الفصل الحادي عشر
لكي نعود إلى الفردوس
إنَّ كل أعمالنا في هذه الحياة لها هدف وطرق لإنجازها، كذلك الحياة الأبدية لها قوانينها وتداريبها الخاصة، فما هى الوسائل التي بواسطتها يستطيع الإنسان أن يعود إلى مسكنه الأول؟ وسائل كثيرة أهمها الآتي:
أن يكون الله هدفك
إنَّ سر الإنسان يمكن أن يُفهم فقط، إن وضعته في علاقة مع الله، لأنّ الحياة في طبيعتها هبة ونعمة، وليست متاعاً يُمتلك، والعلاقة الحقيقية تقوم على الإيمان بالله، لا على المعرفة المُنطلقة من الأنا، لأنَّها تحوّل الحياة إلى مادة يسعى الإنسان جاهداَ لكي يمتلكها!
نعترف بأنَّ الله قد خلق الإنسان، وأعطاه القدرة لكي يختار هدفه ويصوغه بالطريقة التي يرغبها، لاشك أنَّ هذا الأمر يُشكّل صعوبة كبيرة للإنسان، فهو يعني أنَّ عليه أن يُميّز بين الأهداف التي لها قيمة والتي ليست لها قيمة، وعليه أن يختار ما يشعر أنَّه مستوجب الاهتمام أكثر، الحيوان قد يفشل في إكمال غايته ولكنَّه لن يُعاقب بعد موته، ولكن أنت وأنا يمكننا أن نحيا بطريقة خاطئة، وأن نختار الهدف الخطأ، أو نصعد الجبل الخطأ ونصل إلى القمة الخاطئة، ولكننا في الدينونة سوف نُعاقب لأننا قد أخطأنا الهدف.
والحق إن أعظم هدف يمكن أن يختاره الإنسان في الحياة هو الله، حيث الحب والحنان والفرح والعزاء.. إن كنت فقيراً يُغنيك! أو مريضاً يشفيك! أو حزيناً فيسكب عليك من دهن البهجة والفرح!
كم من جياع أشبعهم من دسم نعمته، وكم من عراة كساهم بثوب بره، وكم من عطاش سقاهم بكأس حُبّه، هؤلاء غير المتعبين الذين أراحهم، والمتضايقين الذين عزَّاهم، والساقطين الذين أقامهم، والمرضى الذين شفاهم...
إنَّ الحياة مع الله مملؤة نوراً وضياء، وينبعث منها عطور البر والقداسة، إنَّها ميناء هاديء كل مَن يصل إليه يكون قد وصل إلى بر السلام.. أمَّا العالم فهو يُشبه بحراً كبيراً على سطحه تتراقص الأمواج، ولكنَّها سرعان ما تتوارى وتغوص في القاع، فتحل أمواج أُخرى محلـها، فلا تلبث هى الأُخرى أن تختفي... وهكذا يظل الإنسان يلهو ويعبث بلذات لا تدوم، إلى أن تنتهي حياته التي لم تكن سوى فراغ محض!
إنَّ من صار الله هدفه، فلن يشتكي من أنَّ الحياة لا معنى ولا قيمة لها، من صار له المسيح هدفاً يبدأ رحلة تؤدي به إلى الأبدية والحضرة الإلهية.
ممارسة الأسرار
أنت أخذتَ أعظم شرف ألا وهو: أن تصير ابناً لله، وذلك من خلال المعمودية، ولكننا كبشر ستظل طبيعتنا معرّضة للأهواء، التي تعوق اختراق أنوار الثالوث القدوس، فما هو الحل؟ أعطانا الله الأسرار المقدسة ووسائط النعمة، لكي نحافظ على الحياة الجديدة ونتجدد بمداومة حتى لا نفنى مرّة ثانية.
وتُعد الأسرار هى المدخل إلى الحياة الروحية، ووسائط النعمة هى التي تقوينا وتساندنا في جهادنا، ليس ضد البشر والشيطان فقط بل ضد الذات نفسها، التي هى أكبر عدو للإنسان! فإن أهملها الإنسان لا يكون قد عصى الله فقط، بل وأضر بنفسه أيضاً، ولهذا نقول إن الوسائط الروحية هى ثدي حيّ منه نشرب حليب النعمة الإلهية، فنتغذى وننمو ويتقوى إيماننا ونثبت في الإيمان والرجاء والمحبة.. ونستطيع أن نشبهها بالأسلاك التي توصل إلينا تيار الروح القدس، أو النبع الذي عن طريقه يصلنا ماء الحياة، فإذا قُطعت الأسلاك توقف التيار وساد الظلام، وإذا انسد النبع لا يصلنا الماء، ونحن نعرف أنَّه حيث لا ماء لا حياة!
ولعل أجمل ما في الوسائط أنَّها تجعل الإنسان في لقاء دائم مع الله، وفي مثل هذه اللقاءات الروحية، يظل الشيطان يجول هنا وهناك حائماً حول رأسك، ولكنَّه لا يجرؤ أن يقتحم غرفة مسكنك، وإن تجرأ فسرعان ما يتركك، لأنه لن يجد مكاناً يُعشعش فيه سواء في رأسك أو في قلبك.
نقاء الفكر
إنْ أردنا أن نرجع إلى الفردوس علينا أن نرجع إلى سبب الخروج من الفردوس، فآدم انحرف بالفكر عندما اشتهى الأُلوهة، فلكي يعود إليه عليه أن يُقدّس فكره أولاً، لأنَّ مشاعرنا وتصرفاتنا كلها نابعة من أفكارنا، ولهذا فإننا لن نتغير قبل أن تتغير أفكارنا، ولهذا يقول مُعلمنا بولس الرسول: " مُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ " (2كو5:10)، ولكي نكون حذرين ونعمل أعمالنا حسب إرادة الله، لابد أن نضع الله في تفكيرنا، كمثل الفنان الذي إذا أراد أن يعمل أيقونة جميلة لشخص ما، وضعه أمام عينيه وفي ذاكرته، حتى يستطيع أن يتقن الشكل، لأنَّه لو لم يفعل هذا فإنَّه سيصنع شيئاً آخر.
وبنفس الطريقة وجب على كل المؤمنين أن يُكرّسوا كل أفكارهم وطاقاتهم، حتى يحققوا مشيئة الله، بكل حرص ونشاط حتى ينالوا إكليل الحياة الأبدية، ولهذا يقول داود النبيّ " جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ " (مز16: 8).
ولأنَّ أفكارنا نابعة من معتقداتنا، لذلك يجب علينا أن نعرف من هو المسيح؟ ولماذا تجسّد؟ وما هى تعاليمه..؟
هناك أشياء كثيرة تجذب الفكر وتأسره أخطرها: المال، الشهرة، الجنس، وكل هذه المغريات تُمثّل عوائق يجب تجنّبها أو تخطّيها من أجل تحقيق نقاوة الفكر.
ويُعد الطمع في الشهرة من أصعب العوائق، التي تقف حاجزاً على الطريق، لكل من يريد أن يحيا حياة روحيّة سليمة، لأنَّه رغبة متأصلة ولها جذور في الفكر البشريّ الساقط، ولهذا يجب التخلّص من هذه الرغبة من أجل نقاوة الفكر لكي نسير بحرية نحو الله.
يقول القديس باسيليوس
لو لم نتحاشَ الأفكار التي تستحوذ على عقولنا، لا يمكن أن نفرّح قلب الله، فيجب أن نفكّر بطريقة أُخرى كأننا لعالم آخر، ولكي نصل إلى هذه الدرجة، لابد أن نكون يقظين، ونتحفّظ جيداً بالتفكير النقي في الله، حتى ينطبع في أرواحنا كختم لا يُمحى.
طهارة القلب
إذا أردتَ بالحقيقة أن تكون روحك شبيهة بروح الله، ومتحررة من الغرائز، حتى تستطيع أن تصل إلى الحياة الأبدية، فلابد أن تكون طاهراً في كل أُمور حياتك وطباعك، وتظهر طهارتك في كل شيء تفعله، لأنَّ شهوة الزنا من الممكن أن تُرتكب بالكلام، وأيضا بالنظر، بل وأيضا بالسمع، ويصير القلب كله دنساً وملوثاًً، ولهذا يأمرنا السيد المسيح بألاَّ نبتعد عن الزنى فقط بل وعن النظرة الشهوانية التي تقود إلى الزنى فيقول: " كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ " (مت28:5).
إنَّ الله كليّ القداسة فإن أردتَ أن تحيا معه، يجب أن تكون نقياً من أيّ رذيلة، حتى التي تبدو صغيرة أو تافهة في أعين مرتكبيها، وليستْ من الأهمية حتى يجاهد الإنسان، لكي يتوب عنها ويتخلّص منها! مثل الكذب الذي يُطلقون عليه الكذب الأبيض! أو مسك سير الناس، التي يعتقدون أنَّها من سمات القوة والشهادة للحق! والتدخين الذي يتوهّم البعض، أنَّه من علامات الرجولة، خاصة المُراهقين والحِرفيين وغير المتعلمين! لأنَّ الوقوع في أيّ من هذه يعتبر خطراً على حياتك الروحية، لأنَّ هذه التصرفات المرذولة تُُدنّس نقاوتك، وتُُبعدك عن الطريق السمائيّ.
إذاً، كل الذين يُتطلعون إلى السماء، ويُريدون أن يكونوا مثل الملائكة، عليهم أن يتطهّروا أولاً، لكي يعبروا إلى مرتبة الروحانيين، وهذا لن يتحقق إلاَّ إذا كانوا يقظين، ويحترسون أن لا يدنسوا ذواتهم التي هي آنية لله وهياكل للروح القدس " أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ هَيْكَلَ اللهِ فَسَيُفْسِدُهُ اللهُ لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ (1كو16:3).
أمَّا الذين يُعرّجون بين الفرقتين، ويمزجون بين حياة العالم والحياة المقدسة مع الله، فهم يُشبهون من يلبس جلد النمر، الذي شعره ليس أبيضَ ولا أسودَ، بل هو خليط من البقع السوداء والبيضاء، ولذلك لا تستطيع أن تصفه بدقة.
قد يبدو الأمر صعباً بل مستحيلاً، في عالم يُمجّد اللذة ولكن من يضع المسيح أمام عينيه، ويكون هو غايته وموضع حبّه، فإنَّ نوره سوف يسطع وسط ظلام الشر لينقذه، وفي كل عاصفة يكون ملجأه، وفي الضعف قوته، وفي الجوع خبزاً، وفي الموت حياة وراحة أبدية له.
والحق إنَّ الله يمنح الذي يلتجيء إليه استقراراً روحياً به يتخطى كل الآلام ، حتى عندما يتعثّر في طريقه الروحيّ، سيجد طريقاً إلى الخارج, مخرجاً من الخطية, مخرجاً من الذنب.. فحياتنا تجديد دائم وشفاء مستمر، والمسيح قد جاء لكي يرفع البشرية الساقطة إلى الحياة السمائية.
الجهاد القانونيّ
كلُنا نبتغي الوصول إلى مملكة السماء، ولكننا نهمل الأشياء التي تضمن لنا الوصول إلى هناك، وبالرغم من أننا لا نعمل أيّ مجهود لتنفيذ وصايا إلهنا، مازلنا نتصوّر أننا سنكسب تلك الأمجاد، كالذين حاربوا ضد الخطية باستمرار حتى الموت!!
كيف يملأ أيديهم بحزم القمح الذين في وقت الحصاد تملكهم الكسل فجلسوا في البيت لا يفعلون شيئا؟! كيف يجمع العنب من الكرمة الذي لم يزرع ويروِ ولم يبذل أيّ جهد؟ كيف ينال أحد إكليلاً دون أن يستعد أولاَ ليقابل خصمه؟ أيكفي أن نكون مسيحيين بالاسم لكي ننال الحياة الأبدية؟ أعتقد أنَّ الله يبحث عن أعمالنا ونقاوة قلوبنا وإيماننا..
نعترف بأنَّ الذين يعملون يجنون الثمار، والذين ينتصرون يُتوَّجون في النهاية، إلاَّ أن الجهاد يجب أن يكون في ضوء الوصايا الإلهية - لأنَّك لو عملت بحسب عقلك فقط فسوف تسقط في فخاخ كثيرة - وبوعي تام للغاية التي يتوخّاها، وحُب عميق للهدف الذي يُريد الوصول إليه.
ولكن لماذا الجهاد؟ لا شك أنّ الجهاد يُحرر النفس من سيطرة الأهواء التي تستعبدها، والأطماع الأنانية التي تقود إلى الفوضى والفساد.
ولا خلاف على أننا بشر ضعفاء، ولا يمكننا النمو ونصل إلى الكمال الذي يُريده لنا الله، ما لم نُخضِع ذواتنا لجهود كثيرة في أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا، فالجهاد يهدف إلى تحقيق كمال الشخصيّة الإنسانيّة.
ولا يقتصر الجهاد على المستوى الروحيّ فقط، بل يمتد ليشمل كل نواحي الحياة، فالرياضيون يمرّنون أجسادهم من أجل الوصول إلى نتائج متفوّقة، ورجال العلم يقضون السّاعات الطوال في تجارب واختبارات مختلفة، لاختراعِ ما يخدم البشريّة.
وكما أنّ الزوج والزوجة يبحثان بصبر عمّا يخلق في العائلة جوّاً من الحب والسعادة، كذلك المسيحيّ الذي يريد أن يكوّن في نفسه صورة الله لا بدّ له من أن يُخضِع نفسَه لجهاد طويل ضدّ نزوات النفس.