كتاب الأساقفة القديسون الأربعة باسم إغريغوريوس - المقدس يوسف حبيب
القديس أغريغوريوس الثاؤلوغوس بطريرك القسطنطينية
(النزينزى، بالناطق بالإلهيات)*
نشأته:-
كان أبوه أسقف نزينز واسمه اغريغوريوس أيضًا، وأمه "نون Nonne”، وهما قديسان تكرمهما الكنيسة. الستدرت أمه بركات السماء لأسرتها بحسناتها الكثيرة. ولم تحل محبتها للفقراء دون القيام بواجبات البر نحو أولادها، فعرفت كيف تحافظ على أموالهم وأيضا تزيدها بتدبيرها الحكيم. وكانت التداريب التقوية تستغرق جزاء كبيرا من وقتها، ولكنها كانت شديدة الحرص على القيام بواجباتها.
وكان أغريغوريوس زوجها يتبع الخزعبلات الوثنية منذ طفولته. وصار المستشار الأول لمدينة نزينز، وكان يقوم بواجبات وظيفته بأمانة، وكانت له كل الفضائل الأدبية التي يمكن أن يتصف بها شرفاء هذا العالم، ولم يكن ينقصه سوى أن يكون مسيحيا. وكانت "نون" Nonne تلجأ إلى الدموع والصلوات إلى الله لكي تفوز بتحوله، واستجيب الدعاء أخيرا. فأنكر زوجها الديانة الوثنية، واعتمد في "نزينز" Nazianze حوالي سنة 325. وحرص على الحفاظ على نعمة المعمودية، فاستحق بعد ذلك أن يعتلى كرسى "نزينز" الأسقفي، وحكمها حوالي خمسة وأربعين سنة. ثم تنيح وعمره تسعين سنة. ونقرأ في مؤلفات إنه تفصيل فضائله، لاسيما حماسه وتواضعه.
وأنجب قبل أن يصير أسقفًا ثلاثة أطفال: ابنة تدعى "جورجونى" Gorgonie، وابنين هما اغريغوريوس و"سيزير" Cesaire. ولقب القديس اغريغوريوس بالناطق بالإلهيات بسبب معرفته العميقة بالدين، وقد ولد سنة 329(1) في قرية "أزينز" Azianze في منطقة "نزينز" Nazianze بالقرب من مدينة قيصرية في كبادوكية (تركيا حاليا). وقد ربته كما ربت إخوته أمه التقية "نون" بنفسها في التقوى وعلمتهم قراءة الكتب المقدسة.
ويعد اغريغوريوس ثمرة صلوات أمه، ولذلك كرسوه للرب منذ ولادته. وكان يتجاوب تجاوبا كاملا مع العناية التي يبذلها والداه لتدريبه في الفضيلة. وكانت معرفة الله هدفه الرئيسي من وراء الدراسة. وحتى ينمو أكثر فأكثر في المعرفة، عود نفسه المواظبة على قراءة الكتب التقوية. وقد رأى في شبابه حلما عجيبا رواه لنا بهذه الصورة. قال:
"بدا لي إني أرى امرأتين ذات جمال نادر، إحداهما تمثل البتولية، والأخرى ضبط النفس، وكانتا تلاطفانى كابن لهما وتدعواني إلى إتباعهما. قالتا لي: تعال معنا وسوف نرفعك إلى نور الثالوث الأقدس الأزلي".
ومنذ ذلك الحين صارت رغبة اغريغوريوس شديدة في حياة التبتل. ونعرف من مؤلفاته انه كان على الأخص يميل إلى هذه الحالة المقدسة. فوصف امتيازها ومزاياها وصفا مطولا. وهو يتكلم بحماس شديد عن الالتزام بالحفاظ على نذر البتولية، ويدعو الحنث بهذا النذر موتا، وانتهكات للقديسات، وغدرا.
ذهابه إلى أثينا: ولما أكمل تعليمه بالقدر الممكن في مسقط رأسه، ذهب إلى قيصرية فلسطين، وذهب أخوه "سيزير" Ceasiro إلى الإسكندرية. وكانت في قيصرية المدرسة الشهيرة التي أسسها أوريجانوس، ومكتبة تلميذه القديس الشهيد "بامفيل" Pamphile الشهيرة. ومن فلسطين ذهب إلى الإسكندرية لزيارة أخيه "سيزير"، وقضى بعض الوقت معه، وبعد ذلك أبحر إلى أثينا التي كانت تعتبر دائما مركز المعارف والآداب.
لم يكن الوقت مناسبًا، فقد هبت عاصفة استمرت عشرين يوما. وفي لحظة ما امتلأت السفينة بالماء: حينئذ دعا البحارة والربان ولم يكونوا عند ذاك يعترفون بأي إله، دعوا جميعا الرب يسوع المسيح بصوت عال، فنجت السفينة. ولكن الماء العذب كان قد نفذ، إذ أن الأوعية التي كانوا يحتفظون فيها بالماء العذب كانت قد سقطت في البحر على أثر هزة عنيفة أثناء العاصفة. ثم تقابلوا مع سفينة تجارية فينيقية، وكان ركابها ذوى مروءة وشجاعة فأعطوهم ماء عذبا. ولكن العاصفة لم تهدأ، وفقد البحارة كل أمل. والشيء الذي كان يحزن اغريغوريوس أكثر من كل شيء، هو أنه لم يكن قد اعتمد بعد. وكان ألمه عظيما لدرجة أن البحارة أنفسهم كانوا يشفقون عليه. وكان يصلى إلى الله بدموع قائلا أنه يكرس من جديد حياته كلها، إذ خلصه من هذا الخطر. واستجاب الله صلاته وهدأت العاصفة. بل أكثر من ذلك حدث أن كل الذين كانوا معه في نفس السفينة آمنوا بالمسيح ووصلوا بسلام إلى اثينا.
إن القديس اغريغوريوس يتكلم عن هذه المدينة بحماس. ففي ذلك الحين كان هناك المعلمون الممتازون، ومن ضمنهم الخطيب "أنا طوليوس" Anatolius الذي جعله الإمبراطور قنسطننس حاكما، و"ديوفنط" Diophante الشهير مخترع علم الجبر، و"بروهيريزويوس" Proheresius أستاذ البلاغة الذي كان الإمبراطور قنسطنس قد استدعاه إلى بلاد الغال (فرنسا)، وعندما ر بروما ثانية، أعجبوا به درجة أن مجلس الشيوخ أقام له تمثالا كتبت عليه هذه العبارة:"من روما ملكة العالم إلى ملك البلاغة".
صداقته مع القديس باسيليوس: وازدادت سعادة اغريغوريوس كثيرًا بوصول صديقه باسيليوس. كان قد سبق تعارفهما، ولكن صداقتهما غدت حينئذ صداقة حميمة. فأقاما معا وكانا يتناولان طعامهما على مائدة مشتركة، وكانا لا يعاشران من زملائهما إلا أطهرهم وأهداهم. ويبدو أنهما ما كانا يعرفان سوى شارعين فقط من شوارع المدينة: الشارع المؤدى إلى الكنيسة والمعلمين الذين يعلمون الإيمان، والشارع الذي يؤدى إلى المدارس العامة والمعلمين الذين يعلمون العلوم البشرية. وكانا يتركان للآخرين الشوارع التي يذهب الناس عن طريقها إلى المسارح والملاهي العالمية.
كان اهتمامهما كله مركزا في تقديس الروح، وكان طموحهما الوحيد هو أن يصبحا مسيحيين حقيقيين. وكانا يجعلان في ذلك كل مجدهما. كانت حياتهما صارمة جدا، وما كانا يأخذان من المال الذي ترسله لهما عائلتهما سوى القدر الضروري لشراء احتياجاتهما التي لا يمكن الاستغناء عنها، وكان الباقي يوزع على الفقراء. فكانا هادئ النفس/ ولم يكن الحسد ليسبب لهما اضطرابًا: الخير الذي يحدث للواحد كان يسبب فرحا وسعادة للآخر. وكان الواحد يحث الآخر على فعل الخير. وفي غيرة مقدسة كانا يجتهدان في التفوق الواحد على الآخر في ممارسة الصوم والصلاة والتداريب التقوية المختلفة.
كانا رائدين من جهة التقوى، كانا أيضا أولين في العلوم والآداب. وأثارت تلك المعرفة الكثيرة وتلك الفضائل الإعجاب لدرجة أنه حيثما كان الناس يتكلمون عن أثينا وعن معلميها الماهرين، كانوا يذكرون الصديقين العجيبين باسيليوس واغريغوريوس، اغريغوريوس وباسيليوس.
وقد أضافا إلى هذه المعارف الثمينة، معرفة ضرورية أخرى، هي معرفة الناس. وجاء الإمبراطور يوليان إلى أثينا سنة 355، وتعرف عليه القديسان باسيليوس واغريغوريوس هناك، لأنهما درسا معه لبعض الوقت الكتب المقدسة والآداب. وبالرغم من تنكره، وبعده عن الناس كانوا يستشفون من منظره، اضطرابه النفسي.
وتوقع القديس اغريغوريوس في تلك الظروف سوءا وصرح بأن الإمبراطورية كانت تغذى وحشا في أحشائها، وكان يبنى تشاؤمه هذا على شيء عجيب مبهم يلاحظه الناس على ذلك الأمير. فكانت مشية يوليان مزعزعة، يهز أكتافه، ويحرك رأسه، وكانت عيناه تائهتين وقلقتين، يتكلم ويضحك كثيرا، وكان لسانه السريع لا يقوى دائما على متابعة أفكاره، فكان حديثه في بعض الأحيان متقطعا، وصوته مترددا، وكثيرا ما كان يسأل أسئلة ويرد ردودا لا معنى لها أو تنقصها الصحة.
مغادرته أثينا: وأخيرًا حضرت اللحظة المؤلمة. فقد عزم القديسان اغريغوريوس وباسيليوس أن يغادرا أثينا بعد الدراسة ويفترقا. وتأثرت كل المدينة. كان المعلمون والتلاميذ يحيطون بالصديقين ويستحلفونهما أن يبقيا في المدينة. وشرح باسيليوس أسباب رجوعه إلى وطنه في بيان جعلهم يدعونه يذهب بالرغم منهم، ولكنهم استبقوا اغريغوريوس وألزموه قبول وظيفة أستاذ البلاغة. ولم يكن ذلك لوقت طويل، لأنه بعد قليل إنسحب في غير ضجيج لكي يذهب إلى صديقه في كبادوكية.
ووصل القسطنطينية في نفس الوقت الذي وصل فيه أخوه الطبيب إلى الإسكندرية. وكانت شهرة "سيزير" أخيه حينئذ عظيمة جدًا، حتى أن مستشارى القسطنطينية عرضوا عليه لكي يستبقوه في تلك المدينة وكفلوا له مرتبا كبيرا وزيجة ممتازة ووظيفة عضو في مجلس الشيوخ. وبناء على طلبهم أعطاه الإمبراطور قنسطنس خطابات تخول له أن يكون من مواطني المدينة، وعينه طبيبه الأول. ومع ذلك استطاع اغريغوريوس أن يقنع أخاه بأن يرجع معه إلى مسقط رأسيهما ويكرس فنه له.
أما اغريغوريوس، فقد أراد أشخاص كثيرون أن يقنعوه بالمعيشة في القسطنطينية. كانوا يقولون له يمنك أن تنضم إلى هيئة المحامين أو تدرس البلاغة، وسوف تكون لك بذلك فرصة لإظهار مواهبك، فتتقدم سريعًا في العالم. ولكن لم تستطيع هذه الأحاديث أن تبهر القديس، وكان رده. انه ينظر إلى أبعد من ذلك، وأن هدفه ألا يعيش سوى لله.
عماد القديس وتجديد حياته: وكان أول ما فعله عند وصوله إلى نزينز أن يتقبل سر العماد من يد والده ومنذ ذلك الحين كرس نفسه كلية لخدمة الله. وقد قال: "لقد أعطيت كل ما لي إلى الذي أخذته منه، وقد أتخته وحده نصيبا لي، وكرست له كل أموالى ومجدي وصحتي ولساني ومواهبي. وكل الثمر الذي نلته من هذه المميزات يكمن في غبطتي باحتقار كل هذه الأشياء من أجل محبة الرب يسوع المسيح".
وإذا كان قد مات عن العالم وعن كل مسراته، لم يكن يتحمس إلا من أجل الأمور الإلهية. كان طعامه الخبز والملح. وكانت ملاسة رديئة، وكان يفترش الأرض الجرداء. كان يشغل نفسه أثناء النهار بأعمال مضنية، وكان يقضى جزءا كبيرا من الليل في الصلاة أو في التأمل في الكمالات الإلهية. وبدت له البلاغة الدنيوية التي كان قد درسها لمدة طويلة، وكذلك الأموال، كأشياء أحرى بها الاحتقار. وقطع الدراسات لكتب المعارف الدنيوية. وكتب فن البلاغة أيضا، تركها كما يقول هو نفسه فعبث بها الدود والعث. وما ضروب الكرامة في نظره إلا أحلام باطلة تغرى الناس، كان يحذر من الحفر التي يحفرها الطموح تحت أقدام عبيده لم ير فيه شيء يدل على تعلقه بالعالم وكأنه خارج العالم، وليس له من حديث سوى حديث السماء.
ولم يمنعه ذلك من الاهتمام ببعض الوقت بإدارة منزل والده وأعماله. وقد أختبر بأمراض قاسية. وكان اضطراب صحته نتيجة تقشفاته ودموعه التي كان باستمرار يسكبها بغزارة، حتى أنها كانت تمنعه أحيانا من النوم. كان يتهلل في اسقامه التي تعطيه الفرصة ليمارس النسك وإنكار الذات. كان يندد بمرارة بالضحك الكثير أيام شبابه، الذي كان مرده إلى طبعه المفرط في المرح. ومن كثرة معاركه، وصل إلى ضبط حركات الغضب الغير إرادية، وصار مالكا لنفسه لدرجة أنه أصبح لا يبالى بكل الأمور التي كانت فيما مضى أكثرها تقبلا عنده. ولقد جعلته صدقاته المستمرة أفقر الناس، وذهبت أمواله لكل الذين في حاجة كمثل البناء لكل الذين في البحر. وليس أحب إليه من العزلة والصمت. كان يئن للاضطرابات التي تجرها الرغبة في الكلام، ولتلك العادة الرديئة التي كانت لبعض الناس، يريدون لأن يجعلوا أنفسهم سادة الجنس البشرى.
مضى زمن طويل والقديس اغريغوريوس يرغب في قطع كل ارتباط مع الناس، لكي يتفرغ بأكثر حرية لخدمة الله. وحتى يشبع هذه الرغبة، ذهب سنة 358 لينضم إلى القديس باسيليوس الذي كان يحيا حياة التوحد، بالقرب من ترعة "ايريس" Iris في مقاطعة "بنط" Pont. كانت الأسهار والأصوام والصلوات مصدر لذة بالنسبة لهذين الرجلين العظيمين، وكان يضيفان إلى ذلك عمل الأيدي وترتيل المزامير ودراسة الكتاب المقدس.
رسامته قسا: ولم يبق القديس اغريغوريوس في الوحدة سوى الوقت الكافي الذي يجعله يتذوق حلاوتها. ثم طلبه أبوه الذي كان عمره أكثر من ثمانين سنة، ليساعده في إدارة أبروشيته. وحتى يكون عونا له، رسمه قسا بالرغم منه، في الوقت الذي مان لا يتوقع فيه ذلك. وقد أتبع هذه الطريقة لأنه كان يعرف موقف ابنه تجاه الكهنوت، ويعلم الصعوبة التي كان لابد من مواجهتها لإقناعه بأن يتقبل وضع الأيدي. ويذكر المؤرخون عامة هذه الرسامة على أنها تمت في يوم الميلاد من سنة 361.
وقد شكا القديس من هذا القهر. ولم تكن له تعزية بسبب رسامته، فهرب وذهب لمقابلة صديقه القديس باسيليوس لكي يشكو له الألم الذي يحزنه. كان الكثيرون لا يوافقونه على تصرفه فكان بعض الناس يقولون أن هروبه يرجع إلى الكبرياء والعناد أو إلى سبب آخر مماثل. وسرعان ما حكم القديس اغريغوريوس على نفسه، واستوحى تأملات أخرى من عقوبة يونان النبي إذ عوقب لأنه عصى أوامر الله، فرجع إلى نزنيز وكان قد غاب عنها لمدة عشرة أسابيع، ووعظ بها لأول مرة في يوم عيد القيامة.
وتبع هذا المقال مقال ثاني بعنوان "دفاع" برر فيه القديس هروبه. ان مادة هذا المقال هامة جدا. وفيه يتكلم القديس اغريغوريوس عن كرامة الكهنوت وما له من الخطر، وعن واجبات الكهنة، وعن القداسة المطلوبة للتقرب من الهيكل، وللوقوف أمام الله الذي هو الطهارة ذاتها. كذلك يتكلم عن صعوبة توجيه الضمائر، وإعطاء الأدوية المناسبة لمختلف أمراض الأرواح، وعن العلم اللازم للكهنة المقدسين حتى يستطيعوا أن يقطعوا شكوك المؤمنين ويدحضوا الضلالات. ويخرج من هذه التفاصيل جميعها أنه كان محقا فيما توجسه من خوف وهو يرى الحمل الذي هموا أن يحملوه إياه، وأنه كان يلزمه على الأقل أن يستعد لبعض الوقت للكهنوت بالصلاة والتوبة والتأمل. ويضيف إلى ذلك قوله: "أن خشية الحساب الرهيب الذي يطلبه الله عن قيادة الأرواح كان حقا ما جعلني أرفض هذا العمل لبعض الوقت، ولكن، مثل يونان آخر، عدت لكي أكمل واجبات الدعوى التي دعيت إليها، وأرجو أن تسندني الطاعة وسط الأخطار وتكون سببا وسط الأخطار وتكون سببا في أن يعطيني الله النعم التي أحتاج إليها".
حكمته في مساعدة والده الأسقف: في المقال الذي تكلمنا عنه هنا، يمدح القديس اغريغوريوس كنيسة نزنيز من أجل وحدة أعضائها وتعلقهم بالإيمان الصحيح. وللأسف قد اضطرب حبل هذه الوحدة عند نهاية عهد يوليانوس. فقد وقع أسقف نزنيز (والد القديس) على خطاب كتبه أتباع الأريوسية السريين، كتب بعبارات مشكوك في صحتها وفعل ذلك من باب المجاملة لبعض الأشخاص الذين كان يرجو أن يدخلهم إلى حظيرة الكنيسة، ولكن هذا المسعى المتهور قد أعثر أتباعه، وقد رفض أكثرهم حماسًا، وبالأخص الرهبان، أن يتجاوبوا معه.
وإذ رأى ابنه العواقب الوخيمة التي عسى أن تكون وراء هذا الانقسام، جعل كل همه في وأده منذ البداية، واستطاع أن يقود الناس بمهارة حتى صالح تماما الرعية مع الراعي. وجمع في ذلك بين الحزم والوداعة، حتى أنه لم يعط بالا لضلالة أولئك الذين جروا والده إلى الخطأ حتى انتزعوا منه توقيعه مما جعل الناس يشكون في صحة إيمانه. وقد ألقى خطابا رائعًا بمناسبة إعادة السلا في كنيسة نزنيز.
وبعد وفاة يوليان ببعض الوقت وضع القديس كتابين ضد هذا الأمير المرتد عن الإيمان. وهو يتكلم فيهما بنفس القوة التي عول عليها الأنبياء عندما كانوا، بأمر الله، يوبخون الكفرة من الملوك على جرائمهم. وكان هدفه الوحيد هو الدفاع عن الكنيسة ضد الوثنيين، يكشفه ما كان عيه أكثر مضطهديه خطرا من الظلم والضلال والنفاق.
رحيل أخيه وأخته: وفي نهاية الأمر شهد القديس اغريغوريوس أخاه سيزير يرحل من العالم، وتعزى انه لا يحيا إلا الله، اختطفه منه الموت في بداية سنة 368 ودفن سيزير في نزنيز، وأقرت الكنيسة تكريمه. وقد ألقى القديس اغريغوريوس خطابا يرثيه فيه، ويشير في التنويه بفضائله انه وسط الكرامات، كان ينظر دائما إلى فضل كونه مسيحيا كأنه أول الكرامات وأن في ذلك أمجد كل الألقاب.
وقد ألقى القديس اغريغوريوس أيضًا خطابا يرثى فيه القديسة "جورجونى" أخته التي توفيت بعد ذلك بقليل، وفيه يكشف عن حرارة صلاتها، وتواضعها. وطاعتها واحترامها للكهنة وللأمور المقدسة، وكرمها نحو الفقراء، وتقشفاتها، وحماسها من أجل تربية أولادها الخ.. ويعتبر القديس فيه شفاء الشلل الذي أصابها، أثناء صلاتها أمام المذبح،
أمرا معجزيًا، وكذلك حفظ حياتها بعد الجروح الخطيرة التي أصيبت بها أثر سقوطها من عربتها.
الأسقفية: وفي سنة 372 انقسمت كبادوكية بأمر الامبراطور إلى مقاطعتين. فكانت عاصمة المقاطعة المسامة المقاطعة الثانية هي مدينة "تيان" Tyane وقد سبب هذا الانقسام في اضطراب الكنيسة. كان "أنثيم" Anthime أسقف "تيان" يزعم لنفسه الرئاسة على كبادوكية الثانية. وقد اعترض القديس باسيليوس على هذا الزعم، وطالب بحقه كرئيس أساقفة قيصرية، واحتج بأن التقسيم المدني لا يحرمه من صفته كأسقف كبادوكية. ولكن محبته للسلام جعلته فيما بعد يقدم بعض التنازلات، فوافق على اعتبار كرسى "تيان" كعاصمة كبادوكية الثانية.
وفى إبان النزاع، اختار القديس باسيليوس صديقه أغريغوريوس، أسقفا على مدينة "سازيم" Sasimes، التي كانت في المقاطعة موضوع النزاع. وعارض اغريغوريوس هذا الاختيار. ولكنه نزل عن رأيه أخيرا لسلطة أبيه مجتمعة مع سلطة صديقه. وقد رسمه القديس باسيليوس في قيصرية في منتصف سنة 372. وبعد الاحتفال رجع إلى نزنيز لينتظر فرصة مناسبة لدخول الكنيسة، ولم تسنح هذه الفرصة أبدًا. فقد منعه أنثيم من الدخول إلى "سازيم"، وكان أسقف "تيان" هذا قد كسب الحاكم الجديد لصالحه، وكان مسيطرا على كل الوسائل. وغذ نسب القديس باسيليوس إلى القديس اغرغوريوس بأنه ينقصه الشجاعة، رد عليه الأخير بأنه ليس على استعداد للتطاحن من أجل كرسي الأسقفية.
على أنه قد حكم إبروشية والده الذي كان مسنا وتوفى في السنة التالية. وقد قام بنفسه بإلقاء خطاب التأبين في جنازة هذا الشيخ الوقور، في حضور القديس باسيليوس والقديسة "نن" Nonne والدته، ول تمكث على قيد الحياة إلا قليلا بعد موت زوجها.
وكان في نيته بعد موت والده، أن يحيا حياة الوحدة، تلك الحياة التي كانت دائما موضوع أخر رغباته، ولكن الناس ضغطوا عليه كيلا يترك كنيسة نزنيز، فوافق على العناية بها إلى أن يعين أساقفة المقاطعة راعيًا جديدًا.
توحد القديس في سلوكية: وإذ كان هذا الأمر يطول جدا، وكانت صحته من جهة أخرى مضطربة جدًا، اعتزل في سنة 375 في سلوكية عاصمة ايزوريا Isaurie. وقضى خمس سنوات في هذه المدينة.
وكانت وفاة القديس باسيليوس في سنة 378 ضربة قاسية بالنسبة له. وقد ألف، تكريما لصديقه، اثني عشر خطابًا. وقد ألقى خطابًا عن سيرته بعد بضعة سنين أي سنة 381 أو سنة 382.
وإذ توقف الاضطهاد بسبب موت الإمبراطور فالنس Valens الذي هلك بائسا في سنة 378، أعيد أخيرا السلام إلى الكنيسة. وبحث الأساقفة سبل إصلاح الفساد الذي صنعته الهراطقة، ولهذا عقدوا عدة اجتماعات، وقرروا إرسال بعض العلماء الغيروين إلى المناطق التي نال فيها التعليم محنة قاسية. وبين كل الكنائس، لم يكن أسوأ حالا من كنيسة القسطنطينية التي كانت تئن منذ أربعين سنة تحت حكم الأريوسيين الطغاة. وقد ظل فيها المؤمنون القلائل الذين تبقوا بغير راع وبدون كنيسة أيضا لمدة طويلة. بعد ذلك توجهوا إلى القديس اغريغوريوس وكانوا يعرفون مقدار علمه وبلاغته وتقواه، واستحلفوه بإلحاح أن يهب لمعونتهم. ودعوا أساقفة كثيرين للانضمام إليهم، حتى يتأكدوا ن تحقيق مطالبهم.
وظلت هذه الالتماسات كلها بدون جدوى بعض الوقت، فلم يكن هناك شيء يستطيع أن يخرج القديس اغريغوريوس عن عزلته في سلوكية، حيث كان يعيش في حالة تجرد كامل عن العالم.
ولكنه أضطر أخيرا أن يرضى. وحضر إلى القسطنطينية في سنة 279 ليرأس هذه الأبروشية، ولو أنه لم يكن من أبنائها. واستقبلوه أولا استقبالا سيئًا. فإذ كان أهالى تلك المدينة محبين للجاه، احتقروا الرجل الذي نال منه السن، ذلك الصلع ذا الوجه الذي ارتسم عليه الإجهاد بفعل الدموع والنسك، اللابس الملابس الخشنة، وتبدو عليه في كل شيء إمارات الفقر المدقع. وجعله الأريوسيون موضع استهزائهم: فأهانوه وشوهوا سمعته أيضا بافتراءاتهم. وبات الاضطهاد عاما، فكان الكبار مثل عامة الشعب، يعاملون رجل الله بأسلوب غير لائق مطلقًا، ولكنهم في ذلك لم يأتوا بشيء سوى إعطائه الفرصة لكي يكتسب لقب "المعترف" المجيد.
وأما القديس اغريغوريوس عند بعض أقاربه في القسطنطينية وكان الأرثوذكسيون يجتمعون في بيتهم لكي يسمعوه،وبعد بعض الوقت، حول هذا البيت إلى كنيسة ودعاها باسم "اناستاسية" أو قيامة، لأنه هناك بعث الإيمان القويم إلى الحياة، بعد المعاناة من الضغط في هذه المدينة حتى ذلك الوقت، ونقرأ للمؤرخ "سوزومين" Sozomine بمعجزة. يقول هذا الكاتب أن امرأة حامل سقطت هناك من الدور العلوي فماتت، ثم قامت حية بفاعلية صلوات المؤمنين المجتمعين. وحوالى سنة 460، كما يروى المؤرخ "تيودورية" Theodoret، وضعوا في الكنيسة جسد القديسة أناستاسية البتول الشهيدة، بعد أن نقلوه من "سيرميخ" Sirmich إلى القسطنطينية. ويلزم ألا نخلط بين هذه الكنيسة وبين كنيسة أخرى تحمل نفس الاسم، كانت في أيدي "النوفاتيين" Les Novatiens, في عهدي قسطنطين ويوليانوس الكافر كما يروى ذلك سقراط Socrates.
وكان القديس يواظب على التعليم في كنيسته الصغيرة، وكان يرى بفرح أن عدد سامعيه يزداد يوما بعد يوم. واجتمع الأريوسيون والآبوليناريون مع هراطقة آخرين مختلفين يحاولون أن يعرقلوا نجاح خطبه، فيفترون عليه بإدعاءات فظيعة، ويلجأون أيضًا إلى العنف. فكانوا يطاردونه في الشوارع ويرمونه بالحجارة، ويقدمونه للمحاكمة كأنه مشاغب يؤلب الشعب. وكان القديس يتحمل في صبر كل هذه المعاملة الشريرة. وكان يقول لنفسه: "صحيح أن جانب الهراطقة هو الأقوى، ولكنى أجاهد من أجل إحقاق الحق، وأنهم إذا كانوا يمتلكون الكنائس، فإن لي الله بجانبي. فلا يفتخرون بعد لأن الشعب في جانبهم، أن الملائكة معي يحرسونني ويدافعون عنى".
كان الراعي القديس يحيا حياة الوحدة التامة، لم يكن يقوم أبدا بأية زيارات، إلا إذا اضطرته الشرورة إلى ذلك، يكرس الوقت الذي لم يكن يقضيه في وظائفه الكهنوتية للتأمل. ولم يكن يقتات إلا بالخبز وبعض الأعشاب المصلحة بقليل من الملح. وتظهر على خديه آثار الدموع التي كان يسكبها بصفة شبه مستمرة. كان يتوسل ليلا ونهارا إلى الله أن يرحم رعيته. ولم يسع كل الذين كانوا يسمعونه إلا أن يتعجبوا من علمه العميق، ومن الموهبة النادرة التي جعلته يصير الحقائق المعنوية ملموسة، معبرا عن نفسه تعبيرا واضحا بديعا. وغذ استأنس الهراطقة والوثنيون رويدا رويدا، ذهبوا ليستمعوا إليه على سبيل الفضول، وبالرغم من آرائهم المسبقة عنه، اضطروا أن يعترفوا بسمو استحقاقه. وأصبحت نتيجة مقالاته ملموسة بالأكثر يوما بعد يوم. فازداد عدد المؤمنين أكثر فأكثر. وفتح اتباع الضلال عيونهم، يتعجلون العودة إلى حضن الكنيسة.
وكان هناك أمر واحد يحزن القديس: وهو التصفيق الذي يصاحب سماع مقالاته، فكان يخشى أن ينال سم المجد الباطل من قلبه، وجعلته هذه الخشية لا يتكلم جهرا إلا بشيء من الاستيحاء والحرج. وما كان أحد يأخذ عليه مطلقا مدحه للعظماء. فهدف مقالاته الوحيد هو شرح الإيمان القويم وتنبيته، وإصلاح ما فسد من الأخلاق. كان يقاوم بشدة عادة النزاع حول المسائل الدينية، وكانت منتشرة جدا في ذلك الوقت في القسطنطينية. وبحسب رأيه، أن طريق الخلاص مغلق أمام كل الذين يتملكهم روح النزاع. ولا يمكن للمرء أن يذهب إلى السماء بغير حفظ وصايا الرب. فيلزم لذلك الحرص على أداء الصدقة، وممارسة الضيافة، وزيارة المرضى وخدمتهم، وأن نصلى ونئن على خطايانا، ونخضع حواسنا، ونضبط ثورات الغضب، ونصون على الدوام لساننا، ونقمع شهوة الجسد.
واجتذبت فضائل القديس اغريغوريوس ومواهبه عددا كبيرا من الناس حوله. فترك القديس (جيروم) إيرونيموس St. Jerome صحارى سوريا لكي يحضر إلى القسطنطينية، واصطف ضمن تلاميذ القديس، ودرس الكتاب المقدس تحت إشرافه، وكان يفخر بأنه يتتلمذ على يد مثل ذلك المعلم، كما نرى ذلك في كتاباته.
وحرك النجاح العجيب لأعمال القديس اغريغوريوس حسد إبليس وجنوده. وكان من هؤلاء الأخيرين رجل مسيحي زائف يشتغل بالفلسفة، هو "مكسيم" Maxime الشهير المولود بمدينة الإسكندرية. هذا الماكر المملوء من عدم الحياء والكبرياء الذي تمتاز به شيعته، ذهب إلى القسطنطينية حيث استطاع أن يخفى بريائه الاستعلاء الذي كان يأكل صدره، ورزائله الأخرى أيضا. واقنع أولا بعض الأشخاص ووقع القديس اغريغوريوس في شراكه فمدحه في سنة 379.
ربح هذا الذئب المتنكر في شكل حمل علمانيين كثيرين وكاهنًا شريرًا، وبعد ذلك جعلهم يرسمونه سرا أسقفا على القسطنطينية. ووضع عيه الأيادي بعض الأساقفة المصريين الذين كانوا قد حضروا منذ وقت قصير لهذا الغرض. وأثارت رسامته غير القانونية كل العالم. وكتب البابا "داماز" Damase خطابا يعرب فيه عن الألم الذي تسببه له مثل هذه الجريمة، ويعلن أن اختيار مكسيم يلزم أن يعتبر لاغيا.
وأظهر الامبراطور تيودوسيوس الكبير أيضا اشمئزازه ضد الدخيل، وكان الإمبراطور في ذلك الحين في تسالونيكي. ولما حضر إلى القسطنطينية، عرض على "ديموفيل" Demophile وهو أسقف أريوسي، إما أن يقبل تعليم مجمع نيقية، وإما أن يخرج من المدينة. فقرر أن يخرج من المدينة. ولما رأى الإمبراطور ثيودوسيوس القديس اغريغوريوس، أظهر له آيات تقديره ومحبته، وقال له معانقا أن المؤمنين القويمين يطلبونك أسقفا عليهم، وأؤكد لك أن اختيارهم يتفق جدا مع رغباتي. وبعد وصوله ببضعة أيام، رفع الكنائس من الأريوسيين، وسلم للقديس اغريغوريوس كنيسة القديسة صوفيا التي كانت تتبعها الكنائس الأخرى.
رسامته بطريركا على القسطنطينية
أثناء الاحتفال، طلب الشعب بصوت واحد أن يصير القديس اغرغوريوس بطريركًا على القسطنطينية. وكان الصياح الذي يسمع من كل جانب يسبب نوعا من الاضطراب. فأوقف القديس ذلك قائلا أنه في الوقت الحاضر يلزم إلا يفكر أحد في شيء آخر غير شكر الرب لإعادته الإيمان القويم. وكان التواضع الذي أظهره القديس في هذه المناسبة موضع إعجاب الإمبراطور.
وكانت هناك صعوبة بالنسبة لكرسي القسطنطينية. فما كان يمكن شغله إلا بعد أن يقرر مجمع أنه شاغر، ويعلن إلغاء رسامة "ديموفيل" وكذلك مكسيم. ولحسن الحظ كان أساقفة كل الشرق مجتمعين في القسطنطينية في ذلك الوقت، (سنة 381)، وأن البطريرك ميليس الأنطاكى كان يرأس المجمع، وقد وقف الآباء بناء على التماسه، إلى جانب القديس أغريغوريوس النزنيزى ورسموه بصفة قانونية بطريركًا على القسطنطينية دون النظر إلى الدموع التي كانت تنهمر من عينيه بسبب تواضعه.
ولما توفى القديس ميليس أثناء انعقاد المجمع، رأس القديس اغريغوريوس جلساته الأخيرة. وبذل كل ما في الوسع لكي يعيد السلام إلى كنيسة أنطاكية التي كانت مضطربة بسبب الانشقاق.
وزاد ذلك أعداءه: وحاولوا أن ينالوا من كرامته، ولم يكتفوا بذلك، بل حاولوا الاعتداء على حياته. وذات مرة، كلفوا أحد القتلة أن يخلصهم من ذلك الرجل الذي كانوا يبغضونه بغضا شديدا. وسمحت السماء بألا تساعد الظروف غضبهم كما كانوا يرغبون، إذ ندم القاتل واقترب من القديس والدموع تنساب من عينيه، وهو يقرع صدره معترفا بجريمته. فرد عليه القديس اغريغوريوس قائلًا: "ليغفر لك الله ذنبك، فإن صلاحه الذي حفظني يتطلب أن أعفو عنك. انك بين يدي الآن بسبب جريمتك: ولكنى لا أطلب منك شيئا واحدا، وهو أن تنكر الهراطقة وتهب نفسك بإخلاص لله"، كانت هذه الوداعة مدعاة لأن يربح الأسقف القديس أتباعا كثيرين، حتى من الأريوسيين. كانت الرقة التي يعامل بها أشد الناس عداوة له، يقرها الجميع ما عدا بعض المؤمنين الذين كانوا ينقادون وفقا لثورة الحماس غير الحكيم.
وعندئذ وصل أساقفة ومصر ومقدونية إلى المجمع. وعارضوا انتخاب القديس، بحجة أنه لا يتفق والقوانين التي تمنع نقل الأسقف من أبروشية إلى أخرى. فرد القديس بهدوء بأن القوانين المقدمة قد فقدت صلاحيتها في الشرق بسبب عدم اتباعها، وهذا كان أمرا معروفا، ثم أضاف بأن تلك القوانين لا تنطبق عليه، إذ أنه لم يجلس على كرسي "سازيم" وأنه لم يحكم أبدا أبروشية نزنيز بصفته أسقف رسمي. وإذ رأى أن هذه لأسباب ليس بها أي أثر، وأن العقول كانت مشحونة جدًا، صرخ وسط المجمع قائلا:
"إذا كنت انتخابي يسبب كل هذه الاضطرابات، فإني أوافق على أن يكون لي نصيب يونان، فيرمونى في البحر لكي تهدأ العاصفة، ولو أنى لم أهيجها. ولو صح عزم الجميع أن يفتدوا بي، لتمتعت الكنيسة، بعد وقت قصير بسلام عميق. إني لم أرغب أبدًا في أن أصير أسقفًا، وإذا كنت أسقفًا، فذلك بالرغم منى، إذا كنتم ترون أنه من الأفضل أن انسحب، فإني مستعد أن أعود إلى وحدتي، حتى تستطيع كنيسة الله أن تصبح أخيرا هادئة. وأهيب بكم أن توحدوا مجهوداتكم لكي يجلس على عرش القسطنطينية شخص فاضل لديه الحمية من أجل الدفاع عن الإيمان".
وبعد أن تكلم كذلك، خرج من المجمع مسرورا جدا لأنه تخلص من حمل ثقيل جدًا. وتعجب الأساقفة جدا من سلوكه، ولكنهم كانوا ضعفاء إذ قبلوا استقالته على الفور.
وبعد خروجه من المجمع، توجه القديس اغريغوريوس إلى القصر. وغذ خضع عند الإمبراطور وقبل يديه قال له: "جئت يا سيدي، ليس بقصد طلب الأموال والأمجاد لي أو لأصدقائي، ولا لكي ألتمس سماحتكم نحو الكنائس، جئت لأطلب منكم السماح بالانسحاب. أنت تعرف إني وليت بالرغم منى عرش هذه المدينة. وأنكرني حتى أصدقائي، لأني لا انظر إلا إلى مطالب السماء. إني استحلفك أن تقبل استقالتي، فتضيف إلى مجد انتصاراتكم، مجد إعادة الوحدة والوفاق في الكنيسة".
وقد تأثر الإمبراطور جدًا من هذا السمو الروحي، وبألم شديد منح الأسقف ما كان يطلبه في حماس.
وقد ودع القديس اغرغوريوس الشعب بخطاب بديع ألقاه في الكنيسة الكبيرة حضره آباء المجمع وعدد لا يحصى من الشعب. وفيه يوازن بين حالة كنيسة القسطنطينية عندما حضر إليها وبين الحالة التي يتركها فيها، ويشكر الله على إعادة الإيمان المستقيم، وعرض انه تصرف منذ انتخابه بعزوف تام عن أية مصلحة شخصية، وانه لم يمتلك لنفسه شيئا من إيرادات الكرسي الأسقفي، وفي هذا المقال يأخذ القديس على المدينة حبها للاحتفالات وتعظم المعيشة، ولما كانوا يتهمونه بأنه يبالغ جدا في بساطة مظهره وأنه لا يعتني بهاء وظيفته، دافع عن نفسه بهذه الكلمات: "ما كنت أعرف أنه من واجبي أن أنافس القناصل والحكام. وقواد الجيش في الفخامة، هؤلاء لا يعرفون كيف يستعملون أموالهم سوى في مظاهر العظمة الدينونية. كنت أنكر الوصول إلى استخدام مال الفقراء لأجل الأطعمة الممتازة، وركوب الخيول المطهمة، والانتقال في عربة فخمة والصرف على جمع من الخطم. فإذا كنت بتصرفي بأسلوب آخر، قد أسأت إليكم، فإن الخطأ قد وقع، وأرجو أن تغفروه لي".
وأنهى مقاله بطلب السماح من كنيسته المحبوبة "كنيسة القيامة" (أناستاسيه)، التي يدعوها مجده وإكليله، والكنائس الأخرى في المدينة، والرسل القديسين الذين يكرمون فيها، وعرشه الأسقفي، وإكليروسه، والرهبان، وكل خدام الله، والإمبراطور، وكل البلاط، والشرق والغرب، والملائكة الموكلين بكنيسته، والثالوث الأقدس المكرم فيها. ثم أضاف قائلُا:
"يا أولادي الأعزاء، احفظوا وديعة الإيمان، وتذكروا الحجارة التي رموني بها لأني كنت أعمل من أجل غرس التعليم الحق في قلوبكم".
ولكن المؤمنين وبالأخص الذين ربحهم أولا للمسيح، كان لا يمكن تعزيتهم. كان قد سبق لهم أن أظهروا دلائل تعلقهم الشديد به. وقد تألموا من جراء اضطهادات مختلفة ن أجل محبتهم له. فتبعوه باكين وهم يستحلفونه أن يبقى معهم. وأشفق القديس اغريغوريوس عليهم ورق لدموعهم، ولكن أسباب عليا أرغمته على تنفيذ خطته. وإذ عاد إلى نفسه، شعر بفرح عظيم، كما قال بعد ذلك إلى أحد أصدقائه:
"انه لا يمكنني أن أقدر بما فيه الكفاية المزايا التي أعطاني إياها أعدائي بحسدهم، لقد نجوني من نار سدوم بتخليصهم إياي من أخطار الأسقفية".
وقبل أن يقدم استقالته، كان قد كتب وصيته، وهي موجودة حتى الآن، وعليها توقيعات ستة أساقفة وكاهن واحد، وقد اتبعت فيها الإجراءات المنصوص عليها في القانون الروماني. وفيها يؤمد القديس إعطاء كل أمواله الحقيقية والشخصية للكنيسة ولفقراء نزنيز. والقليل الذي يحتفظ به لكي يعيش منه، تركه ليعط أصدقائه وخدامه المحتاجين.
***
العرش الخالي
أننا نعجب من المسلك الذي اتبع تجاه القديس اغريغوريوس عندما نتذكر كل ما صنعه في القسطنطينية. فبقوة أخرج من الأريوسية الجزء الأكبر من سكان هذه المدينة. لقد انتصرت وداعته وصبره على عناد الهراطقة. لم يرد أبدا أن يستخدم سلطته في عقابهم جزاء لكل الاضطهادات التي أثاروها ضده، وكان يدعو المؤمنين إلى الاعتدال في معاملتهم. فكان يقول لهم أن الانتقام ممنوع على تلاميذ الرب يسوع المسيح. وأنه يلزمهم أن يتحملوا بصبر، وأن يقدموا دائما الخير عوضا عن الشر. كان لابد أن يتبع تقويم الأخلاق إعادة الإيمان. كان القديس قد عمل بنجاح في تقويم الأخلاق. ولكنهم لم يعطوه الوقت لكي يكمل ما بدأه حسنا. ولو لم يجعلوا "نكتير" Nectaire خلفا له، لتعزى المؤمنون الحقيقيون على الأقل.
كام "نكتير" عضوا في مجلس الشيوخ الروماني، وفي الوقت نفسه حاكمًا لمدينة القسطنطينية. ولم يقتصر الأمر على أنه كان شخصا مدنيا فحسب، ولكنه أيضًا لم يكن قد تعمد بعد عندما شرعوا في انتخابه، وقد عاش في عدم ضبط النفس واظهر عدم حكمته في مناسبات عديدة. ويبدو أيضا أنه لم تكن له موهبة الخطابة.
كان القديس اغريغوريوس قد ترك القسطنطينية قبل انتخاب "نكتير"، واختار نزنيز مقرًا له. ومنه ألف "قصيدة حياته" ‘Le poeme de sa Vie’ وفيها كان يؤكد بالأخص سلوكه في القسطنطينية. وكان هدفه من ذلك هدم الافتراءات المختلفة التي كانوا ينشرونها ضده. ولقد عمل بكل قواه لكي يدبر أسقفا لمدينة نزنيز، ولكنه لم يستطع أن ينجح بسبب معارضة جزء من الإكليروس.
واضطرته حالته الصحية السيئة إلى أن ينسحب بعد قليل إلى "أرينز" Arianze. والمعتقد أن ذلك كان قبل نهاية عام 381. لم يكن نادما على شيء في انفراده إلا على غياب أصدقائه. ومع أنه كان حريصا جدا في مقالاته، إلا أنه كان يأخذ على نفه بأنه لم يسهر بما فيه الكفاية على ضبط لسانه. وحتى يعاقب نفسه على كل الكلمات الغير نافعة التي نطق بها. صمت صمتا مطلقا طوال الأربعين المقدسة سنة 382.
نصائح القديس: وبالرغم من عيشته المنعزلة، لم يكن يرفض الاتصال بالأشخاص الذين يحتاجون إلى الاستنارة. كان يعطى نصائح ممتازة لكل الذين يستشريونه. وليس أحكم من قواعد السلوك التي وضعها بالنسبة للنساء المتزوجات في مؤلفه الموجه إلى القديسة "أولمبياد" Olympiade. ويقول ضمن أقوال أخرى:
"أولا أكرمي الله، ثم احترمي زوجك كنبراس لحياتك، لأنه عليه أن يدبر أعمالك وكل سلوكك. لا تحبى سواه، ليكن سرورك. وتعزيتك بحيث لا تعطيه أبدا مجالا لأن يغضب منك. تنازلي له عندما يكون في حالة غضب، ساعديه وعزيه في أحزانه وضيقاته كلميه بوداعة كثيرة وبلطف، كونى متواضعة في عتابك له، واتخذي لذلك وقتا مناسبا. أفعلي مثل الذين يريدون أن يروضوا الأسود، بدلا من أن يستخدموا العنف إزاءها، فإنهم يمدحونها ويلاطفونها. اشفقى على ضعفات زوجك ولا تلوميه أبدا بمرارة، فإنه غير مسموح لك أن تفعلي ذلك نحو ذلك الذي يلزمك أن تفضليه على كل ما في العالم..
ويتمنى القديس أن تصير "أولمبياد" أما لأولاد كثيرين وذلك لكي تكون هناك أرواحا أكثر يسبحون الرب يسوع المسيح. وكانت إحدى القواعد التي يعلمها باهتمام أنه يلزم أن نبدأ وننهى كل عمل بأن نقدم لله صلاة قصيرة، نقدم القلب وكل ما نعمله. أننا مدينون لله بكل ما نحن عليه وبكل ما نملك. أنه تعالى يقبل أصغر أعمالنا ويكافئنا عليها عندما يكون هو تعالى مبدأها، أنه ينظر حينئذ، ليس إلى القليل الذي نصنعه، ولكن إلى المشاعر التي تحركنا. أنه لا يرفض القلب الذي يعطى في حالة الفقر، ما يملك وما يستطيع أن يعطيه، معترفا بفضل الرب وسلطانه عليه.
وكان كرسي نزنيز لا يزال خاليًا. وكما قلنا، اضطر القديس اغريغوريوس إلى توليه بعد موت أبيه. وقد كلف "كليدونيوس" Cledonius بذلك أثناء غيابه. كان يتألم عندما يبصر المساوئ المختلفة التي عاتق الأسقف وحده ليعالجها. وكانت له تحركات فعلا لانتخاب أسقف، ولكنه لم ينجح. وضاعف جهاده في سنة 382، وحصلت أخير كنيسة نزنيز على راع، ووقع الاختيار على كاهن فاضل يدعى "أولاليوس" Eulalius.
قرر القديس ان يقضى بقية أيامه في عزلة في "أزينز"، وكان حينئذ متقدما جدا في السن، واشتدت به العلة، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يخدم أيضا الكنيسة، وبالأخص كنيسة نزنيز. وكان له في اعتزاله حديقة ونافورة وغابة صغيرة فيتذوق طعم المتع البريئة في الريف، وهي الوحيدة التي كان يسمح لنفسه بها. هناك كان يمارس كل أنواع التقشفات الجسدية، كان يصوم ويسهر كثيرا، وكان يصلى كثيرا راكعا. ولنسمعه هو نفسه يتحدث:
"إني أعيش وسط الصخور والوحوش الضارية. أني لا أرى نارًا أبدًا، ولا استعمل حذاء. تونية بسيطة هي كل ملابسي، أنام فوق القش، وليس لي سوى دثار خشن استعمله كغطاء. إن أرضى ترويها دائما جموعي التي أسكبها".
وفى العقد الأخير من نهاية حياته، أخذ يؤلف قصائد حول بعض المواضيع التقوية لكي يساهم في تثقيف المؤمنين الذين يحبون الموسيقى والشعر. ومن جهة أخرى كان الأبوليناريون قد ألفوا قصائد لكي ينشروا ضلالاتهم، فكانت أبسط وسيلة لمحاربتهم هي مواجهتهم بقصائد أخرى أرثوذكسية، تجدي تلاوتها في التعليم والتثقيف، وفي نفس الوقت تريح النفس.
وفى هذه القصائد يروى القديس اغرغوريوس سيرة حياته وآلامه، وينشر فيها تجاربه وضعفاته وأخطاءه، وفي هذا المجال يدخل في التفاصيل أكثر مما كان يفعل حينما يكون في الموضوع تشريفا له. وفيها يشكو بالرغم من شيخوخته ونسكه أنه ما زال يختبر ثورات الجسد الفاسد، ولكنه يعترف في نفس الوقت أن النعمى قد حفظت فيه كنز البتولية الثمين. كانت تلك التجارب تطرأ أحيانا بفعل الرحمة الإلهية، فكانت تحصنه ضد فخاخ الكبرياء فيظل ساهرًا، إذ تنذره بدون انقطاع بضرورة الجهاد. وتلك القصائد مملوءة أيضا باشتياقه المتوقد يلتمس فيه معونة الرب يسوع المسيح وفيها يعلن إننا في تبعية مطلقة للمخلص، يقول:
"بدون نعمة لا نكون سوى عبيد تفوح منهم رائحة الخطية، ولا يمكننا أيضا أن نصنع خيرا، كما أن العصفور لا يستطيع أن يطير بدون أجنحة، وكما لا تستطيع السمكة أن تسبح بدون الماء، الله هو الذي يجعلنا نبصر ونتصرف ونجرى".
وكان القديس لا يكتفي بالسهر والصلاة، بل كان يبتعد عن كل ما يمكن أن تكون له علاقة ما بالخطية، ويجتهد في أن يستعبد جسده بتقشفات مستمرة.
وفى رسائله كان يعطى نصائح ممتازة، ولا يوصى بأي شيء لا يقوم به هو نفسه. وإنا نقدم لذلك مصلًا. كان كاهن قديس مضطهدا عن ظلم بسبب وشاية، فكتب له ثلاثة رسائل ليعزيه، وخاطبه هكذا في الرسالة الثالثة:
"ماذا يمكن على أية حال أن يحدث لنا من شر؟ ليس لنا أن نخاف إلا من شيء واحد، وهو أن نضع أنفسنا بغلطتنا في موقف نفتقد فيه الله والفضيلة. فلنترك الأمور الأخرى تسير كما يحب لنا الرب، فهو سيد حياتنا، يعرف علة كل ما يحدث، ولنخف فقط من أن نتصرف بأسلوب غير لائق ببرنا، أطعمنا الفقراء، وخدمنا أخواتنا، ورتلنا المزامير لمجد الله، فأن لم يكن مسموحا لنا بعد أن نستمر في نفس التدريبات، فلنجتهد في شيء آخر. إن النعمة ليست عقيمة، أنها تفتح طرقا مختلفة تؤدى جميعها إلى السماء، فلنحيا في اعتكاف، ونباشر التأمل، ولنطهر أرواحنا بنور الله، إن ذلك ليس أقل رفعة من كل ما نستطيع أن نفعله".
هذه كانت مشاغل القديس اغريغوريوس في عزلته الأخيرة، إلى أن حان موعد نياحته الطوباوية حوالي سنة 389، وانتهت حياته كمعلم وأسقف وراهب وشاعر.
وفى سنة 950 أمر الإمبراطور قسطنطين بورفيروجينت Porphyrogenate بنقل رفات القديس من نزينز إلى القسطنطينية ووضعها في كنيسة الرسل، وقد نقلت إلى روما في زمن الحروب الصليبية (حروب الفرنجة) ولا تزال هناك نحن إحدى هياكل كنيسة الفاتيكان. ويعيد له اللاتين في 9 مايو. أما الشرقيون فيعيدون له في يوميّ 25 و30 يناير.
مؤلفات القديس: وكانت مؤلفاته خمسة وأربعين مقالًا، ومائتين واثني عشرة رسالة، ووصية، وله ثمان وسبعون قصيدة لاهوتية، وسبع وتسعون قصيدة تاريخية تمثل شخصيته، ومائتان وواحد وثلاثون قصيدة يتناول فيها الشخصيات الأخرى، وله مائة وتسع وعشرون عبارة مكتوبة على القبور، وتسع وتسعون عبارة مدونة على النصب التذكارية.
_____
الحواشي والمراجع:
* هذا المقال مُتَرْجَم من الجزء الخامس من مجموعة: Les Petits Bollandiates - Vies des Saints.
(1) جاء في قاموس أكسفورد عن الكنيسة The Oxford Dictionary of th Christisn Church صفحة 587 أنه عاش من سنة 329 إلى سنة 389.