة نفوذه، فيقوم القندس بخلط بعض الطين مع نشارة خشب ويفرز عليها مادة كيماوية من غدة تقع تحت الذيل، ووجد العلماء أن هذه المادة تتركب من 45 مادة كيميائية، ويعمل القندس أقراصًا من هذه الخلطة ينشرها في المساحة التي يفرض نفوذه عليها، ويفرز الأرنب الأمريكي القطني الذيل سائلًا عديم الرائحة من غدد في الذقن، وبهذا السائل يحدد منطقة نفوذه التي تصل إلى 8000 متر مربع. أما الأرنب ذو الحذاء الثلجي فإنه يفرض سطوته على مساحة تُقدر بنحو 72 ألف متر مربع، وتُبلّل الدببة الطين بالبول وتخلط به بعض شعيرات من جسمها، وتلصق الخليط على جذوع الأشجار في المساحة التي تريد أن تفرض نفوذها عليها. وهناك أمور تثير الدهشة أكثر من هذا، فمثلًا قد يترك أحد الكلاب رسالة إلى كلب آخر عن طريق البول، فيقراءها هذا الكلب الآخر ويرد عليها، فمثلًا إذا نبش الأرض بعنف فمعنى هذا أن الرسالة تحمل نوعًا من التحدي، وإذا أخذ ينبح فإن الرسالة تحمل نوعًا من الغَزَل، وبهذا النباح ينادي الطرف الآخر، وإذا لم يبدي الكلب اهتماما فإنها رسالة إلى صديق لا يعيره اهتماما، وقد يتبول الكلب الذي تلقى الرسالة على رسالة البول التي أُرسلت إليه وكأنه يترك بصمته بتسلم الرسالة، ووجد أحد العلماء أن أحد كلاب الصيد السلوقي التي تتلقى تدريبًا عاليًا، وعلى مستو عالٍ من الكفاءة، تتصرف تصرفًا غير مُهذب، إذ تتبول في أرجاء المنزل على السجاد والأثاث، وعندما تمعن الأمر، وجد في البيت ببغاء يُقلّد نباح الكلاب، فظن كلب الصيد أن هناك عدوًا يتحداه، وعلى الرغم أنه لا يراه لكنه راح يترك له رسائل تحدي في كل مكان عن طريق التبول (راجع دكتورة أمينة درويش - كلية التربية - جامعة الإسكندرية - علم سلوك الحيوان ص 88 - 96). |
07 - 07 - 2014, 03:46 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
ذئب شيوعي تصطاده الحملان 2 تابع: ذئب شيوعي تصطاده الحملان (2): هذه قصة حقيقية لذئب شيوعي لم يحتمل وداعة الحملان، فصار حملًا مثلهم.. قُتل والد " سيرجي كورداكوف " وماتت أمه كمدًا، أما هو فقد تربى في ملجأ تربية قاسية للغاية، فكان التأديب لأي مخالفة الضرب المُبرح، حتى لو كانت هذه المخالفة مجرد القراءة من تحت الغطاء في وقت النوم ظهرًا، كما حدث مع " سيرجي " الذي كاد يفارق الحياة على يد " العم نيشي"، وشبَّ " سيرجي " وألتحق بالكلية البحرية، وبسبب غيرته غير المعقولة على الشيوعية أُختير من قِبل جهاز المخابرات الروسية لتكوين فرقة تأديب للذين يعبدون الله، وأغروه بالمال الوفير إذ يتقاضى 25 روبلًا عن كل عملية قبض على المؤمنين، واختار لهذه المهمة من زملائه الطلبة العتاولة أرباب الملاكمة والجودو والكراتيه. ويحكي " سيرجي " عن إحدى عملياته السرية، فيقول لقد وصلت لهم الأخبار بأنه على شاطئ نهر قرية " اليزوفو " أسفل الجبل، وفي ذلك المكان المنعزل سيجتمع المؤمنون لتعميد بعض الأشخاص، فاصطحب معه بعض أفراد التنظيم بحجة التنزه، وزودهم الرفيق ديمتري في الأكاديمية بالفودكا والكافيار والمأكولات، وحملوا معهم المطارق التي تحطم العظام والتي صُنعت خصيصًا للمخابرات السوفيتية في تشيكوسلوفاكيا، وأيضًا الهراوات، وحمل أحدهم جيتارًا، وعندما وصلت بهم السيارة للمكان المنشود قبل وصول المؤمنين إلى هناك، أخفى قائد السيارة " فيكتور " السيارة التي أقلتهم في وادي ضيق وسط غابة كثيفة الأشجار، وأفترشوا الأرض يأكلون الكافيار ويشربون الفودكا بينما عائلات المؤمنين وسجنائهم لا يجدون الخبز الجاف، وأخذت أنغام الجيتار تُسمع في المكان، فصاروا نصف سكارى بينما أقبل المؤمنون، وكان بينهم سبعة شباب يرتدي كل منهم روبًا أبيض استعداد لتلقي العماد المقدَّس، وكان الكاهن يُدعى " فاسيلي ليتوفشينكو" في نحو الثامنة والثلاثين من عمره، وعندما بدأ المؤمنون صلواتهم، وبدأ الكاهن في عماد الشباب، أصدر سيرجي أوامره لرجاله، ويقول "سيرجي": "هجمنا عليهم واستخدمنا كل أساليب العنف مع هؤلاء العُزَّل وتعالى الصراخ واستخدمنا المطارق لضرب كل من يحاول الهرب وبدأ الدم يسيل على ثياب السيدات والفتيات، وقام أحد رجالي بتتبع الكاهن وتركته وهو يضربه على رأسه لأنه حاول الهرب (حتى لقى حتفه). وجمعنا كل المجموعة، واضطر رجالي أن يجعلن الفتيات اللاتي لم يكن يرتدين إلاَّ الروب فقط، اضطروهن أن ينزعن عنهن تلك الثياب التي امتلأت بالدماء، وتركوا أربع من الفتيات عرايا، وقيدوا الرجال، وأخذوا المجموعة وهي تصرخ، فاضطرنا أن نضع في فم كل واحد منهم حفنة من التراب لنسكتهم، وكانت العجائز تصلين في سرهن بعد أن توقفن عن الصراخ الذي كن يقلن فيه يا رب ساعدنا، يا رب لا تتركنا. وهكذا اقتدناهم معنا في السيارة إلى الرفيق ديمتري.. وفي الطريق تم شُرب بقية الفودكا، وكان رجالي يشربون السجائر ويحرقون بها أجساد الفتيات العرايا، وقام أحد أفراد مجموعتنا ويُدعى فلاديمير بملاطفة ومغازلة إحدى السيدات في عمر السادسة والعشرين، فصفعته السيدة بشدة على وجهه صفعة جعلته مثار سخرية من كل زملائه، فهو بطل الملاكمة في مقاطعة " كمتشكا " فكيف تصفعه امرأة مسيحية؟! بالطبع إقتدنا هذه المجموعة ودخلنا بها المدينة في وضح النهار ورآها كل الناس، ورأوا الفتيات عرايا، فهاج " ديمتري " جدًا وقال: ألم أقل لكم مرارًا أفعلوا ما يحلو لكم ولكن ليس علانية. أتريدون أن تقلبوا الناس ضد البوليس، وأصدر أوامره بأن يضعوا المجموعة في الحبس مع السكيرين والقتلة، وكانت هذه ليلة مرعبة للفتيات العرايا وسط الوحوش الأدمية (ثم يستكمل سيرجي ما يخص هذه العملية) فيقول: علمت في الغد أن العينة التي تم أخذها من الكاهن " فاسيلي " قد حدّدت سبب الوفاة بنزيف في المخ من ضربة شديدة على الجمجمة فكسرتها، وتضايقت لأن هذه أول مرة أختبر مثل هذا الموضوع، ولاحظ " ديمتري " عليَّ هذا، فقال لي: لا تتضايق ولا تنزعج، فهذا الرجل كان مطلوبًا القبض عليه، ولا تنسى أنه من أعداء الوطن.. وقد هدأت هذه الكلمات خاطري. لقد كنت أظن أن هذا الكاهن النحيف شخصية لا يعتد بها، ولكن علمت فيما بعد أنه ذو شخصية قوية وتأثير روحي هائل، وقد تعذَّب مرات كثيرة بسبب إيمانه وكان شجاعًا جدًا لا يخاف من أي أحد على الإطلاق" (1). وكلف " ديمتري " سيرجي بأن يُبلغ زوجة الكاهن خبر موت زوجها برواية ملفقة، فكان وقع الصدمة شديدًا على تلك المرأة الجميلة التي تبلغ من العمر الخامسة والثلاثين، حتى أنها أُصيبت بالشلل التام في كل أعضاء جسمها. وتم إبلاغ ابنه البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا وهو يؤدي الخدمة العسكرية، وتم تفتيش منزل الراعي، فعثر على كتاب تراتيل وكتاب مقدَّس قديم جدًا، وكانت تلك الكتب ممنوعة منعًا باتًا، فلا يطيق شيطان الشيوعية أن يعاين كلمات الحق المدوَّنة في الإنجيل، فكانت خطته القضاء التام الكامل على كل ما يسمى إنجيل أو كتاب مقدَّس في البلاد الشيوعية. أما الأمر الذي يدعو للدهشة أن المؤمنين كانوا يعرفون الجواسيس الذين يندسون وسطهم ويبلغون أخبارهم للجهات المسئولة، ومع ذلك كانوا يتركونهم لعلهم يربحونهم للإيمان، وكانت مثل هذه الغارات التي يقوم بها سرجي تتكرر نحو ثلاث مرات أسبوعيًا، والمحاكم تتستر على الجرائم. وفي إحدى المرات تفتق ذهن المؤمنين لإقامة صلواتهم في المدافن في أول مايو سنة 1970م حيث يزور الكثيرون المدافن، فتجمع نحو مائتي شخص من المؤمنين وأخذوا يرددون الترانيم الدينية، وبدأت المقابر تزحم، فمن يأتي لا ينصرف، والبوليس يقف عاجزًا من التصدي لهم جهارًا، فأخبر " ديمتري " سيرجي ليسرع إلى المدافن وفي صحبته فرقة موسيقية عسكرية، ووصل سرجي سريعًا، وأفسدت موسيقى الإلحاد تلك الترانيم الخالدة، وملأت الكون ضجيجًا، فانصرف المؤمنون، ولكن جميعهم قد تم تصويرهم ثم تعقبهم بعد هذا، فقد حطموا قوانين الإلحاد وعليهم أن يتحملوا عقوبة هذا. الإنجيل أم الحياة: يحكي سرجي عن إحدى غزواته مع أفراد عصابته الذي يُدعى بالتنظيم أنه بعد أن تم مهاجمة منزل إجتمع فيه أثنى عشر شخصًا، لمح في يد أحدهم إنجيلًا يحاول أن يخبئه، ولكن سرجي أنقض عليه وقبض على الإنجيل المتهم وأخذ يمزقه بقسوة ويُلقي به على الأرض. أما الشخص الذي كان بحوذته الإنجيل والبالغ من العمر الخامسة والستين عامًا فلم يكف عن التوسل لسرجي أن يكف عن هذا، فسدَّد له لكمة قوية أسالت الدم من وجهه غزيرًا، وأعقبها بلكمة أخرى، فسقط الرجل فاقد الوعي، وسيرجي يتعجب من هذا الرجل ذو الإرادة الحديدية، والذي يفضل الإنجيل عن الحياة. ولكيما تقنع روسيا العالم بأنها ليست ضد الحرية الدينية قامت بطبع عشرة آلاف نسخة من الإنجيل، تم إرسال نصفها للمتكلمين بالروسية خارج البلاد، والذين يتاح لهم الإنجيل بكل سهولة، وأرسلوا ثلاثة آلاف لدول شرق أوربا، وأُرسل الألفين الباقين إلى مركز مقاومة الدين. أما عن قصة الفتاة الرائعة الجمال المعترفة الجريئة ناتاشا.. (يتبع - الباب الثالث). ما أكثر الرجال الذين زرعوا بذار الإلحاد.. مئات مئات وألوف ألوف، من مفكرين وفلاسفة وساسة ورؤساء وزعماء وحكام ومربيّن، وأجهزة تشريعية وتنفيذية، ومؤسسات مدنية.. إلخ. ولضيق المجال دعنا يا صديقي نُلقي الضوء قليلًا على عشر شخصيات فقط من الذين كان لهم باعًا كبيرًا في إرساء مبادئ الإلحاد وهم:
|
||||
07 - 07 - 2014, 03:49 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
كارل ماركس (1818-1883م.) ج: وُلِد " كارل ماركس " سنة 1818م من أبوين يهوديين في مقاطعة الراين ألمانيا، وعاش في أسرة فقيرة مُعدمة تعاني مثل غيرها من سخرة الأقطاعيين والرأسماليين. كما عانت الأسرة من الاضطهاد الواقع على اليهود والازدراء بهم وتحقيرهم من قِبل الشعب الألماني، وذلك بسبب الصراع بين السامية (اليهود أبناء سام) والآرية (الجنس الألماني) ولذلك اعتنقت هذه الأسرة المسيحية بينما كان كارل في السادسة من عمره، وطبعًا لم يكن هذا محبةً في المسيحية، إنما كان هروبًا من الاضطهاد الواقع على اليهود، وعاش ماركس في ظروف صعبة يعاني من شظف العيش، وظل هكذا حتى أنه في ديسمبر 1852م كتب إلى صديقه " كلوس " يقول له " أنني لست أفضل حالًا من سجين في بيته. ذلك لأنني لا أمتلك البنطلون الذي يستر ساقيَّ، ولا الحذاء الذي يكسو قدميَّ. وأسرتي على شفا الإفلاس والفاقة" (1). والأمر العجيب أن ماركس كتب في فجر حياته كتابًا باسم " إتحاد المؤمن بالمسيح " قال فيه " أن الإتحاد بالمسيح يعطينا السمو في الباطن، والتعزية في الأحزان، والثقة الهادئة، وتفتح القلب نحو أخوتنا، وكل ما هو سامٍ ونبيل لأجل مطامعنا وأمجادنا، بل من أجل المسيح" (2) وكتب في أحد كتبه " أن الله قد أعطى لبني البشر هدفًا مجيدًا مباركًا: الرقي بالإنسانية والسمو بالنفس" (3) وقال أيضًا في كتابه "رأس المال": "بالنسبة لمجتمع نظيرنا، أعتقد أن المسيحية بعقيدتها عن الإنسان المجرد هي أنسب صورة للديانات جمعاء" (4) ولكن ماركس ظن أن الله يعيش في برج مشيَّد عالٍ لا يبالي بالفقراء المطحونين، وعندما التقى بالفيلسوف اليهودي "موسى هس" أفسد ذهنه، وسقاه السم في العسل، وأطعمه السم في الدسم، وزرع في قلبه كراهية الله والدين، حتى قال كارل ماركس " أن المبادئ المسيحية تبشر بضرورة وجود طبقة مسيطرة وطبقات مظلومة، وتكتفي بالتميُّز للقوي، بأن تكون الأولى محسنة للثانية. إن المبادئ الاجتماعية المسيحية تجعل من السماء التعويض من كل المخازي، وتبرر بذلك إستبقاؤهم على الأرض" (5). التحق ماركس بجامعة برلين، وقرأ مؤلفات "جورج هيجل" صاحب الفلسفة المثالية الألمانية، الذي جعل الدول أولًا ثم الفرد ثانية، فقد أراد هيجل أن تكون الدولة متألّهة بينما الشعب هزيلًا بلا كرامة ولا سيادة، مما دعى ماركس لمهاجمة فلسفة هيجل، ويقول "بولس سلامة": "وكأن ماركس يقول لهيجل، أما إذا شئت الحرية فأعمد إلى الإنسان الواقعي المركَّب من لحم ودم، الذي يجوع ويعطش ويهوى ويتناسل ويخترع ويفكر وأفتح له باب الحرية قائلًا {تحرَّر أيها الإنسان، فليس الدين وحيًّا إلهيًّا، إنما أنت سيَّجت به على نفسك.. وليست الملكية الخاصة هدية منزَّلة من السماء، بل صنع يديك وسبب بلائك} بمثل هذه الضربات قوض ماركس الديالكتيكية المثالية" (6) وأيضًا تأثر كارل ماركس بأفكار " لودفيج فويرباخ" (1804-1872م) وهو من أتباع اليسار الهيجلي، وقال أن الله من صنع الإنسان، أي أن الإنسان هو الذي أبتدع فكرة الله، فالتقط ماركس هذه الفكرة وبنى عليها، وقال ما دام الإنسان هو الذي أبتدع فكرة وجود الله، إذًا جميع الأنظمة الدينية والاجتماعية هي من وضع الإنسان، وبالتالي فالإنسان يستطيع أن يُبدّلها ويزيد عليها أو ينتقص منها، وهكذا ألقى فويرباخ بذور الإلحاد، وجاء ماركس ليرويها ويقطف ثمارها المرة، وهكذا ارتبط كارل ماركس ارتباطا وثيقًا بهذا الفيلسوف المُلحد. كما استهوت ماركس " نظرية التطور " التي تُنكر الله الخالق، ووجد ضالته المنشودة في كتاب " أصل الأنواع " لداروين حيث الصراع على الحياة والبقاء للأفضل، فأنكر ماركس الوحي الإلهي والأمور الميتافيزيقية من خلود وحياة أبدية، وأعتقد أن العقائد الدينية هي وليدة العقل وليس الوحي، وشيئًا فشيئًا لم يخفِ ماركس إلحاده وازدرائه بالدين، واعتقاده أن الدين يُغيّب الشعوب عن الواقع، وقال مقولته الشهيرة أن " الدين هو أفيون الشعوب " وعندما أصدر كتابه الشهير " رأس المال " أهداه إلى " داروين " قائلًا " من محب مخلص لداروين " وأعتبر " بليخانوف " مؤسس الشيوعية الروسية أن الماركسية تعد التطبيق العملي للدروانية، التي تنادي بالبقاء للأصلح، ويقول "الدكتور كمال شرقاوي": "لقد عرف ماركس ولينين ما في افتراضات داروين من اتجاه نحو المادية والإلحاد، ولم يكن ثمة حد لإعجابهما بداروين وأفكاره، فشيَّدوا متحفًا في قلب موسكو للداروينية وتمجيد داروين، ولكي تكون الخطة مُحكمة لانطلاق الماركسية على أساس نظرية داروين.، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. فقد خطط ماركس ولينين لاستخدام هكسلي في ترويج أفكار نظرية داورين، وكان (هكسلي) في ذلك مستميتًا.. من هنا كانت أفكار داروين عونًا ومددًا لترسيخ المادية والإلحاد في المواجهة التي كانت دائرة بين العلم والدين" (7). س11: كيف تأثر ماركس بالحلم اليهودي في فردوس أرضي؟ وكيف قاده هذا إلى صراع الطبقات، وفقدان السعادة؟ ج: عاش ماركس مهمومًا جدًا برغيف العيش ومشكلات المجتمع، والحلم الذي عاشه اليهود أجداده بمجيء المسيا صاحب الفردوس الأرضي والسيطرة على العالم، هذا الحلم عاش في قلب ماركس، فصار يحلم بفردوس أرضي يتحقق على أيدي العمال المطحونين المقهورين، وعندما أنشأ جريدة ثورية في مدينة كولوني تعرضت للمصادرة، وعندما لم يسمح لماركس بالإقامة في ألمانيا هجرها، ففي عام 1843م سافر إلى فرنسا لدراسة المذهب الاشتراكي، وفي عام 1848م شارك ماركس في أحداث الثورة التي اندلعت في فرنسا وألمانيا، وعندما لجأ إلى إنجلترا، عاش حياة البؤس والفقر والمرض، ومع ذلك لم يكف عن الكتابة بمكتبة المتحف البريطاني، وهو يعيش على حلم اندلاع الثورة الاجتماعية التي كرس لها حياته. وعندما التقى ماركس بصديق عمره " فريدريك إنجلز " الذي كان يشغل مديرًا لبعض مصانع مانشستر مدَّ له إنجلز يد العون وأنقذه من الفاقة وتعاطف معه، ولاسيما أن " إنجلز " كان قد زار المناطق الصناعية في مانشستر، وتطلع إلى مئات الألوف من العمال الذين يعيشون في أسوأ حالاتهم، فيسكنون في منازل ضيقة ومهدَّمة وقذرة، لا يحصلون حتى على الهواء النقي، فالهواء مشبَّع بالرطوبة وذرات الفحم، وحتى النساء يعملنَ وهن نصف عرايا ويُعاملنَ كمعاملة الدواب، والأطفال يكدون في العمل فيدخلون إلى المناجم لفتح وإغلاق فتحات التهوية البدائية، ويقومون بأعمال شاقة لا تتناسب مع عمرهم على الإطلاق مما يؤدي لارتفاع نسبة الوفيات فيهم إلى درجة كبيرة، والعمال لا يتقاضون إلاَّ أجرًا زهيدًا لا يكفيهم قوتهم اليومي مما ترك أثرًا سيئًا للغاية في نفس إنجلز، وزاد تعاطفه مع كارل ماركس (راجع فريدريك إنجلز - ترجمة ماهر نسيم - الماركسية ص 105). وفي سنة 1849م قام " كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز " بإصدار النداء المعروف باسم "المانيفتسو الشيوعي" وذيلاه بعبارة " يا عمال العالم أتحدوا " وانتقدا في هذا النداء النظام السائد بشدة، وعرضا لحالة الفقر والقهر التي يعيشها العمال في كل مكان، ومن هنا بدأت الأفكار الشيوعية تنتشر على أنها نصيرة العمال المطحونين، وقسم ماركس المجتمعات إلى طبقة العمال الكادحة (البروليتاربا) وطبقة أصحاب العمل والإنتاج (البورجوازية) وأتهم البورجوازية بالطغيان، وحفز طبقة البروليتاريا على السعي نحو المجتمع المثالي الذي يتساوى فيه الجميع، وتصير وسائل الإنتاج ملكًا للجميع، وتنتهي الملكية الفردية والنظام الملكي، وصوَّر ماركس المجتمع المثالي الذي يسعى إليه، بأنه مجتمع يرتفع فيه مستوى المعيشة، ويعيش الكل متحررين من البطالة والفقر والجهل، وتختفي الرغبات الأنانية وتتحول إلى مشاعر جماعية، ونادى ماركس بالاشتراكية، وفي سنة 1867 م. أصدر أهم كتبه وهو "رأس المال" حيث تعرض للنظام الرأسمالي الذي يجبر العمال وخاصة النساء والأطفال على العمل لمدة 12 ساعة يومًا، وهكذا استطاع ماركس أن يحرك العمال هنا وهناك ليستردوا حقوقهم الضائعة ويلتمسوا مستقبلًا أفضل، وظل ماركس يكيل اللطمات للنظام الرأسمالي الذي شاخ وهرم، وبذلك أرسى مبدأ صراع الطبقات. وكان "ماركس" قد تزوج، وظل وفيًا لزوجته، ولكن في ظل الصراع الذي عاش فيه، بعيدًا عن الله، لم يذق طعم السعادة، وهذا ما نراه في قصيدته " نافخ المزمار " حيث يقول "أن أبخرة الجحيم تتصاعد وتلف رأسي حتى أُجن ويقسى قلبي.. أنظر إلى هذا السيف.. إنه لرئيس سلطان الظلمة وقد باعه لي" (8) وفي قصيدته " أولانيم " يقول "لقد إنتهيتُ.. خربتُ.. ضعفتُ.. وموعدي إلى الانتهاء. ها ساعتي وقت نهايتها.. ومسكني قد تهاوى إلى حطام سريع.. سوف أحتضن الأبدية إلى صدري. وأزمجر باللعنات الرهيبة: أيتها الأبدية أنت مصدر رعبنا الأبدي، أنت الموت الذي لا يوصف.. الهلاك الذي لا يُقاس.. ونحن إلاَّ ساعات آلية عمياء.. لا هدف لنا إلاَّ الانتماء للأحداث ثم الهلاك" (9). وإن كانت مثالية النظام الأرستقراطي قد أهملت رغيف العيش وقهرت العمال، فإن الماركسية اهتمت برغيف العيش، ولكنها دمرت علاقة الإنسان مع الله، ويقول "بولس سلامة": "لقد أخطأت المثالية فجاوزت حدها وأهملت الرغيف، وكذلك الماركسية فأخذت الرغيف وتركت الله نكاية بالمثالية، وأذابت الإنسان في الاشتراكية. لقد زعم هيجل أن الفكرة أو المثال هي القمة، وحسبت الماركسية أن الاشتراكية هي القمة.. الحقيقة هي الوسط، فلو كان الإنسان ملاكًا لاستغنى عن الرغيف، ولو كان حيوانًا لاكتفى بالرغيف، ولكنه إنسان رجله في التراب ورأسه في السحاب" |
||||
07 - 07 - 2014, 03:54 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
ستالين (1879-1953م.) س14: كيف قضى " جوزيف فيساري " طفولته؟ وكيف نفخ في نيران الإضرابات العمالية؟ ج: وُلِد " جوزيف فيساري نوفتش دجوغا شفيلي" (ستالين) في أسرة متواضعة فوالده كان يعمل إسكافي، وكان سكيرًا، وكان يعامل ابنه " جوزيف " بقسوة ويضربه ضربًا عنيفًا، وأمه " إيكاترينا " كانت تعمل في البيوت لتعول الأسرة، وأحيانًا كانت تسرف في حب ابنها " جوزيف " ولاسيما بسبب معاملة والده القاسية له، وأحيانًا كانت تضربه ضربًا مبرحًا، وعندما سألها فيما بعد: لماذا كانت تضربه كثيرًا؟ أجابته بأن الضرب لم يسبب له أي أذى، ولكنه في الحقيقة قد تأذى نفسيًا حتى أنه كره والدته، وخلال نحو 30 عامًا فيما بعد وعندما صار رئيسًا لم يلتقي بها سوى ثلاث مرات، ورفض دعوتها إلى الكرملين. بل أنه غيَّر اسمه من " جوزيف " إلى " ستالين " أي " الرجل الفولازي". كما قيل أن " لينين " هو الذي دعاه بهذا الاسم، لأنه كان ضمن مجموعة ثورية تحاول اغتيال أحد الرجال الموالين للقيصر الروسي، وكان " جوزيف " متنكرًا في ذي عامل، وكان يعمل مع بقية العمال في حديقة القصر، وعندما أبصر هذا الشخص، ألقى عليه قنبلة يدوية، وراح يكمل عمله وكأن شيئًا لم يحدث. وفي سن الحادية عشرة أرسلته أمه إلى المدرسة الملحقة بدير أرثوذكسي في " تبيليس"، وتعلم القراءة من خلال الكتاب المقدَّس كما أعلن خرشتوف فيما بعد، وكم حزنت أمه لأنه لم يلتحق بالرهبنة، حتى بعد أن صار رئيسًا لروسيا، ولم تكن تدري كم من الجرائم سيرتكبها هذا الابن الجاحد، وكم سيناصب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية العداء، فيحرق الأيقونات، ويهدم الكنائس.. ويفعل كل ما يحلو له. وقد عُرف ستالين بذكائه الحاد وذاكرته الخارقة، فكان متفوقًا في دراسته، كما أنه تميَّز عن أترابه بنهمه الشديد للإطلاع، وعندما كان في الخامسة عشرة من عمره اتصل بالحركات الماركسية السرية وفي الواحدة والعشرين ألقى خطابًا حماسيًا على مئات العمال في اجتماع سري، مما نتج عنه إنفجار موجة من الإضرابات العمالية، وفي سنة 1901م قام ستالين بتوزيع صحيفة " إيسكرا " أي الشرارة، والتي كان يصدرها " لينين" وهو في الخارج، ونظم مظاهرة ضمت أكثر من ألف عامل، وفي السنة التالية 1902م تظاهر ستة آلاف عامل في مدينة " باتوم " الصناعية، بفضل الحلقات السرية التي كان ينظمها ستالين، وقتل البوليس في هذه المظاهرة خمسة عشر شخصًا وأعتقل خمسمائة عامل، ثم أُعتقل " ستالين " وحُكم عليه بثلاث سنين في سيبيريا، ولكنه استطاع الهرب والعودة إلى تبليس في شهر فبراير 1904م، وأخذ يجاهد للقضاء على القيصرية في روسيا، ثم تعرَّض بعد هذا للإعتقال عدة مرات، والنفي، ولكنه استطاع العودة إلى بطرسبرج سنة 1912م وأصدر جريدته " البرافدا"، ولكن " لينين " وهو في النفي استدعاه وأرسله إلى فيينا ليتفرغ لكتابه مؤلفه " الماركسية والمسألة القومية " وقد أشاد لينين بهذا المؤَلَّف، وعندما اندلعت ثورة أكتوبر الاشتراكية سنة 1917م كان " ستالين " أحد أعضاء المركز العسكري الثوري، وطوال فترة الحرب الأهلية كان " ستالين " يقود النضال المسلح، فكان في نظر " لينين " أنه صاحب المهمات الصعبة، وعندما أُصيب " لينين " بالشلل في يده ورجله اليمنتين وحُظر عليه أي إزعاج أو نشاط سياسي، كان ستالين هناك يسهر على راحته وصحته (راجع مقال د. إبراهيم زعير (صوت الشعب) من شبكة الإنترنت). س15: ما هي محاولات ستالين للإنفراد بالحكم، والقضاء على المسيحية، وإعدام آلاف القسوس، وإغلاق الكنائس؟ ج: بعد موت " لينين " سنة 1924م تألفت الحكومة من الثلاثي ستالين، وكامينيف، وزينوفيف، ولكن ستالين تغلَّب على كامينيف وزينوفيف، وعمل على إبادة كل المعارضين له بالداخل، وحتى رفيق دربه " تروتسكي " الذي كان منفيًا في المكسيك أرسل " ستالين " من يغتاله سنة 1940م. لقد نجح " ستالين " في أن يخلّف لينين، وأحكم قبضته الحديدية على روسيا، وقام بتأميم كل ممتلكات الطبقة المتوسطة، وكان المندبون من الجيش الأحمر يصادرون الأملاك بالكامل، ويتركون تلك الأسر لتعاني الموت جوعًا، وكانت هذه أول مجاعة مُتعَمدة في العالم مات فيها ملايين البشر. S واستخدم " ستالين " أقسى أساليب العنف ضد الهيئات الدينية والمؤمنين، والمثقفين، والفنانين، والمعارضين فرجال الكهنوت حُرموا من البطاقات التموينية، ومُنعوا من الأعمال، وحُرم أبناؤهم من الالتحاق بالمدارس أو أُخذوا بعيدًا عنهم إلى الملاجئ، وأُلغيت كافة الاحتفالات الدينية، وخلال الفترة من سنة 1929م وحتى نشوب الحرب العالمية الثانية أُعدم آلاف القسس، وأُرسل الآلاف إلى معسكر السخرة، وتحوَّلت الكنائس إلى مخازن أو مدارس أو مسارح، وفي سبتمبر 1932م نشرت جريدة "الحارس" الروسية أنه بناء على خطة السنوات الإلحادية فسوف تنتهي الكنائس في مدة خمس سنوات، ويُمحق الدين من الوجود، ويخرس للأبد صوت الله،وفي سنة 1937م فقط تم إغلاق 1100 كنيسة أرثوذكسية، و240 كنيسة كاثوليكية، و61 كنيسة بروتستانتية، و110 مسجد، وأُعتبر المسلمون أيضًا عديمي الولاء للدولة، وصارت الشيوعية دينًا، وهو الدين الماركسي اللينيني، وترك الشيوعيون القليل من الكنائس كنوافذ للمراقبة وكان معظم رعاة هذه الكنائس من عملاء البوليس السري يتعاونون مع الشيطان ضد أبنائهم، حتى أن أحد الأساقفة الأرثوذكس علَّق على جبته " المطرقة والمنجل " رمز الشيوعية، وطلب من الكهنة أن يخاطبوه بـ"الأسقف الرفيق" بدلًا من "صاحب الغبطة" وبعض الأساقفة أخذوا يشيعون أن الشيوعية والمسيحية هما واحد في الأساس (راجع ريتشار وورمبلاند - جواب المسيحية على الإلحاد الشيوعي ص19، والعذاب الأحمر ص 14، 15). أما الرعاة الأمناء فكانوا مختفين عن الأعين. كما استخدم " ستالين " العنف ضد الفلاحين المعارضين للمزارع الجماعية التي توسع في إنشائها حتى وصلت إلى نسبة 60% من مساحة الأرض، وقام بتصدير القمح واللبن والجبن في حين مات أكثر من مليون طفل من الجوع ويقول "رتشارد كتشام": "وقد أعترف ستالين فيما بعد بأن تطبيق نظام المزارع الجماعية، كلف الإتحاد السوفيتي من الأرواح أكثر مما كلفته الحرب العالمية الثانية" (1). كما استخدم " ستالين " العنف أيضًا مع العمال وأجبرهم على العمل في المصانع الكبرى، وأُعتبر العامل الذي يترك العمل من نفسه " هاربًا " ويعاقب بالعمل لمدة عشر سنوات في معسكر السخرة، وما أدراك ما معسكر السخرة، فالإنسان لا يجد كفايته من الخبز، فمن تتراوح نسبة إنتاجه من 75 - 80% من المعدل المطلوب يحصل على 200 جم من الخبز، ومن يحقق نسبة 81 - 99% يحصل على 400 جم، ومن يحصل على 100% يحصل على 600 جم من الخبز يوميًا، وبينما كان نصيب الإنسان من اللحم في اليوم 22 جرام، فإن نصيب الكلب كان 250 جم، وهذه الظروف الصعبة في معسكرات السخرة رفعت نسبة الوفيات من 20 - 50%، وكان يُودع في هذه المعسكرات العمال غير المرغوب فيهم، وكان العامل يُحاسب على أي ضرر يلحق بالآلة، وفي عهد " ستالين " تمت تربية الأطفال منذ الثالثة من عمرهم على المبادئ الشيوعية، وأن الدولة هي كل شيء والفرد لا شيء. س16: هل كان ستالين مجنونًا بالسلطة؟ وكيف أدت حملات التطهير لهزيمة القوات الروسية؟ ج: عندما زاد تبرُّم الشعب وضعت الدولة دستور 1936م الذي حمل باقة رائعة من حقوق الشعب مثل حق التعليم، وحق العمل، والمساواة بين الجنسين، وحرية الصحافة والاجتماعات، وحصانة الأشخاص ومنازلهم، ولكن كل هذا وُضع من أجل تحسين صورة الشيوعية، وكانت كل هذه الحقوق هي مجرد حبر على ورق، وخلال الفترة من 1935-1939م قادت حكومة ستالين حملات التطهير البشعة، حتى وصل عدد المعتقلين بالملايين، أُعدم منهم الآلاف، وقبيل غزو هتلر لروسيا، وقد رصدت المخابرات الروسية تبرُّم قادة الجيش من الشيوعية، كانت هناك حملة تطهير شرسة في الجيش، أُعدم خلالها خمسة مارشال، وإحدى عشر نائبًا لوزير الدفاع، ومن مجلس الدفاع الأول الذي كان يضم ثمانين شخصية، أُعدم منهم 75 جنرالًا وأميرالًا، وأُعدم 90% من كل الجنرالات، و80% من كل الكولونيلات، بالإضافة إلى ثلاثين ألف ضابط آخر، ومن أجل كل هذه المذابح التي صنعها " ستالين"، فإنه عندما هاجمت القوات الألمانية الإتحاد السوفيتي، نظر الروس للألمان على أنهم محرريهم، فخرجت مظاهرات روسية ضخمة تشجع الألمان (راجع رتشارد كتشام - هذه هي الشيوعية). وفي سنة 1939م أتفق "ستالين" مع "هتلر" على غزو "بولندا" وتقسيمها بينهم، وكان هذا من أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي سنة 1941م أنقلب " هتلر " على " ستالين " وهاجم الإتحاد السوفيتي، وعندما اجتاحت القوات الألمانية الأراضي السوفيتية لم تجد مقاومة تُذكر بسبب ما قام به " ستالين " من إعدامات لجنرالات الجيش، فدخلت القوات الألمانية القرى وحرقتها عن بكرة أبيها (ولم تعتد بمعاهدة " عدم الاعتداء " التي عقدها هتلر مع ستالين في 23 أغسطس 1939م) واضطر " ستالين " إلى بذل قصارى جهده للتصدي للقوات الألمانية إلى أن أنتصر عليها في موقعة ستالنجراد في 9 مايو 1945م، فارتفعت أسهم " ستالين " إلى السماء، وأُعتبر هو المؤسس الحقيقي للإتحاد السوفيتي، وصانع النصر على دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) وذلك بالرغم من أن الإتحاد السوفيتي قد تحمل خسائر بشرية أكثر من أي بلد أخرى، وفي سنة 1947م فاز في دائرته الانتخابية بنسبة 131% بحجة أن المواطنين جاءوا من الدوائر الأخرى ومنحوه أصواتهم، وصار " ستالين " موضع تكريم القيادات السوفيتية، وطالما تغنت له وسائل الإعلام، وانتشرت كتبه في أرجاء البلاد، فلم تخلو منها مكتبة. س17: هل استطاع ستالين أن يحقق السعادة في حياته؟ وكيف أعدُّوه مجرمًا بعد موته؟ ج: لم يعش " ستالين " سعيدًا في حياته، وكان قد تزوج مرتين، الأولى يهودية وتدعى " روزا " وقد ماتت بالسل سنة 1907م أي قبل قيام الثورة بعشر سنوات، وقيل أنه لم يكن يملك المال الكافي لعلاجها، بعد أن أنفق ماله على الحزب، وكان قد أنجب منها " ياكوف " الابن الأكبر الذي حاول الانتحار ذات مرة ونجا، ثم ألتحق بالجيش، وتعرض للأسر من القوات الألمانية، ورفض ستالين أن يميزه في تبادل الأسرى، وفي محاولته للهرب قُتل. أما زوجته الثانية (ناديا) فقد تزوجها سنة 1917م وكان عمرها 17 سنة، وكانت شيوعية متحمسة وابنة أحد زملائه المقربين، وكانت تدرس الهندسة، وأنجبت له طفلين، وأخيرًا انتحرت بالرصاص بسبب خلافاتها مع ستالين، ولاسيما بسبب تعدد علاقاته العاطفية وأُعلن أنها ماتت بسبب التهاب الصفاق. وأيضًا كان " ستالين " يعاني من فقدان الثقة بالجميع، بعد أن قتل معظم رفاقه، وكان يتوقع الاغتيال، فخصص ثمان حجرات للنوم تُغلق جميعها بإحكام، ولا يعرف أحد في أي حجرة يبيت، ولم يكن يتذوق الطعام إلاَّ بعد أن يتذوقه الطاهي أولًا، وسمعه " خروششتوف " وهو يقول "لم تعد لي ثقة في إنسان ما" (2). وفي أول مارس 1953م في مأدبة عشاء وبحضور وزير الداخلية السوفيتي " لافرينتي بيريا" و"خروششتوف " تدهورت حالة " ستالين " الصحية، ومات بعدها بأربعة أيام بجلطة في المخ، وحُنطت جثته، ووضعت بجوار جثة لينين، وفي الجلسة العشرين للحزب الشيوعي ندَّد خروششتوف بستالين، حتى وصفه بالسفاح الجماعي، والقاتل ليس لأعدائه فقط بل ولأصدقائه أيضًا، وبين ليلة وضحاها أنقلب المديح والتكرم لستالين إلى سب ولعنات، وشيئًا فشيئًا أصدر خروششتوف أوامره السرية بقتل كل كبار المسئولين الذي شايعوا ستالين، وأن يتم ذلك بطريقة لا تثير الشكوك لدى أحد، ويقول "بيتر أوهل " رئيس وكالة الأنباء التشيكية أن " ستالين من سنة 1924 بعد الانتصار في حرب التدخل بدأ سياسة إرهابية تخريبية لم يكن لها مبرر قط.. ويعتقدون أن ستالين خان الشعب الروسي" (3). وبعد موت ستالين في 5 مارس 1953م الذي جمع بين الإرادة الحديدية وقسوة العنف الذي لا يرحم، حكم بعده " لافرينتي بيريا " ثم " نيكيتا خروششتوف " ثم " جورجي ماللينكوف " وقد بدأت الشيوعية في تغيير ملابسها، وتحسين مظهرها، فبدأ الإتحاد السوفيتي يغير أسلوبه وليس سياسته، وبدأ يتحدث عن التعايش السلمي، وأبدى رغبته في مساعدة الدول النامية، وأجتذب إليه بعض دول الشرق الأوسط، وفتح باب البعثات العلمية إليه، ومن خلال هذه البعثات كان ينشر فكره في العالم كله، وبدأ السياسيون السوفيت ينفتحون على العالم ويزورون الدول الغربية، ويشجعون الغربيين على زيارة أراضيهم، مع تحاشى الحديث عن المذهب الشيوعي الذي فاحت رائحته، فلم يعد أحد من الشعوب يقبله، وما حققته الشيوعية من نجاحات بسبب انتصاراتها في الحرب العالمية الثانية بدأ يضمحل، ولم تعد الشعوب تقبل التواجد السوفيتي في أراضيها إلاَّ لهدف معين، وهو تحدي الولايات المتحدة وشركائها الغربيين، أما نيكيتا خروششتوف الذي أنتقد سياسة ستالين بشدة ووصفه بأنه مجرم حرب، فاستمر في نفس السياسة حيث المحاكمات السرية ورمي المعارضين بالرصاص وقمع الحريات |
||||
07 - 07 - 2014, 03:57 PM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
هولباخ (1723-1789م.) س18: كيف كانت حياة هولباخ أشهر فيلسوف فرنسي مُلحد؟ وكيف كان يروّج لأفكاره عن طريق صالونه الأدبي؟ ج: وُلِد " بول هينريش ديتريش هولباخ" Holbach في عام 1723م في أسرة كاثوليكية من أصل ألماني، وكان جده ثريًا، ودرس " بول " العلوم وتعلَّم اللغة الإنجليزية، وأستقر المقام به في باريس فأصبح من رعايا فرنسا، وتزوج من أسرة من خبراء المال، وسماه المحيطون به بالبارون لأنه كان يملك ضيعة ضخمة، وفي داره كان هناك صالونه الأدبي الذي أُشتهر به جدًا، حتى أن أحد الظرفاء دعاه " مقهى أوربا " فهو لم يكن صالونًا للأدب فقط، إنما كانت تقام فيه ولائم العشاء كل يوم أحد وكل يوم خميس، حيث يستضيف نحو أثنى عشر شخصًا هم في الغالب من الذين يهاجمون المسيحية، وعندما يكون الجو لطيفًا يتمشون على ضفاف نهر السين ويتناولون عشاؤهم من الأسماك، وبلغ " صالون هولباخ " من الشهرة، أن الأجانب الذين كانوا يزورون باريس، كانوا يسعون للحصول على دعاوي للحضور، وفي هذا الصالون كان الكلام مباحًا في كل شيء وضد كل شيء، الألوهية، والخلود، والموت والحياة، والإلحاد.. إلخ. وكان عدد الحاضرين يرتفع أحيانًا إلى سبعة عشر شخصًا يفتخرون بإلحادهم. وكانت زوجة هولباخ تعيش لزوجها فقط، فمتى فرغت من الترحيب بضيوف زوجها، وتقديم ما لذ وطاب، تجلس في ركن منعزل وتنصرف في شغل الأبرة، دون أن تشارك في المناقشات، وماتت هذه الزوجة الوفية في ريعان شبابها، وظل زوجها الذي وُصف بالبساطة والوداعة والكرم يعاني من اليأس، وبعد سنتين تزوج من أخت زوجته التي لم تقل في الإخلاص عن زوجته الأولى. وكان البارون ينظر نظرة عداء شديدة للكنيسة، فقال أنها تسيطر على التعليم وتسد الطريق أمام المعارف العلمية، وكتب هذا في مقالتين في دائرة المعارف وهما "آباء الكنيسة" و"الحكومة الدينية". وفي سنة 1761 م. كتب "هولباخ" "المسيحية في خطر " ونسبه إلى " بولانجيه " الذي مات من سنوات، ومُنع هذا الكتاب من التداول، حتى أنه عندما ضُبط أحد الباعة المتجولين وهو يبيع الكتاب حُوكم، وحُكم عليه بالتجديف في المراكب الشراعية لمدة خمس سنوات. كما حُكم على غلام آخر أشترى الكتاب ليعيد بيعه، بنفس الحكم السابق لمدة تسع سنوات، وجاء في الكتاب العبارة التي استخدمت كثيرًا فيما بعد وهي " الدين أفيون الشعوب". وفي سنة 1766م كتب " هولباخ " الأدب المعادي للكنيسة " قائمة القديسين" و"الوقفة المقدَّسة" و"آباء الكنيسة بغير قناع" و"القساوسة الدينية وتحطيم الجحيم " وهاجم الكنيسة بعنف، كما هاجم تحالف الملوك مع الكنيسة والذي وصفه بالشر الأساسي في فرنسا، وفي سنة 1767م أصدر "هولباخ" كتاب "اللاهوت السهل الحمل" سخر فيه كل السخرية من المبادئ اللاهوتية، وأجمل القول بأن اللاهوت هو رغبة الكنيسة في التسلط على الشعب، وفي سنة 1768م نشر " هولباخ " كتاب " العدوى المقدَّسة أو التاريخ الطبيعي للخرافة " وإدعى أنه مجرد ترجمة من كتاب جان ترتشارد الإنجليزي. وفي سنة 1770م أصدر " هولباخ " أقوى كتبه ضد المسيحية وهو " فضح أسرار المسيحية ومنهج الطبيعة " حيث طُبع في مجلدين باسم مستعار وهو مسيو ميرابو Mirabaud وطُبع في أمستردام بهولندا، وكان ميرابو يشغل منصف سكرتير الأكاديمية الفرنسية من قبل ومات منذ عشر سنوات، ووصل الكتاب مُهرَّبًا من هولندا إلى فرنسا، حيث تهافت الناس على شرائه. مما دعى الملك لويس الخامس للتدخل، فأمر النائب العام باتخاذ الإجراءات اللازمة حيال هذه الكتب، فشجب النائب العام سبع كتب منها كتاب " منهج الطبيعة " لأنها تدعو الشعب للتمرد على الديانة والحكومة، وتم اعتقال مؤلفي هذه الكتب، ورغم أن كثيرين كانوا يعلمون أن هولباخ هو مؤلف كتاب " نهج الطبيعة " إلاَّ أنهم لم يرشدوا عنه، فلم يُعتقل، وقالوا عن كتاب " منهج الطبيعة " أنه أشمل وأكمل وأصرح عرض للمادية والإلحاد في تاريخ الفلسفة بأسره. أما " فريدريك الأكبر " الذي كان يخطب ود الفلاسفة، فقد أنقلب عليهم بسبب كتاب " منهج الطبيعة " الذي يهاجم فيه " هولباخ " رجال الدين والملوك، ويحقر من الملوك، وينال من الإله. س19: كيف كانت نظرة هولباخ للدين، والمادة؟ ج: نظر " هولباخ " للدين على أنه وليد خيال الإنسان وجهله، فالجهل يجعل الإنسان يفسر الأمور المجهولة عن طريق الدين، والجهل يقود الإنسان للإيمان بالآلهة، فسبب إيمان الإنسان بالله هو عدم فهمه للطبيعة والمادة التي هي في حركة دائمة، أما العلم والاستنارة فأنهما يقضيان على الدين، وقال " هولباخ " أن الإنسان اعتقد بإله غاضب دائمًا، ولذلك فهو يسعى لتهدئة غضبه بالتدين، وقال " هولباخ " أن المستفيد الأول هم الحكام ورجال الدين، فالحكام يقنعون الناس بأن سلطتهم من الله، ورجال الدين كوّنوا ثراواتهم من التجارة بالدين ولذلك فإن العالم سيكون أفضل كثيرًا بدون رجال الدين والملوك وقال " هولباخ": "أن الدين أصبح في يومنا الراهن فنًا جعل الناس سكارى بالحماس، بهدف صرف انتباههم عن الشرور التي يلحقها بها حكامهم على هذه الأرض وجعلهم يقبلون التعاسة في هذا العالم على رجاء الحياة السعيدة في العالم الآخر" (1)كما قال " هولباخ": "أن الإنسان الذي يسمح لنفسه أن يؤمن بالدين، سوف يكون على أهبة الاستعداد للإيمان بأي شيء يقول به الدين" (2). واستنكر " هولباخ " لفظة الجلالة " الله " حتى لو أُطلقت خطأ على الطبيعة، فلم يوافق على " وحدة الوجود " أي أن الله كل شيء، وكل شيء هو الله، وقال أن لفظتي " الله" و"يخلق " ينبغي أن تختفيان تمامًا من لغة الذين يريدون أن يتحدثوا بلغة مفهومة، فهاتان اللفظتان أبتدعهما الجهل، و"أن صديق الجنس البشري لا يمكن أن يكون صديقًا للإله الذي كان في كل الأوقات سوطًا مُسلطًا على الأرض " ومن أجل تصلف " هولباخ " هذا أطلق عليه المعاصرون له " العدو الشخصي لله سبحانه وتعالى". ويرى " هولباخ " أن الدين يقود الإنسان للخزعبلات، فيقول "أنه عندما حلت المجاعة بباريس عام (1725م) وبدأت مقدمات الثورة تظهر في الأفق، قام الناس بإحضار التابوت الصغير الذي يضم رفات القديسة جنفياف راعية باريس، التي يعبدها الباريسيون، وأخذوا يطوفون في شوارع باريس حتى يقضوا على الكارثة التي نزلت بهم" (3). وقال " هولباخ " أن بناء الفضيلة والأخلاق على المعتقدات الدينية عمل فيه مجازفة ومخاطرة، لأن الفضيلة والأخلاق تصير وهمية مثل الدين الذي قامت عليه، ولذلك فالذي يكتشف زيف الدين فإنه سيكتشف زيف الأخلاق التي بنيت على الدين، وحتى لو ساعد الدين على اقتناء الأخلاق، فهذا لا يتوازن مع الضرر الذي يُلحقه الدين بالإنسان، ورد " هولباخ " على الذين ربطوا بين الإلحاد والانحلال الخُلقي، وقال أن الإلحاد لن يغير طبيعة الإنسان من طيب إلى شرير أو من شرير إلى طيب، فالإنسان وما جُبل عليه، وهاجم فكرة توارث الخطية وقال أنها فكرة سخيفة، فالإنسان شرير ليس لأنه وُلِد هكذا، بل لأنهم صيَّروه شريرًا، والإلحاد لا يصلح أن يكون عقيدة، وبالتالي فلن تنجم من ورائه أية أخطار سياسية، أما الإنسان الذي يكبح جماحه بسبب عقيدة الجحيم فهو إنسان جبان، وأكثر من هذا أن " هولباخ " ربط بين الإلحاد والفضائل الاجتماعية، وقال أن الإلحاد يشجع على اقتناء هذه الفضائل، وأن العقل والذكاء هما أسمى فضيلة تصل بالإنسان للسعادة. أما نظرة " هولباخ " للمادة، فإنه كان يرى أن الطبيعة هي كل شيء، وهي الخالقة لكل شيء فالنظام والتناسق الرائعان في الكون لا يرجعان لوجود الله، بل للطبيعة التي تعمل بطريقة ميكانيكية، وهي التي تدفع بالإنسان للإقلاع عن الشرور، وهي التي تهب السعادة للإنسان، وأن الطبيعة لا تعمل بمحض الصدفة، ولا تعرف الفوضى إنما تعمل طبقًا لقوانين ثابتة وقوامس لا تتغير، والمادة ليست شيئًا خاملًا، إنما هي في حركة دائبة، وقال " هولباخ": "أن الطبيعة تدفع الناس إلى التغلب على الشرور والانتصار عليها عن طريق إدراك القوانين التي تسير الطبيعة بمقتضاها، في حين أن الدين يحول بينهم وبين السعي لتحقيق هذا الهدف لأنه يجعلهم يتطلعون إلى السماء ويشخصون بعيونهم إليها ويركزون أبصارهم عليها" (4). وفي سنة 1704م عندما أصدر " صامويل كلارك " كتابه " مبحث عن وجود الله وصفاته " ونسب لله الصفات الإلهية مثل الخلود وعدم المحدودية واللانهائية، قال " هولباخ " أن جميع الصفات التي نسبها كلارك لله مثل الخلود واللانهائية غير قابلة للفهم، بل هي تنطبق على المادة والطبيعة بصورة أوضح. لقد كاد " هولباخ " يصوّر الطبيعة كأنها الله، مع أنه رفض فكر الذين يعتقدون أن الطبيعة هي الله، أي الذين يؤمنون بوحدة الوجود، وفي فقرة ختامية بكتابه " منهج الطبيعة " أخذ يناجي الطبيعة قائلًا " أيتها الطبيعة، يا سيدة كل الكائنات!! أن بناتك الفاتنات الجديرات بالتوقير والعبادة - الفضيلة والعقل والحقيقة - يبقين إلى الأبد معبوداتنا الوحيدات: أن إليكِ تتجه كل تسابيح الجنس البشري وينصب عليك ثناؤه، وإليكِ يقدم كل ولائه وإجلاله" (موقع بالنت) ورأى " هولباخ " في العوامل الطبيعية من رياح وعواصف وزوابع وبراكين، وأيضًا في الحروب والطاعون والمرض، كلها أمور ضرورية لمسيرة الطبيعة الأدبية، مثلها مثل حرارة الشمس. ورأى " هولباخ " أن " الروح " ما هي إلاَّ مجرد تنظيم الجسم ونشاطه، ولا يمكن أن يكون لها كيان مستقل عن الجسد، وأن القول بأن الروح بعد الموت وفناء الجسم تحس وتفكر وتنعم وتعاني، مثل الزعم أن الساعة التي تتهشم إلى ألف قطعة تستمر دقاتها ساعة بعد ساعة تعلن مرور الوقت، فقد أنكر " هولباخ " طبيعة الروح والخلود والحياة الأبدية. ويقول "رأفت شوقي": "يقول هولباخ أن الإيمان بوجود حياة أخرى لا يعدو أن يكون سرابًا خادعًا من شأنه أن يصرف أنظار الناس عما هو أهم منها، وهو المجتمع في الوقت الحالي.. ويعزي هولباخ نشأة الدين إلى الخوف الذي يشعر به الإنسان البدائي نحو المجهول.. فالدين في الأصل يرجع إلى الإيمان بوجود إله غاضب وأنه بالإمكان تهدئة غضبه، والكهنة يقيمون حقوقهم ومعابدهم ومحرابهم وثروتهم ومعتقداتهم الجامدة على أساس هذه الفكرة الصبيانية المضحكة.. إن الدين أصبح في يومنا الراهن فنًا جعل الناس سكارى بالحماس بهدف صرف انتباههم عن الشرور التي يلحقها بهم حكامهم على هذه الأرض، وجعلهم يقبلون التعاسة في هذا العالم على رجاء الحياة السعيدة في العالم الآخر، ويرى هذا الفيلسوف المُلحد أن هذه النظرة تسئ إساءة بالغة إلى مبادئ الأخلاق لأن الإنسان الذي يكشف زيف الإحساس الديني الذي تبنى عليه الأخلاق يفترض أن مثل هذه الأخلاق لابد أن تكون زائفة زيف الدين نفسه.. إن صديق الإنسان الحقيقي هو من يحطم فكرة وجود الله.. إن الطبيعة هي كل شيء والخالقة لكل شيء" (5). وقد أخذت الماركسية من الفكر المادي للفلاسفة الفرنسيين مثل فكر هولباخ في القرن الثامن عشر، وبنت عليها فلسفتها الإلحادية. أما الرد على هولباخ فنرجئه إلى الكتاب القادم عندما نتحدث عن ثمار الإلحاد والرد عليها. |
||||
07 - 07 - 2014, 03:58 PM | رقم المشاركة : ( 6 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
جورج هيجل (1770-1831م.) ج: درس " هيجل " Hegel في كلية اللاهوت البروتستانتية، وكان مهيئًا أن يصبح قسًا إنجيليًا، ولكنه غير طريقه من اللاهوت إلى الفلسفة، وقالوا عنه أنه أعظم فلاسفة ألمانيا، وقد سكن في شبابه في غرفة واحدة مع صديقه " هولدرين " أعظم شعراء ألمانيا، وتعرَّض هولدرين للجنون، أما " هيجل " فقد ترك الإيمان المسيحي وأقتنع بالفلسفة العقلانية التي تؤلّه وتسيّد وتعبد العقل، كما تأثر جورج هيجل بالداروينية، وقال أن داروين بنظريته عن التطوُّر قد سحق الاعتقاد برواية الخلق الإلهية (التي سجلها سفر التكوين) بضربة واحدة، وراح " هيجل " يطبق " نظرية التطوُّر " على الأديان، وقال أن الأديان تُعبر عن مراحل مختلفة من مراحل تطوُّر الفكر البشري، فالدين تطوَّر من العصر التوتمي إلى السحر إلى العبادات الوثنية إلى اليهودية إلى المسيحية، وكل دين يُعبر عن أعلى مستوى وصل إليه العقل البشري حينذاك، ولذلك فإن كل الأديان تعتمد على الأساطير التي تختلف من عصر إلى عصر، وأنكر هيجل وجود الله الخالق، وكذلك الوحي الإلهي، وادعى أنه قادر على صنع إنسان، فقال " أعطني هواء ومواد كيميائية ووقتًا وأنا أعطيك إنسانًا". وكان " هنرش هاين " معجبًا بأعمال الله في الخليقة، فكتب يقول "أن أعماق الخليقة الحيَّة المسطَّرة في أسرار صفحة السماء الزرقاء.. أسرار الشروق وجمال الغروب. أسرار الولادة وأسرار الموت، بل دراما النفس البشرية بكافة صوَّرها هي مسطَّرة في كتاب واحد. ذلك هو كتاب الكتب (يقصد الكتاب المقدَّس) " ويحكي " هنرش هاين " عن حديثه ذات مرة مع أستاذ هيجل فيقول "في ليلة جميلة صافية كنت أقف مع أستاذي هيجل نتطلع إلى السماء من خلال النافذة، وأبديتُ تحمسًا عظيمًا وأنا أتحدث عن النجوم، وألقّبها بمساكن المطوبين، أما أستاذي (هيجل) فأنه أبدى الضيق من حديثي وهو يقول: هذه النجوم؟ أنها البرص الذي يلطخ صفحة السماء؟ |
||||
07 - 07 - 2014, 04:02 PM | رقم المشاركة : ( 7 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
آرثر شوبنهَور (1788-1860م.) نظرًا للتأثير الكبير الذي تركه " شوبنهور " على " نيتشه " الذي تتلمذ على كتبه وأفكاره، وهو ما أنتقل بالتبعية إلى " هتلر " والنازية، وما نجم عنها من مآسي خلال الحرب العالمية الثانية لذلك تجدني مضطرًا لفرد مساحة أكبر لشوبنهور، ذلك الفيلسوف المُلحد، لنتحدث قليلا عن حياته، وإلحاده وازدراءه بالدين، وتشاؤمه ومخاوفه، وفلسفته، وتناقضه مع نفسه، وبعض أقواله، وموته. ولك يا صديقي أن تلاحظ أفكار شوبنهور تنتقل إلى تلميذه نيتشه، وتسري أفكار نيتشه المسممة في عروق هتلر، وهذا يدعونا للتدقيق في أي فكر يُعرَّض علينا، ولا نقبل الأفكار بسهولة، ولا ننقل الأفكار الهدَّامة. س21: هل تأثر شوبنهور بانتحار أبيه وجنون جدته؟ وهل نجح في حياته العملية والأكاديمية؟ ج: وُلِد الفيلسوف الألماني " آرثر شوبنهَور " في مدينة " دانزج " في 22 فبراير سنة 1788م، وكان والده ثريًا وصاحب مصرف كبير، فعاش آرثر حياة الرفاهية التي ربما لم تتاح لعباقرة التاريخ، وكان والده يحب الترحال، وكان معجبًا بالفيلسوف الفرنسي " فولتير"، ولم يكن مقتنعًا بالتعليم المدرسي لذلك كان يصبو إلى أن يكون ابنه من رجال الأعمال، وعندما كان آرثر في سن الخامسة أصطحبه والده في رحلة إلى إنجلترا، وفيها ألتحق هذا الطفل بمدرسة داخلية لمدة ثلاثة أشهر، وكان ناظر المدرسة قسًا، يبالغ في ممارسة الطقوس مما جعل " آرثر " أن ينفر من الممارسات الدينية. وفي سن السابعة عشرة مات والد آرثر منتحرًا، كما أُصيبت جدته لأبيه بلوثة عقلية، ربما بسبب حزنها المُفرط على ابنها المُنتحر، وانقلبت حياة آرثر إلى حياة شقاء بعد أن فقد أبيه، وأيضًا بسبب خلافاته المستمرة مع أمه الروائية التي كانت تعشق الأدب، وقد افتتحت صالونًا أدبيًا يؤمه كبار رجال الأدب، مثل أستاذه " جوته"، وعاشت الأم حياة التحرُّر من كل قيود الفضيلة، فكان الابن دائم الخلاف معها، وفي إحدى المرات تشاجر معها فدفعته على درج السلم فسقط بعض الدرجات، فقاطعها ولم يرها ثانية حتى موتها، وربما ما عاناه من هذه الأم التي لم تحتويه بعد موت أبيه، جعله يعزف عن الزواج نهائيًا. وحاول " آرثر شوبنهَور " العمل بالتجارة كما كان يرغب أباه فالتحق بمكتب تجاري لمدة عامين، إلاَّ أن هذا العمل لم يستهويه، فتركه وأتجه لدراسة اللغتين اليونانية واللاتينية، والتحق بمدرسة " جوثا " ولكن بسبب تعاركه مع أحد المدرسين تعرَّض للطرد من المدرسة، فالتحق بجامعة جوتنجن لدراسة الطب، وأمضى بها عامين (1809-1811) فلم توافق ميوله أيضًا فتركها، واتجه إلى جامعة برلين لدراسة الفلسفة، فدرس أفلاطون، وعمانويل كانط وتأثر بهما، ورأى أن الإنسان يجب أن يتحرَّر من قيود الدين وهو يدرس الفلسفة، وفي سنة 1813م حصل على درجة الدكتوراه تحت عنوان " الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي " وقصد بالسبب الكافي علاقتنا مع العالم الخارجي، وقصد بالأصول الأربعة العلاقة بين المبدأ والنتيجة، وبين العلة والمعلول، وبين الزمان والمكان، وبين الداع والفعل، والصور الثلاث الأولى تخص التطوُّر النظري، أما الرابعة فتخص العمل والفعل، وطبع الرسالة على نفقته، وقدم لها الفيلسوف الألماني " جوته " ومع ذلك فإن الكتاب لم يلاقي نجاحًا، وكان كثيرًا ما يحتقر "شوبنهَور" أساتذته في الفلسفة، وهم بدورهم وصفوه بالكبرياء والغرور. ولم يشغل " شوبنهَور " نفسه بالعمل نظرًا لعدم حاجته للمال، فكان يعيش بلا قيود، وفي سنة 1814م قدم أهم أعماله الفلسفية كتاب بعنوان " العالم كإرادة وفكرة " وكان منبهرًا بهذا العمل، حيث أظهر اهتمامه بفلسفة " توماس هوبز " وبناء على هذا العمل حصل على وظيفة مُحاضر في جامعة برلين، ولكن لسوء حظه أنه كان يُحاضر في ذلك الوقت فيلسوف ألمانيا "جورج هيجل"، فانصرف الطلبة عن محاضرات " شوبنهَور " وفشل في حياته الأكاديمية، ولم يتم رواج كتابه كما كان يتوقع، بل أن الناشر اضطر إلى بيعه بعد عشرة سنوات كأوراق مستعملة، وعزىَ " شوبنهوَر " هذا الفشل إلى أن هناك مؤامرة تُحاك حوله من جميع المفكرين والفلاسفة الذين نعتهم بالحمير قائلًا " أن كتابي هذا مثل المرآة، فإذا نظر فيها حمار فلا تنتظر أن يرى وجه ملاك " وكان " شوبنهوَر " يشعر بالغرور دائمًا، فيقول "أن فلسفتي هي في حدود المعرفة بصفة عامة، الحل الحقيقي للغز العالم، وبهذا المعنى يمكن أن نسميها " رؤيا " وهي مُستوحاة من روح الحقيقة. بل هناك في الكتاب الرابع (العالم كإرادة وفكرة) بعض الفقرات التي يمكن أن نقول أنها مستوحاة من الروح القدس"(10). وفي سنة 1831م عندما انتشر مرض الكوليرا في برلين أسرع " شوبنهَور " بالفرار منها متجهًا إلى فرانكفورت، فعاش فيها 27 عامًا حتى موته، ورغم أن كتبه لم تجد صدى لدى القراء إلاَّ أنه أصدر بحثه المنشور سنة 1851م بعنوان " باربيرجيا " يشرح فيه رأيه في الدين والأدب وعلم النفس، ويُهاجم الفلسفات التي تُدرَّس في الجامعات الألمانية، ولم يحفل " شوبنهور " بالسياسة، بل فضل حياة الاستقرار وكان نصيرًا للنظام، وأبغض الثورة التي نشبت في ألمانيا سنة 1848م لأنها تخل بالنظام القائم، وتعاطف مع الجنود النمساويين وساعدهم على إخماد الثورة، وتبرع بجزء كبير من ماله للجنود الجرحى، ولم يكن لدى " شوبنهور " الحس الوطني، لأنه كان يرى في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أوطانًا بجوار وطنه. س22: كيف نظر شوبنهور للطبيعة الجامدة؟ وكيف تنكر للدين، وأحتقر رجال الدين، وأُعجب بالبوذية؟ ج: أقرَّ " شوبنهور " بالإبداع والإتقان والإرادة في خلق الكون، ولكنه لم يُرجع هذا لله، إنما أرجعه إلى الطبيعة الجامدة، وقال أن فكرة الدين هي من صُنع البشر الذين ابتكروها لتفسير الأمور المجهولة لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، وكان الغرض من الدين تنظيم حياة مجموعة من الناس بحسب ما يراه مؤسس الدين، وليس حسب الاحتياجات الحقيقية للناس، الذين عن جهل قرَّروا الالتزام بمجموعة القيم البالية، وأن الديانات من المستحيل أن تكون صادرة من مصدر واحد، فالإله الذي قتل كل أبكار المصريين، ليس هو الإله الذي ينصحك بالتسامح وتحويل الخد للآخر [وكأنه يريد إلهًا إما أن يكون عادلًا فقط وإما أن يكون رحيمًا فقط]. وكان " شوبنهور " بحكم تربيته يحتقر رجال الدين والدين والكنيسة، وكان يعتبر أن الدين هو ميتافيزيقيا الشعوب، ورغم أنه كان يزدري بالمسيحية إلاَّ أنه لم يخفي إعجابه بها لأنها تكبح جماح الشهوات عن طريق الصوم، ولم يُخفي إعجابه بالقديسين لأنهم ينكرون إرادتهم الفردية، ولكنه فضل البوزية جدًا عن المسيحية، لأنها تفوق المسيحية في إنكار الإرادة والأنا، ولأنها المنفذ الذي يُخرِج الإنسان من شقائه، وأعتقد " شوبنهور " إن أسمى درجات الكينونة تتمثل في حالة " النيرفانا " أي تلاشي " الأنا " في الواحد السرمدي كما تقول الديانة الهندوسية، وأعتقد أيضًا " شوبنهور " بتناسخ الأرواح، وقال حتى لو كان ليست حقيقية، لكنها تنقل لنا الحقيقية في شكل أسطورة. ويقول عنه " دكتور رمسيس عوض": "ورغم إيمانه بأن فكرة تناسخ الأرواح ليست حقيقة بمعناها الحرفي فإنها تنقل لنا الحقيقة في شكل أسطورة. ولم يجد شوبنهور مخرجًا من شقاء الإرادة الإنسانية غير الإيمان بالبوذية وضرورة تحطيم هذه الإرادة وإفنائها.. والرجل الفاضل في نظره يصل إلى حالة الزهد عن طريق التمسك بأهداب الطُهر والعفاف ومداومة الصيام وتعذيب الذات وانتهاج طريق الفقر طواعية واختيارا، وهو يفعل كل هذه الأشياء سعيًا وراء تحطيم إرادته كفرد، وليس بهدف تحقيق التوازن والانسجام بينه وبين الله كما هو الحال مع المتصوفيين الغربيين" (1). وقال " شوبنهور " مُنكرًا الوجود الإلهي " أنا وحدي الموجود، ولا شيء يوجد عداي، لأن العالم من امتثالي وتصوُّري" (2).. كما قال أيضًا مُنكرًا فكرة الثواب والعقاب " يُقال أن السماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا.. وأنا أظن أنه بإمكاننا أن نحاسبها أولًا عن " المزحة الثقيلة " للوجود الذي فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟"(11). س23: هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على فلسفة شوبنهور التشاؤمية؟ ج: كان " شونبهور " ينظر للحياة على أنها شر مُطلق وتعاسة وشقاء، فليس كل تعاسة إلى سعادة، بل كل سعادة إلى تعاسة، وليس كل شقاء إلى راحة، بل كل راحة إلى شقاء، وليس كل مرض إلى شقاء، بل كل صحة إلى مرض، فرأى أن الشقاء والعناء والمرض والألم والموت الأصل والأساس، وماعدا ذلك فهو الإستنثاء، ورأى في الحياة أنها صراع مستمر وقتال متواصل لا يهدأ، وغض النظر عن صور التعاون الفائقة في الطبيعة، ولذلك فضل الانتحار عن الحياة. ومما زاد من تشاؤم " شوبنهور " المزاج الغير سوي الذي لازمه، والحقد والكراهية اللذان ملأ قلبه، وفقدانه للود، فلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء، ولم يكن له سوى كلب أطلق عليه اسم " أطمأ " وهو اسم يُطلق على الروح الكلي عند البراهما، أما سكان الفندق والقريبون منه فقد دعوا هذا الكلب باسم " شوبنهاور الصغير". فكان " شوبنهور "يشعر بالعداء للحياة والأحياء، وأيضًا زاد من شؤمه قراءته في كتب الديانة الهندوسية والبوذية، والتي تعتبر أن المادة شر والطبيعة شر والجسد شر، ولا يصل الإنسان للخلاص، إلاَّ بالوصول إلى حالة النيرفانا، وأيضًا زاد من تشاؤمه فشله في الدراسة الأكاديمية، وفي الاحتفاظ بمنصبه في التدريس بالجامعة، وفي عزوف الناس عن كتبه، وزاد من تشاؤمه انتحار أبيه وانشغال أمه عنه وإصابة جدته بلوثة عقلية، وأستاذه الذي كان يجله الفيلسوف " جوته " يصرف أوقاته مع أمه، وأيضًا عاش " شوبنهور " في فترة دمرت الحروب كل ما هو جميل في أوربا، وشردت آلاف الأسر، ونشرت الفقر والبؤس والشقاء، وهذا ما رآه شوبنهور في الحياة أنها تعاسة وشقاء وعناء وألم ومرض وموت. وهكذا كان " شوبنهور " يعيش في قلق زائد وتوجس لا يأمن لأحد، فيغلق الأبواب بعناية شديدة، ولا ينام إلاَّ وسلاحه بجواره محشو بالرصاص، ولم يُسلم رقبته لموسى الحلاق طوال حياته، لئلا يتآمر مع الآخرين ويذبحه، فقد كان يسئ الظن بجميع الناس، ويرى نفسه هدفًا لتآمر الناس واللصوص، ويقول عنه " دكتور عبد الرحمن بدوي": "ويقولون لنا أنه كان طوال حياته فريسة لكثير من المخاوف الشاذة التي تصل إلى حد الفزع المرضي، وفي سنة السادسة في أثناء تريّضه توقف مرة وشعر بالوحدة المخيفة وتخيل أن أبويه يريدان الخلاص منه، وحينما كان طالبًا في جامعة برلين كان يتصوَّر أنه مصاب بالتدُّرن، ولا يكاد يسمع دنو الحرب من برلين حتى يولي هاربًا مذعورًا، وظل دائمًا يَحذر الناس، ويعتقد أنهم جميعًا أعداء واقفون لإيذائه بالمرصاد" (3). وقامت فلسفة شوبنهور على:أ - الوجود يقتصر على المادة، والمادة فقط، فكل ما هو في العالم المادة لا غير. 1859 ب -الطبيعة هي التي تحافظ على استمرار الحياة، والوسيلة لحفظ النوع الإنساني العاقل بالإضافة للغريزة الجنسية، فقد رأى " شوبنهور " أن الجنس هو الركيزة الأولى عند الإنسان والحيوان، فتدور حوله حياة الفرد والجماعة والحياة كلها، وأنه مفتاح السلوك الأساسي، وعلى أساسه يمكن تفسير كل السلوك الإنساني من الألف للياء. ج- رأى " شبنهور " أن الطبيعة تحافظ على استمرار الحياة بغض النظر عن الأشخاص الذين تطحنهم الآلام ويعذبهم الشقاء ويغرقون في بحور من المآسي والشرور، والموت هو العدو الأول للطبيعة، لأنه يحاول أن يقضي على الحياة والأحياء. د - الحياة في حقيقتها ما هي إلاَّ شرور وأحزان ومشقات ومآسي، فلا مكان للخير، ولا معنى للسعادة، وأقصى ما يوجد من خير في الوجود هو أن تقل الشرور بعض الشيء ، أو تخف الآلام شيئًا ما، فالتعاسة هي جوهر الحياة وحقيقة الوجود، والسعادة ليس إلاَّ التفسير السلبي، أي أنها تعني اختفاء الآلام والشقاء، والتعاسة بعض الشيء . ه- لأن الحياة كلها شرور وشقاء وعناء لذلك ينبذ " شوبنهور " الحياة ويدعو للانتحار، مستهينًا بالموت، فالموت في نظره لا يسبب أي ألم للإنسان، ولكن ما يؤلم الإنسان هو فكرة الموت أكثر من الموت نفسه، لأن الإنسان لا يلتقي بالموت، وبالتالي فأنه لن يتألم منه، فطالما الإنسان يعيش حيًّا فهو لم يلتقي بالموت بعد، وبمجرد أن يقبل الموت على الإنسان يذهب الإنسان ويستريح من شقاء الحياة وآلامها. س24: كيف عاش شوبنهور يناقض نفسه؟ وكيف كان موته؟ ج: إتسمت حياة شوبنهور بالتناقض مع آراءه وأفكاره، ومن أمثلة ذلك: أ - مع أن " شبونهور " كان يحبذ الانتحار، وبالرغم من أنه عاش وحيدًا تنتابه الوساوس والمخاوف، وكان أحق إنسان بالانتحار، لكنه لم ينتحر، بل أنه كان يتمنى العمر الطويل. ب - رغم أن " شوبنهور " نادى بالتشاؤم، لكنه لم يحيا حياة التشاؤم، ولم يقم بتمثيل البطل ولا أحد الأفراد البارزين في التشاؤم، فقالوا عنه أن ابن الجمعة (لأنه وُلد يوم جمعة) لم يعش ابن الجمعة حقًا (أي الجمعة الحزينة) وإنما عاش ابن الأحد (إشارة للحياة الناعمة والراحة). ج- كان ينظر للقداسة باحترام ويبجل القديس لأنه استطاع أن يكبح لجام شهواته، ومع ذلك اعترف بأن لم يعش لا قديسًا ولا شبه قديس، ولم يمنع نفسه من الملاذ والشهوات والمغامرات الغرامية، فتارة تراه مع الممثلة المشهورة " كارولين ياجمن " في ألمانيا، وتارة مع فتاة تُدعى " تريزا " في إيطاليا، حتى أنه فكر في الزواج منها رغم أنه كان ينظر للزواج على أنه نقمة على العبقرية، وعندما كان شيخًا في السبعين من عمره جاءت فتاة تُدعى " اليزابث نيه " لتعمل له تمثالًا نصفيًا، فأبدى إعجابه بها، وقال: "لم أكن أتصوَّر وجود فتاة خليقة بالحب كهذه الفتاة" (4). وتناسى ما قاله من قبل عن المرأة بأنها " إنسان ناقص أشبه ما يكون بالطفل، أو هي وسط بين الطفل والرجل" (5). د - مع أنه كان يعتقد أن الألم يساعد الإنسان على إنكار ذاته، إلاَّ أنه أمضى حياة ناعمة متنقلًا بين ربوع إيطاليا وهو يقول "هذا البلد الجميل الذي فيه يشع الغناء " ورغم أنه كان يعتقد بأهمية الزهد والنسك إلاَّ أنه كان حريصًا على حضور الحفلات الموسيقية والمسرحية، وأيضًا كان حريصًا على أمواله، فعندما أستثمر أمواله في " دانزج " وكذلك فعلت أخته وأمه لدى تاجر يُدعى " ابراهام لودفيج مول " وأفلس هذا التاجر قبلت أخته وأمه باسترداد ثلث الودائع، أما هو فقد أصر على استرداد كل ما دفعه، وضغط على التاجر وهدَّده برفع الأمر للقضاء، حتى أستوفى كل ما أودعه بالإضافة للفوائد خلال عشرة أشهر، وقد قال له " بوسع المرء أن يكون فيلسوفًا، دون أن يكون بسبب ذلك مغفلًا " وكتب إلى " يوهان أدوار ايرومان " يقول "لقد كنت رجلًا موفقًا وذا حظ عظيم، أعلمُ كيف أؤمّن مصدر عيشي على الدوام، ولا أضطر للعمل من أجل النقود أو البحث عن وظيفة". وقال عنه " الدكتور رمسيس عوض": "ومن الخطل أن نظن أن شوبنهوَر كان يضع تعاليمه موضع التنفيذ، فمن المعروف عنه أنه كان يستمتع بالطعام الهنيء والشراب الطيب ويلبي شهوات الجنس من آن لآخر" (6). ومع كل هذا فقد قال البعض أنه لا يجب إدانة شوبنهور على هذه التناقض، وقال " فاوست": "أن في صدري تسكن، ويا للأسف! نفسان، كل منهما تريد أن تنزع نفسها من الأخرى، فأحداها تُنشب مخالبها في العالم بشهوة جامحة قاسية، والأخرى ترتفع من التراب بقوة إلى ساحة الأسلاف العالين" (7). ومن بعض أقوال شوبنهور:
وظل " شوبنهور " مغمورًا معظم حياته، ولكن في سنة 1854م بدأت فلسفته التشاؤمية تلقى اهتماما، وصار معروفًا في إنجلترا وروسيا والولايات المتحدة، وأصبح له بعض الأتباع الذين يقدّسون أفكاره، فشعر ببعض الرضى، وفي 21 سبتمبر سنة 1860م بينما كان جالسًا في الفندق يتناول إفطاره، وبعد ساعة من جلوسه لاحظت صاحبة الفندق أنه أطال الجلسة، فاقتربت منه، وإذ بالحياة قد فارقته، ومن أكثر من تأثر بفلسفة شوبنهور الفيلسوف الألماني "نيتشه"، والذي كان له تأثير كبير جدًا بدوره على الآخرين ولاسيما " هتلر"، وهكذا تتوالى فلسفة الإلحاد ورفض وجود الله، وهكذا تسير الحياة بدون الله من سيء إلى أسوأ. |
||||
07 - 07 - 2014, 04:06 PM | رقم المشاركة : ( 8 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
فريدريك نيتشه (1844-1900م.) رغم أن عمر نيتشه العاقل لم يتعدى الأربعة وأربعين عامًا فأنه ترك أثرًا بالغًا في الفكر الإلحادي، وأعتنق الكثيرون أفكاره الصادمة، فهو الذي بدأ طفلًا متدينًا كابن لقس إنجيلي، حتى دعوه بـ"القسيس الصغير"، وعندما شبَّ أنقلب رأسًا على عقب، فمجَّد القوة والحرب، وأشاد بالإنسان السوبرمان، وفلسفته التي مجَّدت القوة والقسوة هي التي أفرزت لنا الفاشية والنازية، كما أنه كان له باع كبير في زرع بذور الإلحاد، وفي التهكم على العزة الإلهيَّة فهو صاحب مقولة " لقد مات الله"، وفي الهجوم على المسيحية، حتى أنه قال عنها أنها اللعنة الكبرى والوصمة الخالدة في جبين البشرية، ووصف أخلاقها بأنها أخلاق العبيد الجبناء، وهاجم المرأة والإنسان والأصدقاء، وتخاصم مع الكل حتى مع نفسه، ورأى في ذاته أنه الإنسان الذي لا يعلو عليه آخر، وأستعذب الألم، وهاجم الموت العادي الذي يأتي في وقت غير مناسب، وشجع على الانتحار.. إلخ. وقال عنه " هنري موريس": "أما فلسفة نيتشه فقد أثرت بعمق في اتجاهات السياسة الألمانية حتى أصحبت أساس القوة الحربية الألمانية المكثفة التي حشدتها في فترة الثلاثينيات من هذا القرن وكانت سببًا من أسباب الحرب العالمية الثانية، وكان موسيلليني واحدًا من أكبر المتابعين المتحمسين لنيتشه، وكانت الفاشية هي النتيجة النهائية، كذلك وُلدت النازية في نفس البالوعة" (1).. لذلك لا مناص من فرد مساحة أكبر لهذا الفيلسوف الألماني معجزة الشر (الذي دعى نفسه تارة بديونسيوس المصلوب، وتارة بضد المسيح، وتارة بالله) لكي يتعلَّم ويتعظ من تراوده أفكار الإلحاد وتغريه وتجذبه وتعمي عينيه نحو المصير المآسوي.. س25: هل يمكن إلقاء الضوء على القسيس الصغير ابن القس الإنجيلي في طفولته وشبابه؟ ج: وُلد " نيتشه " في 15 أكتوبر 1844م في "ريكن" بالقرب من مدينة لوتسن بمقاطعة "سكسونيا " الألمانية، وكان يوافق عيد ميلاد وليم الرابع ملك بروسيا، فكان يفرح بعيد ميلاده عندما يرى الفرحة تعم البلاد بعيد ميلاد الملك، وكان والده " كارل لدفج نيتشه " من أصول بولندية وأمه " فِرَنْسِسكا إيلَر " ألمانية خالصة، وكانت له أخت تُدعى أليصابات كانت قريبة منه جدًا، وهي التي نقلت لنا أخبار نيتشه في فترة شبابه. وكان والد نيتشه قسًا بروتستانتيًا محبوبًا من رعيته، بل كان كثير من أجداده من جهة الأب أو الأم قساوسة ورجال دين، وقد تأثر نيتشه في طفولته بهذه الروح، حتى دعاه أترابه في المدرسة وهو مازال صغيرًا بـ"القسيس الصغير"، وكان قادرًا على أن ينشد بعض آيات الإنجيل والتراتيل الدينية المؤثرة، التي تكاد أن تثير البكاء، وقال عن نفسه " في سن الثانية عشرة رأيت الله في تمام جلاله " وفي المرحلة الثانوية (1858-1864 م) ألَّف قصيدة رائعة وجهها إلى الله المجهول حيث قال:
بعد موت والده، ذهبت الأسرة إلى مدينة " ناومبرج " حيث أتم دراسته الابتدائية، ثم أمضى نيتشه دراسته الثانوية في مدرسة " أليفورتا " الملحقة بأحد الأديرة، وفي الفترة 1864-1865م ألتحق بجامعة بون ليدرس اللاهوت والفيلولوجيا، وفي هذه الجامعة حدثت مناظرة شديدة بين أستاذين هما " رتشل"، و"يان " واحتدم النزاع بينهما فترك " رتشل " جامعة بون وأتجه إلى جامعة ليبتسج، وتبعه تلميذه نيتشه الذي كان معجبًا به، وأمضى نيتشه الفترة من 1865-1867م بجامعة ليبتسج. وفي شبابه كان نيتشه القصير القامة الأنيق الهندام يرتدي سِروالًا فاتح اللون ومن فوقه سترة قصيرة ويحكم رباط العنق، يتدلى شعر رأسه الطويل، يعاني من قصر شديد في النظر، وفي سيره يكاد يمشي مشية المتعب، أما كلامه فكان رقيقًا بسيطًا خاليًا من التصنيع، ولكنه كان يصدر من أعماق نفسه، هكذا وصفه شِيفْلر (راجع د. عبد الرحمن بدوي - نيتشه ص 41) وبالرغم من أنه كان هادي ويتحدث برقة شديدة، فإن نظراته كانت حادة تعكس الثورة الداخلية التي يعيش فيها، حتى أن أصحابه لا يتفوَّهون بكلمات نابية أمامه، وعلى حد تعبير أحد أصحابه الذي قال أنه لا يستطيع أن يتفوه بكلمات خارجة في حضور نيتشه، وعندما سأله زميله: لماذا؟ قال أنه يرمقك بنظرة تجعل الكلمات تقف في فمك. ووصفته " لواندرياس سالوميه " التي صاحبته مدة من الزمن فقالت " أول إحساس تشعر به إذا ما رأيتَ نيتشه هو إحساسك بأنك بإزاء وجدان عنيف مستور وشعور بالوحشة كتمه في نفسه.. هذا الرجل المتوسط القامة، البسيط في ملبسه الذي عنى به، الهادئ في سيماه، ذي الشعر الأسمر المُلقى إلى الوراء، دون أن يلتفت إليه أو يديم النظر فيه.. وله ابتسامة خفيفة، وبهجة هادئة في الحديث، ومشية متئدة حذره، تقتضي منه أن يحني كتفيه قليلًا.. وتكاد عيناه تنطقان حقًا، وعلى الرغم من أنهما شبه عمياوين إلاَّ أنه لم يكن يبرقهما ولا يُسفُّ النظر، كما هي عادة الكثير من قصار النظر. بل كانا يبدوان وكأنهما حارسان لكنوز.. كان يحدقان في الأعماق كما يحدقان في أفق بعيد.. أما في حياته العادية فكان مؤدبًا كل الأدب رقيقًا رقة تقرب من رقة النساء، هادئ المزاج، ساكن الضمير، متصل الوقار" (3). وهذا يذكرنا بقول الكتاب عن الخطية أن كل قتلاها أقوياء. وفي نحو سن الثامنة عشر بدأ " نيتشه " يفقد إيمانه بالله وبالدين ففارقته البهجة، لأن الدين كان يمثل ركنًا أساسيًا في حياته، وقرأ نيتشه كتاب " شوبنهور " عن " العالم كإرادة وفكرة " الذي يوضح فيه أن على الإنسان أن يبذل الجهد والكفاح اللذان يحملان في طياتهما البؤس والشقاء، وعندما أنهى قراءة الكتاب قال عن هذا الكتاب أنه " مرآة طالعت فيها العالم والحياة، بل وطبيعة نفسي مرسومة في جلال مخيف.. أنه ليبدو لي أن شوبنهور كان يخاطبني أنا. لقد أحسست فيه شعوره المتحمس وخيل إليَّ أني أشهده ماثلًا أمامي في كل سطر كإنما يناديني نداءً صارخًا" (4) وأعتبر نيتشه نفسه أنه خليفة شوبنهور وتأثر بنظرته التشاؤمية، وعندما مات والده تأثر كثيرًا لموته، حتى قال عنه " مات والدي في سن السادسة والثلاثين، وكان رجلًا رقيقًا محبوبًا وعلى سيماه طابع المرض، وكل شيء كان يدل على أنه مخلوق قُدّر له أن يمر بالحياة مرور العابرين الكرام، فهو ذكرى جميلة للحياة، أولى منه أن يكون الحياة نفسها، وقد بدأت حياتي في الزوال في نفس اللحظة التي ذهبتْ فيها حياته، ففي سن السادسة والثلاثين وصلت إلى أحط درجة في حياتي وحيويتي، أجل قد عشت من بعد، ولكن هذه الحياة التي حييتها لم أكن أستطيع أن أنظر فيها إلى أبعد من ثلاث خطوات" (5) وكان " نيتشه " قد ورث عن أبيه روح التدين والشفقة والمثالية وحب الموسيقى، وورث عن أمه الإحساس المرهف، ولكن في شبابه أجتهد أن يتخلص من الشفقة قائلًا " الشفقة أعظم خطر عليَّ. هذه الشفقة نتيجة سيئة من نتائج طبيعة والدي الشاذة، وهو الذي كان كل من عرفوه يضعونه في صفوف الملائكة قبل أن يضعوه في مصاف بني الإنسان" (6) أما والدة نيتشه المتدينة فكانت دائمة الصلاة من أجله، وكانت على وشك حرق كتاباته المملوءة بالتجديف. ج: بعد أن كان " نيتشه" في فجر حياته يظهر محبته العميقة لله، وصل لمرحلة الإلحاد وهاجم الله، وقال بالرغم من أن إله اليهود الذي اتسع نطاقه في المسيحية حتى صار يملك على نصف البشرية، إلاَّ أنه بقى بالغ الشحوب، بالغ الضعف، منحطًّا، فقال " في زمن ماضٍ لم يكن الله يمتلك غير شعبه (شعبه المختار) لكن.. مضى صوب الغريب (يقصد أتجه للأمم) وتغرَّب، ومنذ ذلك الحين لم يقدر بعد أن يبقى ساكنًا في مكان واحد.. أمتلك من جهته الرقم الأكبر ونصف البشرية.. لم يتحوَّل رغم هذا إلى إله فخور وثني: لقد أستمر يهوديًا، وإله الزوايا.. إله كل القرافي المعتمة والأماكن المظلمة، والأحياء الوخيمة، للعالم الكامل! مملكته العالمية بقيت معدودة، كما قبلًا، مملكة للعالم السفلي، ومصحة، مملكة تحت أرضية - سردابية، مملكة (جيتو).. وبقى هو نفسه، بالغ الشحوب، بالغ الضعف، ومنحطًّا.. انهيار إله وتحطُمَهُ.. الله يتحوَّل إلى (شيء في ذاته)" (7). وطالب " نيتشه " بإله شرير ماكر عنيف هدَّام، فقال " فالمرء يحتاج تمامًا إلى إله شرير بمقدار ما يحتاج إلهًا صالحًا.. بأي شيء يفيد إله لا يعرف الغضب والإنتقام والحسد والسخرية والمكر والعنف، والذي حتى لا يعرف الأوار الساحر والاضطرام الخلاب للغلبة والتدمير الهدَّام" (8) وأعتبر " نيتشه " أن الإيمان بوجود إله يعد تحقيرًا للحياة وازدراء بالعالم وهروبًا من المسئوليات الملقاة على عاتق الإنسان. وكان " نيتشه " يهاجم ذبيحة الصليب، فقال أنها " الذبيحة التكفيرية في شكلها الأكثر إثارة للاشمئزاز، والأكثر بربرية، التضحية بالبريء لغفران خطايا المذنبين. أية وثنية هائلة!!" (9) وبالرغم من ذلك فإن " نيتشه " أعتبر نفسه أنه هو الإله اليوناني الجبار " ديونسيوس " وأسقط على هذا الإله صورة المسيح المصلوب، وقد تشبَّع " نيتشه " بالإله ديونسيوس إله الحضارة اليونانية، ولهذا كرَّس دراساته الأولى في علم الفيلولوجيا اليونانية القديمة، وتأثر نيتشه بأول مظهر لديونسيوس وهو الألم، فالمأساة اليونانية تصوّره على أنه فريسة الآلام العنيفة التي تنتابه كل حين ومن كل ناحية، فالروح اليونانية كلها تشاؤم وصراع مع قوى الطبيعة، ولهذا درس نيتشه فلسفة "شوبنهور" التشاؤمية وأحب شوبنهور، وأعجب بفاجنر جدًا هو وموسيقاه.. لماذا؟ لأنه تلميذ شوبنهور، ورأى في فاجنر أنه ابن الإله ديونسيوس، وقد تجسدت فيه روح الإله، فتعرَّف " نيتشه " على فاجنر في نوفمبر 1868م في ليبتسج، وصادقه وأحبه. وكان " نيتشه " يمهر رسائله التي يرسلها إلى أصحابه بتوقيع " ديونسيوس " وأحيانًا " المصلوب " وأحيانًا " عدو المسيح " وكثيرًا ما كان يبدأ (يبتدر) أصحابه بهذه التحية (كونوا سعداء، لقد تنكرت بهذا الزيّ، ولكني أنا الله)" (10). وقال نيتشه قولته الشهيرة "لقد مات الله" فكان يفتخر قائلًا: لقد قتلنا الإله وهو عمل جد عظيم، فيجب أن نكون نحن الآلهة بعد هذا العمل الذي ليس أعظم منه، وعندما سُئل نيتشه: لماذا مات الله؟ أجاب: شفقة على الأشرار، وقال "نيتشه" نحن لا نريد ملكوت السموات لأننا نحن بشر، إنما نريد ملكوتًا أرضيًا، كما يقول في كتابه "زرادشت": "صادف زرادشت وهو يهبط إلى أسفل الجبل شيخًا ناسكًا أخذ يحدثه عن الله، فتعجب زرادشت في نفسه كيف أن هذا الناسك لم يسمع وهو في غابته أن الله قد مات وماتت معه جميع الآلهة" (11). وعندما قال نيتشه " لقد مات الله " احتار المفسرون في قصده من هذه العبارة، هل كان لله وجود ولم يعد له وجود حقيقي الآن، أم أنه مات في نظر الناس فلم يعودوا يشعرون بوجوده، أم أنه مات على الصليب شفقة على الأشرار، ويقول "الدكتور رمسيس عوض " عن هذا الاصطلاح النيتشاوي " أن نيتشه استخدمه على نحو غامض حار المفسرون في فهمه، فنحن لا نعرف إذا كان نيتشه يريد أن يقول أن الله غير موجود ولم يكن في أي وقت من الأوقات موجودًا، أو أنه يعني أن الله موجود ولكن المسيحيين وغيرهم أساؤوا فهمه بطريقة بشعة، ومن ثمَّ فإن القول بموت الله هو رفض لهذه المفاهيم الخاطئة. هل يريد نيتشه بقوله هذا أن يهاجم فكرة الألوهية كفكرة أم أنه يريد أن يهاجم فكرة الألوهية كما هي واردة في الحضارات الغربية. والجدير بالذكر أن جان بول سارتر يفسر قول نيتشه بموت الله بأن نيتشه يريد أن يقول أن الله غير موجود، وأن على البشر أن يواجهوا وحدتهم وغربتهم في هذا الكون بشجاعة" (12). أما "ريتشارد وورمبلاند" فقد أخذ الجانب الحسن في هذه المقولة، فقال "لكن نيتشه كان في أعماقه أكثر توقيرًا لله من تلامذته، وكان يتحدث عن موت الله بما نسميه الرعب المقدَّس، وحينما أصابه الجنون بعد ذلك كان يرتاد الكنائس وهو يردد لحنًا لاتينيًا حزينًا يُبكي به الله الميت! لقد مات الله بالنسبة له، ولكن موت الله كان أقسى دراما أثرت في حياته وهدمت أركان عقله المضطرب، لقد كان يشعر بالحزن العميق والأسى لأن إلهه لم يعد حيًّا بعد" (13). وبينما كان " نيتشه " على فراش الموت قال لأخته " أعطني وعدًا إذا متُ ألاَّ يقف حول جثتي إلاَّ الأصدقاء، فلا يُسمح بذلك للجمهور المحب للاستطلاع، ولا تسمحي لقسيس أو غيره أن ينطق الأباطيل بجانب قبري، في وقت لا أستطيع أن أدافع فيه عن نفسي. أنني أريد أن أهبط إلى قبري وثنيًّا شريفًا" (14). ولم يجد " نيتشه " راحته في الإلحاد، فالإنسان جُبل على صورة الله، فلا تشبع نفسه إلاَّ بالله غير المحدود، ويقول "بولس سلامة " عن " نيتشه": "وظلت اللانهائية تستهويه.. أنه يريد البقاء في هذا العالم ولكنه لا يستقر على شيء فيه.. بالرغم من إلحاده الظاهر كان عطشًا إلى الله.. فهو صوفي انقلب على أم رأسه فبات ينظر إلى الأشياء معكوسة. أنه عطشان ضل طريقه إلى النبع.. وكلما أبتعد خطوة أشتد عوزه إلى الماء. ألم يقل عن المسيحية التي تنكَّر لها {أنها أطيب حقبة صادفتها في حياتي الفكرية، ومنذ بدأت أنسى متعتها في منعطفات كثيرة، وأعتقد أنني في صميم نفسي لم أكن حيالها فظًا غليظًا}.. فقد كان مزاجه عصبيًا.. وثار أول ما ثار على نفسه.. لقد طرد نفسه بنفسه من الفردوس وأدار له ظهره باحثًا عنه في القفر، ولكن أرواح الفردوس ما برحت تُلقي أشباحها أمامه فينحني ليجتني الثمار ولا يجد إلاَّ خيالها. يظهر مما تقدم أن الإيمان لم يُشبع نفسه فأصلاه حربًا ضروسًا، شأنه في ذلك شأن المنتحر، يقتل ذاته لا كُرهًا للحياة بل لشدة حبه لها ولأنه يبغيها" (15). ج: يقول "نيتشه": "لقد كانت المسيحية حتى اليوم البلية المشئومة الأكبر ضد البشرية "(16) كما يقول أيضًا "بهذا أكون قد وصلت إلى النهاية فأُعبر عن حكمي. أنا أدين المسيحية وأرفع ضد الكنيسة المسيحية الاتهامات الأكثر ترويعًا التي قيّض لمتهم أبدًا أن يحملها في فمه. إنها عندي الفساد الأكبر بين كل ما يمكن تخيله من فساد، أنها قد ملكت إرادة الوصول إلى الغاية الممكنة من الفساد. الكنيسة المسيحية لم تَدَع شيئًا دون أن تلمسه بفسادها، كل قيمة حوَّلتها إلى لا قيمة، وكل حقيقة إلى كذب، وكل أمر مُشرّف إلى حطَّة للروح. أفيتجاسر أحد مع ذلك ويكلمني عن بركتها الإنسانية.. لقد عاشت على حالة الحاجة والبؤس.. التطفل هو الممارسة العملية الوحيدة للكنيسة! الكنيسة بأفكارها ذات اليرقان وفقر الدم والقداسة، التي تنغب حتى الأخير كل دم، كل أمل، وكل محبة في الحياة.. تُضاد الصحة والجمال والإتقان، والإقدام، والهمة، وكرم النفس، تضاد الحياة ذاتها. هذا الاتهام الأبدي ضد المسيحية أريد أن أكتبه فوق كل الجدران، حيث توجد جدران، فأنا أملك حروفًا مرئية حتى من العميان . أنني أدعو المسيحية اللعنة الكبيرة الوحيدة، الشذوذ الباطني الأكبر والوحيد، والغريزة الأكثر تفردًا للانتقام، الذي لأجله ليس ثمة أداة سامة كفاية، خفيَّة، سردابيَّة، لئيمة، مثلها. أنني أدعوها اللطخة الأبدية فوق البشرية" (17). ويقول "نيتشه " عن الكنيسة " والكنيسة نفسها؟! أليست أنها مأوى المجانين الكاثوليكي.. إن الإنسان المتدين -كما تريده الكنيسة- منحط نموذجي" (18). وقبل تعرض " نيتشه " للجنون بنحو شهرين أو ثلاثة قاد هجومًا محمومًا ضد المسيحية، ورأى أن هذا الهجوم سيمثل تاريخًا جديدًا للعالم عوضًا عن التاريخ الميلادي الزائف، وقد مَهر هجومه هذا المكون من سبعة بنود بـ"ضد المسيح " فكتب: " تشريع ضد المسيحية"
ولم يسلم الإنسان المسيحي من لسان نيتشه، حيث قال عنه " المسيحي معنى مؤكد على الفظاظة والقسوة ضد ذاته، وضد الآخرين، وعلى البغضاء ضد من يفكرون بطريقة مختلفة.. المسيحية عداوة حتى الموت ضد أسياد الأرض وجبابرتها، وضد النبلاء.. المسيحي هو بغضاء.. أنه ضد الحرية، وضد التحرر الروحي، المسيحي بغضاء معادية للأحاسيس، وضد سرور الأحاسيس، وضد الفرح في النهاية" (20) كما يقول أيضًا " المسيحي والفوضوي: كلاهما منحط، وكلاهما غير قادر أن يعمل بطريقة أخرى سوى التفسيخ والحل، والتسميم، وخسف الحيوية، ومص الدماء، كلاهما مع غريزة البغضاء حتى الموت لكل ما هو منتصب، متشامخ، ويمتلك ديمومة، ولكل ما يعد الحياة بمستقبل.. لقد كانت المسيحية مصاص دماء الإمبراطورية الرومانية" (21). رأى "نيتشه" في "الأخلاق المسيحية" أنها أخلاق العبيد، وأن الموعظة على الجبل تشمل أخلاقيات العبيد، وبالتالي فأنها تحط من قدر الإنسان، وأزدرى " نيتشه " بالسيد المسيح لأنه صلى لكيما تعبر عنه كأس الموت، وأعاب " نيتشه " على المسيحية لأنها تستأنس شجاعة الإنسان وتروض جسارته، فالحيوان المتوحش متى تم استئناسه فأنه يفقد روعته،ويقول "نيتشه": "ما الذي نحاربه في المسيحية؟ نحن نحارب فيها سعيها إلى تحطيم الأقوياء وكسر أرواحهم واستغلال لحظات تعبهم وعجزهم، وسعيها إلى تحويل الفخور بالذات إلى حالة من القلق وتنغيص الضمير، ونحن نحارب فيها أنها تعرف كيف تسمّم أنبل الغرائز وتصيبها بالسقم والمرض حتى تتجه قوتها وإرادتها في الحياة إلى دخيلة الذات وتدمر نفسها" (22). ويقول "الدكتور لويس عوض": "وقد قدّر لابن القس هذا أن يكون أكبر داعية عرفه التاريخ لمناهضة الأخلاق المسيحية.. فهو من فرض خشيته أن يكون قديسًا آثر أن يكون شيطانًا. وقد كان نيتشه شيطانًا بالفكر" (23).. " لذلك تدور أكثر كتابات نيتشه حول فكرة واحدة هي تحرير الإنسانية من الأخلاق المسيحية.. فالأخلاق كلمة لا معنى لها ألاَّ في قاموس العبيد، والفضيلة عملة يشترى بها الضعفاء السعادة في الحياة الدنيا أو في الدار الآخرة.. الأخلاق المسيحية عند نيتشه " أخلاق المنفعة"، والمسيحية هي {اللعنة الوحيدة الكبرى، وهي الانحراف الوحيد الهائل المتغلغل الذي تجوز مقاومته بأية وسيلة.. وأنا أسميها الوصمة الوحيدة الخالدة في جبين البشرية}.." (24). كما هاجم نيتشه الثورة الفرنسية لأنها تنادي بالمساواة والإخاء بين الناس، وهي ضد فكرة السوبرمان الذي يتميز بالفخر والعظمة والمعرفة وركوب الأخطار وخوض المعارك، وقال نيتشه أن " المسيحي كائن بطال، مغرور، ضائع. أنه غريب عن نشاط الأرض.. فلهذا فإن الحياة تنتهي حيث يبتدي ملكوت الله" (25) وأيضًا قال نيتشه " فأول واجب علينا إذا أردنا أن نمهد لظهور السوبرمان هو ليس التخلي عن الأخلاق المسيحية فحسب، بل مقاومة هذه الأخلاق التي تمجد الضعف وتحوُل دون ظهور السوبرمان الذي يتوكل على نفسه فقط ولا يتوكل على الله.. فالمجد للأقوياء وسحقًا للضعفاء والمحتاجين، والخير والرحمة كلمتان ينبغي إزالتهما من القاموس. كن صلبًا، لا تراع جارك.. فالخطر الأول على الإنسانية الفاضلة كامن في الأخلاق المسيحية" (26) وعندما أصدر نيتشه كتابه " فيما وراء الخير والشر " دافع فيه عن الشر وهاجم الخير، بل وهاجم الفيلسوف الإنجليزي " جون ستيوارت ميل " الذي قال أن من واجب الإنسان أن يعمل على انتصار الخير واندثار الشر. س28: كيف كانت نظرة نيتشه التشاؤمية للإنسان، وحلمه بالإنسان السوبرمان، ونظرته التشاؤمية للمرأة؟ ج: - نظرة نيتشه للإنسان: هاجم نيتشه الإنسان الحالي بوصفه الدودة الحقيرة والقرد والحيوان، وكان يحلم بالإنسان السوبرمان أو الإنسان الأعلى الذي يحطم كل المقاييس البشرية، فعن الإنسان الحالي يقول "أن الذي يثير اشمئزازنا هو هذه الدودة الحقيرة، الإنسان الذي ما برح يتناسل.. يمكننا التساؤل عما إذا كان هؤلاء المسافرون الجوابون قد شهدوا في طوافهم شيئًا يبعث على الكراهية والتقزز أكثر من وجه الإنسان.. إذا كان الله خلق الإنسان فإنما خلقه قردًا يلهو به في أبديته الطويلة.. الإنسان أقسى الحيوانات وأشجعها، وعندما يفكر فهو الحيوان الذي يصدر أحكامًا.. فهو مرادف للمرض والاعتلال. وأنه لا يدرك نفسه إلاَّ من خارج" (27) أما عن الإنسان السوبرمان فقال نيتشه " لقد ماتت الآلهة جميعًا، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان أو الإنسان الأعلى.. أنني أبشركم بالإنسان الأعلى. يجب أن يأتي من الإنسان من يفوق الإنسان" (28) ويقول الدكتور " لويس عوض " أيضًا: "فقد تأثر نيتشه بنظرية داروين في التطوُّر، وبنى عليها نظرية أخرى خلاصتها أن في الإنسان غزوًا طبيعيًا يجعله يعتقد أنه آخر مرحلة من مراحل الحياة العضوية، ولكن تاريخ تطوُّر الأحياء يدلنا على أن عملية التطوُّر لن تقف عند حد الإنسان، بل ستستمر في المستقبل ومنها سينشأ نموذج من البشر أرقى من الإنسان الحالي وأقرب إلى الكمال، يمكن أن نسميه السوبرمان. فإن لم تكن عوامل التطوُّر الموجودة تؤدي بالضرورة إلى ظهور السوبرمان فيمكن أن نعمل على توجيهها بحيث تنتهي بظهوره.. والسوبرمان أو الإنسان الفاضل لا يختلف عن الإنسان العادي في أنه أدنى إلى السعادة، بل يتميز عنه بالقوة، وتتمثل هذه القوة في الإرادة الجبارة وفي مباشرة السلطان.. ولكي توطئ لظهور هذه الفصيلة الراقية من البشر لابد أن يتعلم الناس القوة والصلابة والقسوة، وأن يبغضوا الضعف والدعة والراحة والقناعة والتسامح والرحمة والتواضع والإخاء والمساواة" (29). أما نظرة تيتشه للمرأة فهي نظرة احتقار شديد، فقد أظهر نيتشه كراهيته الشديدة للمرأة بالرغم من أن أمه كانت سيدة متدينة، وأخته أليصابات كانت من أقرب الناس إليه، وقد وصف النساء في كتابه " هكذا تكلم زرادشت " بأنهن قطط وطيور وأبقار، وأن دورهن في الحياة مجرد الترفيه عن الرجال المقاتلين، ودائمًا ينشغلن بالرقص وأدوات الزينة والكلام الفارغ والعواطف الهوجاء، ومن أقواله {إذا ذهبت إلى امرأة فلا تنسى أن تأخذ معك سوطك} (30) ويرى أن المرأة التي تريد أن تستقل بذاتها ولا تخضع لإرادة الرجل فأنها فظيعة، وأن الشرقيين محقين لأنهم ينظرون للمرأة كقطعة تُباع. س29: كيف مجَّد نيتشه الحرب، وشجَّع على الانتحار؟ ج: كان " نيتشه " متيمًا بالحروب وصراع القوة، ففي سن الثالثة والعشرين التحق نيتشه بالجيش، بالرغم من أنه كان يعاني من قصر نظر شديد، وحساسية مرهفة بالعينين حتى أنه لم يكن يستطع أن يعاين نور الشمس أكثر من ساعة ونصف في اليوم، وأعجب نيتشه بالضبط والربط، والطاعة، وتحمل المهام الشاقة، ولكن بعد خمسة أشهر سقط من على جواده فأصيب في صدره وجنبه الأيسر، وتم تسريحه والاستغناء عنه، وأمضى الفترة من 1869-1879م أستاذًا مساعدًا للفيلولوجيا بجامعة باذل، وفي سنة 1870م عندما نشبت الحرب بين بلاده الألمانية وفرنسا، عاد وتقدم للجيش ثانية، ولكن بسبب اعتلال صحته وضعف بصره لم يقوَ على المشاركة في القتال، فعمل في صف التمريض في فرانكفورت من أغسطس إلى أكتوبر سنة 1780م، وعندما رأى كوكبة من الفرسان اهتز وجدانه، ولمعت في ذهنه فكرة "السوبرمان" فصارت أبرز فكرة في فلسفته التي تسعى للقوة، حتى أنه قال " ما هو الخير..؟ كل ما يعلو في الإنسان، بشعور القوة وإرادة القوة والقوة نفسها. ما الشر..؟ كل ما يصدر عن الضعف. ما السعادة..؟ الشعور بأن القوة تنمو وتزيد.. لا رضى، بل قوة أكثر وأكثر، لا سلام مطلقًا، بل حربًا، لا فضيلة بل مهارة.. الضعفاء العجزى يجب أن يفنوا: هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية.. أي الرذائل أشد ضررًا..؟ الشفقة على الضعفاء العجائزين؟" (31). وأشاد " نيتشه " باحتقار الإسلام للمسيحية، لأنه يُمجّد القوة بينما المسيحية تُمجّد الضعف والخنوع في نظره، فيقول "أن الإسلام لدى احتقاره المسيحية يمتلك ألف مرة الحق بأن يفعل ذلك، إذ الإسلام يتطلب رجالًا. لقد حرمتنا المسيحية من مجاني (جني ثمار) الحضارة القديمة (يقصد الإمبراطورية الرومانية التي أشاد بها في كتاباته إذ كان مغرمًا بقوتها) وفيما بعد حرمتنا من ثمار حضارة الإسلام" (32). ويقول "الدكتور لويس عوض": "هذه هي الشعارات التي نادى بها نيتشه {إن الحرب والشجاعة قد أثمرتا أشياء أعظم مما أثمر الإحسان.. فلتحيا حياة الطاعة والحرب} الألم يُطهّر النفس والخطر مدرسة الأبطال، أما الشكوى والأنين وانتظار الرحمن فمن سجايا العبيد.. والعبيد لا يستحقون إلاَّ السعادة أما الأقوياء فهم يستحقون السيادة و[كل ما نبع من القوة فهو خير، وكل ما ينبع من الضعف فهو شر] فهل غريب بعد كل هذا أن يقترن اسم نيتشه بالدعوة للحرب وأن يُعرف بأنه أكبر عدو للسلام؟ وهل غريب بعد كل هذا أن تجد النازية في فلسفته الدعامة الفكرية والروحية التي أقامت عليها دعوتها للقوة والسيادة والتفوق السوبرماني" (33). ويقول "القمص بولس عطية " أن "نيتشه" مجَّد تنازع البقاء وتنازع السلطان بين الأفراد، ورأى البعض أن جنون " نيتشه " لم يبدأ في نهاية أيامه، إنما لازمه طوال حياته، لأن ما كتبه ما هو إلاَّ هذيان مجنون، ومع هذا فإن أحدًا لا يستطيع أن ينكر مدى تأثر الفكر المعاصر بما كتبه نيتشه (راجع دراسات في علم اللاهوت ص 160، 161). ورأى " نيتشه " أن الإنسان يجب أن يحيا طالما يملك القدرة على العطاء، وليس المطلوب أن يحيا الإنسان طويلًا، إنما المطلوب أن يحيا حياة حافلة خصبة زاخرة، وأن الإنسان عندما يشعر أنه لا يستطيع أن يعلو أكثر مما هو عليه، فأنه يشعر بحاجته الشديدة للموت، ولذلك يجب أن يجعل الإنسان من موته عيدًا، حتى لو تطاول على الحياة، أي أقبل على الانتحار، فنيتشه لا يفضل الموت الطبيعي، ويقول عنه أنه " موت لا دخل لإرادة المرء فيه، وهو موت في وقت غير مناسب، وهو موت الجبناء" (34) كما قال " أنا لا أريد الحياة، وما الذي يجبرني على تحملها، بل على النظر إليها، ولا أدري كيف أستطيع النظر إلى عاشقيها" (35) وقال أيضًا " يجب أن نفرح بالمنية (الموت) المنقذة من الحياة والمعيدة إلى العدم" (36)، فإن " نيتشه " قد فقد إيمانه تمامًا بالله وبالحياة الأخروية وسقط في هوة الإلحاد المظلمة. ج:عاش " نيتشه " يعشق الموسيقى والقراءة والكتابة، فكان إنتاجه من الكتب غزير جدًا، وهوى الترحال وأُغرم به فانتقل من مكان إلى آخر في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، كالطير الذي لا عش له، مفضلًا إقامة مجتمع عالمي، معتقدًا أن المستقبل للمواطن العالمي، فالسوبرمان لا يقترن بموطن معين، إنما جميع الأوطان هي وطنه، مثل نابليون وجوته وبيتهوفن وشوبنهَور، وعاش نيتشه حياته بلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء ولا إله، فقد كان يتعبَّد في محراب ذاته ويشعر بالاستعلاء على كل أحد، لم يعتز بالقومية الألمانية، إنما كان فخورًا بجذوره البولندية، وأيضًا الشعب الألماني لم يحفل به أثناء حياته ولم يهتم بآراءه الصادمة. ويقول عنه " بولس سلامة": "كان مترجرجًا لا يطمئن به بلد، ولا يستقر في أرض. فكذلك أضحت فلسفته رجراجة تثب من أفق إلى أفق، ومن واد إلى ربوة، ومن صخر إلى كثب.. فهو شريد شاذ، لا زواج ولا وطن.. لا يكاد يعتنق فكرة حتى يفرُّ منها إلى سواها، دائم التجوال ودائم البحث عن جديد. كذلك شأنه في التفكير وفي الصداقات.. أو لم يكتب وهو تلميذ في الخامسة عشرة من سنه: لا يحق لأحد أن يتجاسر فيسألني عن وطني، فلستُ مرتبطًا بالمكان ولا بالزمان الذي يمر، إني طليق كالهواء.. وهو دائم التناقض لا يتروى ولا يبرم أمرًا، فتراه دائم العراك مع أصحابه ومع نفسه.. ولا ريب أن كبرياءه كانت من الأسباب التي جرت عليه وعلى الملائكة من قبله ما جرت من النكبات. ألم يكتب إلى أمه وهو بعد تلميذ رخص العود: لن يؤثر عليَّ أحد، لأني لم أرَ حتى الآن من هو فوقي. وكتب إلى أخته.. لا أحسب في مقدوري التعلق بأحد، لأن ذلك يفترض إني لقيتُ إنسانًا في مرتبتي.. لقد كان الرجل في عزلة رهيبة، أليس هو القائل: اشتهيت البشر ونشدتهم فلم أجد سوى ذاتي، ولقد سئمت من ذاتي.. ولقد كتب إلى أخته في سنة 1888م قبل انتهاء حياته العاقلة بقليل: لا يكاد يبلغني صوت صديق، أنا الآن وحدي، ولقد مرت بي سنون أقفرت من العزاء" (37). ويقول "د. عبد الرحمن بدوي " عن نيتشه وعدم استقراره " هذا الذي طارده شيطانه طوال حياته، وأبعد بينه وبين الواقع، فحرمه الاستقرار والثبات على شيء ما من الأشياء، أو علاقة ما من العلاقات، وجعله مضطربًا كل الاضطراب، قلقًا لا يعرف الاطمئنان سبيلًا إلى قلبه ولا الاستقرار منفذًا في حياته. فحرمه أول ما حرمه من البيت والأبوة والزوجة. ولا يكاد يستقر في مكان حتى ينتقل عنه إلى مكان آخر، فظل طوال حياته شريدًا طريدًا" (38). أما عن حالة الصحية المترديَّة فقد تكاثرت الأمراض عليه نحو عشرين عامًا، لا يكاد ينتهي من مرض ألاَّ ويبدأ في مرض جديد، فكان يعاني من قصر نظر شديد، وكانت عيناه تتورمان لأقل مجهود تبذلانه، أو تبكيان بكاءًا شديدًا. وإذا أستمر في عمله على الرغم من ذلك، أصابهما التهاب شديد يحرم صاحبهما من القراءة، حتى أنه وهو في سن الخامسة والعشرين كان يستعين بمن يقرأ له ويكتب، وكان يسير بخطى بطيئة متثاقلة، كمن يسير في بحر لا يدري أغواره، ولا يستطيع أن يعاين نور الشمس أكثر من ساعة ونصف كل يوم، وبينما كان ينقل المرضى والجرحى من الجنود في حرب ألمانيا مع فرنسا سنة 1870م أصيب بالدوزنتريا، ويقول "دكتور عبد الرحمن بدوي " عن الآلام التي كانت تنتاب نيتشه " تارة في صورة أوجاع في الرأس وصداع يصحبه إبراق في العينين، وطورًا على شكل قئ مؤلم مختنق، يتلوه شعور عام بشيء يشبه الشلل، وطورًا ثالثًا يكون هذا المرض إغماء يفقد صاحبه الشعور لمدة غير قصيرة.. ثم شعور بضغط في الدماغ يستمر طويلًا، ولا يكاد ينقطع عنه من بعد إلاَّ سويعات بسيطة وأوقات متناثرة نادرة" (39). والأمر العجيب أن " نيتشه " لم يمل المرض، بل تعايش معه، وأفتخر به، فتراه يقول "تألم فالألم مصدر العظمة" (40). ولم يضق " نيتشه " بمرضه، بل كان يشعر أن المرض هو الذي يخلص الروح ويحرّرها، فقال " لا أريد أن أودع هذه الفترة من المرض والألم دون أن أعترف بالجميل الذي طوَّق عنقي به، والذي لا أزال أنعم بآثاره التي لا تفنى ولا تنفذ " والمرض لدى نيتشه يجمع بين شاطئين، شاطئ الألم المظلم وشاطئ الشفاء الباهر النور، وأعتبر أن الألم شرط لبلوغ السرور، وأيضًا الألم يجعل العقل يسمو والإنسان يزداد في الروحانية. ولعل حياة المرض المتصلة والآلام المبرحة التي كابدها نيتشه تفسر لنا حلمه ببلوغ الإنسانية مرحلة " الصحة العظمى". وفي سنة 1879م استقال من التدريس في جامعة باذل بسبب المرض، وظل أستاذًا على المعاش وعندما تعافى نيتشه من المرض قليلًا خلال الفترة 1881-1884م كتب " الفجر" و"العلم المسرور " والجزء الأول والثاني من " زرادشت". س31: كيف تفنَّن نيتشه في فقدان الأصدقاء، وعاش متقلب المزاج؟ ج: تفنَّن " نيتشه " في كيفية فقدان الأصدقاء، فقد كان يعيش حياة الاستعلاء، فكتب لشقيقته يقول "عندما أتكلم عن أفلاطون وبسكال وسبينوزا أشعر أن دمهم يجري في عروقي.. سأقيم الحواجز حول أفكاري لئلا تدوس الخنازير بستاني، ومن جملة الخنازير أولئك الثقلاء المعجبون بي من غير تفهُّم" (41) فبعد أن كان نيتشه معجبًا أشد الإعجاب بفاجنر، وأستمر يصادقه لمدة ثمان سنوات، وقال عنه " أن روحه تسودها مثالية مطلقة، وإنسانية عميقة، وفيها جلال رائع، وكل هذا يشعرني وأنا بالقرب منه، بأني في حضرة إله" (42). ولكن عندما ظهرت الروح المسرحيَّة الهزليَّة لفاجنر في مسرع بايْروْيت سنة 1876م فقد نيتشه إعجابه به وأنتقده قائلًا " هل رجل عظيم؟ أنا لا أدري فيه دائمًا إلاَّ إنسانًا قد مثَّل مهزلة مَثَلهِ الأعلى" (43) وأفترق عنه، مع أنه أراد أن لا يفقد صداقته، حتى قال " نحن كأصدقاء لا يجمعنا شيء، ولكن كلًا منا يجد سعادته عند الآخر، إلى درجة أن الواحد منا يعين الآخر على السير في اتجاهه ويغذيه، حتى ولو كان هذا الاتجاه مضادًا لاتجاهه" (44) كما قال " لقد أحببت فاجنر وأعجبت به أكثر من أي إنسان آخر في العالم.. ما كان لي القدرة على احتمال أيام شبابي لولا موسيقى فاجنر.. وإني لأُسمي فاجنر أعظم من أفادني في حياتي" (45) ورغم هذا فإن نيتشه قد فارق فاجنر وفقد صداقته، وفي سنة 1878م أصدر كتابه " إنساني، إنساني جدًا " فأعلن فاجنر اشمئزازه منه. وإنصرف الناس عن " نيتشه " وعن كتاباته، حتى أنه عندما أصدر الجزء الرابع من "زرادشت" لم يطبع أكثر من 40 نسخة، ولم يُباع منها إلاَّ سبعة نسخ فقط، بالرغم من استخدامه الأسلوب الأدبي ذو الموسيقى الساحرة، حتى أن نيتشه أظهر ألمه من هذا قائلًا " أن لا أسمع، بعد دعوة صادرة من أعماق نفسي مثل كتاب "زرادشت" أية إجابة أو كلمة رد أو صدى، لا شيء، لا شيء مطلقًا، وإني لا أجد دائمًا غير وحدة صامتة يتضاعف ألمها آلاف المرات، في هذا كله ما يفوق كل ما يستطيع المرء تصوُّره من فزع وهلع. وأن أعظم الناس قوة وأشدهم جلدًا وصبرًا ليمكن أن يُقضَى عليه منه" (46). وكلما أصدر نيتشه كتابًا جديدًا كلما فقد أصدقاء جدد، حتى دخل في وحدة رهيبة، وكان يسلي نفسه قائلًا " كل من قُدّر له أن يذيع شيئًا جليلًا في يوم من الأيام، لابد أن يظل وقتًا طويلًا مطويًا في داخل صمته. وكل من قُدّر له أن يشعل البرق يومًا ما، لابد وأن يظل سحابًا لمدة طويلة" (47) كما قال أيضًا " آه لو كان في استطاعتي إعطاؤك فكرة عن إحساسي بالوحدة، فلست أجد من بين الأحياء ولا الأموات من أحسُّ بأن بيني وبينه شبهًا وقرابة، وهذا مخيف، مخيف جدًا جدًا" (48) وكان يسلي نفسه أيضًا عن وحدته بأنه متميز عن جميع البشر فقال:
ثم أرسل نداءًا أخيرًا جاء فيه: "هؤلاء أنتم يا أصدقائي - آه!.. ولكن هل أنتم لا تسيرون إليَّ..؟ ماذا!! هل تغيرتُ فأصبحت إنسانًا آخر، غريبًا حتى عن نفسي..؟ أتبتعدون؟ - أيه أيها القلب، لقد عانيت من هذا الشيء الكثير! ولكن أمَلكَ لا يزال قويًا بعد: فدع أبوابك مفتوحة لأصدقاء " جديدين "!.. إنهم أصبحوا " قدماء " - وهذا ما أبعدهم عني: فإن من يتطوَّر هو وحده القريب مني، ذو الصلة بي.. إيه يانهار الحياة! أيها الشاب الثاني!.. إيه أيها السرور القلق، الذي فيه ينتظر المرء واقفًا يراقب ويترصَّد!.. أصدقائي، إنني لأنتظرهم إناء الليل وأطراف النهار.. أي أصدقائي " الجديدين " تعالوا إليَّ، فهذا وقتكم" (49) وقال " نيتشه": "أيتها الوحدة أنتِ وطني" (50) وفي أواخر حياته العقلية كتب لأخته متألمًا يقول "أوَّاه! لم يبقَ لي صديق ولا من إله" (51). وكان " نيتشه " متقلب المزاج بحدة، فقد كان يسجل خواطره وأفكاره التي أشبه بالصواعق، وبعد قليل يتخلى عنها، فتجده يقول "مهما يكن الشيء الذي أخلقه عظيمًا ومهما يبلغ حبي له، فلا ألبث أن أنقلب عليه وأن أصير خصمًا لحبي.. إن هذا المفكر العظيم (يقصد نفسه) لا يحتاج إلى من يهدمه لأنه يهدم نفسه" (52). ويعلق " بولس سلامة " قائلًا " ومن جملة الأسباب التي جعلت نيتشه لغزًا على نفسه قلة تعمقه في التاريخ العام، ونقص مداركه القانونية، وضآلة معارفه اللاهوتية، وتطرفه في كل شيء إلى حد التهور" (53) ولذلك ليس بالأمر العجيب أن نيتشه الذي طالما أنتقد الإيمان المسيحي عاد يعترف بفضله، فيقول "حتى نحن رواد المعرفة اليوم ومضادو الميتافيزيقيين، والذين نفخر بأنه لا وجود لله، فنستمد نارنا من لهيب عمره ألفي عام - هذا الإيمان المسيحي الذي نادى به أفلاطون من قبل - والذي خلاصته أن الله حق، وأن الحق إلهي" (54) ومما يذكر أنه بعد أن جدف على سر التجسد الإلهي، عاد وقال: قد يكون التجسد مظهرًا من مظاهر العظمة الإلهية، وفي كتاب " هكذا تكلم زرادشت " يقول "المرأة التي تحب تضحي بشرفها، والفيلسوف الذي يحب يضحي بإنسانيته، وإله أحبَّ فجعل نفسه يهوديًا" (55) فهذا نوع من الحب الكاره أو الكراهية المُحبَّة. ونستطيع أن نقول أن القرن التاسع عشر الذي أفرز لنا نيتشه هو القرن الذي رفع فيه الإنسان لواء العقلانية، ولا شيء غير العقل وعبادته، ويقول "دكتور عبد الرحمن بدوي": "فعبادة العقل إذًا هي الطابع الرئيسي لهذا القرن ومبادئ العقل هي وحدها التي يجب أن يقوم عليها بناء الجماعة الإنسانية ومبانيها الروحية" (56) كما تميز ذلك القرن بالروح الإنكارية، فيقول "الدكتور عبد الرحمن بدوي " ثم تستمر المدنية " في سيرها حتى تصل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حالة من الشك والانحلال، فيها يطرح الناس ما كان لهم بالأمس من مُثل عليا: دينية وسياسية وفنية وأخلاقية، وتصبح كل القيم المقدَّسة حتى ذلك الحين أوهامًا وأباطيل، ولا يجدون بعد معنى للحياة، وغاية لهم من الوجود، ويشعرون بأنهم قد خُدعوا في كل القيم التي اتخذوها حتى الآن، وينقلب هذا الشعور إلى يأس في كل شيء، وإنكار لكل شيء، فالشك إذًا والإنكار المطلق هو الطابع السائد لهذه الحالة، ولذلك سُميت " الروح الإنكارية " وهذه الروح الإنكارية هي التي وصفها نيتشه وصفًا دقيقًا.. وبعد أن تم له هذا حمل عليها حملة شعواء" (57). س32: كيف كانت نهاية نيتشه؟ وما هي ثمار فلسفته؟ ج: أمضى " نيتشه " نحو الاثني عشر سنة الأخيرة من حياته في خلل عقلي، فبدأ هذه المرحلة في يناير 1889م، وكان قبيل هذه الفترة يشعر أنه هو الإله "ديونسيوس" القادر على التأثير على العالم كله، وأنه هو الفيلسوف الأكبر الذي سيُقسَّم التاريخ إلى ما قبله وما بعده، وازداد إنتاجه الفكري بدرجة كبيرة جدًا، فالكتاب لا يستغرق منه سوى عشرة أو خمسة عشر يومًا، وتميزت كتبه بالهجوم الشرس كما هو واضح في كتابه "مسألة فاجنر" و"عدو المسيح" وفي فترة جنونه كان يبدو عليه السرور والابتهاج، فبعد أن كان يعاني من الوحدة، وفقدان الأصدقاء، والأمراض، بدأ يشعر بأن الدنيا والناس يبتسمون له، وفي 22 ديسمبر 1888م كتب إلى صديقه " جاست " يقول "غنني أغنية جديدة، أن العالم يتجلى نوره والسموات في نعيم"، وظل نيتشه في حالة الجنون هذه حتى موته في 25 أغسطس 1900م. ومات " نيتشه " واختلفت فيه الآراء، فمنهم من رأى أنه رسول الحرب، عدو السلام، مُلهم الروح النازية، معتمدين في هذا على كتاباته مثل " الإنسان الكامل"، و"السوبرمان"، ومنهم من دافع عنه قائلًا أن هذه النظرة التشائمية لنيتشه ترجع إلى أن الناس قرأوا عن نيتشه أكثر مما قرأوا لنيتشه، فهم يعبرون عن أفكار الآخرين عنه، وسخر منه " برتراند راسل " واصفًا إياه بأنه الإنسان الضعيف والسقيم الذي تراوده أحلام اليقظة ليتحوَّل إلى مقاتل سوبرمان، ومصدر دعوته للقوة والقسوة هو إحساسه بالضعف، وترجع كراهيته للمرأة ودعوته لاستخدام السوط معها إلى إدراكه لضعفه، وأنه يعرف أنه لن يستطيع السيطرة عليها، ويرى راسل أن فلسفة نيتشه التي تدعو للعنف والقسوة هي وراء الفاشية والنازية الألمانية (راجع د. رمسيس عوض - ملحدون محدثون ومعاصرون ص 22، 23). ومن ثمار فلسفة نيتشه الإلحادية " بونيتو موسوليني " الإيطالي مؤسس الفاشية، و"هتلر" مؤسس النازية، فموسوليني كان يقول أن العلم قد أثبت أنه لا يوجد إله، وأنه إن كان الله موجود فليميتني الآن، والحقيقة أن الدين مجرد مرض نفسي، والسيد المسيح كان جاهلًا ومجنونًا، والمسيحية تشيع روح الجبن، والخنوع، وأحيانًا كان موسوليني يُظهر نفسه كأنه مازال مسيحيًا متمسكًا بالمسيحية، ففي عام 1924م أرسل ثلاثة من أولاده ليحضروا القداس ويتناولون من الأسرار المقدَّسة، وفي سنة 1925م دخل الكنيسة مع زوجته التي تزوجها منذ عشر سنوات مدنيًا، وعقد قرانه دينيًا على يد كاهن، وفي سنة 1929م أعترف البابا " بيوس الحادي عشر " بابا الفاتيكان بالحكم الفاشي لإيطاليا بزعامة " بونيتو موسوليني". أما "آدولف هتلر" Adolf Hitler وما نتج عن سياسته النازية، فلابد من فرد مساحة له في هذا البحث. |
||||
07 - 07 - 2014, 04:09 PM | رقم المشاركة : ( 9 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
آدولف هتلر (1889-1945م.) س33: كيف تأثر هتلر بمسقط رأسه، وبنظرية التطوُّر، وفكر نيتشه؟ ولماذا أحرق اليهود؟ ج: وُلِد " أدولف ألويس هتلر " في 20 أبريل سنة 1889 في بلدة " برادانو " أعلى النمسا وبالقرب من الحدود البافارية، وهذه البلدة تفصل سياسيًا بين شعبين من الألمان، ولذلك لمع في ذهنه أنه من الواجب عليه توحيد الشعوب الألمانية، وهذا ما سعى إليه في حياته. وُلِد هتلر من أبوين كاثوليكيّين، هما" "الويس هتلر" و"كلارا بولزل " اللذان أنجبا ستة أبناء، مات منهم أربعة وتبقى " أدولف "وأخته الصغرى " باولا"، ولذلك كانت أمه تحبه حبًا مفرطًا، وقد أمضى " هتلر " طفولة مضطربة، لأن أبيه كان عنيفًا في معاملته له ولأمه، حتى أن " هتلر " قال فيما بعد " عقدت -حينئذ- العزم على ألاَّ أبكي مرة أخرى عندما ينهال عليَّ والدي بالسوط. وبعد ذلك بأيام، سنحت لي الفرصة كي أضع إرادتي موضع الاختبار. أما والدتي، فقد وقفت في رعب تحتمي وراء الباب. أما أنا فأخذت أحصي في صمت عدد الضربات التي كانت تنهال على مؤخرتي". ودرس " هتلر " في مدرسة كاثوليكية، وفي طفولته زار كنائس كاثوليكية، وكانت أمنية الأب الذي يعمل موظفًا بسيطًا في مصلحة الجمارك أن يرى ابنه موظفًا في الحكومة، ولكن ميول الابن كانت تتجه بقوة نحو الفن (الرسم)، وفي نحو الثالثة عشرة مات أبوه في يناير 1903م، وفي السادسة عشر ترك " هتلر " المدرسة الثانوية دون الحصول على شهادته. وفي نحو الثامنة عشر لحقته أمه التي أصيبت بالسرطان، وكانت قد أُجريت لها جراحة بإزالة أحد ثدييها، ولم تعد تتحمل صعود السلم فأجر لها ابنها أدولف الذي كان يحبها جدًا شقة بالطابق الأول، وكان الطبيب المعالج لها يهوديًا، وربط " جوشيم ريكر " في كتابه "التاسع من نوفمبر - كيف قادت الحرب العالمية الأولى إلى المحرقة" بين هذا الطبيب اليهودي "إدوارد بلوخ" الذي حقن أم هتلر بمادة "ابودوفورم" وهي مادة خطرة، وكانت تستعمل حينذاك لعلاج السرطان، مما أدى إلى تسممها وموتها سنة 1907م ولها من العمر 47 عامًا، وبين كراهية هتلر لليهود، فقال "هتلر" أن اليهود جميعهم مرضى، وعليه (على هتلر) أن يكون الطبيب المداوي. وصار أدولف هتلر وحيدًا بعد موت والديه، ولم يكمل تعليمه الثانوي بعد، فنزل إلى ساحة العمل ليكسب قوته، وترك "برادناو" واتجه إلى "فيينا" حتى يمكنه أن يعمل ويدرس في آن واحد، فعكف على رسم المناظر الطبيعية والبيوت وبيعها إلى التجار والسائحين، كما كانت الحكومة تصرف له راتبًا ضئيلًا لأنه بلا عائل، وقد رُفد مرتين من مدرسة فيينا للفنون الجميلة، وتوقفت إعانته المالية من الحكومة، فنزل ليعمل كعامل في البناء، ومن ثمَّ عرف هتلر معنى الجوع والفقر والحرمان، وفي عام 1909م عاش " هتلر " في مأوى للمشردين، وفي سنة 1910م أستقر في منزل يسكن فيه فقراء العمال، والأوضاع المتردية للعمال جعلته يهتم بأخبار السياسة، وتأثر بشخصية "شنيرر" Schonerer صاحب فكرة الوحدة الجرمانية، وأيضًا شخصية "ليجر" Luger عمدة فيينا ومؤسس الحزب المسيحي الاشتراكي، وفي خلال عمله في أعمال البناء كان يدخل في مجادلات حول الماركسية، وقد أقتنع تمامًا أنها لا تُصلح الشعوب ولا تُسعِدها، مما حدا بزملائه الماركسيين في العمل إلى محاولة التخلص منه بقذفه من أعلى المباني التي ينشئونها، وفي عدة مرات أرغموه على ترك العمل، ومن كثرة مساجلاته مع العمال فهم طريقة تفكيرهم ونفسيتهم ومزاجهم، وتعلّم كيف يملك زمام الحديث معهم، وكيف يقنعهم بأفكاره، وأدرك أن العامل الألماني ليس منحط النفس، بخس المعدن، ماركسي النزعة، ولكنه وقع فريسة للدعاية للماركسية. وفي أبريل 1914م ترك "آدولف هتلر" فيينا واتجه إلى ميونخ عاصمة بافاريا، ومركز الفنون، فذهب ليحقق رغبته في ممارسة الفن من جانب، ومن جانب آخر يتفادى التجنيد الإجباري، ومع هذا تم القبض عليه من قبل الجيش النمساوي، ولكنه أُعفي من الخدمة العسكرية لعدم لياقته الطبية، وفي أغسطس من نفس العام أُعلنت الحرب العالمية الأولى فتطوَّع في الفرقة السادسة عشرة بالجيش الألماني، وعمل كساعي بريد، وهو عمل غير مُحبَّب بسبب التعرض الكثير لنيران العدو، وفي أكتوبر سافر مع فرقته إلى ميدان القتال وهو يشعر أنه محظوظ أن يخدم في الجيش الألماني الذي يعتبر المثل الأعلى للوحدة الألمانية، وكتب في كتابه " كفاحي " يقول أنني عندما سمعتُ خبر إعلان الحرب العالمية الأولى " جثوت على ركبتي وشكرت السماء من كل قلبي، والتي جعلتني أعيش في الزمان الذي جعل فيه ما يحصل الآن" (1). صار هتلر جنديًا شجاعًا مُطيعًا، وحصل على وسام " الصليب الحديدي " من الدرجة الثانية سنة 1914م، ومن الدرجة الأولى سنة 1918م غير أنه لم يُرقىَ، لأنه أُجري له تحليلًا نفسيًّا فاتضح أنه مضطرب عقليًا وغير مؤهل لقيادة مجموعة من الجنود، ثم أُصيب بشظية قنبلة إصابة بالغة فلزم المستشفى عدة شهور، وبعد شفائه تطوَّع للخدمة العسكرية مرة ثانية وبقى فيها حتى سنة 1918م، ولكن أُصيب مرة ثانية بغاز الفوسجين، وكاد يفقد بصره فعاد إلى المستشفى، وفي 9 نوفمبر 1918م وقفت ألمانيا على " معاهدة فرساي " التي حملت ألمانيا مسئولية الحرب، وأرغمتها على دفع تعويضات للمتضررين، وأعادت بولندا للوجود، فكان هذا بمثابة هزيمة ساحقة للشعب الألماني زلزلت كيان آدولف هتلر الذي كان يعتقد أن الجيش الألماني لا يُهزم، فقد كان " هتلر " متحمسًا أشد الحماس للدفاع عن ألمانيا، بالرغم من أنه لم يصبح مواطنًا ألمانيًا حتى سنة 1932م وألقى باللوم على الساسة، ومن هذا اليوم عزم على النزول لميدان الكفاح السياسي. كما تأثر " هتلر " بنظرية داروين، فشجع فكرة الصراع بين الأجناس مقتنعًا بأن البقاء للأصلح، حتى أنه طالب بإبادة الضعفاء حتى يكون المجتمع أصح وأفضل وأقوى مما هو عليه، وأيضًا طالب بإعدام السلالات الضعيفة من البشر واستيلاد سلالات قوية، ويقول المؤرخ " هيكمان " عن هتلر: "لقد كان مؤمنًا راسخًا بالتطوُّر ومبشرًا به، وأيًّا كانت عقده النفسية الأعمق والأغوص، فأنه من المؤكد أن (فكرة الصراع كانت مهمة بالنسبة له) لأن في كتاب " كفاحي " Mein Kampt بيَّن بوضوح عددًا من الأفكار التطوُّريَّة، وخاصة تلك التي تؤكد على الصراع، والبقاء للأصلح، وإبادة الضعفاء لإنتاج مجتمع أفضل" (2). وقد تشبَّع "هتلر" بفكر "نيتشه" الذي ركز كل اهتمامه وكتاباته في مقولة " لقد مات الله " مع الإشادة بفكرة " الإنسان السوبرمان"، وأقتنع هتلر بالإنسان السوبرمان، فراح يشعل العالم كله من خلال الحرب العالمية الثانية، وهو غارق في أحلام العظمة والسوبرمان، وتأكد للجميع أن فلسفة نيتشه التي تدعو للقسوة والعنف هي وراء النازية. وتأثر أيضًا " هتلر " بما كتبه "مارتن لوثر" من دراسة بعنوان "عن اليهود وأكاذيبهم" وكراهية لوثر لليهود، ووصفه إياهم بذرية الأفاعي، وكتب " فيلهلم روبك " عقب " الهولوكوست " يقول "مما لا شك فيه أن مذهب مارتن لوثر كان له تأثير على التاريخ السياسي والروحي والاجتماعي في ألمانيا"، وفي سنة 1923م قال " هتلر " في خطابه في ميونخ " أول ما يجب أن نفعله هو أن ننقذ ألمانيا من اليهود الذين يخربون بلادنا.. علينا أن نحمي بلادنا من المعاناة التي عاناها الذي مات على الصليب" (3) وكره " هتلر " اليهود، فعندما كان في فيينا كان هناك جالية كبيرة من اليهود، وأعتبرهم " هتلر " أنهم أعداء الجنس الآري، وألقى اللوم عليهم في هزيمة الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، وأتهمهم بأنهم السبب في المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها ألمانيا، وأنهم حطموا آمال ألمانيا التوسعية، ولم يتورع عن حرق الملايين منهم، ولم يرحم حتى النساء والأطفال منهم. ويقول "جون تولاند " في كتابه " آدولف هتلر: سيرة الحياة الأكيدة": "لازال (هتلر) عضوًا مميزًا في كنيسة الروم الكاثوليك، وعلى الرغم من كرهه للقائمين عليها، فأنه لا يزال يحمل تعاليمها عن أن اليهود هم قتلة الإله، ولذلك كان القضاء عليهم ممكنًا بدون أي تفكير ضميري، ومن مبدأ كونه اليد التي تنتقم لله، وبذلك يتم الموضوع كما لو أنه ليس شخصيًا وليس فيه أي ظلم" (4)،وهكذا تعفي النازية الإنسان من المسئولية الأخلاقية، وتجرده من الشعوب بالذنب. كما قيل عن " هتلر " أنه كان ضد المسيحية، ففي سنة 1941م سجل سكرتيره الخاص أن " هتلر " أوضح " أن الضربة الأقوى التي أصابت الإنسانية هي قيام المسيحية. المسيحية هي الطفل الغير الشرعي للبلشفية، وكلاهما من اختراع اليهود. إن الكذبة المدبَّرة فيما يختص بالدين هي ما قدمته المسيحية للعالم.. إن السبب الحقيقي في كون العالم القديم نقيًّا وصادقًا ومضيئًا هي أنهم لم يعرفوا السوطين الرئيسيين.. الطاعون والمسيحية" (5). س34: كيف جر أدولف هتلر العالم كله إلى ويلات الحرب العالمية الثانية؟ ج: بعد الهزيمة الساحقة للقوات الألمانية في الحرب العالمية الأولى، كان لابد للألمان من البحث عن كبش فداء، فكان كبش الفداء هم اليهود والشيوعيين والساسة، وصار " هتلر " يخطب في الجنود ويحرضهم على كراهية اليهود، وقد تدرب " هتلر " على فن الخطابة، حتى صار خطيبًا مفوَّهًا يأخذ بألباب ومشاعر سامعيه، وكان يضرب بيده على المنصة، وهو يحدث الناس بما يريدون أن يسمعوا منه مثل الخيانة التي أدت لاستسلام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، والخطة اليهودية الماركسية لغزو العالم. وفي سنة 1919م ألتحق " هتلر " بحزب العمال الألمان الوطني، وفي مذكرة كتبها لرئيسه حينذاك قال فيها " يجب أن نقضي على الحقوق المتاحة لليهود بصورة قانونية مما سيؤدي إلى إزالتهم من حولنا بلا رجعة " وفي السنة التالية تم تسريح " هتلر " من الجيش وتفرغ للعمل في الحزب، وتدرج فيه، حتى صار رئيسًا له، وغير اسمه إلى " حزب العمال الألمان الاشتراكي الوطني " وتم اختصار الاسم في كلمة واحدة، وهي كلمة " نازي " وأتخذ الحزب الصليب المعكوف شعارًا له، وصارت التحية الرومانية بمد الذراع للأمام هي تحية رجال الحزب، وقامت الأجهزة الإعلانية بالحزب بالترويج لهتلر مبعوث العناية الإلهيَّة الذي سينقذ ألمانيا من الكساد الاقتصادي، ومن الحركات الشيوعية، ومن الخطر اليهودي، فاقتنع الألمان بهذا، ولا سميا أن البوليس السري " جيستابو " مع معسكرات التهجير والإبادة قد أشاعوا الرعب في قلوب الجميع، وسحر " هتلر " شعبه بفكرة الرسالة. وأذاب إرادة الفرد في إرادة الجماعة، وأذاب إرادة الجماعة في إرادة التاريخ، فأظهر لشعبه أنهم الضحية البريئة للدول الأخرى، ولأن " هتلر " كان من أسرة متواضعة كان يخفي نشأته وأصوله قائلًا لا أحد يعرف من أين جئتُ؟ ولكنني جئتُ لأنقذ الأمة الألمانية، وأجاد " هتلر " فمن الخطابة أمام الحشود الكبيرة، ففي فبراير سنة 1921م خطب في ميونخ أمام حشد يضم ستة آلاف فرد، وجاءت خُطبه دائمًا مناهضة للماركسيين ولليهود. هذه الكراهية المتأصلة لليهود تطوَّرت فيما بعد سنة 1941م إلى عمليات إبادة جماعية عن طريق التسمم بالغاز، ثم حرق الجثث في معسكرات الاعتقال، حتى أباد " هتلر " ستة ملايين شخص يهودي. وفي 2 أغسطس سنة 1934م مات " باول فون هيندنبرج " رئيس الدولة الألمانية، فخلَّفه " هتلر " بالإضافة إلى عمله الأساسي كمستشار لألمانيا، وفي السنة التالية مباشرة بدأ " هتلر " يتخذ الإجراءات التعسفية الشديدة مع اليهود، فحرمهم من حق المواطنة الألمانية، وفصلهم من الأعمال الحكومية، وأمر بتمييزهم بأن يضع كل واحد منهم نجمة صفراء على ملابسه، فأسرع بعض اليهود بمغادرة ألمانيا، فوصل عدد من غادروها 180 ألف يهودي ألماني. أما بقية اليهود فكم ندموا لأنهم لم يتركوا ألمانيا مع أخوتهم الذين تركوها. واستطاع " هتلر " بحكمة النازي القوي أن يخطو خطوات واسعة تجاه الانتعاش الاقتصادي والنهضة بالصناعات الألمانية، حتى أنه لم يكن هناك مواطن ألماني بلا عمل، وجدَّد خطوط السكك الحديدية، وأهتم بالطرق السريعة التي تسير عليها المركبات، وأقام عشرات الجسور لسهولة الربط بين شبكة المواصلات، كما اهتمت حكومة " هتلر " بفن العمارة على نطاق واسع، وفي سنة 1936م قامت " برلين " باستضافة دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية التي أفتتحها " هتلر"، ووُضعت أناشيدها وألحانها التي تُظهر تفوق الجنس الآري على جميع الأجناس الأخرى، مما رفع من شعبية " هتلر " إلى عنان السماء. وفي أكتوبر سنة 1936م تحالف هتلر مع " بينيتو موسوليني " حاكم إيطاليا الفاشستي، ثم ضم معه اليابان، وهنغاريا، ورومانيا، وبلغاريا، وفي نوفمبر سنة 1937م عقد " هتلر " اجتماعا سريًّا مع مستشاريه، وأفصح لهم عن رغبته في توسيع رقعة ألمانيا الجغرافية، وطالب بوضع خطة سرية لهذا التوسع، لا يُعلن عنها، وضغط " هتلر " على النمسا لتتحد معه، ورغم أن بريطانيا بذلت مساعي جادة لإخماد شعلة الحرب التي يسعى إليها " هتلر " بكل قوته، فإن " هتلر " كان مصرًا على موقفه في تكوين إمبراطورية ألمانية تمثل القوة الأولى في العالم، ولهذا أعتبر بريطانيا العدو الأول له بدلًا من الإتحاد السوفيتي، ووضع خطة لتطوير القوات البحرية والجوية بخطوات واسعة بهدف سحق البحرية الملكية البريطانية، وإبادة المدن وسفن الشحن البريطانية، وأطلق " هتلر " حملة دعائية ضخمة ضد بريطانيا التي تقمع انتفاضة العرب في فلسطين، وسياستها في الهند متهمًا إياها بالنفاق، مقابل الحفاظ على إمبراطوريتها، وفي يناير سنة 1939م أصدر " هتلر " أوامره بقتل جميع الأطفال المعاقين الذين يولدون في ألمانيا تحت مُسمى " برنامج القتل الرحيم"، وفي نفس الشهر ألقى خطابه الشهير المعروف بخطاب النبؤة، والذي قال فيه بأنه في الماضي عندما تنبأ بأنه سيصل إلى السلطة " كان اليهود هم أول من قابل نبوءاتي بقدر من السخرية خاصة عندما صرحت بأنني سأتولى زعامة الدولة في يوم من الأيام، وزعامة الأمة بأسرها، وأنني سأتمكن حينها من تسوية مشكلة اليهود وأقوم بالكثير من الأمور الأخرى، وكانت ضحكاتهم صاخبة " ثم أطلق " هتلر" "نبؤة أخرى " مهددًا اليهود بأنه لو نجحت القوى الألمانية اليهودية خارج أوربا لإقحام الأمم في حرب عالمية جديدة، فإن هذا سيكون بمثابة إهلاك العرق اليهودي في أوربا، فقد كان " هتلر " يبوح بآماله في القضاء على اليهود، وهذا ما سعى إليه وبدأ في تنفيذه سنة 1941م. وكان " هتلر " قد أعدَّ جيشه، وبدأ في تنفيذ الخطة السرية بخطوات واسعة، ففي مارس سنة 1939م غزا تشيكوسلوفاكيا ووصل للعاصمة التشيكية " براغ"، وبعد نحو خمسة أشهر أراد أن يُحيّد الإتحاد السوفيتي ويُخرِجه من الساحة، فعقد مع " ستالين " معاهدة " عدم الاعتداء " في أغسطس 1939م، فلا يعتدي أحدهما على الآخر، وكان من البنود السرية لهذه المعاهدة الاتفاق على تقسيم بولندا بينهما، ومع بداية سبتمبر قام " هتلر " بغزو بولندا بدون حرب، لأنه عرف بالتجسس المكان البديل للحكومة والقيادات البولندية ساعة نشوب الحرب، فسيطر على هذا المكان، فسقطت بولندا في يده بدون حرب، فلم يجد الإنجليز والفرنسيين بدًا من إعلان الحرب على ألمانيا وتوسعاتها غير المشروعة، أما " هتلر " فلم يتوقف عند حد، ففي شهر أبريل سنة 1940م غزا كل من الدنمارك والنرويج، وفي شهر مايو هاجم هولندا وبلجيكا وحارب فرنسا، التي ما لبست أن انهارت أمام القوات الألمانية خلال ستة أسابيع فقط، وهاجمت القوات الألمانية الجوية القواعد الجوية ومحطات الرادار البريطانية، ولكنها فشلت في هزيمتها، فأخذت تقصف المدن البريطانية ليلًا. وفي أبريل سنة 1941م قام " هتلر "بغزو يوغوسلافيا واليونان، وفي ذات الوقت كانت القوات الألمانية في شمال أفريقيا بقيادة المارشال " أروين روميل " قد كبدت القوات البريطانية خسائر فادحة، حتى أنها أسرت منهم في طبرق ثمانية وعشرين ألف جندي، مما دعى القوات البريطانية لمواصلة انسحاباتها حتى إلى العلمين، وخندقت فيها، وبدأت الإمدادات الأمريكية تتدفق عليها من البحر، دبابات ومدافع وطائرات بلا حصر، بل وإمدادات بشرية أيضًا من فرنسا وأمريكا وروسيا واليونان ونيوزيلندا وأستراليا وتركيا والهند وجنوب أفريقيا، فكل هؤلاء يسعون إلى تفشيل خطة القوات الألمانية التي تسعى للوصول إلى قناة السويس والشرق الأوسط. وفي غمرة هذه الانتصارات المذهلة التي حققتها ألمانيا، نقض " هتلر " معاهدة عدم الاعتداء " التي عقدها مع " ستالين"، ففي يونيو سنة 1941م قام ثلاثة ملايين جندي ألماني بمهاجمة الأراضي الروسية في أوروبا، تمهيدًا لخطة أوسع لإخضاع العالم للإمبراطورية الألمانية، ولم يُقابل الألمان مقاومة تذكر، لأن " ستالين " كان قد أعدم عدد ضخم جدًا من جنرالات الجيش، واستولت ألمانيا على دول البلطيق وروسيا البيضاء وأوكرانيا وخرجت المظاهرات في أنحاء روسيا تهتف للقوات الألمانية، وتنظر إليها على أنها المخلص الذي سينقذها من قبضة " ستالين " والشيوعية، أما القوات الألمانية التي لا ترحم فقد دخلت القرى الروسية وأحرقتها بكل ما فيها ومن فيها، حتى أن الإتحاد السوفيتي بلغت خسائره خلال الحرب العالمية الثانية من نحو 21 إلى 28 مليون شخص، وبينما كانت تمثل القوات الألمانية تهديدًا قويًا لموسكو حلَّ فصل الشتاء القاسي فتوقف القتال الألماني، على أمل استمرار الزحف إلى موسكو، وكان " هتلر " واثقًا من هذه الخطوة القادمة، حتى أنه عندما سأله " هيترش هيلمر": "ماذا سنفعل مع يهود روسيا؟ " أجابه " هتلر": "قم بإبادتهم على أنهم أعضاء القوات غير النظامية التي تزعج القوات الألمانية المحتلة بشن الغارات المتكرَّرة عليها " وتم تسجيل هذا في دفتر المقابلات. ونجح " ستالين " في شحذ همم الجيش الروسي والشعب الروسي للدفاع عن وطنه، ومع بداية الصيف أشتعلت نيران الحرب الألمانية الروسية، وبعد ستة أيام من اقتراب القوات النازية من موسكو، ومرور أربعة أيام على ضرب القوات اليابانية للأسطول الأمريكي في ميناء " بيرل هاربور " في هاواي، أعلن " هتلر " الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية في 11 ديسمبر 1941م، ولكن نتائج معركة ستالينجراد حيث حطمت القوات الروسية الجيش السادس الألماني، قلب الموازين رأسًا على عقب. لقد نجحت القوات الروسية في إلحاق الهزيمة الأولى للقوات الألمانية، ولم تكتفي القوات الروسية بتحرير أراضيها من الألمان، إنما زحفت تجاه الأراضي الألمانية. وأيضًا ما حطم آمال " هتلر " هو نتائج معركة العلمين، فبعد أن كاد " روميل " يعبر إلى مصر عندما نجح في فتح ثغرة في قوات التحالف، وتسرَّع وأعلن انتصاره على الحلفاء وأن قواته في طريقها إلى وادي النيل، جاءت المعركة الفاصلة في 23 أكتوبر 1942م إذ أغارت ألف طائرة من طائرات الحلفاء على الطائرات الألمانية، ولم يكن هناك غير 550 طائرة ألمانية تحط في المطارات ومعظمها معطل ولا وقود لها، وفي 2 نوفمبر 1942م كانت معركة الدبابات الفاصلة أيضًا حيث تحطمت 260 دبابة ألمانية وإيطالية، ونجح " روميل " في الانسحاب المنظم مستخدمًا وسائل النقل المتاحة، بينما سقطت القوات الإيطالية في الأسر، وبهذا فشلت القوات الألمانية في الوصول إلى قناة السويس والشرق الأوسط. وفي سنة 1943م تم الإطاحة بـ"موسوليني " حليف " هتلر"، وفي 6 يونيو 1944م وصلت القوات البريطانية إلى الشواطئ الشمالية الفرنسية، وفي نفس اليوم تمت عملية إنزال جيوش الحلفاء الغربيون في شمال فرنسا، وكانت هذه العملية من أكبر العمليات البرمائية التي حدثت في تاريخ العسكرية، وشعر القادة الألمان أن الهزيمة على الأبواب، فقرروا الخلاص من " هتلر"، فقام " كلاوس فون " بزرع قنبلة في مركز قيادة " هتلر " والذي عُرف بوكر الذئب، ونجا " هتلر " من الموت بأعجوبة، وكان رد فعله شديدًا إذ أصدر حكم بإعدام أكثر من 4900 شخص، وذلك عن طريق التجويع في الحبس الانفرادي ثم الاختناق البطيء، فهذه هي ثمرة أفكار "نيتشه" الإلحادية، واستمر " هتلر " في عناده واستخفافه بالحقائق العسكرية، وظل مستمرًا في إحراق اليهود. وفي ديسمبر 1944م تمكنت قوات الحلفاء من الوصول إلى نهر الراين، وفي أبريل 1945م هاجمت القوات الروسية ضواحي برلين، وكان معاوني " هتلر " قد هربوا إلى بافاريا والنمسا، فأمر " هتلر " بتدمير كل شيء، المصانع الحربية، والمنشآت العسكرية، وخطوط المواصلات والاتصالات.. إلخ. وفي وصية عيَّن " هيتريك هيلمر " مستشارًا لألمانيا عوضًا عنه، وفي أبريل سنة 1945م كان " هتلر " في قبو من أقبية برلين فانتحر وانتحرت معه عشيقته " إيفا براون " التي تزوجها في اليوم السابق، وقام " أوتوجونش " وبعض الضباط المعاونين بسكب البنزين على الجثتين وإحراقهما. وبسبب تجرأ اليابان على تحطيم الأسطول البحري الأمريكي تجرأت أمريكا واستخدمت لأول مرة السلاح النووي، فألقت بقنبلتين على اليابان، الأولى في 6 أغطس 1945م على هيروشيما، والثانية في 9 أغسطس من نفس العام على نجازاكي، وعندما انفجرت قنبلة هيروشيما على ارتفاع 600 متر من الأرض ظهر مكان الانفجار كرة نارية أخذت في الاتساع، ووصلت درجة حرارتها إلى ملايين الدرجات المئوية، وكأنها قطعة من الشمس سقطت على الأرض، وأحدث الانفجار موجة شديدة من الضغط الذي حطم مباني المدينة، فصارت المدينة خرابًا وضاعت معالمها في لحظات، ووصل عدد القتلى لعشرات الآلاف، فالطاقة التفجيرية للقنبلة الذرية تغطي مساحة تتراوح من 15 - 100 كم2 وفقًا لحجم القنبلة، وذلك خلال ثلاث دقائق، ووصل عدد القتلى في هيروشيما إلى 80 ألف والجرحى 100 ألف والمشردين 200 ألف، وفي نجازاكي بلغ عدد القتلى عشرة آلاف والجرحى 20 ألفًا والمشردين 90 ألفًا، بالإضافة إلى ما أحدثته القنبلتان من تأثير سيء على البيئة (راجع مجلة العلم عدد 277 - أكتوبر 1999 ص 32، 33) وانتهت الحرب العالمية الثانية التي تسبب فيها " هتلر " بفكره النازي، وبفضل ما تشبع به من أفكار "نيتشه"، وقد خلفت وراءها نحو 60 مليون قتيل. |
||||
07 - 07 - 2014, 04:10 PM | رقم المشاركة : ( 10 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
ماوتسي تونج (1893-1876م.) س35: كيف كانت حياة "ماو"؟ وكيف جرَّت "الماوية" الشيوعية الويلات على شعب الصين؟ ج: وُلِد "ماو" في 26 ديسمبر 1893م بقرية "شوشان" من إقليم "هونان" بالصين، من أب فلاح ميسور، وأم بوذية، ومنذ طفولته وهو يتميز بالعناد والتمرد والفوضوية، وظل هكذا طوال حياته، وكان "ماو" هو الابن الثالث الذي عاش بعد أن مات كل من شقيقاه عقب ولادتهما، وأُضيف إلى اسمه "تسي تونج" أي "الذي يتألق على الشروق"، فصار اسمه "ماوتسي تونج"، وعُرِف باسم "ماو"، وكانت أمه وديعة متسامحة، فأحبها كثيرًا وقال أنها لم ترفع صوتها في وجهه قط، وظل طوال حياته يتحدث عنها بحنان، وعاش طفولته يدرس، ويعمل قليلًا في الزراعة، وبسبب عناده طُرد ثلاث مرات من المدرسة، فكان والده يضربه، وفي إحدى المرات أنَّبه والده أمام ضيوفه، ويقول "ماو": "فوصفني بأنني كسول وبلا فائدة. فتعصبتُ كثيرًا ولعنته وتركتُ المنزل، فلعنني هو أيضًا وألحق بي، فوقفت على حافة جسر وهدَّدتُ بالقفز إذا أقترب أكثر، فتراجع. إن العجائز أمثاله لا يريدون أن يفقدوا أبناءهم، تلك نقطة ضعفهم، وقد استغللتها "وكان يكره والده، حتى أنه كان يقول للجلادين الذين يتولون تعذيب خصومه السياسيين" لقد كان أبي سيئًا، ولو كان حيًّا الآن لوجب قتله". وكان لدى "ماو" رغبة جامحة في القراءة، حتى أنه عندما حكم الصين كان نصف سريره المتسع يمتلئ دائمًا بالكتب، والنصف الآخر بالفتيات. وكانت الصين خاضعة للدول الكبرى مثل بريطانيا وأمريكا، وقد أغرقت بريطانيا الصين بالأفيون، مما نشب عنه حرب الأفيون، وبينما كان " ماو " في الثامنة عشر شبت الثورة ضد "تشينغ"، وبعد عدة شهور انتهت الملكية تمامًا، وأُعلنت "جمهورية الصين" التي عاشت في فوضى ولم تعرف الاستقرار حتى سنة 1949م عندما اعتلى " ماو " السلطة. وكان "ماو" قد أراد أن يصبح أستاذًا فدخل جامعة بكين سنة 1919م، وهناك اعتنق الشيوعية ودرس الماركسية وأقتنع بها حتى صار ماركسيًا متعصبًا، وفي سنة 1921م أسَّس مع أحد عشر شخصًا آخرين الحزب الشيوعي في شنغهاي، وبينما أعتمد ماركس على العمال في دعوته، تغير فكر "ماو" سنة 1925م وصار يعتمد بالأكثر على الفلاحين، وطوَّر الشيوعية إلى مفهوم جديد نسبه لنفسه، فدُعي بـ"الماوية " وهي مزيج من شيوعية لينين وماركس، وسعى للتحالف مع الإتحاد السوفيتي، وأهتم بالفلاحين والتنمية الزراعية. وفي سنة 1927م تعرض " ماو " مع الشيوعيين للاضطهاد من الجيوش القومية بقيادة " شيانج كاي " الذي كان يقتل الشيوعيين، فهرب " ماو " مع زملائه للجبال على حدود " هيزان " وشكَّلوا أول حكومة صينية سوفيتية ترتكز على الفلاحين، وفي سنة 1934م عندما هاجم القوميون " سوفت هيوان - كيا نجسي " أضطر مائة ألف رجل وامرأة وطفل للهرب إلى الحدود الغربية للبلاد، فقطعوا رحلة 6000 ميل في عام، وعبروا خلالها على 12 مقاطعة، 24 نهرًا، وسلاسل جبلية، وغابات كثيفة، وصحاري مهجورة، فمات معظمهم ولم ينجو منهم إلاَّ 20000 نفس. وبعد اغتيال القادة الشيوعيين لم يبقَ إلاَّ " ماو " الذي وضع خطة بطيئة للسيطرة على الحكم، وأنتظر حتى سنة 1947م حيث بدأ بالتحرك لقلب نظام الحكم، وفي سنة 1949م أنتصرت القوات الشيوعية، وكانت البلاد قد أنهكتها الحروب ووصلت لحالة شديدة من الفقر والتخلف، وكان " ماو " في السادسة والخمسين من عمره، فتولى السلطة، وأحكم قبضته على الصين، وقتل عددًا كبيرًا من أعداء الثورة. وحاول " ماو " أن يلحق بركب الحضارة، فاهتم بالتعليم والصحة والتصنيع، وحوَّل النظام الرأسمالي إلى نظام اشتراكي، واستخدم أجهزة الدعاية، فبعد أن كان الصينيون يقدّسون الآباء والأجداد منذ آلاف السنين، أخذوا يقدّسون الوطن، ووضع " ماو " مشروع " القفزة الكبرى " الذي يرتكز على الصناعات الصغيرة في الحقول والقرى، وأجبر ملايين العمال والفلاحيين على العمل في هذا المشروع بمعدل سريع، ولم يستطع الشعب أن يواكب هذا المشروع الذي تعرَّض للانهيار، واضطر " ماو " لشراء القمح من الدول الرأسمالية ليطعم شعبه، وعندما قرَّرت روسيا التعايش السلمي مع الولايات المتحدة هاجم " ماو " القادة الروس لأنهم لم يخلصوا لفكر لينينالماركسي الذي يدعو لتدمير الرأسمالية. وفي سنة 1966م أشعل "ماو" ما أسماه بالثورة الثقافية بهدف سحق المعارضة، فتجمع في بكين أكثر من مليون شاب من أعضاء الحرس الأحمر تحت شعار "العصيان حق" وكانت أعمارهم تتراوح بين 15-19 سنة، وبتحريض من " ماو " أخذوا يفتشون لدى أي شخص مهما علت مرتبته عن أية أثار أو دلائل يُستشف منها ميوله للغرب، وضبط كل شخص يشتم منه أنه غير مخلص للثورة أو خائن لمنهجها، فتعرض الكثيرون لإهانات بالغة، وعدد كبير من الذين يشغلون مواقع قيادية عليا زُفوا في مواكب كبيرة، وعلى رأس كل منهم " طرطور " وعلى صدره لوحة كبيرة عُلقت بحبل يتدلى من رقبته ومكتوب عليها شعارات ثورية غاضبة، فتحوَّلت الأمور إلى فوضى، وعمت الفوضى البلاد بسبب الثورة الثقافية، التي سادت لمدة ثلاث سنوات، حتى صارت البلاد على حافة حرب أهلية، فتدخل " ماو " وأنهى هذه الثورة الفوضوية سنة 1969م، ويعتبر " ماو " أقوى رجل حكم مليار شخص لمدة 25 سنة في الصين حتى قيل عنه أنه الرجل الأقوى خلال تاريخ الصين، وكم قتل من أبناء شعبه!! وكتب " ريتشار وورمبلاند " يقول "يرتعب العالم اليوم عما يجري في شوارع الصين. فعلى مرأى من جميع الناس ينفذ الحارس الأحمر عمله الإرهابي. والآن تصوَّر ماذا يحدث لبعض المؤمنين في سجون شيوعية بعيدًا عن أعين الناس. إن آخر الأخبار التي وردتنا من هناك هي أن أحد الكتاب الإنجيليين الصينيين المشهورين، مع بعض المؤمنين الآخرين والذين رفضوا نكران إيمانهم، قُطعت آذانهم، وألسنتهم وأرجلهم أيضًا.. وفي الصين اليوم، هناك موجة جديدة من البربرية تفوق في وحشيتها عهد ستالين. فقد تلاشت الحياة الكنسية العلنية هناك تمامًا.. وبين بليون شخص في بلدان محكومة بالشيوعية وبأعمال الإرهاب والخديعة، ينشأ الجيل الجديد بكراهية عظمى لكل ما هو غربي، خاصة الديانة المسيحية" (1). أما عن زوجات " ماو " فقد تزوج لأول مرة وهو في الرابعة عشر من عمره بفتاة تكبره أربعة أعوام، ثم تزوج عدة مرات، فزوجته الثانية تعرضت للقتل على يد القوميون المتشددون، والثالثة أصيبت بجرح أثناء المسيرة الكبرى، والرابعة هي الممثلة " شيانج شينج " وقد أنجب منها خمسة أولاد وبنات، بالإضافة لعدد من الأولاد والبنات من الزوجات السابقات، وقُتل له ولد في حرب كوبا، وكان أحد أبناءه مُختل عقليًا، أما رد فعل " ماو " فانصب على الكتب، والنساء، فكان له سرير متسع جدًا يحمله أينما ذهب، حتى دعوه بالبساط السحري، ويزدحم على السرير الكتب، وأيضًا بعض الفتيات التي يصل عددهن إلى خمسة أو ست فتيات، وقد تواكبت الأمراض على " ماوسي تونج " من 1972م وحتى موته سنة 1976م. |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|