02 - 07 - 2014, 03:23 PM | رقم المشاركة : ( 11 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
التمثيلية الهزلية وبعد أن ظهر كذب الشهود وتجنيهم على يسوع.. لمعت براءته، وشعر رؤساء الكهنة بأن الطير البريء كاد ينطلق من القفص، فكل السهام التي صوبت نحوه طاشت، وواحدًا منها لم يصب الفريسة لا في مقتل ولا في غير مقتل، وشعر حنان أن الوقت يمرَّ سريعًا، ولا يعرف للآن من أين تؤكل الكتف، ورأى قيافا أن الطريق صار مسدودًا لإدانة يسوع، فتفتق ذهنه عن فكرة شيطانية، وهي القيام بدور درامي في تمثيلية هزلية، تنتهي باعتراف المتهم.. تجاهل قيافا أنه هو القاضي، أو قل قاضي القضاة في المجلس الأعلى للقضاء، ولا يحق له على الإطلاق القيام بدور المشتكي، فطبقًا للإجراءات القانونية التي توجبها الشريعة يقوم المشتكي بتوجيه الاتهامات للمتهم، وعلى المجلس الاستماع لهذه الاتهامات، ووزنها بميزان العقل، وسماع الشهود مع تمحيص أقوالهم، ومناقشة المتهم مع إعطائه الفرصة كاملة للدفاع عن نفسه. ثم يقوم قيافا وشركاؤه بإصدار الحكم العادل بدون تحيُّز لأي من الطرفين.. فما بالك يا قيافا تحتقر كل هذه الإجراءات، وتضرب بها عرض الحائط، وأنت الفاهم والعالم بالأمور؟!.. وما بالك يا قيافا تزج بنفسك، وتحطم القاعدة القانونية التي تحرم على أعضاء المحكمة سؤال المتهم بقصد إثبات التهمة عليه؟!.. هل ما فشلت في إثباته عبر شهود الزور، تريد أن تثبته بنفسك، وتلصق التهمة بالمتهم، سواء بطريق شرعي أو غير شرعي؟! ومالك تطلق سهمك تجاه المتهم مع إن الشريعة لا تعطيك هذا الحق؟! تناسى وتجاهل وتغافل قيافا كل شيء، وركز كل تفكيره، وحنكة سنيَّ الشر، في صياغة السؤال الذي سيطلقه، واستخدم قيافا كل حيلته ودهائه ومكره ووسم سؤاله باسم يهوه العظيم: أستحلفك بالله الحي قل لنا أأنت المسيح ابن المبارك؟ هل أنت ابن الله؟ ولك يا صديقي أن تتصوّر النتيجة.. لو ظل المعلم في صمته ولم يجب على السؤال، فهذا احتقار لاسم يهوه وبهذا يستحق الموت، وجاء في كتاب التلمود " إذا قال قائل: أستحلفك بالله القادر على كل شيء، أو بالصباؤوت، أو بالعظيم الرحيم، الطويل الأناة، الكثير الرحمة، أو بأي لقب من الألقاب الإلهية، فإنه كان لزامًا على المسئول أن يُجيب" (14) ورغم أن قيافا لم يوقر اسم الله الحي، بل استخدمه استخدامًا باطلًا، واستغله استغلالًا مُشينًا، فليس له أن يطرح هذا السؤال الذي يحمل اتهامًا معينًا للمتهم، إلاَّ أن يسوع الذي يُوقّر الاسم المملوء بركة فقد التزم بالإجابة.. ومادام يسوع سيجيب، إذًا فقد يجيب بالنفي أو بالإثبات: فلو أجاب بالنفي فهذا تراجع منه عما قاله سلفًا، مما ينافي مبادئ يسوع، لأنه علّم أتباعه " ليكن كلامكم نعم نعم لا لا "، وقد منعهم من الحلف وأكد عليهم الصدق فلو خالف هو ما قاله سابقًا، فإنه سيسقط في نظر أتباعه، ولم يجب يسوع بالنفي.. بماذا أجاب إذًا؟! لقد أجاب بالإثبات.. بالرغم من جو الإرهاب الذي هيمن على قاعة المحكمة، فإن يسوع أكد بالإيجاب، بل وأجاب سريعًا، وإجابة صريحة جريئة واضحة حاسمة.. بل أيَّد إجابته بالدليل البين فقال: أنتَ قلتَ.. ولا تؤخد هذه الإجابة بمفهوم هذه الأيام، كمحاولة للتملُّص والتخلُّص والمراوغة وإلقاء المسئولية على الآخر. إنما كانت في تلك الأيام تُعبر عن أسلوب أدبي راقي يحمل التأكيد، فهي تعني "أن الأمر كذلك حسب قولك تمامًا".. كما قلتَ أنتَ. هكذا هي الحقيقة.. هكذا أنا هو ابن الله. وفهم رئيس الكهنة الإجابة جيدًا، وإنها إجابة بالإيجاب، وفوجئ بالدليل الذي ساقه المعلم إذ قال: وأيضًا أقول لكم من الآن سوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء. وحملت نبرات يسوع قوة الإجابة وصدقها، وكانت كفيلة بأن تخترق قلب حنان، وتمزق قلب قيافا إربًا، لو أرادا ذلك، أو لو كان لديهما استعداد بسيط لتقبل الحق وتصحيح المسار، وكان عليهما أن يتذكرا قول دانيال النبي " كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوه قدامه. فاُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13، 14) فكم سمعا المعلم يدعو نفسه بابن الإنسان، ولكن إذ أغلقا قلبيهما تمامًا فإن هذه الشهادة لا تدين يسوع، إنما تدينهما في يوم الدينونة الرهيب.. كيف سيكون موقفهما..؟! حتى لو قالا للجبال اسقطي علينا وللتلال غطينا فإنها لن تكفي. وكان على قيافا أن يقوم على الفور بالدور الدرامي، في التمثيلية الهزلية التي ألفها وأخرجها وقام بدور البطل فيها ليحفز الحاضرين ضد يسوع.. فماذا فعل؟ لقد مزق ثيابه.. نعم كانت هذه عادة اليهود عندما يسمعون ما يهين أو يشين اسم الله القدوس، أو عندما تحل مصيبة عظيمة بشعب الله، كما فعل الياقيم بن حلقيا وشبنه الكاتب ويوآخ بن آساف عندما سمعوا تعيير رسل ملك آشور فمزقوا ثيابهم (أش 36: 22) بل وعندما أطلعوا حزقيا الملك على الأمر مزَّق هو أيضًا ثيابه وتغطي بمسح (أش 37: 1) ومع أن الناموس كان يمنع رئيس الكهنة من تمزيق ثيابه.. لم يكترث قيافا بأوامر الناموس ومزَّق ثيابه عوضًا عن تمزيق قلبه.. لقد انفجر الحقد الأسود من بين ضلوعه، فلم يحتمل ثيابه، فمزقها.. شق ثيابه في منظر فاضح جنوني لا يليق أبدًا برئيس كهنة الله، فشق الله عنه كهنوته.. شق ثيابه تعبيرًا عن الكبت النفسي الناتج من حقد الأيام وغل السنين.. مزق ثيابه وهو يشعر بالفخر والاعتزاز، لأنه استطاع أن يُسقط يسوع في الفخ الذي نصبه له، وكأن جبلًا قد انزاح عن صدره وتنفس الصعداء، ورن صوته مجلجلًا بنغمة الفوز والنصرة، وصاح صيحة الذئب الجريح الذي طالما أعيته الحيلة، واهتزت لحيته الطويلة اهتزازات شيطانية مُصدرًا الحكم قبل أن يستمع لرأي بقية الأعضاء، مع إن الإجراءات القانونية توجب عليه أخذ رأي الأعضاء أولًا عضوًا عضوًا مبتدئًا من الصغير إلى الكبير، ثم يُعطي رأيه أخيرًا وليس أولًا.. إنه أراد أن ينحو بأعضاء المجلس بحسبما ما يشتهي هو، فقال: لقد جدف.. ها قد سمعتم تجديفه.. ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ وهو يقول في نفسه " لقد أصاب السهم الفريسة ولا مفر من الذبح، فكلمة التجديف لها مفعول السحر في إثارة حماس الأعضاء حماة يهوه. ثم استدرك رئيس الكهنة ما سقط فيه من مخالفة، فأعقب قوله بالسؤال التالي: ماذا ترون؟! ما رأيكم يا أبناء يعقوب؟! وماذا تقولون يا قضاة إسرائيل؟! أرأيتم تجديفًا كهذا..؟! ابن الله..!! يهوه..!! إيلوهيم..!! أدوناي صباؤوت..!! يا للكفر.. يا للعار.. معاذ الله.. وسرت همهمة بين الحاضرين كان أول من نطق بها الخدم والعبيد "أنه مستوجب الموت".. "نعم".. "كان يجب أن يموت من زمن بعيد".. " لماذا تُرك للآن".. " إنه يستحق الموت الزؤام".. "إن كان ابن الله فلينقذه الله". عجبًا.. ألم يكن الأجدى برئيس الكهنة أن يستكمل استجوابه ليعرف التفاصيل..؟! أو هل يوجد استجواب يتكون من سؤال واحد، إلاَّ إذا كان وراءه نية خبيثة..؟! لماذا لم تُفكر يا حنان في حوار يسوع مع الفريسيين " وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلًا: ماذا تظنون في المسيح. ابن من هو؟ قالوا: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا قال الربَّ لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطنًا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يُجيبه بكلمة" (مت 22: 41-46).. ولماذا لم تلتفت يا قيافا إلى قول داود أيضًا "إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني. أنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7) وقول ابنه سليمان "من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرَّ المياه في ثوب؟ من ثبت أطراف الأرض؟ ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت؟" (أم 30: 4) فإن كانت عقيدة الأمونوجينيس (الوحيد الجنس) ثابتة في الأسفار المقدَّسة.. فما بالك تعتبر يا قيافا أن هذا تجديفًا..؟! لماذا لم تمنح نفسك فرصة للتفكير في إجابة يسوع، إنما فضلت استكمال دورك كما رسمته في هذه المسرحية الهزلية. وقف يسوع يرى ويسمع ما سبق وأخبرهم به.. فهوذا قيافا وحنان مع بقية الكرامين الأردياء يتربصون بابن صاحب الكرم قائلين " هذا هو الوارث هلمُّوا لقتله ونأخذ ميراثه" (مت 21: 38) مستخدمين سلطانهم الكهنوتي مع تزوير الحقائق وتلفيق التهم، وللأسف فإنهم لا يدركون أن الحكم الإلهي عليهم بات وشيكًا " أُولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًّا ويُسلّم الكرم إلى كرَّامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها" (مت 21: 41). وكان صدور الحكم على المتهم بالموت في ذات الجلسة خطأً فادحًا ضد الشريعة، وضد نصوص وروح القانون اليهودي الخاص بالسنهدريم، بالإضافة لانعقاد الجلسة ليلًا.. وهذا ما حدا بحنان إلى تنبيه الأعضاء بأن الجلسة القادمة ستعقد في الصباح الباكر حيث تضم أعضاء المجلس بالكامل.. فما لزوم الجلسة التالية إذا كان كل شيء قد تم قانونيًا..؟! إن انعقاد جلسة أخرى يعالج فيها الجلسة الأولى لهو اعتراف واضح وفاضح لما شاب المحاكمة الأولى من أخطاء قاتلة.. وفي أحد أركان الصالة المتسعة كان يقف إنسانًا ينظر في حيرة وقلق بالغ وقد جحظت عيناه، وإذ رأى أن يسوع قد حُكم عليه بالموت، اضطرب وانسحب يجر أذيال الخيبة والعار، واشتعلت النيران في جوفه، وإذ بالشياطين ترقص حوله طربًا، هازئة بتلميذ خان معلمه الذي يُحبه، وأخذت هذه الشياطين ذاتها تدين يدًا استلت سكينًا لتطعن من أحسن إليها، وتبكت عبدًا باع سيده، ورجلًا سلم صاحبه للموت بقبلة غاشة، وارتفعت أصوات التقريع.. خائن.. فاسد.. شرير.. حتى كاد يهوذا يسد إذنيه، ولم تعد ساقاه تحتملاه، فانصرف نحو خزانة الهيكل ذات المكان الذي باع فيه سيده. |
||||
02 - 07 - 2014, 03:24 PM | رقم المشاركة : ( 12 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
وصاح الديك وبينما كان يسوع يُحاكم المحاكمة الثانية كما رأينا، وإذ كانت الليلة شديدة البرودة على غير العادة جلس الخدم والعبيد حول النار التي أشعلوها يصطلون، وكان بطرس بداية راضيًا بتواجده خارج القصر خوفًا من اكتشاف فعلته مع ملخس، وعندما دخل إلى فناء القصر بوساطة يوحنا اندس وسط الخدم والعبيد، كأحد المتفرجين الذين لا يعنيهم أمر ذلك الرجل.. دخل بطرس وجلس في هذا الوسط المتدني لينظر النهاية، ونسى الوصية المقدَّسة " طوبى للرجل الذي لم يسلك في طريق المنافقين وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس" (مز 1: 1) " ربما سمع بطرس أن رئيس الكهنة سأل السيد المسيح عن تلاميذه، فخشى أن يُقبض عليه أو يتعرض لضربات مثل سيده.. أراد أن يستدفئ بنار الأشرار، فحمل برودة من جهة الحياة الصالحة. كان يليق به أن يستدفئ بنار محبة المسيح التي لا تقدر مياه كثيرة أن تطفئها (نش 8: 6 - 7)" (15).. وإذ بجارية تتمتع بقدر من الذكاء الفطري تتفرس فيه على ضوء النار التي يصطلون عليها وتقول له: وأنتَ كنتَ مع يسوع الناصري. وانطلق السهم المباغت على حين غرة، فأصاب بطرس في مقتل، واضطرب مثل فريسة نشب بها سهم الصياد الماهر، وحاول بطرس إخفاء اضطرابه، وإظهار عدم اكتراثه بالأمر: من..؟! أنا..؟! لست أنا كما تقولين.. لا أعرف ما تقصدين.. لا أفهم ولا أعرف. الجارية: ألم تكن مع يسوع الناصري في تجواله؟ بطرس: لا أعرف شيئًا مما تقولين.. ربما واحد يشبهني.. الجارية: ألستَ أنتَ من تلاميذه؟ بطرس: لستُ أنا.. لا تلميذه، ولا رفيقه، ولا أعرفه يا امرأة. وتمنى بطرس في هذه اللحظة أن يُطوّح برأسه الصلعاء بعيدًا، ويستعير رأسًا أخرى حليقة اللحية بشعر أشعت، ورغم أنه من النادر خروج الجواري ليلًا بعد مشقة يوم طويل، إلاَّ إنهنَّ ظلّلن يقظات، بسبب شدة كراهيتهن ليسوع التي انتقلت لهن عبر أسيادهن، ورغم أن النساء يتميزن بالرقة والترفق، إلاَّ أن هذه الجارية أرادت أن تزُج ببطرس مبكرًا إلى الصليب. ما بالك يا بطرس تخاف وتُنكر..؟! ألم تقل لسيدك لو شك فيك الجميع فأنا لا أشك..؟! ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك..؟! أتخاف من سؤال الجارية، فما بالك لو سُئلت من قيافا وحنان..؟! ولا عجب، فحالك يا بطرس هو حالي عندما أضع ثقتي في ذاتي.. وطوباكَ يا بطرس لأنك استوعبت الدرس جيدًافبعد القيامة عندما سألك سيدك: أتحبني يا بطرس؟ لم تقل: نعم إني أحبك أكثر من كل هؤلاء، إنما أجبت باتضاع والدموع تترغرغ في عينيك: يا رب أنت تعلم كل شيء.. أنت تعلم إنني أُحبك، ومهما صنعت يا بطرس فيما بعد من معجزات عظيمة مثل إقامة طابيثا من الموت.. مهما رأيتَ ظلك يشفي الأمراض ويُخرج الأرواح الشريرة، فإن ضعف طبيعتك سيظل أمامك في كل حين. أما الذين يثقون في إمكاناتهم، فإن الشيطان كفيل بأن يلهو بهذه الإمكانات، فكم من الملوك المفتخرين بعدالتهم أجروا المظالم باسم العدل؟! وكم من الخدام المختالين بمواهبهم انزلقوا وضاعوا؟! وكم من العلماء الواثقين في رجاحة فكرهم سقطوا في البدع والهرطقات؟!0 وحاول بطرس أن يندس وسط الخدم والعبيد أكثر فأكثر، وهو يُعاني من هزة نفسيَّة عميقة، وفكر في الانسحاب من المكان.. لقد عاش الحيرة والخوف والارتباك على أشدَّ ما يكون، فاتجه نحو الباب ببطء شديد حتى لا يلحظ أحد انسحابه، وإذ بالبوابة تلمحه، فيدفعها شيطانها الذي هوى العزف على ذات الوتر، بعد أن وضع بطرس في غرباله لكيما يغربله مع هزات موسيقاه السخيفة.. تفرَّست البوابة فيه، وحدجته بنظرات فاحصة، وأطلق الشيطان سهمه الثاني: وأنتَ كنتَ معهم، فملابسك هي هي ملابس أهل الجليل. وقال بطرس في عصبية: لستُ أنا يا امرأة.. لستُ أنا وأشاح بوجهه بعيدًا حتى لا تتفرس فيه أكثر، وارتبك كإنسان يطارده الموت ولا يعرف كيف ينجو بنفسه، ويبدو أن حالة بطرس أثارت عواطف هذه البوابة فتركته لحال سبيله، والتقط بطرس الأنفاس.. هل يهرب من هنا كما هرب منذ قليل من البستان..؟! هل يظل صامدًا قريبًا من معلمه مادام الموقف مرَّ بسلام..؟! وصاح الديك للمرة الأولى، ولم يلفت هذا الصوت نظر بطرس القلق المضطرب. وإذ بزمري وهو نسيب ملخس الذي قطع بطرس أذنه، وكان معهم في البستان، يرى بطرس فيمسك بتلابيبه قائلًا بصوت عالٍ: أنتَ تلميذ ذاك الجليلي.. كنتَ معه في البستان.. وأنت الذي ضربتَ ملخس بالسيف. واضطرب بطرس وظهر عليه التوتر الواضح. لستُ أنا يا رجل.. لا أعرف ما تقول.. لتنتقم السماء مني أربعين ضعفًا لو كنتُ أنا هو، وأصير ملعونًا من الله لو كنتُ أنا.. وأخذ بطرس يستنزل اللعنات على رأسه لو كان تلميذ يسوع الناصري. زمري: إنكَ أنتَ بلا شك.. لغتك تُظهرك.. أنك جليلي. فأخذ بطرس يسب ويلعن الاسم المبارك.. وهنا فُتح باب صالة السنهدريم، فحانت التفاتة حانية من يسوع نحو بطرس، وإذ بالأعين تتلاقى، وإذ بالديك يصيح ثانية، وإذ بالقلب ينكسر والفؤاد يذوب.. إنها نظرة يسوع تلتقط بطرس من بئر الهاوية.. نظرة يسوع التي تزيح جبلًا عظيمًا وكابوسًا رهيبًا جثم على صدر بطرس حتى كاد يلفظ أنفاسه.. نظرة يسوع التي تنتشل بطرس لئلا يغوص في الوحل.. نظرة يسوع تقول لبطرس: اطمئن يا بطرس.. لقد طلبتُ من أجلك لكي لا يُفنى إيمانك.. نظرة يسوع التي تقول لبطرس: لستُ غاضبًا منك يا ابني، ولكنني مشفق عليك يا حبيبي.. إنها نظرة باقية لكل ابن ليسوع يجوز في محنة قاسية. وإذ ببطرس يذوب خجلًا، بل حسرة وندمًا.. اعتصره الألم، فانسحب من خلال الدهليز إلى خارج.. كانت دموعه الحارقة تنساب على وجنتيه مع عبرات وتنهدات ونهنهات، وأخذ يهدر كحمام الأوطئة " كحمام الأوطئة كلهم يهدرون كل واحد على إثمه" (حز 7: 16).. تأمل بطرس خطيئته فإذ هي عدَّة خطايا معًا.. لقد اعتدَّ بنفسه أكثر مما يجب، وميَّز نفسه عن إخوته، ونام في وقت كان ينبغي فيه أن يصلي حسب الوصية، وتصرف من تلقاء نفسه ضاربًا ملخس بالسيف، وهرب من البستان متخليًا عن سيده، ولم يكن صادقًا في وعوده لسيده، وجلس في وسط لا يناسبه، وأنكر وسبَّ ولعن، ولاح أمام بطرس قول سيده " كل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضًا به قدام أبي الذي في السموات.. ولكن من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضًا قدام أبي الذي في السموات" (مت 10: 32، 33) ووقفت فرقة من الشياطين تُبكّته، وتصب عليه اللعنات، وتدفعه دفعًا إلى بئر اليأس، ولكن نظرة يسوع تقاتل عنه، وكلما نظر إلى نفسه وشعر أنه يغوص في الوحل، يرى نظرة يسوع تنتشله.. تلك النظرة الحانية الغافرة تنتشله من بئر اليأس وصغر النفس.. الأمر العجيب أن يوحنا كان قريبًا من معلمه، ولم يتهمه أحدًا بأنه من أتباع يسوع، لأن عناية المعلم تحفظ القريبين منه المستعدين لبيع حياتهم من أجله.. نشكر الله من أجل يوحنا الذي حفظته عناية يسوع، ونشكر الله من أجل بطرس الذي غسل خطيته بدموع التوبة، وصار مثالًا للرجاء الحي لكل نفس في ضعفها تنكر سيدها وتطرح صليبها وتعود بالتوبة، فإذ بالنعمة الإلهية تحملها على أذرعها الأبدية، وتربّت عليها وتُطيّب جراحاتها. وقد تساءل البعض: من أين جاء صوت الديك والتقليد اليهودي يمنع تربية الدواجن في أورشليم؟ والحقيقة أنه لم يكن كل سكان أورشليم من اليهود بل كان هناك بعض السكان من الأمم. كما إن بعض اليهود أيضًا لم يلتزموا بالتقليد اليهودي، فمن هذه المساكن قد انطلق صوت الديك، وقد يكون هذا الصوت قد وصل في سكون الليل من إحدى القرى المحيطة بأورشليم. كما إن صوت البوق الذي كان يُعلن تغيير نوبات الحراسة كانوا يدعونه صوت الديك، وقد سُمع هذا الصوت في الساعة الثالثة صباحًا عند تغيير نوبة الحراسة، حيث ضرب البوق مرتين، الأولى عند بدء التغيير، والثانية عند نهاية تغيير جميع النوبات في المنطقة. |
||||
02 - 07 - 2014, 03:25 PM | رقم المشاركة : ( 13 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
ورأيتُ الجور في بيت العدل انتهت المحاكمة الثانية، وكان يمكن للمعلم أن يطعن في كل من المحاكمة الأولى والثانية، بسبب المخالفات الصارخة ومنها:
هذا ما نعرفه نحن بحسب تصور فكرنا. أما بحسب تفكير المُعلّم، فإن المخالفات لا تُعد، فربما كل جملة نُطقت كان بها خطأ أو أكثر.. وحكم رؤساء الكهنة وأعضاء المجلس على يسوع بأنه مستوجب الموت، وفي انصرافهم انحطوا إلى الدرجة التي نسوا فيها أنفسهم ومراكزهم، فمنهم من لكمه ومنهم من بصق في وجهه، وأكثرهم أدبًا أطلق الضحكات في وجهه هازئًا به. وبتصرفاتهم هذه أعطوا الضوء الأخضر للخدم والعبيد والحرس ليفعلوا ما يريدون بحسب هواهم وبحسب مستواهم الأخلاقي المتدني، وصنع الشيطان وليمة لذبانيته حول يسوع، إذ دفع بالخدم والعبيد والحرس، فصاروا يرقصون مثلما رقص الفلسطينيون حول شمشون في القديم، ولكن ما أعظم الفارق بين يسوع وشمشون؟! فيسوع هو القدوس الطاهر الذي بلا خطية وحده، أما شمشون فهو الذي سلم نفسه لدليلته، التي قادته إلى العمى والسخرية.. وأخذوا يشتمون يسوع، ويبصقون في وجهه، ويلكموه لكمات قوية، ويدورون حوله وسط ضحكات شيطانية هستيرية تشق صمت الليل وهم يسخرون منه: تنبأ لنا أيها المسيح من لطمك..؟! ألستَ أنتَ صانع المعجزات..؟! لماذا لا تدفع عنك الأذى إن استطعت؟!.. لماذا لا تُنزل علينا نارًا من السماء لتلتهمنا معًا..؟! أين قوة سحرك وخداعك يا ابن المبارك..؟! لِمَ لا تأمر الأرض فتفتح فاها وتبتلعنا..؟! هيا يا يسوع.. افعل شيئًا إن قدرت. إنهم يبصقون في وجهه.. مُنتهى الاستفزاز، إن كان البصق على الأرض أمام إنسان يُعتبر إهانة لكرامته للدرجة التي يحاول أن يثأر فيها لكرامته الجريحة، فكم وكم البصق على الوجه؟..!! وأي إنسان حتى لو اقترف خطيئة شنعاء يبصقون على وجهه ويصمت؟! فما بالك بالقدوس الطاهر الذي بلا خطية يحتمل كل هذا.. من أجلي. إنهم يكيلون له اللكمات، فلا يدفعها، ولا يحاول تفاديها.. لكمات وحشية تصيب الوجه والصدر والبطن من رجال أقوياء مفتولي العضلات وعبيد شرسين.. كل لكمة تسبب ألمًا وأحيانًا تترك أثرًا، ولاسيما لكمات الوجه التي أسالت الدماء من الوجه الطاهر.. تحمل يسوع كل هذا لكيما يشارك كل إنسان مظلوم يُساق مثل البهائم ويتعرض للأذى البدني.. تُرى ماذا يُجرى في معسكرات التعذيب..؟! إنه هناك يقاسمهم العذابات.. تُرى ماذا يجري للأسرى..؟! عذابات تفوق الوصف، وبلا شك فإن يسوع هناك معهم يشاركهم الآلام، وكنيسته تُصلي من أجلهم. وآخرون لطموه.. واللطمة تترك أثرًا نفسيًا أعمق بكثير من الأثر الجسماني، فاللطمة هي تحقير وازدراء بالملطومولهذا يحذر علماء النفس الوالدين من لطم أبنائهم كنوع من العقوبة، فإنها تُحطم شخصية الطفل وتشعره بالمهانة وصغر النفس. وغطوا وجهه وضربوه قائلين: تنبأ لنا أيها المسيح من لطمك..؟! جعلوه لعبتهم وتسليتهم وسخريتهم، ولم يدركوا أنه هو الذي خلقهم، وبيده نسمتهم.. عجبًا.. رب الناس يسمح لأحط الناس أن يعاملوه كأحقر الناس!! وقف أشعياء النبي وأيوب البار في حالة ذهول " وجهي لم أستر عن العار والبصق" (أش 50: 6).. " أما الآن فصرت أغنيتهم وأصبحت لهم مثلًا يكرهونني. يبتعدون عني وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق" (أي 30: 9، 10). اقشعري يا نفسي وذوبي خجلًا، لأن يسوع البار يُلطم على وجهه المبارك، وعن ذاك الوجه الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر لم يرد خذي البصاق.. أليس كل هذا من أجلكِ، لكيما يُحضركِ بلا لوم أمامه؟!! تورم وجهه وانتفخت عيناه، وتركت الكدمات أثرها الداكن على الوجه، مع بعض الجروح التي تنزف.. تركوه ليستريح قليلًا استعدادًا للمحاكمة القادمة.. ورأيتُ الجور في بيت العدل، والباطل في بيت الحق، والظلم القاسي في محل العدالة، والتعذيب الوحشي في بيت الرحمة.. أما يوحنا الذي كان يتابع الأخبار عن كثب، وقد رأى الحكم على يسوع، وتعرضه للإيذاء، أدرك أن الكارثة قد وقعت بالفعل، فذاب قلبه داخله، ولم يضبط دموعه، وإذ لم يحتمل أن ينظر إلى يسوع وهو يترنح تحت وطأة الضربات واللكمات، وسمع داود يصرخ " قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني" (مز 22: 16).. آثر يوحنا أن ينسحب إلى الخارج يبكي يسوعه كطفل صغير، ووجد أن الواجب يلزمه بإبلاغ الأم الحنون وبقية الأحباء في بيت عنيا، فسار إلى هناك بلا قلب إذ ترك قلبه يتألم بجوار حبيبه العبد المتألم. وصل يوحنا في الصباح الباكر إلى بيت عنيا، واستيقظ كل من في البيت.. التفوا حوله يستوضحونه الأمر، مع إن المأساة كانت مرسومة على ملامحه.. ماذا يا يوحنا؟ هل قبضوا على المعلم..؟! هل حاكموه..؟! هل تعدوا عليه؟!.. هل التلاميذ معه؟ وألقى يوحنا بالخبر الصاعق.. إن المعلم يعبُر في محاكمات ظالمة، ويبدو أنهم سيصدرون اليوم حكمًا بصلبه، وسقط الخبر عليهم سقوط الصاعقة، وإذ بالسيف يجوز في نفس العذراء التي كانت تستشعر هذه النهاية المأسوية، منذ أن تحدث معها سمعان الشيخ وكان يسوع مازال طفلًا عمره ثمانية أيام حينها، ولكنها لم تكن تتوقع أن تكون النهاية بهذه السرعة.. نهضت لتسرع إلى أورشليم وتقف بجوار ابنها الحبيب، وقد وضعت في قلبها أن تكبت مشاعر الأم الثكلى حتى لا تزيد آلامه آلامًا.. |
||||
02 - 07 - 2014, 03:26 PM | رقم المشاركة : ( 14 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
إيه يا سنهدريم!! الآن الخامسة صباحًا من يوم الجمعة، ومع بزوغ أول ضوء للصباح، كانت المدينة أورشليم قد استيقظت، لكيما يتمتع الوافدون إليها ببكور اليوم، وفي ذلك الوقت المبكر كانت أبواب الهيكل الأربعة والعشرين قد فُتحت على مصراعيها، وصار الهيكل يموج ببحور من البشر الذي أتوا من كل حدب وصوب ليقدموا عبادتهم ويُصعدوا محرقاتهم، وفي لحظات كان الزحام على أشدَّهُ في الهيكل، حتى إن الذين صحبوا أطفالهم اضطروا إلى حملهم فوق الأكتاف خوفًا من الأذى.. البعض يتمتم بكلمات الصلوات والتضرعات والطلبات، والآخر يطلق عبارات الإعجاب بجمال الهيكل الذي فاق الخيال.. فقد بني سليمان الحكيم هذا الهيكل في الشهر الثاني من السنة الرابعة لملكه على جبل المريا وقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي إن الهيكل بُني بحجارة ضخمة، وتعرض للهدم على يد نبوخذ نصر. ثم أُعيد ترميمه بعد العودة من السبي، وأيضًا أُعيد إصلاحه وترميمه على يد هيرودس الكبير الذي حاول استمالة اليهود إليه، واشتغل في ترميمه آلاف من العمال المهرة، وأكمل خلفاء هيرودس العمل وتزيين الهيكل، ولذلك قال اليهود للمعلم أنه بُني في ستة وأربعين سنة، وشمل الهيكل أربعة ديارات، دُعيت الأولى "دار الأمم"، وسُمح للأمم بالدخول إليها، حتى إنك تجد فيها موائد الصيارفة وأقفاص باعة الحمام، ولم يسمح لغير المؤمنين بتجاوزها إلى الداخل، وفي هذا الدار مدرسة أو مجمع لعلماء الهيكل، وهو المكان الذي التقى فيه يسوع مع الشيوخ وسألهم وكان له من العمر اثني عشر سنة، وبهذه الدار غرف لسكنى اللاويين، ويحيط بها أروقة، وفي إحدى هذه الأروقة كان يخاطب يسوع الشعب. والدار الثانية هي "دار النساء" ودُعيت هكذا لأنه لم يكن مسموحًا للنساء بتجاوزها إلى الداخل، وكانت النساء تدخلن هذه الدار لتقديم قرابينهن، وكان بها ثلاثة عشر صندوقًا للتبرعات، وفي إحدى هذه الصناديق وضعت الأرملة فلسيها، فمدحها المُعلّم لأنها أعطت كل ما تملك.. وهي مرتفعة عن دار الأمم بمقدار تسع درجات، وكان يفصل بين الدارين جدار بارتفاع ذراع واحد، وقد أقاموا عليه عمودًا من الرخام كتبوا عليه باليونانية واللاتينية أن من جاوز هذا الجدار إلى الداخل من الأمم يُقتل. والدار الثالثة هي "دار إسرائيل"، وهي مرتفعة عن دار النساء بمقدار خمسة عشر درجة، وفصل بينها وبين الدار الثانية جدارًا ارتفاعه ذراع واحد به ثلاثة أبواب، وهذه الدار خُصصت لذكور بني إسرائيل، أما الدار الرابعة فهي "دار الكهنة" وتقع شرق دار إسرائيل، وفيها مذبح المحرقة والمرحضة، ومن دار الكهنة يصعدون اثنيّ عشر درجة إلى القدس وقدس الأقداس، وفي مدخل الهيكل عمودان أحدهما باسم "ياكين" والآخر باسم "بوعز" ويبلغ ارتفاع كل منهما ستة أمتار، يعلوه التاج النحاسي الذي يبلغ ارتفاعه نحو متران ونصف. أما منظر الهيكل من الخارج بارتفاعه الشاهق فهو يشد الانتباه ويُبهر الأنظار، ويبرز من واجهة الهيكل أشواكًا من ذهب تمنع الطيور أن تحط على الواجهة لئلا تلوثها بفضلاتها. وطول القدس ستون قدمًا وعرضه ثلاثون، ويحوي مذبح البخور ومائدة خبز الوجوه والمنارة الذهبية. أما قدس الأقداس فمساحته مربعة وطول ضلعه ثلاثون قدمًا، وحوى في أحشائه تابوت العهد وفيه لوحي العهد وقسط المن وعصاة هارون، ويفصل بين القدس وقدس الأقداس حجابًا من سجف بلون أبيض علامة النقاوة، واسمانجوني رمز السمو، وأرجواني علامة المُلك، وقرمزي بلون الدم، وأمام الحجاب كان هناك حاجزًا عبارة عن سلسلة ضخمة من الذهب الخالص، لا يعبر منها إنسان إلاَّ رئيس الكهنة يوم عيد الكفارة فقط. وفي هذا الصباح الباكر ضرب الكهنة بالأبواق الفضية ثلاث مرات يعلنون بدء خدمة الصباح، فقد ظلت النار مشتعلة على المذبح طوال الليل في ذبيحة المساء، وها الآن يجب أن تظل مشتعلة طوال النهار في تقدمة الصباح، وينبغي ألا تطفأ.. تقدم أحد الكهنة الذين وقعت عليهم القرعة لأداء خدمة هذا اليوم، فقبض على الحمل الوديع، وأرقده أرضًا وبجرة واحدة من الشفرة الحادة صار دم الحمل يتدفق في الإناء الذهبي الذي أمسك به كاهن آخر شريك في الخدمة، فأسرع وسكبه على حجارة الهيكل، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة.. وفي هذا الوقت ترى عددًا كبيرًا من الكهنة واللاويين ينظفون الهيكل من كل ذرة تراب علقت بالجدران التي كُسيت بخشب الأرز المغشي بالذهب ومنقوش عليها قثاء وبراعم زهور ونخيل وكروبيم، والمنارة الذهبية أو مذبح البخور، بينما وقف أحد الكهنة يرفع البخور أمام مذبح البخور.. عجبًا يا ربي.. لقد بني لك شعبك هيكلًا بهذه العظمة والمجد والبهاء، وهوذا رب الهيكل قائم يحاكمونه.. عجبًا يا ربي.. كم من الذبائح قدم شعبك، وهم لا يدرون أن كل هذه الذبائح إنما تشير للذبيح الأعظم الذي وضع ذاته في أيديهم منذ سويعات، ولن تمر ساعات أخرى حتى يُذبح على الصليب ويقطر دم الحمل قطرة قطرة.. أما المحلات التجارية فقد فتحت أبوابها من الصباح الباكر لتلبي طلبات الوافدين، وهوذا أصحابها يرتبون ويعرضون بضائعهم بصوُّر مغرية، فاليوم هو أهم أيام السنة من الناحية التجارية، وعلى هذه المحلات إغلاق أبوابها قبل غروب الشمس، استعدادًا لعيد الفصح العظيم، وصارت الشوارع تموج بالبشر منذ الصباح الباكر، والقلوب فرحى، والوجوه مستبشرة بهذه الأيام المقدَّسة، ولا يعكر الصفو إلاَّ رؤية جنود الاحتلال وهم يستعرضون قوتهم، حتى وإن كانوا يحفظون الأمن والنظام، لكن الشعب لا يطيق رؤيتهم، ولاسيما بجوار الأماكن المقدَّسة، فإنهم يرسمون أمام أعينهم سلطة وسطوة واستعمار روما، فأثاروا لديهم مكامن الاشتياقات لمجيء المسيا الذي سيُحرّرهم من روما، ويجعل أورشليم سيدة ممالك الأرض كلها.. إنهم يمنُّون أنفسهم بأيام المسيا الرائعة ويطوّبون من يعيش ليراها، وهم لم يدركوا أن المسيا قد جاء، وهوذا هو قائم يُحاكم في قصر رئيس كهنتهم. وفي هذا الصباح الباكر أيضًا بدأ أعضاء مجمع السنهدريم يتدفقون على بيت رئيس الكهنة، متجهين إلى صالة الاجتماعات، وكل منهم يأخذ مكانه سريعًا، أما حنان وقيافا فلم يذوقا النوم في هذه الليلة السعيدة الغبراء، وسريعًا ما حضر كل أعضاء المجمع، بالإضافة إلى لفيف من الكهنة وحرس الهيكل، وكأن هناك احتفالًا عظيمًا أو مظاهرة ضخمة.. اجتمعوا لكي يقرّروا ما سبق أن أصدروه منذ ساعات قليلة من خلال جلسة غير قانونية. قال حزائيل ليهورام: متى يعود إلى هذا المجلس مجده؟! يهورام: لقد صار مجلسًا بلا سلطة، ففقد كرامته.. منذ عشرين عامًا سلب منا الرومان سلطة إصدار حكم الإعدام.. لقد مُنعنا من الاجتماع في "الجازيت" الدار المخصصة للسنهدريم، ولا يجوز إصدار حكم الموت على أحد خارج دائرة الجازيت هذه. حزائيل: عندما احتل الرومان دولتنا منذ نحو ستين عامًا (سنة 63 ق.م) وجدوا أنها دولة عريقة لها قوانينها ودستورها وشرائعها ومحاكمها ومجمع السنهدريم الذي هو فوق الكل.. حينئذ تركونا ندبر شئون أمتنا، وكان لمجلسنا الموقر الحكم في الأمور بحسبما ترى الشريعة والعدالة. إلى أن جاء اليوم الأغبر عندما نزع هؤلاء الغُلف من المجلس سلطة أحكام الإعدام، في السنة الحادية عشر من حكم أرخيلاوس بن هيرودس الكبير. يهورام: إنني أذكر ذلك اليوم يا خزائيل وكأنه اليوم.. لبسنا المسوح، وذرينا الرماد على رؤوسنا، وبكينا بمرارة، لأنه قد زال قضيب الحكم من يهوذا قبل أن يأتي المسيا " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون (رجل السلام) وله يكون خضوع الشعوب" (تك 49: 10). ولم يدرِ يهورام ولا حزائيل أن الداخل عليهم الآن هو هو شيلون رجل السلام.. دخل يسوع يمسك به جنديان، والإعياء وآثار التعذيب الوحشي واضحان عليه، ووقف أحد الأعضاء يعرض التهم الموجهة ليسوع: هذا هو الناصري المُجدّف الذي ادَّعى أنه ابن الله، وهو يصر على أقواله.. أخذ الجالسون يهزون رؤوسهم ويتحسَّسون ذقونهم علامة الاستحسان. نظر أحد الشيوخ إلى يسوع بخبث زائد، مُريدًا أن يُثبّت التهمة عليه، فالخوف كل الخوف من تراجع يسوع عن شهادته، عندئذ تكون الطامة الكبرى.. سأل يسوع وكأنه يريد أن يستفسر: إن كنت أنت المسيح فقل لنا. فالسؤال في ظاهره: قل لنا إنك أنت المسيح لنؤمن بك، أما في باطنه: قل لنا لنقتلك. وكتموا أنفاسهم، ربما غيرَّ يسوع رأيه تحت وطأة العذابات.. وقال حنان في نفسه: هل كانت تلك العذابات ضرورية..؟! هل هذا وقتها..؟! ألاَّ صبرًا يا آل يعقوب.. وأجابهم يسوع فاضحًا نواياهم الخبيثة: إن قلت لكم إنني المسيح لا تصدقون. وإن سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقونني. ولم يرد أحد على ما قاله المعلم، ولم يناقشوه فيما يقول، ولم يجرؤ أحدهم على القول إننا على استعداد أن نصدقك، أو اسألنا ونحن نجيبك.. بل استمروا في خبثهم ليثبتوا عليه التهمة فسألوه: أفأنت إذًا ابن الله؟ ومريح التعابى أراحهم وقدم لهم ما يشتهون على طبق من الفضة: أنتم تقولون إني أنا هو.. هكذا أنا هو كما تقولون تمامًا.. لم يتخاذل يسوع أمام جلاديه، ولم يهادنهم ولم يداهنهم.. وضحك قيافا ضحكته الساخرة، واهتزت عمامته باهتزاز رأسه، وقد تنفس الصعداء وقال: ألم أقل لكم إن الأسير العنيد لن يُغيّر رأيه، ولا يقبل نصحًا ولا إرشادًا ممن هم أكبر منه وأعلم بالأمور. وهمس أحد الأعضاء: لو كان هذا الاتهام صحيحًا فلماذا تركوه كل هذا الوقت..؟! أليس بهذا يثبتون على أنفسهم أنهم غير أمناء على مصالح هذه الأمة؟! نظر قيافا إلى الأعضاء وسألهم: وما رأيكم الآن؟ وهكذا كانت المحاكمة الثالثة سريعة لهذه الدرجة، وبدأ أخذ الأصوات في إدانة يسوع، فأجمع الكل على ذلك، باستثناء حفنة صغيرة جدًا جدًا، منهم نيقوديموس، ويوسف الرامي، وسمعان الأبرص، وإناس. وهكذا أراد قيافا بهذا الاجتماع سد ثقوب ثوب الظلم الذي ارتداه، وقد أظهر من عريه أكثر مما ستر، فأي قضية وُضع فيها قرار الإدانة قبل نظرها كمثل تلك القضية..؟! كم كان السنهدريم ألعوبة في يدي حنان وقيافا يسخرانه لأغراضهما الخبيثة..؟! حقًا إنهم يصوّرون العدالة بامرأة معصوبة العينين وبيدها ميزان، في العدالة تجد الرقة إذ لها قلب امرأة، وإذ هي معصوبة العينين فلا تحابي بالوجوه.. أما مجلس السنهدريم فبماذا نصوّره وبما نشبهه..؟! أنشبههه بغراب ينعق، أم نشبههه بذئب ينشب مخالبه في جسم الفريسة وهو يسألها هل أنت بريئة؟.. ألست أنت مُدَانة؟! وكان القصد أيضًا من هذه الجلسة إعداد الأوراق لإحالة القضية لجهة الاختصاص أي السلطات الرومانية، لأنه ليس للسنهدريم سلطة لإصدار حكم الإعدام على أحد، فكل ما فعلوه للآن كان بقصد الوصول إلى قرار موحَّد يقدمونه إلى الحاكم الروماني الذي في يده السلطة الحقيقية.. فلماذا كل هذه العذابات التي جاز فيها المتهم البريء؟..!! تُرى لو أفرج عنه بيلاطس هل كانت هذه القيادات الدينية ستقدم اعتذارها لهذا الإنسان البار، أم أنها كانت ستعيد كرَّتها ثانية وثالثة؟..!! على كل فإن المحاكم الرومانية تختلف عن اليهودية، فما يُحرّمه الآخر ويعتبره جرمًا قد يُحلّله الآخر، فمثلًا جرائم التجديف وكسر السبت التي توجب القتل بالنسبة للمحاكم اليهودية لا تهتم بها المحاكم الرومانية، والثورة على السلطة الرومانية التي تُجرّمها المحاكم الرومانية، ترى فيها المحاكم اليهودية إنها ضرب من البطولة، ولذلك فإن أشد ما كان يخشاه قيافا هو ألاَّ يقتنع بيلاطس بالتهم الموجهة للأسير، فيطلق سراحه، وتكون الطامة العظمى، فتصير أواخر السنهدريم أشرَّ من أوائله. ومع أن بيلاطس قد أعطى وعدًا بالتعاون في هذا الأمر، ولكنه غير مأمون الجانب، ولاسيما أن الجو بينه وبين القيادات اليهودية ملبّد بالغيوم، ولهذا فكَّر حنان مع قيافا في دفع مظاهرة ضخمة تضم كل الحاضرين مع من يمكن تحريكه من الشعب للضغط على بيلاطس.. وتحركت المظاهرة تحيط بيسوع موثقًا ولا يكاد يُرى.. إنه موثق مثل الذبيحة " أوثقوا الذبيحة بربط إلى قرون المذبح" (مز 118: 27).. كل من يراهم يظن أنه موكب ديني من طقوس الاستعداد لاحتفالات الفصح، لأنه ضم رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين وحرس الهيكل، وانضم إليهم الكثيرون وهم لا يعلمون إلى أين يذهبون، وساروا مسافة تتعدى الكيلو متر إلى قلعة أنطونيا الواقعة شمال الهيكل. ولنا أن نتساءل لماذا قُدم يسوع لبيلاطس:
|
||||
02 - 07 - 2014, 03:27 PM | رقم المشاركة : ( 15 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
الخسارة الفادحة وبينما تحرك موكب الموت وهو يضم يسوع في أحشائه نحو قصر بيلاطس، صار يهوذا كثور هائج، وهو يرى نتيجة تصرفه الأحمق.. تصوَّر سيده مصلوبًا على ربوة عاليه كأحد المجرمين، فلم يحتمل، وثارت داخله لجج الذكريات وإحسانات يسوع له، فصارت كنار حارقة تشعل جوفه.. ربما كان يهوذا يتصوَّر أن معلمه سيصنع معجزة عظيمة ويخلص نفسه، وبهذا يدفعه دفعًا لإعلان قوته وجبروته وملكه، وربما تصوَّر أنهم سيؤدبونه ويطلقونه، وكل هذا لم يحدث.. لقد سمح يهوذا للشيطان أن يُعمي بصيرته، أما الآن فقد انفتحت عيناه بدون إرادته على منظر البريء المُساق للموت، فلم يطق ولم يحتمل، ولاسيما أنه لوقته عاد من الهيكل بعد أن فشل في إلغاء الصفقة التي عقدها أول أمس.. لقد التقى في الهيكل بالكهنة وصرخ فيهم: هذه فضتكم خذوها.. وأطلقوا ذاك البريء. -ماذا تقول؟ -إنني أخطأتُ إذ سلمتُ دمًا بريئًا. -هذه مشكلتك يا رجل.. ماذا علينا؟.. أنت أبصر بأمرك. ألم تفعل هذا بكامل حريتك وإرادتك؟ -أخطأت.. هوذا الفضة.. أطلقوا البار. -نحن لم نذهب إليك.. أنتَ أتيتَ إلينا برجليك.. أين كان عقلك؟! -إنه برئ.. برئ.. لابد أن تطلقوه.. لابد أن يُطلق.. هوذا فضتكم.. لا.. لا تقتلوه. -نحن لا نريد فضة ثمن دم.. لتكن فضتك معك.. ألاَّ يكفيك شرفًا أنك سلمت لنا ذاك المجدف الأثيم. -كلاَّ.. كلاَّ.. إنه بار.. إنه صادق، ويجب أن تصدقوه.. لم يكذب قط، ولم يفتري قط. وإذ ضاق به الكهنة ذرعًا زجروه: انصرف يا يهوذا.. أغرب عن هذا المكان وإلاَّ تصرفنا معك. يهوذا: كلاَّ.. إنه برئ من جميع التهم.. أنا أشهد ببراءته.. فلماذا تحكمون عليه؟! ولما تقتلونه ظلمًا؟!! -ألم تدينه أنت يا يهوذا منذ أمس وأول أمس، فماذا دهاك.. ما الذي حوَّلك هكذا؟ وإذ دفعوه بعيدًا ألقى بالفضة في وجوههم، فتدحرجت قطع الفضة ترن على الأرض، ومع صدى الرنين ترددت أصوات الشياطين تبكته: كيف ترد الفضة يا محب الفضة؟ كيف تتخلى عن المال يا عابد الأموال؟! إنها محاولة يائسة بائسة يا يهوذا.. أتريد أن تطوح بمسئوليتك عن الدم الزكي؟!. وبينما انطلق يهوذا لم يجرؤ كاهن على لمس هذه الفضة لئلا يتنجس، فهي ثمن دم. ثم تجرأ أحد اللاويين من محبي الفضة، فجمعها ووضعها في أحد أركان الحجرة إلى أن يتم البت في أمرها، وتشاور الكهنة معًا: ماذا نفعل بهذه الفضة؟ قال أحدهم: لا يمكن أن ندخلها إلى خزينة الهيكل لأنها ثمن دم.. قال آخر: ولا يصح أن نقتسمها لأنها ثمن دمٍ. قال ثالث: ولا يصح أن نوزعها على الفقراء والمحتاجين. وقال رابع: ولا يصح أن نشتري بها بخورًا لأنها ثمن دمٍ. عجبًا.. إنهم لا يقبلون دخول الفضة إلى خزينة الهيكل ويحللون إهدار الدم الزكي. وأخيرًا قال أحدهم: إن الغرباء الذين يأتون في الأعياد وتُقبض أرواحهم، بدلًا من أن يزاحموننا في مقابرنا نشتري لهم مقبرة خاصة بهم، ووجد هذا الاقتراح استحسانًا من بقية الأموات.. حقًا إن بني حث كانوا أشرف من هؤلاء الكهنة، فعندما أراد إبراهيم أن يدفن أمهم سارة عرض عليه بنو حث أن يدفنها في أفضل قبورهمقائلين " اسمعنا يا سيدنا أنت رئيس من الله بيننا. في أفضل قبورنا أدفن ميتك" (تك 23: 6) أما هؤلاء الكهنة فيرون أن أخوتهم من يهود الشتات لا يستحقون أن يُدفنوا في قبورهم. طرح يهوذا الفضة في الهيكل وهام على وجهه لا يعرف إلى أين؟.. أخذ يسعى بقدمين غليظتين إلى حيث لا يدري.. لقد لفته أفكاره المتشابكة كإكليل شوك، ففقد اتزانه، واضطربت ضربات قلبه حتى باتت مسموعة، وأخذ يركض بعض الشيء وهو يلهث، حتى وصل إلى منحدر بأحد أطراف جنوب المدينة عند التقاء وادي قدرون مع وادي هنوم.. هناك شجرة ضخمة على حافي المنحدر، هبت عليها نسمات الربيع الرقيقة فداعبت أوراقها الخضراء اللامعة المملوءة حياة، وإذ شعر يهوذا إنه يختنق، دفعه شيطانه للصعود أعلى الشجرة علَّه يلتمس منها نسمة حياة، فصعد وجلس في العلاء، ولكن ضميره الثائر أوقد له جحيمًا لا يُطاق: أنا المذنب.. أنا المجرم.. يا لحظك العاثر يا يهوذا.. أتُسلم سيدك للموت..؟! اليد التي امتدت لك بالخير أتُدق بالمسمار..؟! الأرجل التي جالت أرض إسرائيل تصنع خيرًا أتُدق بالمسمار..؟! ماذا فعلتُ..؟! كيف فعلتُ..؟! لماذا فعلتُ..؟! وثار يهوذا ثورة شيطانيَّة ضد نفسه، لم يقدر أن يلتمس لها عذرًا، ولم يقدر أن يصفح عنها، وإذ وصل إلى أقصى درجات الحقد على نفسهِ، أصدر حكمه السريع عليها بالشنق.. نعم الشنق، ولم تشفق عليه شياطين اليأس وصغر النفس، إنما صارت تصرخ: تلميذ ساقط.. عبد خائن.. باع سيده بثلاثين فضة وإذ هي نحاس.. أخذ يهوذا يتحسَّس وسطه.. نزع الحزام الحريري الثمين الذي اشتراه بالمال الحرام، وإذ ظن أن الموت يريحه من عذاب جحيم الضمير، لف طرف الحزام على رقبته، وربط الطرف الآخر في فرع من فروع الشجرة، وأطاح يهوذا بنفسه فتأرجح قليلًا، وإذ كان بدينًا، واكتظ جسمه الثقيل باللحم والشحم، انشق فرع الشجرة القوي عن الأصل وسقط، تمامًا كما انشق يهوذا عن جماعة القديسين وهوى.. هوى وارتطم بالأرض التي افترشت ببعض الصخور الصغيرة والحصى، فانشقت بطنه، واندلقت أحشاؤه، وصارت دمائه بِركة رقصت حولها الشياطين رقصة الموت وهي تنتزع روحه من جوفه، وتزفها في سخرية وشماتة ما بعدها شماتة: أرأيتم مثل هذا التلميذ الخائن..؟! لقد عقد صفقة الهلاك ليُهلِك مُعلّمه، فهلك هو.. حفر حفرة لمُعلّمه، فسقط فيها.. هوذا الإنسان اللص السارق الذي خان الأمانة.. هوذا المرائي الذي تظاهر بالحب وقلبه يفيض بالحقد تجاه مُعلّمه وبقبلة غاشة قد أسلمه.. تبًا لك يا يهوذا يا اسخريوطي.. دعوه.. دعوه يجوز من بوابة الخيانة إلى باب الجحيم، وليتبعه طابور يهوذا كل عصر.. وتحققت في يهوذا نبؤة داود " فأقم أنت عليه شريرًا وليقف شيطان عن يمينه. إذ حُوكم فليخرج مذنبًا وصلاته فلتكن خطية. لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر" (مز 109: 6- 9).. " لتصر دارهم خرابًا وفي خيامهم لا يكن ساكن" (مز 69: 25).. ولم يجد يهوذا من يبكيه.. حقيقة لو كان سيده هنا لبكاه.. حسرة عليك يا تلميذ الحمل..!! ما أعظمها خسارة.. إنها خسارة لا تُعوَّض. واحسرتاه عليك يا تلميذ الحبيب..!! كم هو عظيم حزن سيدك عليك؟! يا للخسارة الفادحة..!! تلميذ صنع المعجزات وطرد الشياطين يسقط هكذا!! يا للهول!! تلميذ كان من الممكن أن يكسب الآلاف للملكوت تنتهي حياته هكذا!! دعونا نبكي يهوذا، وكل يهوذا يبيع سيده، من أجل حفنة تراب، أو شهوة جامحة، أو شهرة عمياء.. إن منظر يهوذا غارقًا في دمائه لهو أقوى إنذار لكل من هو قائم لئلا يسقط.. وبعد أن سقط تلميذا كهذا من جماعة القديسين، لن نندهش كثيرًا إذا رأينا في أي مجتمع كنسي عضوًا يبيع نفسه للشيطان، ولم يعد عجيبًا إذا رأينا نجمًا لامعًا يتعرض للأفول لأجل عناده. وسرعان ما انتشرت الأخبار.. حادثة.. حادثة انتحار، وليست حادثة قتل، فالحبل الحرير الملفوف على الرقبة وفي طرفه الآخر فرع الشجرة المكسور يشهدان بهذا، وليس أحد يجرؤ أن يدَّعي أن التلاميذ هم الذين قتلوا يهوذا جراء خيانته، لأنهم يعيشون لحظات لا تسمح لهم بهذا.. إنهم يفرُّون لحياتهم من الموت.. نعم إنهم هاربون من الموت. ولو تساءل أحد: إن كان يهوذا ندم إلى هذه الدرجة على خطيته فلماذا لم يَخلُص مثلما خَلص بطرس؟ والحقيقة أن هناك بونًا شاسعًا بين الاثنين:
|
||||
02 - 07 - 2014, 03:28 PM | رقم المشاركة : ( 16 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
أية شكاية ونحو السادسة صباحًا توقف موكب الموت الضخم أمام قلعة أنطونيا، وكم كانت دهشة قوات الحراسة من هذه المظاهرة الضخمة في هذا الصباح الباكر، فمع إن القانون الروماني يحظر انعقاد المحاكمة قبل شروق الشمس، فإن القيادات الدينيَّة التي أدانت شمس البر، عجزت عن الصبر حتى شروق شمس الصباح.. أصدر ماركيوس قائد القلعة الأوامر لجنوده بالاستعداد، فخرجوا واصطفوا.. أيديهم على سيوفهم، خشية أن يهاجم الغوغاء القلعة.. وظل الموكب مرابضًا أمام القلعة، لم يدخل منهم شخص واحد إلى القلعة لئلا يتنجس فلا يقدر أن يأكل الفصح.. عجبًا.. إنهم كعادتهم يصفون عن البعوض ويبلعون الجمل.. يخشون أن يتنجسوا من دخول بيت إنسان أممي، ولا يخشون أن يسفكوا دمًا بريئًا.. وتقدم قيافا إلى مدخل القلعة المقبَّب الذي وقف فيه منذ بضعة ساعات بمفرده، ولكن هذه المرة ليس بمفرده وإنما معه الأسير مع جمع غفير، وتحدث مع ماركيوس الذي أوفد أحد ضباطه إلى الدور العلوي يخبر الوالي بأن هناك مظاهرة من اليهود أمام القصر يودون لقائه، وبينما كانت كلوديا في فراشها، كان بيلاطس قد بدأ يومه مبكرًا، وهو يتحسب لقضية يسوع المُعلّم الذي طبقت شهرته الآفاق.. وهبط بيلاطس إلى الدور الأرضي ووقف في "جباثا" وهو موضع يرتفع عن مستوى الأرض بنحو خمسة عشر درجة فهو مكان أشبه بالمنصة، وقد كُسيت الأرضية بالموازيق الملون، ويشرف هذا الموضع على الساحة المتسعة التي تجمَّع فيها الآلاف من الشعب الهائج.. أقبل بيلاطس، ولاقاه حنان بابتسامة الثعلب وقيافا بابتسامة صفراء، ورد بيلاطس التحية بمثلها، فالكل يقوم بدور المُحِب المُزيف، وهو دور مفضوح، لأن الحب الحقيقي لا يُزيَّف. وجلس بيلاطس على كرسي الولاية.. رجل في العقد الخامس من عمره، وقد رسم المشيب بعض خطوطه.. ذو جسم قوي ممتلئ وقامة دون المتوسطة، له عينا صقر قادرتان على رصد أي حركة أمامه.. يرتدي زِيّ الوالي الروماني، وينتعل صندلًا ذو سيور جلدية.. وأحاط به حرس الشرف، وبمجرد جلوسه ساد الصمت، وكأن الساحة أضحت خالية، فقد عُرف هذا الرجل بالشراسة، حتى أنه قد يحكم على إنسان بالإعدام بدون اتهام وبدون محاكمة، وأمام آلاف اليهود وقف مئات الجنود الرومان الأقوياء على أهبة الاستعداد، فمجرد إشارة واحدة من إصبع الوالي كفيلة بإسقاط المئات من هذه الجماهير. تسلَّم اثنان من جنود الرومان الأسير، وصعدوا به إلى "جباثا" أمام بيلاطس الذي رمقه بنظرات فاحصة، وفي ذهنه التقارير التفصيلية التي سبق أن قدمها ضابط المخابرات ألسكندر، فأُعجب بدقة ضابطه، بينما وقف يسوع يبدو عليه الإنهاك والإعياء.. وجهه شاحب مُتورّم، تعلوه آثار الكدمات والجراحات والتعذيب، وعيناه منتفختان، ومع ذلك فإنه يقف في جلال ووقار، يُلزم كل من ينظر إليه بأن يحترمه ويحبه رغم صعوبة منظره.. ملامحه بعيدة كل البعد عن ملامح الأشرار والمجرمين.. تأمله بيلاطس بنظرات فاحصة بعد أن سمع عنه الكثير والكثير.. هل يسوع هذا هو ابن الآلهة؟!.. هل أبوه إله الموت والحياة ولذلك يقيم الموتى..؟! من هو الذي بسببه تتحرك كل هذه الجموع؟! واقترب قيافا من الوالي مبتسمًا: هوذا قد قبضنا على مُعلّم الناصرة الذي فتن المسكونة، الثائر ضد كل شيء.. لقد حاكمناه ونصحناه، ولكنه رفض النصيحة والإرشاد، فحكم عليه مجلس السنهدريم الموقر بالموت، والآن نلتمس التصديق على الحكم. وفوجئ قيافا ببيلاطس يُكشّر عن أنيابه، ويطلق سهمًا مفاجئًا من جعبته، وارتفع صوته مجلجلًا: عليكم إقامة الدعوى بحسب إجراءات العدالة الرومانية.. ليتقدم المشتكين إلى المنصة.. وكان بيلاطس يعلم جيدًا من خلال جهاز مخابراته أن يسوع لم يقترف ذنبًا يستوجب عليه الموت، إنما حسد وكراهية وغل القيادات الدينيَّة هو الذي أوقفه في هذا الموقف، ولهذا أردف قائلًا: أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟ ما هي التهمة التي توجهونها إليه؟!. وإشتم قيافا من لهجة بيلاطس أنه ينوي إقامة محاكمة رومانية عادلة، فقال في نفسه: "كلام الليل مدهون بزبدة يصبح عليه الصبح يسيح" وضجر قيافا وتململ ونظر لحماه الثعلب الكبير، وعوضًا عن أن يجيبوا على سؤال الوالي، أخذ قيافا يراوغ ويتملَّص، مُجيبًا بمكر ودهاء، بدون لباقة ولا احترام: لو لم يكن فاعل شر، لما كنا قد سلمناه إليك.. لنا ناموس، وبحسب ناموسنا يجب أن يموت.. فجاء الرد جافًا سخيفًا، يلقي باللوم على السائل.. " سألهم بيلاطس بكل تهذيب عن شكواهم ضد يسوع، هذا ما يقتضيه واجبه كموظفٍ في المملكة، وفي نفس الوقت أظهر انزعاجه أمام هذا الشعب الصاخب. أما إجابتهم فجاءت تكشف عن عجزهم في إثبات دعواهم ضده، مع إصرارهم بشراسة. لم يكونوا قادرين على تقديم اتهام صريح كأن يكون خائنًا للبلد أو قاتلًا أو مسببًا للشغب، لكنهم قدموا اتهامًا عامًا وهو أنه " صانع شر " كانوا يزجون بيلاطس رغمًا عنه لتنفيذ رغبتهم.. كان المدَّعون غير مهذبين في حوارهم مع بيلاطس، فقد خرج إليهم وسألهم عن الاتهام، أما هم ففي عجرفة لم يقدموا اتهامًا، بل حسبوا سؤاله أشبه بعدم ثقة فيهم وفي حكمهم.. كأنه من حقهم أن يحكموا وليس من حق الوالي أن يتعرف على الاتهام أو يناقشهم في حكمهم. هم يحكموا وهو يلتزم بالتنفيذ، الأمر الذي لا يقبله عقل.. ربما ظنت القيادات الدينية اليهودية أنه مجرد تسليم شخص يهودي للحاكم المستعمر فيه كل الكفاية على التحقق من شره وجريمته "(17). وتململ بيلاطس من هذه الإجابة غير المهذَّبة، والتي اعتبرها امتهانًا لكرامته، فكأنهم يقولون له: وما شأنك؟.. مالك أنت وناموسنا؟.. لقد فحصناه ووجدناه مذنبًا وحكمنا عليه بحسب ناموسنا، وما عليك سوى التصديق على حكمنا العادل، فليس لدينا الوقت الذي نصرفه في محاكمة رومانية أخرى.. وشعر الوالي بحاسته الرومانية أن ما هذا إلاَّ استعلاء يهودي على روما، وما كان لبيلاطس المتمرس على فنون القتال أن يستسلم أمام أول سهم يطلقونه، إنما رد عليهم السهم بسهم، فردع رئيس كهنة اليهود ووضعه في حجمه هو وأتباعه.. ردَّ الكلمة اليهودية بكلمة رومانية أقوى، وردَّ المكر بمكر، والدهاء بدهاء، والاستعلاء بسخرية، والكبرياء بغطرسة، والسياسة بسياسة قائلًا: خذوه أنتم واحكموا عليه بحسب ناموسكم.. وشق سهم بيلاطس كبرياء قيافا، فأخذ يتململ يمينًا ويسارًا، بينما نهض بيلاطس متظاهرًا بالانصراف، فأسرع الثعلب الكبير بابتسامة عريضة باسطًا يديه: أنت تعلم يا حضرة الوالي العظيم أنه لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا، ومن المستحيل أن نخالف قوانين روما.. وشعر بيلاطس بالرضى بعد أن استرد كرامته، واعتبر كلام حنان اعتذارًا غير مباشر، إذ اعترف نهارًا جهارًا أنهم لا يملكون سلطة قتل أحد عن طريق مجلسهم الأعلى، فهم يخضعون لسلطة وسطوة روما، فعاد إلى كرسيه منتظرًا إجابة على سؤاله الذي سأله من قبل: أية شكاية تقدمونها على هذا الإنسان؟!.. وسرعان ما تشاور حنان مع قيافا وأتباعهم، فلا فائدة من شكايتهم الدينيَّة على يسوع، سواء دعى نفسه ابن الله أو كاسر السبت، فإن الأممي الأغلف لا يقيم وزنًا لمثل هذه الأمور، وإن قالوا أنه هدَّد بهدم الهيكل فإن الوالي سيسخر منهم، ولذلك حبكوا له تهمة ثلاثية تستوجب الموت، فقال حنان: إن هذا يا حضرة الوالي: 1- يفسد الأمة؛ 2- يمنع أن تُعطى جزية لقيصر؛ 3- يقول إنه مسيح ملك. وابتسم بيلاطس ابتسامة خفية ماكرة، فإنه يعلم أن هذه القيادات الهائجة تشجع أي إنسان يمتنع عن إعطاء الجزية لقيصر، وإنها تساند أي إنسان يهودي ينصب نفسه ملكًا، علَّه أن يزيح من أمامهم سلطة روما، وقال بيلاطس في نفسه: كيف يفسد يسوع الأمة، وتعاليمه السامية تحض على المحبة والسلام والإخاء، وتنأى بالإنسان عن الفساد.. بل أنه بحث عن جذور الخطية ليجتسها فلم يكتفِ بعدم القتل بل أدان الغضب، ولم يكتفِ بعدم الزنا بل أدان مجرد النظرة الشريرة.. وكيف يمنع يسوع أن تُعطى جزية لقيصر، بينما المعلومات التي تحت يديه تؤكد غير ذلك، فهو ليس صاحب ثورةوعندما سأله قوم من الفريسيين والهيرودسيين: أنُعطي جزية لقيصر أما لا؟.. لم يجب بالإيجاب لئلا يتهمونه أنه يشايعنا، ولم يجب بالنفي حتى لا يقال عنه أنه ضد قيصر، وكم كانت حكمته عندما قال لهم أعطوني درهمًا، ثم سألهم: لمن هذه الصورة وهذه الكتابة؟ وعندما أجابوه أنها لقيصر، أجاب إجابته الخالدة: إذًا أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وقال بيلاطس أيضًا في نفسه: وأيضًا التهمة الثالثة باطلة لأن تقارير ألكسندر تؤكد أنه رفض أن يُنصّبوه ملكًا، وعلى كلٍ فلا مانع من مناقشته في هذه التهمة الثالثة، حتى لا يجد هؤلاء الأغبياء حجة يشكونني بها إلى قيصر، ودخل بيلاطس إلى داخل دار الولاية، ودعا يسوع ليختلي به بعيدًا عن الجماهير الثائرة الهائجة. بيلاطس: أنت ملك اليهود؟ وفوجئ بيلاطس بيسوع لا يجاوب بل يسأل سؤالًا جريئًا لا يخرج عن اللباقة الأدبية: أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني؟ بيلاطس: ألعلي أنا يهودي؟ أراد بيلاطس أن يقول إن الاعتراف بملك يهودي لابد أن يكون من إنسان يهودي، أو ينوي أن يكون يهوديًا. أما أنا فإنسان روماني ولا أنوي أن أتهوَّد.. ثم أردف بيلاطس قائلًا: أمتك ورؤساء كهنتك أسلموك إليَّ.. فماذا فعلت؟! يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسلَّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا. بيلاطس: أفأنت إذًا ملك؟ يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلِدت ولهذا قد أتيتُ إلى العالم لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي. وكأن يسوع يخاطب ضمير بيلاطس: كل من هو من الحق يسمع صوتي.. يا بيلاطس.. أتريد من ذاتك أن تعرف الحق ولذاتك، فأنا فعلًا ملك، ومملكتي مملكة سماوية تسمو على كل ممالك العالم.. الأسياد في المملكة هم الذين يغسلون أرجل الآخرين، والأوائل هم أصحاب المتكئ الأخير.. أنا حقًا ملك قد وُلدتُ وأتيتُ لهذا العالم حتى تُسْتَعْلَن مملكتي للبشرية التعيسة.. أما إن كنتَ تنساق وراء المشتكين الذين يريدون أن يأخذوا لقب "ملك" ليحكموا عليَّ ويقتلونني، فصدقني إنني لست ملكًا بمفهومهم الخاطئ.. أنت يا بيلاطس تستنكر عليَّ أن أكون ملكًا أرضيًا أزاحم ملوك الأرض ممالكهم، وأنا أيضًا أستنكر أن أكون ملكًا أرضيًا، ولو كنتُ ملكًا أرضيًا فأين خدامي وأعواني وجنودي ليدافعوا عني؟! وشعر بيلاطس أنه تلميذ صغير أمام معلم عظيم، وتمنى لو تتاح له الفرصة ليتتلمذ على يديه، فهو يذكّره بمعلمه سينيكا فيلسوف روما، وسأل بيلاطس يسوع: وما هو الحق؟ لقد نسى بيلاطس أنه هو الحاكم العارف بكل شيء، فراح كتلميذ يسأل معلمه: وما هو الحق؟ ونظر يسوع بعينه الإلهية، وهو يعلم جيدًا أن بيلاطس - خوفًا على كرسيه - مُزمع أن يذبح الحق، لذلك آثر الصمت.. صمتَ لأن الجميع عزفوا عن الحق وسدوا أذانهم عن سماعه. أما رؤساء الكهنة فأخذوا يُحرّضون ويُحفّزون الشعب، فعلت هتافاتهم مُدوّية: أنه مجدف.. مفسد للأمة. مستحق الموت.. ضد قيصر.. وإذ لم تسكت هذه الأصوات المزعجة، وأراد بيلاطس أن يُحفّز يسوع للدفاع عن نفسه، ولاسيما أنه متأكد من براءته ويعلم أنهم أسلموه حسدًا، فقال له: أما تجيب بشيء؟! أما تسمع؟! أنظر كم يشهدون عليك؟! ولم يجب يسوع ولا عن كلمة واحدة، حتى تعجب الوالي جدًا، لأنه يعلم جيدًا فصاحة المُعلّم ورجاحة فكره.. لو أرادَ فإن السماء ستشهد له بمعجزة عجيبة في هذا اليوم المشهود.. فلماذا يصمت؟! وقال بيلاطس في نفسه: ألعل اليوم يوم المفاجئات، فهذه المظاهرة الضخمة مفاجأة، وهذا المتهم الصامت مفاجأة، فأي متهم يدافع عن نفسه حتى لو كانت التهمة ثابتة عليه، وهذا البريء لا يريد أن يدافع عن نفسه، ولا يبالي بالموت.. عجبًا!! على كلٍ فإن بيلاطس أدرك أن يسوع يتكلم عن مملكة سمائية، وقال في نفسه: إن مملكة يسوع بعيدة عن عالمنا الحاضر، وبالتالي فهي لا تدخل ضمن اختصاصنا، فتحركت في بيلاطس أحاسيس العدالة الرومانية، والتهب الغضب الروماني داخله، فخرج إلى الجماهير ليعلن حكمه في هذه القضية: أنا لست أجد فيه علَّة واحدة. وظهر الضيق على قيافا والضجر على حنان من أثر الصفعة الرومانية القوية، وانعكست ملامحهما على آلاف المتظاهرين مثل وباء سريع الانتشار، وسَرَتْ همهمة بينهم تستهجن الحكم البيلاطسي، وتُرجمت الهمهمات إلى كلمات بدأت تعلو فصارت هتافات تدوي في سماء أورشليم.. البعض يحتج على بيلاطس والآخر يشتكي على يسوع، حتى إن رؤساء الكهنة نسوا مراكزهم ووقارهم، وأخذوا يشتكون على يسوع، ويُحّرضون الجماهير، وقبض الجنود على سيوفهم وعيونهم نحو الوالي يلتمسون إشارة منه ليطيحوا بالرؤوس ويسكتوا تلك الأصوات المستفزة، فهؤلاء الجنود لا يبالون إن كانت حركة كهذه ستكون خاتمة لحكم بيلاطس وإرساله للمنفى، وليحدث ما يحدث، فإن هذا لن يمسهم بشيء. وتشاور حنان وقيافا سريعًا فما دامت التهم الثلاثة لم تأتي بثمرة إذًا لندفع بتهمة رابعة، ورسم قيافا الابتسامة الصفراء على وجهه واقترب من الوالي بأدب جم: سيدي.. إن هذا الرجل يهيج بتعاليمه الشعب، ويشعل نيران الحقد والثورة ضد كل شيء.. إنه لا يكف عن التجوال من بلد إلى آخر كيفما شاء!.. بعرض بلادك يا عمانوئيل..!! اسأل عنه في الجليل لتعلم قدر خطورته.. إنه لا يكف عن التعليم من الجليل إلى هنا، فإن لم تحاكمه أنت فسيحاكمه هيرودس.. سمع بيلاطس كلمه "الجليل" وكأن غريقًا أمسك بقشة، فسأل (وهو العالم بكل شيء): هل الرجل من الجليل..؟! هل هو من سلطنة هيرودس..؟! فصاحوا: نعم. أنه جليلي مثل الذين خلطتَ دمائهم بذبائحهم.. إنه من ناصرة الجليل التي لا يخرج منها شيء صالح. وأظهر بيلاطس ارتياحه، وظن رؤساء الكهنة أنهم استطاعوا أن يثبتوا شر يسوع بدليل محل إقامته.. ألاَّ يكفي أنه من الجليل؟! وارتسمت على محيا بيلاطس ابتسامة عريضة: حسنًا.. حسنًا إنه من الجليل، وهوذا أنتيباس هيرودس هنا في هذه الأيام.. ثم رفع صوته بحكمه النهائي: ليذهب إلى مَلكه ليقاصه إن كان مخطئًا. وأشار لقائد المهمة الذي أدرك مهمته، فساق يسوع تاركًا جباثا، بينما الشعب لم يكف عن الهتاف: إنه يهز أمن أورشليم.. أورشليم.. بيلاطس: أُحيلت القضية إلى جهة الاختصاص.. اذهبوا إلى هيرودس. وتغيَّرت ملامح وجهه لتفصح عما في قلبه من حقد وغل ضد هذا الشعب الجاهل، وكأنه يريد أن يقول لهم: اذهبوا إلى هيرودس إن شئتم.. أو إلى الجحيم إن أبيتم. وعاد بيلاطس أدراجه إلى داخل دار الولاية، وكأن حملًا ثقيلًا انزاح عن كاهله، وهو يصفر صفارة النصرة والفرحة، لأنه لم ينفذ رغبة هؤلاء الأشرار.. لقد ضرب عصفورين بحجر واحد، فهي لفتة كريمة وتقدير لهيرودس الغاضب منه، وهروب من الحكم على إنسان برئ مثل يسوع بالموت. |
||||
02 - 07 - 2014, 03:29 PM | رقم المشاركة : ( 17 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
الثعلب ابن السفاح والأفعى بنت الحيَّة الساعة نحو الثامنة من صباح يوم الجمعة، ورؤساء الكهنة وبقية القيادات الدينية في حالة مزاجية سيئة للغاية.. يشعرون أن الوقت يتسرب من بين أصابعهم، ويخشون لئلا يودعه هيرودس السجن كما فعل من قبل مع يوحنا، فكيف ستمر فترة الأعياد..؟! وماذا سيفعل أتباع الناصري..؟! هب أنهم أشعلوا نيران الثورة ونجحوا في إخراجه من سجنه.. هل سيتركوننا..؟! ياليتنا ما تسرعنا في القبض عليه، ووضعنا أنفسنا في هذا المأزق الضيق.. إنها مشورة يهوذا أخيتوفل.. لينتقم الله منك أيها الخائن. وتقدم قائد المئة الموكب الضخم وجنوده يحيطون بالأسير خوفًا عليه من إنتقام الجماهير، وإذ كانت المدينة أورشليم تموج بآلاف البشر، وكثيرون يتساءلون عن هذا الموكب الذي يجمع رؤساء الكهنة مع الفريسيين رغم أن بينهما ما صنع الحداد، ويجمع اليهود مع الرومان رغم أن كل منهما يتمنى فناء الآخر، أما الذين كانوا ينتظرون يسوع نبي الناصرة ليعلن نفسه ملكًا في هذا العيد، ويحرر البلاد من سلطة الرومان، وفهموا ما يجري إندهشوا: كيف صار أسيرًا في قبضتهم؟..!! رؤساء الكهنة يطلقون الإشاعات فتسري مثل النار في الهشيم ويعلو دخانها: إنه يريد هدم الهيكل.. فكيف يكون هو المسيا..؟! ألم يُكسِر السبت؟.. ألم يجدف على اسم الله المبارك؟.. واقترب الموكب من قصر هيرودس.. هذا القصر المكسو بالمرمر الأبيض، والذي يحط بجناحيه مثل طائر ضخم على أرض أورشليم، وبينما كان نظام الحكم في اليهودية يتم بالتعيين منذ سنة 63 ق.م حيث تولى بيلاطس البنطي كخامس والي على اليهودية، فإن الحكم في الجليل كان قاصرًا على العائلية الهيرودسيَّة، والملك الحالي هو هيرودس أنتيباس الذي دعاه المعلم بالثعلب، وهو ابن هيرودس الكبير الذي دُعي بالسفاح، ومما يذكر عن هيرودس الكبير أنه كان سياسيًا بارعًا قادرًا على كسب ثقة الأعداء قبل الأصدقاء، وهو الذي قام بتجديد الهيكل، إلاَّ أن الأنانية سيطرت عليه فخلقت منه سفاحًا، فبسبب خوفه على ملكه قتل أخته سالومي وزوجها، وقتل زوجته المحبوبة مريم إبنة سمعان رئيس الكهنة حفيدة يوحنا هركانوس مع ألكسندرا زوجة سمعان، وأمر بقتل أطفال بيت لحم.. وكان قصره هيرودس يعتبر مسرحًا للدسائس والمؤامرات من قبل زوجاته العشرة وأسراتهنَّ، ولما عاد ابناه "الكسندر" و"أرسطوبولس" من روما وعلما بمقتل أمهما مريم، أرادا الانتقام من أبيهما، وعلم أبيهما هيرودس بهذا فقتلهما بإيعاز من إبنه الأكبر "أنتيباتر"، ولما خشى أن يغتصب إبنه "أنتيباتر" المملكة قتله أيضًا، حتى قال "أكتافيوس قيصر" إن خنازير هيرودس تتمتع بالأمان والسلام أكثر من أولاده "، وظل في ملكه أربعين سنة (37 ق.م - 4 م) وبلغ السبعين من عمره، وعندما شعر بدنو أجله أمر بالقبض على عدد كبير من عظماء وأثرياء وقادة المملكة، وأمر بقتلهم عند موته حتى يعم الحزن أرجاء المملكة. أما هيرودس أنتيباس فقد ملك نحو ثلاثة وثلاثين سنة (4م. - 39 م) وتزوج بابنة أريتاس Aretas ملك البنطيةوفي سنة 28م التقى في روما مع "هيروديا" زوجة أخيه فيلبس ملك إيطورية وكورة تراخونيتس بسوريا، فتركت هيروديا زوجها فيلبس، والتصقت به، وعندما رقصت أمامه سالومي ابنة هيروديا، أعطاها وعدًا بتلبية أي طلب تطلبه حتى نصف المملكة، واستشارت أمها هيروديا الحيَّة العتيقة.. طلبن رأس يوحنا المعمدان صوت الحق الذي طالما بكَّتها على خطيتها، وكان هيرودس قد أودعه السجن، فلأجل الأقسام والمتكئين أرسل فقطع رأس يوحنا، وقدمها إلى سالومي على طبق، وحملت الأفعى بنت الحيَّة رأس يوحنا على طبق، وقلبها يرقص ثقة بنفسها، وصارت أمها في طرب عظيم، وإذ أرادا أن يلهيا بالرأس المقدَّسة، وإذ بالشعر يُحلّق حاملًا الرأس بعيدًا عن قصر الدسائس، وصوت السابق الصابغ يدوي: يا هيرودس لا يحل لك أن تأخذ هيروديا زوجة أخيك.. صرخت سالومي، وسقطت هيروديا على الأرض مرتعبة. وكان هيرودس منذ أيام يفكر في قتل يسوع أيضًا، فقال بعض الفريسيين ليسوع إذهب وأخرج من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك، فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب ها أنا أُخرج شياطين وأُشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أُكمل.. لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا من أورشليم. جاء هيرودس من الجليل إلى أورشليم للإحتفال بالأعياد، وقد افتتح عدة صالات جمنزيوم gymnasium، بالإضافة للمسرح الكبير لتقديم المسرحيات، ومدرج الألعاب الذي يسع الآلاف، والمسرح الدائري بجدرانه المزينة ببعض النقوش الذهبية والفضية، والذي كانت تُقام فيه حفلات المصارعة بين المحكوم عليهم بالإعدام والوحوش الضارية الجائعة. وبعد أن وصل الموكب الذي كان أشبه بمظاهرة شعبية إلى قصر هيرودس، بيت القصيد، ظلت الجماهير خارج القصر، ودخل قائد المئة وبعض جنوده مع رؤساء الكهنة ومشايعيهم يحيطون بالأسير، وقد ارتضى هؤلاء الرؤساء دخول قصر هيرودس الأدومي المُتهوّد، بينما رفضوا دخول قصر بيلاطس الأممي لئلا يتنجسوا.. جلس هيرودس على عرشه بملابسه الملوكية الموشاة بالذهب، وبريق الذهب مع لمعان الألماظ المرصَّع به التاج الملكي يبهران الأنظار، وتلاقت عيني يسوع المتورمتين بعيني ذلك الثعلب بن السفاح، وأحس هيرودس أن تلك العينان تفحصان كل شيء حتى خبايا القلوب، ولم يكن هيرودس يتوقَّع وهو خارج ولايته أن تعرض عليه مشكلة بهذه الضخامة والتي يمثل رؤساء الكهنة وأعضاء مجمع السنهدريم وجميع القيادات اليهودية مع اختلاف اتجاهاتهم بالإضافة إلى جماهير الشعب طرفًا فيها ضد الطرف الآخر وهو مُعلّم الجليل بمفرده، ومع ذلك فإن كل ما كان يشغله هو قوة وجبروت هذا الرجل، فأخذ يُمني نفسه بمشاهدة عرضًا يسوعيًا يخلب الألباب، وربما يدفع هذه الثيران الهائجة للتنازل عن شكواهم طوعًا واختيارًا. وقدَّم قائد المئة الروماني تقريرًا شفهيًا لهيرودس الذي كان يتتبع أخبار يسوع أول بأول، وبالرغم من أن هيرودس كان يفكر في قتله لكنه كان في لهفة من لقائه بسبب ما سمعه عنه، وعن كم المعجزات التي أجراها بقوته الشخصية بدون تضرع لله ولا توسل ولا صلاة ولا طلبة، وعلى رأس هذه المعجزات جميعها إقامة الميت بعد أربعة أيام من موته. ونظر هيرودس نحو يسوع بدهاء الثعلب قائلًا: اسمع يا يسوع.. لقد ادَّعيتَ إنكَ ابن الله، ولكَ سلطان عظيم يفوق الطبيعة، فهل تثبت لنا صدق أقوالك؟.. أتُجري أمامنا معجزة لأتأكد بعيني ما سمعته عنك بأذنيَّ؟! وصمت يسوع صمتًا مطبقًا.. هيرودس: هيا يا جبار البأس.. ألا تريد أن تخرج من هنا حرًا طليقًا؟!.. أي معجزة تشاءها.. أي أعجوبة تريدها. ولم ينجح تشجيع وإغراء هيرودس في إخراج يسوع عن صمته، وهيرودس يتلهف نحو معجزة كطفل تسعده رؤية الحاوي، ثم قال له: يا يسوع.. ألم تقل عني إنني ثعلب.. أنا مستعد أن أغفر لك هذا، لقاء أن تُجري لنا معجزة، وأنا أعدك بأنني سأطلقك. أما رؤساء الكهنة فبدأ عليهم التذمر واضحًا، ومع إنه لا يروق لهم ما يجري، لكنهم يتحاشون الصدام مع هيرودس.. إذًا فلينتظروا على مضض، وما كان يعزيهم في مصيبتهم ويطمئنهم بعض الشيء صمت يسوع رغم إغراء هيرودس له بالإطلاق، ولم يدرك هيرودس أن يسوع لم يسعَ قط للهرب والفكاك من الصليب.. ولم يدرك أنه جاء للموت بأقدامه لا يسوقه قدره السيء، إنما تدفعه محبته الفياضة للإنسان الجريح العريان المطروح وسط زحام الشياطين.. يا لمحبتك يا يسوع. وظل هيرودس في محاولاته وهو يقول في نفسه: لو أنني ربحتُ يسوع هذا لربحتُ من ورائه آلاف المشايعين له.. أليس هو من ولايتي ويجب أن يكون ولائه لي أولًا، ويعمل لحسابي، ولكن يسوع ملك الملوك لم يكن قط مشايعًا لملك ما، ولم يعمل قط لحساب ملك أو رئيس كهنة أو زعيم.. إنما كان يعمل دائمًا لحساب خاطئ تائب، لحساب جريح سقط بين اللصوص.. لحساب امرأة منكسرة أُمسكت في ذات الفعل، لحساب زكا العشار والمجدلية والكنعانية ونازفة الدم.. وأيضًا لم يكن يسوع يومًا حاويًا ولا ساحرًا، ولم يجري معجزة قط من أجل البهرجة والفرجة والتسلية، إنما جميعها كانت أحشاء رأفات ومحبة للبشر.. وقف يسوع يُحاكم أمام الملك هيرودس تحقيقًا لنبؤة داود الملك " قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما" (مز 2: 2، 3). وظل يسوع أمام هذا الوحش الآدمي صامدًا صامتًا، لم يجب على سؤال واحد، ولم ينطق ببنت شفه، فكلام يسوع كلام ثمين وغالي لا يُهرَق في الهواء جزافًا، وبدأ هيرودس شيئًا فشيئا يفقد أعصابه، بالرغم من أنه يتظاهر بالصبر والجَلَد، فهكذا هي سياسة الملوك.. تحوَّل هيرودس عن يسوع ونظر إلى مشيريه، وظل يثني على يسوع كمواطن جليلي يُشرّف وطنه، وأخذ يمدح تعاليمه السامية.. لقد وضع الملك في نفسه أنه لابد أن ينتصر ويكسب الجولة، بإخراج يسوع عن صمته، ولكيما يجري معجزة ما، ووضع الأسير في قلبه أن لا يجيب.. وأخيرًا رفع هيرودس الراية البيضاء.. ألاَّ يقدر الملك على حمل أسير على الكلام..؟! ياللمهزلة.. احمرَّ وجه هيرودس، ولاح أمام عيناه صورة يوحنا الذبيح قريب هذا الأسير، وتمنى لو أنه سبق وذبح يسوع بدلًا من يوحنا القديس!! وبينما هيرودس يغوص في أفكاره هذه، لم يكف رؤساء الكهنة عن الاشتكاء ضد يسوع بشدة، ولم ينقطعوا عن الثرثرة بكلمات كثيرة، ولكن هيرودس العالم بأمورهم قد سدَّ أذنيه تجاههم، وحدجهم بنظراته الحادة، فتحوَّلت ثرثرتهم إلى همسات: ما هذا اليوم الأغبر؟! أجئنا للحكم على يسوع أم لنلقى السخرية من هيرودس..؟! نحن قادرون على مواجهة هذا الهيرودس ومن خلفنا الجهات الشعبية، ولكن ليس الآن، فالوقت كله والمجهود كله يجب أن يُكرس من أجل قتل يسوع. ونهض الثعلب الماكر من على عرشه ودار حول الفريسة ببطء يتفحصها، وإذ بالوجه مُتورّم تعلوه آثار الكدمات والجروح، والملابس ملطخة بالدماء، فأطلق ضحكته الساخرة، وسُمع في القصر صوت قهقهته: أأنت ملك اليهود؟! أين شعبك وأين جيشك يا ملك؟! وأحضر أحد الجنود ثوبًا لامعًا ألقاه عليه: سلام لسيدي الملك.. وسخروا منه واستهزأوا به.. وعاد هيرودس إلى عرشه، وتقدم منه قائد المئة ليحصل على التقرير النهائي شفاهة: عُد به إلى سيدك بيلاطس.. فإن الاتهامات غير ثابتة عليه.. وعلى كلٍ سعد هيرودس بتقدير بيلاطس له، واعتبر أن هذا التقدير يعد بمثابة اعتذار غير مباشر من بيلاطس الذي ذبح الجليليين، وعادت حمائم السلام ترفرف بين الاثنين بفضل يسوع ملك السلام. وعادت الجماهير من حيث أتت، واندفع الموكب في شوارع أورشليم بين أناس يفرحون ويلهون ويستعدون لذبح خروف الفصح، وأناس يصعدون إلى الهيكل وهم يرنمون مزامير المصاعد، وأناس يبيعون ويشترون، وكان على جند بيلاطس دفع الناس دفعًا ليعبر الموكب إلى قلعة أنطونيا، ورؤساء الكهنة ومشايعيهم في حزن وكمد لأنهم فشلوا في انتزاع حكم الموت على يسوع من هيرودس، كما فشلوا في الحصول عليه سلفًا من بيلاطس، والشمس تسرع في طريقها مثل جبار، مما أشعر القيادات الدينيَّة بأنها باتت في مأزق، فأخذوا يلعنون يهوذا الذي أغراهم بالقبض على يسوع في هذا الوقت الحرج، ويلعنون بيلاطس الذي يرفض تنفيذ قرارات المجمع المقدَّس، ويلعنون هيرودس الذي إنتهرهم، ويلعنون يومهم الأغبر هذا.. |
||||
02 - 07 - 2014, 03:31 PM | رقم المشاركة : ( 18 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
إني أحتج صارخًا ونحو الساعة التاسعة والنصف صباح يوم الجمعة، عاد الموكب الحزين إلى بيلاطس، وعندما سمع بيلاطس وهو بالداخل أصوات الغوغاء، أدرك لوقته أن هيرودس قد أعاده إليه، فبعد أن تنفس الصعداء، وظن أنه قد انتهى من تلك القضية بإرسال يسوع إلى هيرودس، فإذ بعقارب الساعة تعود للخلف، وعادت تظهر في الأفق الوجوه الكالحة لرؤساء الكهنة ومشايعيهم بسماجتهم ورذالاتهم.. عاد قائد المئة وجنوده بالأسير إلى داخل القلعة، حيث أبلغ القائد الوالي بما كان، بينما ظل الرؤساء والشعب خارج دار الولاية في قلق بالغ.. ماذا سيفعل بيلاطس بعد كل هذا العناء..؟! إنها الفرصة الأخيرة.. وإذ بدأوا يشعرون أن قتل الأسير بات أمرًا بعيدًا إلى حد ما جن جنونهم، وفقدوا وقارهم، وأخذوا يُحرّضون الشعب علانية، فلا بد من تكثيف الضغوط على بيلاطس بكل طريقة شرعية أو غير شرعية.. لقد غدت مسألة حياة أو موت.. وجود أو عدم.. حتى صار المشهد مشهدًا لم تشهده أورشليم من قبل. وخرج بيلاطس متوعك المزاج إلى جباثا، وعاد للجلوس على كرسي الولاية، وهو يُجهِد تفكيره كيف يُخلّص الأسير البريء من أنياب الضباع، ولاسيما أن هيرودس يتفق معه تمامًا على براءة الرجل، فتفتق ذهنه عن فكرة شيطانية أضرت يسوع كثيرًا.. أشار بيلاطس إلى الجموع فسكتت الجلبة والضوضاء، وصار هدوء عظيم فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب وقال لهم قد قدمتم إليَّ هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدَّامكم ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودس أيضًا لأني أرسلتكم إليه، وها لا شيء يستحق الموت صُنِعَ منه. فأنا أؤدبه وأطلقه.. هوذا الوالي الروماني يقول لليهود "فحصت قدامكم" أي أنني أجريت التحقيق العادل معه أمامكم، وها أنتم شاهدون على سلامة التحقيق، وأنه جرى طبقًا للعدالة الرومانية بلا تحيز ولا محاباة.. ثم يقول "لأني أرسلتكم إلى هيرودس" أي أنني لم آخذ رأي هيرودس سرًّا، إنما كان الأمر علانية أمامكم، فأنتم الذين ذهبتم وسمعتم شهادة هيرودس عنه.. وقال بيلاطس في نفسه لأحكم عليه بالجلد، ولو أن هذا الحكم ضد الحق لكن علَّه يُرضي جميع الأطراف، عندما يبصرون جسده مهلهلًا من أثر الجلدات الرومانية، لابد أن هذا سيريحهم ويرضيهم ويُسكّن غضبهم، وحينئذ تتحرك قلوبهم شفقة على ابن وطنهم، ويعفون عنه، فيفوز يسوع بالحياة.. وهكذا أصدر بيلاطس أمره: ليُجلَد يسوع. وانتظرت الجماهير كلمة من رؤساء الكهنة الذي وثقوا فيهم، وإذ أظهر هؤلاء الرؤساء استيائهم ومصمصوا شفاههم، هاج الشعب وماج. وبينما انصرف بيلاطس إلى داخل دار الولاية، لم يكف الشعب عن الصياح والهياج، وجند الرومان مُقيَّدون بكلمة بيلاطس، وهم يتمنون من عمق قلبهم أي إشارة بسيطة من بيلاطس، ليؤدبوا هذا الشعب ويذبحوا رؤوس الأفاعي.. عجبًا.. الوالي الأممي يحكم ببراءة يسوع، ورؤساء وقضاة ورعاة إسرائيل يطلبون سفك الدم الذكي.. أنظروا إلى أي درجة انحط هؤلاء القوم بسب أحقادهم وضغائنهم على المُعلّم. وأنت با بيلاطس مادمت تعترف ببراءة يسوع، وتدرك تمامًا أنهم أسلموه حسدًا، فلماذا تُسلّمه للجلدات القاتلة بحجة أنك تؤدبه؟!.. هل يسوع يحتاج تأديبك أيها الوالي..؟! أتريد أن تُؤدّب المُؤّدب الشافي طبيب الأجساد الأرواح الذي بلا خطية وحده؟!.. أتريد أن تُؤدّب من نسمة حياتك في يده؟! أتؤدبه من أجل حبه الفياض لك ولكل البشرية؟! أتؤدب الحب الذي أسكت ملاك الله لئلا يشقك بسيفه الناري؟ يا بيلاطس.. كيف يرتضي قلبك وتوافق عدالتك على طرح إنسان برئ للجلدات التي قد تقضي عليه؟! أين هيبتك يا رجل..؟! وكيف يتأتى هذا..؟! أتحكم ببراءته وتريد أن تؤدبه؟! أتلتمس من الغوغاء أن يسمحوا لك بأن تؤدبه وتطلقه، وهم يرفضون هذا..؟! أتتحول من حاكم إلى محكوم..؟! وكيف تسير وراء هوى شعب فاسد عوضًا عن أن يخضع الشعب لسيف العدالة الذي تحمله..؟! مالك تدخل السياسة في القضاء؟!.. ومالك تساوم على عدالة روما؟!.. ألم تسمع القول الروماني المأثور والذي يعتبر دستور القضاة " أقم العدل ولو تسقط السماء"..؟! ألا ترى أن هذه هي الخطوة الأولى في طريق التنازلات، ولكنها لن تكون الأخيرة؟!. وأخذ جند بيلاطس يسوع إلى القشلاق، وربطوه إلى عامود الجَلد القصير، فاتخذ جسده شكل القوس ووجهه متجه إلى أسفل.. ووقف جلادان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.. أحدهما يظهر كالعملاق، والآخر قصير القامة ولكن علامات التحدي تظهر عليه، وجلس قائد المئة أمام منضدة صغيرة يرقب الموقف، فهذه فرصة رائعة للرومان للانتقام من اليهود الملاعين الذين لا يكفون عن المشاغبات وأحيانًا ينجحون في اغتيال بعضهم، وقد سمعوا أن هذا الرجل يريد أن يكون ملكًا على اليهود ليطرد الرومان شر طردة.. إذًا الويل كل الويل لهذا الرجل، كان خير له لو لم يُولَد. أما السوطان اللذان اُستخدما في الجلد فكل منهما له يد خشبية مخروطة بطريقة تمكن الجندي من القبض عليه جيدًا، وينبثق منه ثلاثة سيور، كل منها ينتهي بقطعتين من العظم أو الرصاص تحفران جروحًا غائرة في الجسم، وهذا النوع من السياط يعتبر أصعب أنواع الشيطان ويُدعى بـ"العقارب" وهو ما قصده الملك رحبعام بن سليمان في حديثه مع رؤساء بني إسرائيل عندما قال لهم "أبي أدبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب" (1مل 12: 11). St-Takla.org Image: Flagellation of Christ Jesus صورة في موقع الأنبا تكلا: جلد المسيح ارتفعت السياط لتهوي على ذاك الجسد الرقيق العاري، وكل جلدة تئز، وتُصفّر، وترتطم بالجسد، فتترك ثلاثة علامات دامية في الجسد المقدَّس بالإضافة إلى ستة جروح غائرة، تدفع الذي يُجلد أن يتلوى محاولًا جذب يديه من القيود. أما يسوع فلم يفعل هكذا.. لقد تحمل ضربات السياط القوية من الجلادين اللذين دخلا في منافسة غير شريفة على تمزيق جسده الطاهر.. نظر الجلاد الضخم إلى زميله قصير القامة نظرة استهانة، فأراد الأخير أن يثبت قدراته، وتحدى الاثنان بعضهما البعض أيهما تكون ضرباته أشد إيلامًا وأقدر على تمزيق الجسد المقدَّس.. الدماء تسيل من الجسد الجريح المتهرئ تصرخ وتحتج على قسوة الإنسان الذي أسلم نفسه للشيطان.. لقد نفث الشيطان سمومه في هذين الجنديين، فتصوَّر كل منهما أنه في معركة حامية الوطيس، فيشب ويهبط بسوطه على جسم الضحية، وكأنه بطل مغوار غازي يعبر البحار ويفتح القلاع، ولا يدرك أن ما يقوم به هو عمل وحشي يستهجنه العقل ويرفضه الوجدان. وكلما انتفض ذاك الجسد الطاهر وآنَّ وتأوه، كلما ارتفعت ضحكات وسخرية الجنود.. آه.. يا ملك اليهود.. رفقًا بمن سيحرر البلاد.. وكلما أوشك يسوع أن يفقد قوته وينهار راكعًا على قدميه، فإنه يجاهد ويتشدد.. ولم يكن للضربات وجهة محدَّدة، بل أباحوا الجسد كله للسياط، وعندما تهبط إحدى الضربات بالقرب من الرأس تلف الرأس وتدور، بالإضافة إلى الدم المندفع في الرأس يجعلها تكاد تنفجر.. إنها آلام فوق الوصف.. كل جرح ينبض بالألم.. إن الجلد يتهرأ، والشرايين تتعرى، وطبقات داخلية من الجسد الطاهر تنكشف.. إنها لسعات الحيَّة القديمة تنهش ذاك الجسد الطاهر.. ألم يقل الكتاب أنها تسحق عقبه؟! وإن كان الإنسان عندما يتعرض لألم فوق الطاقة يدخل في مرحلة الغيبوبة واللاوعي، ويفرز الجسم المواد المخدرة التي تسكن الألم، فإنه في حالة الجَلد يظل الإنسان يقظًا مهما اشتعلت آلامه، ولا يغيب الإنسان عن وعيه إلاَّ إذا انطلقت روحه من جوفه. وأيضًا لم يلتزم هؤلاء الجنود بعدد معين من الضربات، افترش جسد يسوع بالجروح التي تعدت السبعمائة جرحًا " على ظهري حرث الحُرَّاث. طوَّلوا أتلامهم" (مز 129: 3) وكأن هذا الجسد أرضًا يشقها المحراث بسلاحه القوي فيتركها أخاديد، وهكذا خطت الجلدات على ظهر يسوع خطوطًا كالتي يخطها المحراث " بذلت ظهري للضاربين" (أش 50: 6) وصنعت الدماء مع الجسد الذي تهرأ ثيابًا قرمزية ليسوع، مما دعى إشعياء النبي للتساؤل " من ذا الآتي من آدوم بثياب حُمر من بصره.. ما بال لباسك مُحمرُ وثيابك كدائس المعصرة " فأجابته أنَّات يسوع " قد دستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي فرُش عصيرهم على ثيابي فلطخت كل ملابسي" (أش 63: 1 - 3). لمن هذه الجلدات يا يسوع؟! إنها لكل إنسان قاتل سفاح.. لكل زانٍ مستبيح.. لكل لصٍ سالب.. لكل مجدف جاحد.. لكل ظالم مستبد.. لكل خاطئ أثيم.. إنها لا تخصك أيها الطاهر القدوس.. فلِمَ تحتملها؟! إنني أصرخ بأعلى صوتي.. إنني أحتج أحتج.. أحتج يا يسوع.. وأسمع همسات قلبك: علآم تحتج يا حبيبي.. أتحتج على قسوة الإنسان؟! وأصرخ ويعلو صوتي: كلاَّ.. إن احتجاجي على هؤلاء الوحوش لا يفيد.. فمن يسمع ومن يصغي؟! لا أحد.. لكنني أحتج وسأظل أحتج وأصرخ بأعلى صوتي.. وأسمع همسات حبك: علآم تحتج يا ابني؟! إني أحتج وأصرخ وأملأ الدنيا صياحًا ودموعًا وضجيجًا: إنني أحتج عليك.. أحتج عليك يا يسوع.. يا إلهي.. وإذ أصغى لنبضات حبك: علآم تحتج عليَّ؟! إنني أصيح بأعلى صوتي وأقول: لماذا يا ربي.. لماذا يا إلهي تترك نفسك فريسة هكذا..؟! من يتصوَّر هذا المنظر ولا يذوب قلبه؟!.. من ينظر إليك ولا يحترق فؤاده؟! وأسمع صوتك الحاني المتهدج: كل هذا من أجلك يا ابني.. وأكاد أصرخ: لا.. لا.. لا أستحق.. لتكف هذه الجلدات اللعينة.. وليكن ما يكون، حتى لو ذهبتُ أنا للجحيم. وإذ بيدك الحانية تبكم فمي، وإذ بنبضات قلبك تأسرني.. فأصرخ: إن كنت يا رب لا أقدر أن أرفع عنك هذه الجلدات، فلتجعلني مستحقًا أن أُجلد معك، وعندما تقع الجلدة على ظهري.. هل سأكون راضيًا شاكرًا أم إنني سأطلق من جوفي حممًا من الآهات والأنات والنرفذة والزربنة والانفعالات المرة..؟! إذًا إن كنت تسمح لي يا سيدي بأن أُجلد معك، فقط أعطيني القوة للاحتمال والرضى والشكر. ونهض قائد المئة من جلسته أكثر من مرة، يقترب من يسوع ويرمقه بنظرات فاحصة ويتركه لجلاديه. وفي المرة الأخيرة لاحظ قائد المئة يسوع وهو يلهث، وصدره يعلو ويهبط بسرعة، وصارت أنفاسه متقطعة، فعلم أن يسوع وصل إلى نهاية مداه، وبضع جلدات أخرى ستقضي عليه حتمًا، فرفع يده، ورفع الجلادان أيديهما عنه، وإن كان الجلادان قد أُنهكا إلى هذه الدرجة فما بالك بيسوع نفسه؟!. وما أن قطع أحدهم الحبل الذي يربط يسوع بعمود الجلد حتى سقط شبه مغشيًا عليه مرتطمًا بالأرض الحجرية، وتقدم جنديان يقيمانه ويجلسانه، وجسمه يلتهب نارًا، إذ هو مسخَّن بمئات الجروح. وكل ما حدث لم يشبع نهم الشيطان ولم يقنع الجنود الرومان.. لقد تناثرت الأقوال وانتشرت الإشاعات في القشلاق: هل رأيتموه؟.. أرأيتم ملك اليهود..؟! هيا لنقدم له الإكرام والسجود، وصدق الجنود الرومان الإشاعات اليهودية أكثر من سيدهم بيلاطس الذي حكم ببراءته أكثر من مرة، فوجدوا فرصتهم لّلهو والتسلية، فطرح عليه أحدهم رداءًا قرمزيًا موشحًا إياه بوشاح الملوك: عش أيها الملك إلى الأبد.. فهذا رداء الملوك. وقال آخر: وأين تاج الملوك.. يعوزه تاجًا أيها الأبطال.. أسرع ثالث بقص بعض فروع من الأشواك الحادة، وضفَّرها على شكل طاقية ووضعها على رأسه: مادمت أنت الملك فلابد لك من تاج الملوك.. ووقف سليمان الملك منذهلًا لما يجري لملك السلام " اخرجن يا بنات صهيون وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه" (نش 3: 11).. إنه جاء ليقتلع من الأرض أشواك اللعنة ومن النفس أشواك الخطية.. إن كبش إسحق الذي وُجِد مُمسكًا بقرنيه في الغابة (تك 22: 13) كان رمزًا للمسيح المُكلَّل بالأشواك الآن.. إنها الأمة اليهودية، أمه بحسب الجسد، هي التي أسلمته للرومان، فكلَّلوه بالأشواك، وصار يسوع هو الشخص الوحيد على مدار التاريخ كله الذي كُلل بالأشواك قبل صلبه.. أحضر أحدهم قصبة ووضعها في يمينه قائلًا: هوذا صولجان المُلك أيها الملك السعيد.. وأخذوا يسخرون منه ويجثون أمامه مقدمين له التحية: السلام يا ملك اليهود.. وهم يجهلون أنه هو الوحيد الذي تجثوا باسمه كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ولمعت فكرة جهنمية في ذهن أحد أبناء إبليس، إذ أمسك بقصبة وضربه ضربات قوية ومتلاحقة على رأسه.. انغرست الأشواك في فروة الرأس والجبين فأحدثت اثني عشر ثقبًا سالت منها الدماء في خطوط متشابكة على الوجه المُتورّم والعينين الشبه مغلقتين وخصلات الشعر، ونتج عن هذه الأشواك آلام نارية بالرأس جعلته يحرك رأسه يمينًا ويسارًا.. وتركتُ دموعي تنساب تسأله: كيف وخز الأشواك يا يسوع..؟! أقطرَ جبينك دمًا وعرقًا؟! أسالتْ دموعك من شدة الألم؟! هل اختلطت دموعك بدمائك بعرقك لتصنه دواءًا لكل من دوخته أفكار الشر؟! ووقف ميخا النبي مشدوهًا يشهد " يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده" (مي 5: 1) وصار يسوع كحمل قائم وكأنه مذبوح.. ولم يكتفوا بهذا، بل إذ تزاحمت عليه كل الكتيبة نحو ستمائة جندي، ورقصت الشياطين رقصتها بقيادة لوسيفر حول ابن الإنسان الذي طالما قهرها وأذلها، راح البعض يبصق عليه.. والبعض يركله، وهو لم يحاول أن يرد وجهه عن خزي البصاق.. لم يحاول أن يدفع الأذى عنه.. لقد إمتزجت الأخلاق الوضيعة مع الشراسة الشيطانية في تلك النفوس التي تَوحَّشت، فوقف أرميا يرنم حزينًا باكيًا " يعطي خده لضاربه. يُشبع عارًا" (مرا 3: 30). وإذ أحاطت به كل الكتيبة كأسود ضارية تنشب أظافرها في الفريسة وهي تلهو بها قبل أن تفترسها، رنم داود بلسان يسوع " أحاطت بي ثيران كثيرة أقوياء باشان اكتنفتني. فغروا عليَّ أفواههم كأسدٍ مفترس مزمجر" (مز 22: 12، 13). وتنهد أشعياء ناطقًا بلسان يسوع " بذلت ظهري للضاربين وخدَّيَّ للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق" (أش 50: 6). ووقف أيوب يصف وضع العبد المتألم " أما الآن فصرت أغنيتهم وأصبحت لهم مثلًا. يكرهونني. يبتعدون عني وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق" (أي 30: 9، 10). حقًا لقد نجح الشيطان في تمزيق جسد يسوع، ولكنه لم يفلح قط في تمزيق حبه الخالد.. نجح في كسر القارورة، ولكنه فشل في منع أريج الحب من الانتشار.. نجح في تحطيم القشرة الخارجية، فترأى للجميع بريق وروعة الحب الإلهي.. وهمس يسوع: الكأس التي أعطاني الآب ألاَّ أشربها.. عجيب أنت أيها الابن في طاعتك لأبيك.. ووقفت الملائكة في ذهول مما يجري لسيدها منذ دخوله للبستان وحتى هذه اللحظات الرهيبة، التي سيقف التاريخ أمامها طويلًا طويلًا، ولن يسبر أغوارها ولن يصل إلى أعماقها قط.. كم كانت الملائكة تلتمس إشارة من سيدها لتدمر الأرض وكل ما عليها، ولكن الله المتألم يضبطها بكلمته، فالملاك خاضع ملتزم وليس كبطرس الذي لم يقدر أن يضبط نفسه، فبمجرد أن رأى ملخس يقبض بقسوة على سيده قبض على سيفه وحدث ما حدث.. من لي ببطرس الآن..!! ليأتِ وينظر وينفطر قلبه وليس له إلاَّ أن يقول: لتكن مشيئتك يا رب لا مشيئتي.. لك القوة والمجد والبركة والعزة يا عمانوئيل إلهنا وملكنا.. آه.. لقد قاسيتَ يا يسوع كل هذه الآلام القاسية والعذابات الوحشية التي تفوق الوصف والخيال.. إنها تساوي كل الآلام والعذابات التي يستحقها الخطاة.. كل الخطاة. حدثت هذه المهزلة في دار الولاية التي هي ملجأ لكل إنسان مظلوم، وكم قاسيت يا يسوع سواء من الجهات الدينية في بيت رئيس الكهنة، أو من الجهات الدنيوية في دار الولاية..؟! ورأيتُ الجور في مكان العدل، والظلم في مكان الحق، والعذابات الوحشية في مكان القضاء، وتحوَّل مسرح العدالة إلى مسرح للشياطين.. ولا أدري كيف صمتَّ أيها الوالي على هذه الممارسات غير الآدمية..؟! وبعدما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه.. لقد لصق الرداء بالجسد الذي تلطخ بالدماء، فلم يخلعوا عنه الرداء بهدوء، إنما نزعوه نزعًا فعادت الجروح تنزف من جديد، وكأنها هي المراحم الإلهية، فهي جديدة كل صباح.. وأخيرًا أبلغ قائد المئة بيلاطس بانتهاء المهمة، فخرج إلى "جبَّاثا" وجلس على كرسي القضاء و" جبَّاثا " عبارة عن منصة مستديرة مرتفعة يصعد إليها القاضي بواسطة درجات رخامية تُدعى البلاط، وتسمح للشعب أن يرى القاضي ويتابع الحوار. وعندما رأى المتظاهرون بيلاطس ازدادوا صياحًا وصراخًا.. لقد نجح رؤساء الكهنة ومشايعيهم في تضليل هذا الشعب الغفير، وأصبح القلق والتوتر سيدا الموقف.. الشمس تسرع في طريقها، والعيد يدق الأبواب، ولو ظلت الأمور مُعلَّقة حتى مغيب الشمس فيسوع لن يُصلب إلاَّ بعد انتهاء فترة الأعياد، ومن يدري ما يمكن أن يحدث خلال هذه الفترة (وكأنك يابو زيد ماغزيت). وأشار بيلاطس بيده فصمت الجميع وقال: ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا إني لست أجد فيه علة واحدة. وأشار بيلاطس البنطي إلى أحد ضباطه، فأحضر يسوع أمام الشعب، وأقبل يسوع.. مُكلَّلًا بالأشواك، وقد تسخَّن ظهره بالجراحات العديدة، وتورم جلده المتهرئ، وأثر الكدمات واللطمات على وجهه، وقد نسجت الدماء حول جسده الممزق ثوبًا قرمزيًا، ووقف يسوع تجتاحه آلام مرعبة بلا توقف، فأخذ يترنح ويهتز اهتزازات خفيفة، وهو يبذل قصارى جهده لكيما يحفظ توازنه بعد أن تهلهل جسده وجاز في عقوبة " نصف الموت " ومن جاز في هذه العقوبة كان ينبغي أن لا توقع عليه عقوبة أخرى.. أنه منظر يفتت القلب ويذيب الفؤاد، حتى لو كان هذا القلب قد كدَّ من صوان. أما قلب هذا الشعب فكان أقسى كثيرًا من حجر الصوان. وأشار بيلاطس بيده فصار هدوء وكف الصياح، وقال لهم بصوت جهوري: هوذا الإنسان.. إني لا أجد فيه علَّة.. فصرخوا بصوت ارتجت له أورشليم: خذه.. خذه اصلبه.. وكأنهم يتبرأون منه إذ صار عار عليهم.. الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلي. ولو كان لدى بيلاطس دليلًا واحدًا يدين يسوع لحكم عليه على الفور، ولكن ما العمل وجميع الأدلة الدامغة تصرخ وتصيح وتُصرّح ببراءته؟!! |
||||
02 - 07 - 2014, 03:32 PM | رقم المشاركة : ( 19 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
من العدالة إلى السياسة الآن وقد تخطت عقارب الساعة العاشرة بعدة دقائق، وإذ لم تنجح خطة بيلاطس لإنقاذ يسوع، لأن الجلدات القاتلة لم تُحنّن قلب الشعب القاسي، لذلك فكر بيلاطس في وسيلة أخرى يُنقذ بها الفريسة من بين أنياب الضباع، وإذ وصل مع رؤساء الكهنة إلى طريق مسدود أراد أن يدفع بطرف ثالث إلى حلبة الصراع، فاتجه إلى الشعب اليهودي، يستفتيه في الحكم على يسوع.. انظروا إلى والي روماني وصل به الضعف إلى استجداء الشعب ليعينه على إجراء القضاء الحق، معتمدًا على مدى تعلُّق الشعب به، فكم هتفوا له منذ أيام قليلة حتى ارتجت المدينة، وكان معتاد أن يُطلق لهم كل عيد أسيرًا محكومًا عليه بالموت، وهذه العادة تسلمها الحكام الرومان من الحكام اليهود السابقين لهم تكريمًا لاحتفالات عيد الفصح، كذكرى للتحرر من عبودية فرعون، فقال لهم: هل أطلق لكم يسوع المدعو المسيح؟ وإذ لم يكن الشعب قد وصل بعد إلى مرحلة النضج التي يستطيع أن يتخذ قراره، ولم يكن سيد قراره، فهم كأوراق ميتة تجرفها الرياح، وكأسماك ميتة يحملها التيار، صمتوا برهة، وما أن سمعوا رؤساء الكهنة يقولون: لا.. بل بارباس، أخذوا يصرخون: بارباس. بارباس. أطلق لنا بارباس.. وكان بارباس هذا قاتلًا وسارقًا ومثير للفتنة، إنه ارتكب ثلاثة جرائم تستحق أشد القصاص، يداه ملوثتان بالدماء، صاحب قلب قاس ومشاعر متبلدة، مثال للفظاظة والفظاعة، يبدو أنه كان سجينًا سياسيًا، ويُعتَبر من أشد المبغضين لروما.. فمادام يسوع امتنع عن الثورة ضد روما فربما بارباس يفعل.. ومادام يسوع راح يُطهّر الهيكل من الأغنام وباعة الحمام، ولم يطهرها من الرومان الأنجاس فربما بارباس يفعل.. هذا هو الرجل الذي اختاروه بحسبما أملاه عليهم أبوهم إبليس، وهذا هو يسوع الرقيق العطوف الحنون القدوس الطاهر البار الذي رفضوه.. أيدان البار ويُطلق الأثيم؟! أتموت الحياة ويحيا الموت؟! وأعاد بيلاطس القول على الشعب: مَن من الاثنين تريدون أن أُطلق لكم يسوع المدعو المسيح أم بارباس؟.. أتريدون أن أُطلق لكم ملك اليهود؟! لقد أراد بيلاطس أن يسخر من تهمة اليهود الباطلة، ولذلك دعى يسوع ملك اليهود، وفات على بيلاطس أن مثل هذا السؤال يدينه كوالٍ وكقاضٍ، لأنه ترك منصة الحكم للخصم، وتنازل عن إجراء الحق، ووضع البار والأثيم في كفتين متساويتين، وللأسف فإن الشعب الأعمى هتف مرجحًا كفة بارباس، وكأنه هو القديس البار، ورفضوا يسوع، وكأنه هو الخاطئ الأثيم الذي لا يستحق أن يعيش.. الأمر العجيب أن معنى اسم بارباس "ابن الآب" فاليهود يرفضون ابن الآب الحقيقي ويطالبون ببارباس الذي له الاسم فقط وهو محترف اللصوصية. St-Takla.org Image: Give us Barabbas. Charles Louis Muller. John 18:40 - from the Bible and Its Story book صورة في موقع الأنبا تكلا: أطلق لنا باراباس (بارباس)، رسم الفنان تشارلز لويس مولر - إنجيل يوحنا 18: 40 - من كتاب الكتاب المقدس وقصته وعاد بيلاطس يسأل الجمهور الثائر: وماذا أفعل بيسوع؟ وكان يتوقع أن يتركوا له حرية التصرف مادام سيطلق لهم بارباس، وكان بيلاطس على استعداد تام لإطلاق الاثنين، بارباس من أجل عيد الفصح، ويسوع من أجل براءته. ولكن الشعب العنيد ظل يصرخ: اصلبه.. اصلبه.. أخذ بيلاطس يتماحك للشعب لعله يعود إلى عقله، فعاد يسألهم: وأي شر عمل؟ وإذ لم يجدوا جوابًا ازدادوا صراخًا: اصلبه.. اصلبه.. وعوضًا عن تقديم الأدلة والبراهين التي تثبت شر يسوع، قدموا صراخًا وصخبًا وضجيجًا.. أليست هذه هي الهمجية في أقوى صورها؟! ووقف داود النبي يعزف على الناي الحزين " أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب.. صرت أجنبيًا عند إخوتي وغريبًا عند بنو أمي" (مز 69: 4، 8).. ويخيَّل لمن سمعهم يهتفون له يوم الأحد الماضي إن العالم كله ذهب وراءه، ويُخيَّل لمن يسمعهم يهتفون ضده الآن إن العالم كله يقف ضده، وهكذا حال العالم كما قال سينيكا فيلسوف روما " إذا رأيت الذين يمدحونك فأعرف أنهم إما أن يكونوا كلهم أعداءك، أو أنهم سوف يكونون أعداءك" (18). وتعجب بيلاطس من هذا الشعب الأحمق الذي يطيع رؤساء الكهنة طاعة عمياء، حتى لو زجوا به إلى الجحيم.. لو فكروا وتريثوا قليلًا لعلموا أنه من الأفضل لهم أن يعيش يسوع بعد تلك الجلدات، لأنه سيتخلى عن رسالته، ويتوارى عن الأنظار، ولاسيما لو كانت رسالته من ذاته، بدلًا من قتله الذي سيكون شهادة عليهم. وإذ ضجر بيلاطس منهم قال لهم: خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علَّة للموت. صرخوا: لنا ناموس وبحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله. واقترب أحد أفراد الحرس إلى الوالي يسلمه وريقة صغيرة ملفوفة، وإذ هي رسالة (تلغرافية) من زوجته العزيزة كلوديا تحمل تحذيرًا قويًا لبيلاطس من إيذاء يسوع " إياك وذاك البار لأنني تألمت اليوم كثيرًا في حلم من أجله ".. تُرى ماذا رأيتِ يا كلوديا في حلمك، وماذا أبصرتِ؟! أرأيتيه معذبًا مهانًا محتقرًا ومخذولًا؟! هل عاينتِ جروحه وجلداته يا كلوديا؟! أم إنك رأيتيه ملكًا متوجًّا للسماء والنجوم والأفلاك تسجد له؟! أرأيتِ الأبرع جمالًا من بني البشر مكلَّلًا بالأشواك؟! ماذا رأيتِ وماذا أبصرتِ يا كلوديا..؟! لا أحد يعلم.. وإذ كانت للأحلام معناها ومغزاها لدى الرومان، ارتجف قلب بيلاطس فيه، وشُلَّ عقله عن التفكير، ولاسيما أن رؤساء الكهنة قالوا حالًا "لأنه جعل نفسه ابن الله" فازداد خوفًا، فالفكر الأممي يقبل تجسد الآلهة وتناسلهم وصراعاتهم، وخشى بيلاطس أن ينجح الشعب اليهودي في خلق صراع رهيب بينه وبين الآلهة، فازدادوا خوفًا وشؤمًا من هذه القضية. ودخل بيلاطس إلى دار الولاية واختلى بيسوع قائلًا له: من أين أنت؟.. أما تكلمني؟! أمن هذا العالم أنت أم من عالم الآلهة؟! من هو أبيك؟.. هل هو إله اليهود فقط أم إله العالم كله..؟! أم أنه ذاك الذين يقولون عنه إنه خالق الكل ومدبر الكل وضابط الكل؟! أنت ترفض أن تتحدث عن نفسك.. أفلا تحدثني عن أبيك الإله العظيم؟! وحاول بيلاطس أن يغوص في عيني يسوع المتورمتين لاكتشاف الأسرار الدفينة، ولكن يسوع لم يسمح له بهذا.. حفظ يسوع صمته، الصمت الذي يدين بيلاطس ويؤرقه ويقض مضجعه ويفضحه أمام نفسه.. كيف تحكم يا بيلاطس ببراءته وبجلده في آن واحد؟! وبعد أن جلدته -ومن المفروض أن الجلد عقوبة كاملة- لماذا تُعرّضه لعقوبة أخرى؟! وكأن يسوع يسأله: أين الحق الإلهي وأين العدل الروماني الذي تتشدق به يا بيلاطس؟! أعلمت لماذا لم أخبرك عن الحق عندما سألتني..؟! لأنك تفضل مصلحتك فوق الحق، وتهادن اليهود العنفاء على حساب العدل. وتضايق بيلاطس جدًا لأنه شعر في نفسه أنه يبذل كل وسيلة لإطلاق سراحه، ويسوع لا يهتم بتبرئة نفسه، فقال له: ألاَّ تدافع عن نفسك..؟! وهوذا رفض يسوع للإدلاء بأقواله شهادة على ظلم بيلاطس البيّن.. ووقف إشعياء النبي يشرح الموقف " ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه" (أش 53: 7) ونطق داود بلسان يسوع "وأما أنا فكأصم. لا أسمع. وكأبكم لا يفتح فاه. وأكون مثل إنسان لا يسمع وليس في فمه حجة" (مز 38: 13، 14) وقال إشعياء " من الضغطة ومن الدينونة أُخذ" (أش 53: 8) والضغطة هي ضغطة اليهود، والدينونة هي دينونة بيلاطس، ومازال يسوع صامتًا رغم ارتفاع لجج بحر البشر الهائج وصراخهم " اصلبه.. اصلبه " بل أن لسان حال يسوع يقول "خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم" (يو 1: 12). وأراد بيلاطس أن يحفز الأسير، ويحمله على الكلام فقال له: ألستَ تعلم إن لي سلطانًا أن أطلقك وسلطانًا أن أقتلك؟.. ورغم إن يسوع وصل به الإنهاك إلى درجة قصوى، لكنه أجاب على سؤال بيلاطس، وبطريقة مهذبة لا تجرح المشاعر: لم يكن لك عليَّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق. لذلك الذي أرسلني إليك له خطية أعظم.. ورغم إن بيلاطس لم يستوعب عمق هذا القول الذي يلفت فيه المُعلّم نظر بيلاطس لله الآب ضابط الكل ومانح السلطان، وأيضًا يلصق المسئولية برؤساء الكهنة الذين أسلموا دمًا بريئًا، ولكن رغبته في إطلاق ذاك الأسير ازدادت جدًا، فخرج للمرة الأخيرة يعلن براءة يسوع للجموع الهادرة، وحاول بيلاطس أن يداعب خيالهم بما يحلمون به، فرد على صراخ الجمهور: اصلبه.. اصلبه، قائلًا: أأصلب ملككم؟! فتعالت الهتافات أكثر فأكثر واضعين إياه في مواجهة مع القيصر نفسه، إذ صرخوا قائلين: ليس لنا ملك إلاَّ قيصر.. إن أطلقت هذا فلستَ محبًا لقيصر.. كل من يجعل نفسه ملكًا يقاوم قيصر.. ولعب قيافا رئيس الكهنة بالورقة الأخيرة إذ التجأ إلى السياسة متخليًا عن الناموس، محتقرًا يهوديته، ملقيًا بنفسه وشعبه تحت أقدام قيصر وصرخ وصرخ معه الشعب الجاهل " ليس لنا ملك إلاَّ قيصر " وهم يدرون أو لا يدرون أنهم بهذا يفصلون أنفسهم بأنفسهم عن ملكوت الله، ويزجون بأنفسهم في ملكوت قيصر، وبهذه الصرخة ركضوا في طريق أبائهم " فقال الرب لصموئيل اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك. لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم" (1صم 8: 7). "ولكيما تصل المأساة إلى ذروتها قال لهم بيلاطس في سخرية وخبث أأصلب ملككم؟ أجاب رؤساء الكهنة: ليس لنا ملك إلاَّ قيصر!..!! هنا تمزق رداء الكهنة عن آخره ليظهر معدنهم الأثيم. لقد تنكر الكهنة لوطنهم وأمتهم ومسيحهم وباعوا نفوسهم رخيصة للأعداء. كانوا مستعدين أن يضحوا بكل شيء في سبيل التخلص من يسوع..!! كانت المبارزة عنيفة والمعركة صاخبة، استطاع فيها بيلاطس أن يذل الكهنة ويطعن كبرياءهم ويمرغ رؤوسهم في الوحل. لكن في وسط هذه المعركة وجد بيلاطس نفسه فجأة محاصرًا بين يسوع والكهنة" (19). وتعبير "محبًا لقيصر" ليس نعتًا، إنما هو لقب لعظماء الضباط الذين يؤدون خدمات جليلة للإمبراطورية الرومانية، و"لست محبًا لقيصر" تعني أنك يا بيلاطس لو برأت يسوع فإنك بهذا تفصل نفسك عن هؤلاء الضباط العظماء. ثم نقل اليهود الاتهام إلى مرحلة سوداء، إذ اتهموه بأنه يقاوم قيصر، وهذا اتهام واضح وصريح لبيلاطس بالخيانة لو أطلق يسوع هذا.. حقًا إن اليهود الخبثاء عرفوا نقطة الضعف لدى بيلاطس فشدَّدوا العزف على ذات الوتر: إنك يا بيلاطس تمالئ هذا الشخص الذي يدعو نفسه ملكًا على حساب سلطان قيصر روما، فأنت إذًا لست أمينًا لواجبك.. وهذا ما يفعله اليهود من جيل إلى جيل، فيتحكمون في أقدار الملوك والرؤساء، ويرفعون من يشاؤون ويخفضون من يشاؤون {كما قتلوا فيما بعد جون كنيدي وقتلوا قاتله فتاهت القضية وضاعت}. ونجحت الصرخات المدوية للشعب القاتل في أن تهز كرسي الوالي الذي يعلوه النسر الروماني هزات قوية كادت تطلق هذا النسر، فيصبح هذا الكرسي بلا سلطة مثله مثل أي كرسي آخر، وشعر بيلاطس أنهم نجحوا في إخراج القضية عن مسارها الرئيسي، فلم تعد قضية إنسان برئ يُحاكم، إنما صارت قضية تمس أمانة بيلاطس تجاه القيصر، وهو يعلم تمامًا أن اليهود باتوا على استعداد لبيع أنفسهم لقيصر مقابل خلاصهم من يسوع، ولذلك فإنهم لن يتورعوا أبدًا في إرسال وفودهم وشكواهم إلى طيباريوس قيصر الذي أدمن سماع الوشايات، وإذ رأى بيلاطس أنه قد بات من المستحيل إسكات هذه الأصوات المزعجة، وبات من المستحيل إقناع رؤسائهم ببراءة المتهم ولم يعد أمامه غير طريقين، أولهما إحقاق الحق وإعلاء القانون وتبرئة يسوع، وهذا ينطوي على مجازفة حيث يخاطر بيلاطس ليس بكرسيه فقط، بل وبحياته أيضًا. أما الطريق الثاني فينطوي على خضوع بيلاطس وإحناء هامته الرومانية أمام العاصفة اليهودية الهوجاء، وتسليم البريء للموت.. وإذ عجزت العدالة الرومانية تمامًا عن حماية يسوع البريء، وإذ تصرَّف بيلاطس كحاكم وليس كقاض، وتحوَّل من العدالة إلى السياسة، وفضل الاستقرار عن العدل، ورفض دفع ثمن الحق من حسابه الخاص.. إذًا فليمت يسوع وأعيش أنا.. وإذ أراد بيلاطس أيضًا أن يُسكت ضميره الثائر، ويحفظ ماء وجهه، أشار إلى أحد جنوده يطلب ماء لغسل يديه، وتقدم جنديان أحدهما بمغسل والآخر بالإبريقلا، فغسل يديه قدام الجموع قائلًا: إني برئ من دم هذا البار. أبصروا أنتم. فالكهنة الذين سبقوا وقالوا ليهوذا " أنت أبصر " قال لهم بيلاطس الآن " أبصروا أنتم " لأنه " بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم ويزاد" (مت 7: 2) والحقيقة أنه لا يهوذا، ولا الكهنة ورؤساءهم، ولا بيلاطس يقدرون أن يتبرأوا من دم البار، ولكن قول بيلاطس هنا " إني برئ من دم هذا البار " لهي شهادة صارخة على براءة المصلوب.. إذًا يسوع لم يُصلَب لأجل علَّة تخصه لكن لأجل علَّة تخصنا نحن.. هو ليس بخاطئ ولكنه حامل خطايا البشرية جمعاء، ومن جانب آخر مهما غسل بيلاطس يديه بالماء فلن يقدر أن يزيل منهما دم المصلوب البريء، وكلما نظر بيلاطس إلى يديه يجدها حمراويتين بحمرة الدم دم الحمل.. فالماء لا يغسل الخطية أبدًا.. ومازالت أيدي بيلاطس مع أيدي اليهود تقطر بدم الحمل، فبيلاطس لم يحكم بالحقكما أعلن اليهود تحملهم مسئولية سفك دم يسوع البار.. اسمعي أيتها الأرض وأصغي أيتها السموات.. ليكن هذا الشعب اليهودي شعبًا ملعونًا هو وبنيه من جيل إلى جيل لأنهم لبسوا اللعنة كثوب فغطتهم، ولن ينجوا منهم أحدًا إلاَّ من يعترف أن آباؤه صلبوا يسوع البار، ويؤمن بهذا البار، وهذا ما أكده الآباء الرسل فيما بعد،.. لقد واجههم بطرس الرسول " وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه" (أع 2: 23) " رئيس الحياة قتلتموه" (أع 3: 15).. " يسوع الذي أنتم قتلتموه معلقين إياه على خشبة" (أع 5: 3) وواجههم إسطفانوس " البار الذي أنتم الآن صرتم مسلّميه وقاتليه "(أع 7: 50) وقال عنهم بولس الرسول " اليهود الذين قتلوا الرب يسوع" (1تس 2: 14، 15).. لقد أسلموا البار إلى أيدي الرومان، فأسلمهم الله أيضًا إلى أيدي الرومان، فهجم عليهم تيطس القائد الروماني سنة 70م وأذاقهم العذابات وجرَّعهم الآلام التي لم ترها ولن تراها أمة أخرى وتحقق فيهم قول المعلم " لأنه يكون في تلك الأيام ضيق لم يكن مثله منذ أيام الخليقة التي خلقها الله إلى الآن ولن يكون" (مر 13: 19) وكم أخطأ المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965م) عندما أصدر وثيقة تبرئة اليهود من دم يسوع البار، وبالتالي حكم بخلاصهم، بل بخلاص الهندوسيين والبوذيين، وعبَّاد الأصنام جميعًا مادامت نيتهم حسنة وأعمالهم صالحة.. يا خسارة عذاباتك ودمك المسفوك يا يسوع!!! وهكذا يا صديقي جاءت محاكمة يسوع البار أغرب وأعجب محاكمة في التاريخ البشري، ولك أن تتصوَّر صيغة النطق بالحكم "حكم بيلاطس البنطي والي اليهودية على يسوع بالبراءة ثلاث مرات، وينفذ فيه حكم الإعدام صلبًا".. وأسلم يسوع لمشيئتهم.. أما يسوع فلم يكن الحكم بموته صلبًا مفاجأة له. إنما هو في علمه منذ الأزل، وقد أباح بها عبر مئات السنين من خلال النبوات، وصرح بهذا لتلاميذه مرارًا وتكرارًا، ولذلك عندما سمع النطق بالحكم لم يخور ولم يمتقع وجهه ولم يرتعب ولم ترتعش ركبتاه. إنما تحمل الخبر كقائد مغوار في حومة الوعي متحفزًا لدفع حياته ثمنًا لرسالته التي آمن بها.. ورغم إن مجلس الشيوخ الروماني كان قد أصدر أمرًا بأن لا ينفذ حكم الإعدام في المتهم إلاَّ بعد النطق بالحكم بعشرة أيام لئلا يكون هناك اندفاع أو طياشة في صدور الحكم، ورغم إن قضية يسوع هذه لم تخلُ من الاندفاع والطياشة، فإن الوالي أمر بتنفيذ الحكم على الفور، فأمر قائد المئة بمباشرة مهمة الصلب، مع صلب ديماس وأماخوس اللصان اللذان ينتظران تنفيذ العقوبة، قائلًا في نفسه عندما يُصلب ثلاثة أشخاص بينهما واحد برئ، فإن العدالة تكون قد تحقَّقت بنسبة 67 % أما لو صُلب يسوع بمفرده فإن الظلم سيتحقق بنسبة 100 %.. واحسرتاه على العدالة المذبوحة.. هوذا دم الحمل شاهد.. لقد ذَبح بيلاطس ضميره أولًا، وبضميره المذبوح حكم بذبح يسوع البار، ووقف النبي الباكي يعزف على الناي الحزين " وأنا كخروف داجن يُساق إلى الذبح ولم أعلم أنهم فكروا عليَّ أفكار قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلا يُذكر بعد اسمه" (أر 11: 19). وبمجرد أن أصدر بيلاطس حكمه الجائر انطفأت ثورة الجماهير، فقد انتصروا ونالوا مبتغاهم، وفي الوقت الذي أُقتيد فيه يسوع إلى الصلب أُطلق سراح بارباس، فصار حرًا طليقًا ينعم بالحرية والحياة بفضل الذبيح الأعظم الذي صُلب نيابة عنه وعن كل خاطئ أثيم، فقد انفتحت أبواب السجن، وخلع الحراس عن يدي بارباس الأكبال الحديدية، فخرج حرًّا طليقًا لا يصدق ما يجري.. منذ لحظات تناهى إلى مسامعه صوت الجماهير تهتف باسمه "بارباس.. بارباس" والآن ينطلق من سجن الموت، وقد أخبره أحدهم أن ثمن حياته هو موت يسوع، فقصد أن يرى يسوع فرآه هادئًا رقيقًا يشع من عينيه الطهر والنقاء والصفاء تعلوه سمات الوقار والاتزان بعيد تمامًا عن الخشونة والغضب والهياج والعصبية، وتلاقت عينا يسوع مع عيني بارباس، وشعر بارباس كأن يسوع يبتسم له من عمق عذاباته مهنئًا إياه بالحياة الجديدة والحرية السعيدة، حتى إن بارباس عندما أسرع إلى كهفه ولصوصه لم يجد راحة في نفسه، فعاد إلى يسوع يتابع الأحداث بدقة ومشاعر فياضة. وبعد إصدار الحكم جلس بيلاطس يكتب رسالة مطولة إلى معلمه سينيكا جاء فيها "في الليلة الفائتة تم القبض على يسوع بمعرفة مندوبين عن السنهدريم تُعزّزهم فرقة من جنودنا، واليوم انتشرت الأخبار بأنه قد تم الاتفاق بين الحاكم وبين مجلس السنهدريم -على حد قولهم- على أنه من الأفضل التخلص من يسوع.. ومرت حادثة القبض عليه بغير مضايقات، ويسوع نفسه لم يبد أقل مقاومة، أما أتباعه فقد هربوا، وأعتقد أن معظمهم قد فروا عائدين إلى منازلهم. بعد هذا مضوا بالسجين إلى بيت رئيس الكهنة حيث قام قيافا مع بعض كبار الكهنة بفحصه حتى الصباح.. تجدهم (رؤساء الكهنة) يمضون في إتهامه بالعمل ضد الناموس بقصد ضمان تأييد الجماهير لهم..أمرتُ بإرساله إلى أنتيباس باعتباره واحدًا من رعايا الجليل ليتصرف معه كمخلٍ بالأمن بدأ نشاطه في ولايته، لكنه أعاده إليَّ برد مهذَّب يطلب مني أن أتصرف في الأمر بمعرفتي لأن الرجل قد قُبض عليه في أورشليم.. لم تستغرق المحاكمة وقتًا يُذكَر، وكان الاتهام الموجه إلى يسوع هو إخلاله بالأمن وإعلانه نفسه ملكًا لليهود، وكان هناك شهود ضده بعضهم من رجالنا وآخرون من اليهود من كل من الجليل وأورشليم، كما شهد ضده كل من حنان وقيافا وقادة الصدوقيين وقلة من الفريسيين، لأن معظم هؤلاء لا تهمهم في شيء مقاومة القيصر مع أنهم يشاطرون الآخرين رغبتهم في موت يسوع. وعندما قال أحد الكهنة أنه يتهجم على ديانتهم بادرت بإسكاته لأنه، كما أنهم لا يسمحون لنا بالتدخل في أمور ديانتهم، هكذا يجب ألا نسمح لهم بإقحام ديانتهم في إجراءات اتخذتها الدولة، فيسوع متهم سياسي لأنه يُعلن نفسه ملكًا وهو بهذا يقاوم قيصر، ويستوي إن كانت هذه المقاومة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا أمر يخصنا نحن ولا شأن لهم به. فليتخاصموا معًا على يهوه كما يشاؤون، وليفعلوا في هيكلهم ما يفعله المصريون في معبد إيزيس، فكل هذا لا شأن لنا به، ولكن إن حدث في الهيكل أي شغب فعندئذ يصبح الأمر من اختصاصنا وعلينا أن نتحرك.. وعندما سألته عما إذا كان يعتبر نفسه ملك اليهود قال لي " أنت تقول " وهذه اتهامات خطيرة وأخطر من الاتهام الذي اتخذه أنتيباس ذريعة لإعدام يوحنا المعمدان، لأن كونه المسيا يعني زوال سلطاننا - نحن الرومان - وزوال سلطان الكهنة أيضًا.. وكانت إجابات يسوع المقتضبة تفيد أنه يعلم أننا راغبون في إلصاق التهمة به، وكان يتكلم في جرأة بالغة ودون أدنى خوف أو اضطراب.. ورغم أنه كان يرى نفسه مُحاطًا بأعداء قد أعدوا العدة لقتله، رغم هذا كان يقف صامدًا جامدًا كالصخر لا يلين.. في النهاية حكمت عليه بالموت، ولم يكن في استطاعتي أن أفعل غير هذا، فكل الطرق التي كانت أمامي كانت تؤدي إلى هذه النهاية. برغم إن ألكساندر كان قد أخبرني أن يسوع منع الشعب من تنصيبه ملكًا عليهم مُستخدمًا في هذا كل قوته، كما أخبرني بأنهم اتهموه كذبًا لأنه لم ينادي بأنه هو المسيا أو المخلص الذي ينتظرونه" |
||||
02 - 07 - 2014, 03:35 PM | رقم المشاركة : ( 20 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب هناك كنت معه - أ. حلمي القمص يعقوب
دماء على الطريق الساعة الآن قاربت الحادية عشر صباحًا، وقد أمر قائد المئة بعض الجنود بإحضار ثلاث عارضات أفقية من المخازن العمومية، لأن العارضات الرأسية كانت تترك في مكان الإعدام، وأمر بإخراج ديماس وأماخوس اللصان من السجن، وأي قائد مئة روماني يعد هذه المهمة مهمة وضيعة، إذ يقود بعض الأشقياء للموت صلبًا، فأين هذا من قتال الميدان وصياح الفرسان وصراع الجبابرة؟! وحمل يسوع وكذلك اللصان كل واحد عارضة صليبه على كتفيه، وربطت يداه إليها، ويبلغ وزن العارضة نحو خمسين كيلو جرام، وسار اللصان في منتهى اللياقة إذ لم يعانيا أي عذابات ولا جلدات قاتلة كما حدث مع يسوع، الذي أحسَّ بثقل هذه العارضة كجبل جاثم على منكبيه اللتان شوهتهما الجلدات وحفرت فيهما أخاديد وجروح وتهتكات، وعندما تلامست مع سطح العارضة الخشن إلتهبت بنار الألم. وسار موكب الموت من دار الولاية يتقدمه أحد الفرسان ممتطيًا صهوة جواده في كبرياء يُعلن عدالة وقوة وسطوة روما، ولست أدري إن كان هذا الفارس مقتنعًا بما دار وما يدور أم لا..؟! يا أيها الفارس المغوار أشعرت بالعدالة المذبوحة..؟! يا أيها المتشدق بالحق لماذا تسير بافتخار وعنجهية في موكب الظلم والافتراء؟! وتقدم كل متهم جندي يحمل لافتة مدون عليها باختصار تهمته، وإذ لم يجدوا تهمة واحدة ليسوع البار كتبوا على لافتته " يسوع الناصري ملك اليهود " بثلاث لغات عبرية ويونانية ولاتينية، وبثلات عبارات "ملك اليهود"، "هذا هو ملك اليهود"، و"يسوع الناصري ملك اليهود" كل عبارة بلغة، والمعنى واحد، وكان هذا تهكمًا وسخرية باليهود الذين رفضوا الصفح عن يسوع البار، وهذا ما قصده بيلاطس من جانب، ومن الجانب الآخر حرم بيلاطس اليهود من فرصة الاحتجاج عليه لدى القيصر بأنه يوالي ملكًا آخر، فهوذا ملككم قد صُلِب، وشكايتكم ضدي قد ماتت، ولذلك عندما طالبه رؤساء الكهنة والفريسيون بتغيرّها قائلين له: لا تكتب ملك اليهود. بل إن ذاك قال أنا ملك اليهود.. ظهرت عليه إمارات الوالي الروماني العنيد وانتهرهم قائلًا: ما كُتِب فقد كُتِب، فقد تحمل بيلاطس ضغوطًا كثيرة من هؤلاء الجحود، ولم يعد بمقدرته أن يحتمل ضغطًا آخر، وقد أشار بيلاطس إلى هذه الحادثة عندما كتب لمعلمه سينيكا يقول "ثم هناك شيء آخر فاتني أن أذكره لك عن موضوع صلب يسوع، لقد علَّقت على صليبه لافتة تحمل لقب {ملك اليهود} وقد أثار هذا مشاعر الفريسيين الذي تمتلئ صدورهم رغبة جياشة في أن يوجد فعلًا ملك لليهود. أنه لمن دواعي سرورهم أن يروا حكم الرومان وقد انزاح عن كواهلهم ليحل محله ملك اليهود، ملك من طراز آخر غير طراز هيرودس نصف اليهودي، ملك من دم يهودي خالص يحكم الولاية عن طريقهم ويسحق الصدوقيين. لقد قابل هؤلاء الفريسيون اللافتة التي وضعتها على الصليب بغضب بالغ واستياء شديد، لأنها كانت تتضمن الإعلان بأننا أصحاب السلطان عليهم، كما أنهم اعتبروه تحقيرًا لهم وتصغيرًا من شأنهم أن يحمل مثل هذا المجرم لقب {ملك اليهود} وعندما أعربوا عن اعتراضهم قابلت اعتراضهم بحزم وقلت لهم إن ما كتبتُ قد كتبتُ وأمرتهم بالانصراف" (21). وسار خلف كل متهم عدد من الجنود يحرسونه، وإذ كانت قضية يسوع مثارًا للرأي العام لذلك كُثفت الحراسة في ذاك الموكب، فأحاط بهم عدد ليس بقليل من الجنود الأقوياء المسلحين تحسبًا لوقوع أي أعمال شغب من قِبل مشايعي نبي الناصرة، ومن شدة زحام الأعياد، أخذ الجنود يدفعون الناس المتطفلين دفعًا، وكل إنسان يحاول أن يختلس نظرة لأولئك الذين بعد ساعات سيذهبون إلى مدينة الأموات، ولاسيما معلم الجليل الذي طالما أشبع الآلاف، وعلَّمهم، وشفى مرضاهم، وأقام موتاهم، وبسبب كثرة الضجيج لم يلتفت أحد إلى يسوع الذي يناديهم في صمته: تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.. وأسرعت الأم العذراء الخطى نحو الموكب يصحبها يوحنا الحبيب، ولكن الجموع الهائجة الهادرة كانت تحول دون أن تدرك ابنها، وحانت التفاتة من يسوع إلى أمه الحنون التي يجوز السيف في نفسها.. التفاتة ملؤها الحب والحنان والشفقة، ففي آلامه يشفق على قلب الأم الذي يتمزق ألمًا، ولكن هذه الالتفاتة حملت في طياتها أيضًا الثقة، فكل الأمور مازالت وستظل داخل دائرة الضبط الإلهي، فلتطمئن الأم الثكلى، فلن تكون هذه المسيرة قط نهاية المشوار، وهمس أشعياء النبي في أذن العذراء " وتكون الرئاسة على كتفه "(أش 9: 6).. إن الملك في طريقه لإعلان ملكه ورئاسته. وأصرَّ رؤساء الكهنة ومشايعوهم من أعضاء مجلس السنهدريم، والكهنة واللاويين، والكتبة والفريسيين والناموسيين على الانضمام إلى موكب الموت وهم يشعرون بالنصرة والفخار، وتنتشي نفوسهم إذ حصلوا على ما يريدون بالضبط رغمًا عن أنف بيلاطس وهيرودس، ورغم إن جنود الحراسة كانوا يقظين إلاَّ إن بعض الغوغاء كانوا ينجحون في تسديد لكمة أو ركلة لأحد المتهمين، فسار اللصان وهما يلعنان ويسبان كل شيء، حتى يومهما المشئوم هذا. أما يسوع فسار في صمت منهك القوى.. لقد أمضى الأسبوع الماضي المشحون بالإثارة، وأمضى ليلة الأمس في المحاكمات الجائرة، وتعرَّض لعذابات وضربات ولطمات وجلدات وحشية، مما جعل قدماه الحافيتان تطبعان بصماتهما الدامية على أحجار الطريق، وقد تلطخ رداءه وتشبع بالدماء النازفة من أثر الجلدات والأشواك، فبدأ وكأنه يلبس ثوبًا من برفيل، ومازالت الأشواك مغروسة في رأسه وجبينه، ومع كل حركة تنزف وتنزف وتلتهب ألمًا، وتسيل الدماء على شكل خطوط لأسفل تلطخ وجهه وخصلات شعره، وتتساقط قطرات على الطريق فترسم طريقًا بالدم يمكن تتبعه من دار الولاية وحتى الجلجثة. وسمعتُ وسط هذا الضجيج صوت المحبة تنتحب.. في موكب نصرته تزاحم رجال أورشليم يهتفون له، أما في موكب صلبه فقد اختفى هؤلاء الرجال المغاوير، وجاءت النسوة اللواتي تدفعهنَّ محبتهنَّ الصافية الطاغية يبكين وينتحبن نبي الناصرة الذي طالما ملأ الدنيا كرازة وأشفية وعجائب، وهو مازال شابًا في عنفوان شبابه، عجزوا عن إدراك قضية الفداء، وإنه سلَّم نفسه لكل هذه الآلام بإرادته، وفي اليوم الثالث سينفض كل هذا ويقوم بعد أن يسحق رأس الحية، ويقهر الموت الذي دوَّخ البشرية، ويقتحم مملكة لوسيفر ويُحرّر من سبق وسباهم.. ويا لفرحة القيامة والنُصرة..!! توقف يسوع أمامهن، وبكلمات متقطعة وصوت متهدج قال: يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها. طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم تُرضع. حينئذ يبتدئون يقولون للجبال إسقطي علينا وللآكام غطينا لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس.. عجبًا.. كل الآلام التي تنهش في جسدك يا يسوع نهش الأفاعي لم تفلح في منعك من التعليم والتحذير: فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجرًا على حجر لأنك لم تعرفي زمان إفتقادك.. يوم تحاصر أورشليم.. يوم تحل المجاعة القاتلة فتجف الثدي من اللبن قوت الحياة، فيموت الأطفال.. يوم تأكل الأمهات أطفالهن ثمرة بطونهنَّ.. يوم يهدم تيطس الروماني المدينة والهيكل فخر الأمة اليهودية ويدوسه بالنوارج الحديدية فلا يبقى منه حجرًا على حجر لا يُنقَض.. يوم تتشابك الصلبان فوق تلال أورشليم مثل غابة كثيفة، حاملة خيرة شباب ورجال وأراخنة المدينة.. لأنهم إن كانوا فعلوا هذا برب الحياة فكم وكم بالجاحدين الذين قدموا عوض الخير شرًا، وعوض الحياة موتًا..؟! إن كانوا فعلوا هذا بالبار القدوس فكم وكم بالخطاة؟! وتابع الموكب المسيرة من دار الولاية إلى تل الجمجمة، نحو ثلاثة آلاف قدم، وهذا هو الطريق الأقصر الذي فضل قائد المئة أن يسلك فيه اختصارًا للوقت، بدلًا من الطريق العمومي الأطول والأشد زحامًا.. سار موكب الموت والحياة في طريق الآلام الضيق.. كثيرون يعتلون سطح المنازل ويطلون من النوافذ ليروا يسوع الناصري مقتادًا للموت، وكان الموكب ملفتًا للأنظار جدًا، فأي موكب إعدام هذا الذي تسير فيه كل هذه القيادات الدينية؟!! كما تجمع على طريق الدماء بعض من القطيع الصغير من أتباع يسوع المخلصين ومعارفه وأقاربه، وانبرت "فيرونيكا" إحدى الشابات اللاتي جرح المنظر فؤادها وفطر قلبها وكادت الدموع الغزيرة تمنع رؤيتها لمن حولها.. انبرت وتقدمت نحو يسوع بعمل المحبة الشجاع، فشكرها ومرَّ وعبر، وإذ على المنديل طُبع وجه من هو أبرع جمالًا من بني البشر بركة للأجيال.. انظروا هوذا الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته يئن تحت ثقل صليبه.. انظروا إلى ذاك الذي سيق كلص ومجرم خارج على القانون من البستان إلى قصر حنان إلى قلعة أنطونيا إلى قصر هيرودس إلى دار الولاية.. انظروا إلى ذاك الذي جاز في مهانة لا توصف وبهدلة تفوق الأوصاف، وقد جاز صنوف الآلامات والعذابات.. انظروا إلى موجات الألم العاتية، والرعدة العصبية التي تعصف بذاك الجسد الرقيق.. انظروا إلى عرقه يتصبب ممتزجًا بقطرات دمه ليصنع دواء لمن لدغته الحية القديمة.. انظروا إلى رأسه المبارك مكلَّلًا بطاقية الأشواك، وقد ترضض من الضربات، والدوار ألمَّ به " من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحَّة بل جُرْح وإحبْاط وضربة طريَّة لم تُعصر ولم تُعصب ولم تلين بالزيت" (أش 1: 6). انظروا إلى وجهه البارع الجمال وقد خطت عليه لطمات الجبابرة والدماء قصة الخلاص.. انظروا إلى عينيه المتورمتين اللتين لم تعدا تميزان الطريق.. انظروا إلى منكبيه، وظهره المنحني المسخن بالجراحات.. انظروا إلى نفسه التي أحناها الحزن الرهيب " أما إليكم يا جميع عابري الطريق.. تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني. الذي صنع بي الذي أذلَّني به الرب يوم حمو غضبه. من العلاء أرسل نارًا إلى عظامي فسرت فيها.." (مرا 1: 12، 13). انظروا إلى ذاك الذي في درب الهوان يسير، مكلَّلًا بالأشواك.. انظروا إلى ذاك الذي في صمت يتجرع كأس الألم، وإن كانت عيناه لا تذرفا دمعًا فإن جسده يذرف دمًا.. هذا هو يسوع النسمة الرقيقة.. الطهارة الكاملة.. المحبة الوديعة.. البسمة المفرحة.. يسير في طريق الآلام، وعلى طول الطريق تفوح رائحة المحبة الخالصة.. وإذ أُنهك يسوع إلى أقصى درجة وهو يحمل صليبًا خشنًا غليظًا، أخذ يترنح في طريق الدماء، واختل توازنه، وسقط على الأرض، وارتطمت رأسه بالأرض الحجريَّة، وارتطمت العارضة التي يحملها بجسده الجريح لتزيده سحقًا وعذابًا وأحدثت السقطات جروحًا في وجهه وركبتيه، ومن دراسة الكفن أصدر د. دافيد ويلز Dr. David Willis تقريره عن مدى الإصابات التي تعرض لها يسوع " انتفاخ في حاجبي العينين - تمزق في جفن العين اليمنى - انتفاخ كبير تحت العين اليمنى - انتفاخ في الأنف - جرح مثلث الشكل على الخد الأيمن متجهًا بقمته نحو الأنف - انتفاخ في الخد الأيسر - انتفاخ في الجانب الأيسر للذقن" (22). وما كان من الجنود القساة إلاَّ أن ألهبوا ظهره الجريح بالسياط، ويداه المقيدتان إلى العارضة لا تساعدانه على النهوض، فانحنى جنديان يساعدانه في حمل العارضة، وهو يحاول وينجح في النهوض، ويلهث حتى صارت أنفاسه متقطعة، وصدره يعلو ويهبط بسرعة كبيرة، وتوقع البعض له الموت قبل الوصول إلى الجلجثة.. وتكرَّرت السقطات، وبعد عبور بوابة أورشليم سقط سقطته الأخيرة، وعجز عن النهوض ثانية بصليبه، فالروح مازال نشيطًا ولكن الجسد وصل إلى حالة رهيبة من الإعياء.. آه للقوي الجبار الذي سقط تحت ثقل خطايا العالم كله.. آه لو شاء أن يبيد المحيطين به بنفخة منه، بل لو شاء أن يبيد البشرية جمعاء.. لفعل!! ولكنها ربك المحبة.. حقًا لقد وقف جند السماء في دهشة وذهول وقد اقشعرت أبدانها.. حشود الملائكة تريد أن تزود عنه، ولكنها مضبوطة بكلمته.. ليس لها إلاَّ أن تجثوا له في كل خطوة وكل سقطة تقدم له العبادة بكل خشوع وإجلال وتوقير وتعظيم.. حقًا إن سكان الأرض لا يدركون مدى الدهشة التي ألمت بجيوش الملائكة وهي تقف في حيرة لا تقدر أن تدافع عن بارئها، لأن هذه هي إرادته ومشيئته، ولا تقدر أن تغمض عيونها عن أفظع وأبشع منظر في الوجود كله.. لماذا كل هذه العذابات..؟! أهذا كله من أجلي؟!! وشعر قائد المئة أنه لم يعد لدى يسوع أي جهد لمواصلة المشوار والصعود إلى تل الجمجمة، وإن ضربات الجند لن تفلح هذه المرة في إنهاضه، فنظر حوله وإذ إنسانًا قرويًا مفتول العضلات عائدًا من الحقل، وقد مال لينظر هذا المنظر العجيب، فدعاه وسأله عن اسمه.. سمعان القيرواني.. فسخَّره ليحمل العارضة الخشبية الثقيلة.. وانحنى سمعان عن طيب خاطر وفك يدي يسوع من الرُبط التي تربطه بالعارضة، وحملها عنه، وكأنه لا يحمل شيئًا.. وكم تمنى لو أنه يقدر أن يحمل يسوع أيضًا ويركب أجنحة الريح ويهرب من ساحة الموت.. ولكن الأمر المدهش والذي يثير في النفس مشاعر ما بعدها مشاعر هو تمسك يسوع بصليبه.. إنه التصق والتحم بالصليب.. ربط المحبة طوقته وربطته بإحكام نحو صليبه، فأخذ يجد ويجاهد ويعافر ويحاول أن يشارك سمعان في حمل الصليب.. سار الاثنان جنبًا إلى جنب، ويد يسوع على كتف سمعان وكأنه يقص عليه ما كان، وما هو كائن، وما هو عتيد أن يكون.. صار الاثنان يرفعان الصليب وكأنهما يلوّحان به رآية خفاقة في الطريق إلى الجلجثة، وهكذا ينبغي أن تظل راية الصليب مرفوعة إلى نهاية الدهور، بل وفي الحياة الأبدية أيضًا.. إنها علامة النصرة والقوة.. علامة التمسك بالمبادئ مهما كانت التكلفة.. علامة الإصرار مهما كان الصليب قاسيًا.. علامة الفخار والانتصار.. أما سمعان هذا فقد صار فيما بعد من أتباع يسوع المصلوب هو وزوجته وولديه الكسندروس وروفس، فيقول بولس الرسول لأهل رومية " سلموا على روفس المختار من الرب وعلى أمه أمي" (رو 6: 13). |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|