راهبة قديسة تائبة
لم تحتمل البقاء في العالم وصار كل شيء أمامها مرًا وكريهًا. خرجت من منزل الزوجية ساعية نحو خلاص نفسها بعد أن اعترفت بكل شيء، وبعد أن أخبرت زوجها بخطيئتها لأن حياتها بعد سقوطها أصبحت مريرة وكان المنزل شبه مأتم دائم لا يُسمع فيه سوى الأنين والبكاء.. أرادت أن تذهب إلى مكان منفرد لكي تمارس أمور توبتها..
وفي إحدى الليالي الحالكة الظلام قصت شعرها وتزينت بزي الرجال وخرجت متخفية في جنح الظلام وقصدت دير "الإناطون" وهو يبعد عن الإسكندرية بتسعة أميال (في موقع الدخيلة الآن)(1).
يختبر الأب مثابرتها تركها طول الليل عند الباب وكانت معرضة للبرد والحشرات المؤذية التي تجوب الصحراء أما هي فكانت دموعها تنهمر مدرارًا وكانت تجهش بالبكاء كمن يندب أباه أو أمه، كانت تستغرق في العويل ولم تكن هذه الدموع لتجد أمامها ما يوقفها أو يمنعها. وما أن أشرقت شمس اليوم التالي حتى كانت عيناها قد تورمت من كثرة البكاء..
خرج الرئيس وسائر الرهبان الإخوة لينظروا في أمر هذا الراهب. سارعت المغبوطة وطرحت ذاتها على رجلي الرئيس فأخذ بيدها ومضى بها إلى قلايته وقال لها:
"ما اسمك يا بني؟" قالت له اسمي "تادرس".
فقال له الرئيس يا أخي تادرس إن هذه الخدمة متعبة وقاسية جدًا من جهة الأصوام والصلوات والعمل وخدمة الإخوة واحتمال الإهانة وسهر الليل وصلواته وصلاة الرهبان جميعها، قالت له، الله يعينني لأفعل هذا كله يا سيدي ولأنفذ كل ما تأمر به وأخدم سائر الرهبان. أخيرًا قُبل تادرس في الدير.
أمرها أن تسقي البستان فأسرعت في نشاط لتنفيذ الأمر.
أمرها بإعداد الحنطة للخبز ففعلت كل ما يلزم في سرعة وهمة.
كانت تعد أيضًا مائدة الرهبان وتخدم سائر الإخوة، وتنفذ كل ما يطلب إليها من أعمال على الفور، ولم تتأخر قط عن حضور صلوات الكنيسة،بعد كل ذلك كانت تذهب إلى قلايتها وتغلق بابها وتمارس صلواتها، وكانت دائمة القرع على صدرها نادبة خطيئتها بدموع غزيرة وقلب جريح..
وهكذا كانت خدمتها في ذلك الدير لمدة ثماني سنوات تعمل بلا ضجر ولا إهمال ولا تراخ بل بنشاط واجتهاد وانسحاق قلب.
أما زوجها فكان حزينًا كاسف البال لا يدري ماذا يكون مصيرها وكان دائم الصلاة والتضرع إلى الله بدموع حارة حتى تستريح نفسه المضطربة ويهدأ قلبه الثائر.. أخيرًا في غمرة التفكير والحزن رأى حلمًا كأن ملاكًا نورانيًا يقول له أذهب في الغد إلى كنيسة القديس بطرس خاتم الشهداء وسوف تجدها على مقربة من بابها ولن تجد غيرها عند وصولك إلى الكنيسة.
فلما أشرق النور أنطلق إلى هذه الكنيسة وحدث في هذا اليوم بالذات أن أوكل رئيس الدير إلى "الراهب تادرس" (ثيؤدوره) أن يأخذ جمال الدير إلى الإسكندرية لكي يحضر مئونة الزيت، وكان عليه أن يمر ناحية الكنيسة المذكورة.
حدثت المقابلة غير المتوقعة وعرف قائد الجمال الشخص الذي كان سائرًا قرب الكنيسة. نظرت إليه وقالت في نفسها الويل لي أيها الأخ الصالح، الرب يغفر لي ما صنعته من الإثم وما سببته لك من أحزان.. أما الزوج لم يكن يظن البتة أن هذه هي زوجته
وكانت لابسة زي الرجال ولم يعرفها إطلاقًا- لم يطرأ على قلبه أن تكون هي ثيؤدورة، فقد تغيرت هيئتها تمامًا بسبب كثرة الأصوام والنسك والتقشفات التي أحنت ظهرها.. مرت بجانبه وحيته تحية السلام وانطلقت في طريقها، أما هو فعاد أدراجه مسلمًا الأمر لله الذي بيده كل شئ.
رجعت ثيؤدورة إلى الدير وازدادت في النسك والتقشف وطلبت إلى رئيس الدير أن يأذن لها بمزيد من الصوم الذي كانت معتادة عليه فقال لها الرئيس القديس "يا ابني تادرس الله يقويك في مخافة الله.. وأرشده إلى ما يلزم.
وفي السنة التاسعة من بقائها في الدير طلبت إلى أحد الشيوخ في الدير وقالت له: "أسألك أن تطلب لي من الرئيس أن يلبسني مسح شعر، فتقدم الشيخ إلى الرئيس وقال له: "الأخ تادرس يطلب إلى قداستك أن تلبسه مسح شعر" فأجاب الرئيس وقال لتادرس "الله يباركك يا أبني تادرس، وصلى على مسح شعر وألبسه الإسكيم المقدس(2)، فمجدت الله والدموع تنهمر من عينيها، وكانت تداوم على الصلاة والمطانيات وكثرة النسك وتطلب إلى الرب أن يصنع معها رحمة كعظيم رحمته ويغفر لها خطيئتها المرة..
أما عدو الخير فكان يقاتلها قتالًا مريرًا وسمعته مرة يقول لها: آه منك يا زانية يا من خرجت من منزلك ومن عند رجلك وأقبلت إلى هنا لمقاومتي، إني سوف أجلب عليك ضيقًا عظيمًا وأحزانًا متكاثرة.. أما هي فكانت دومًا ترتمي إلى الأرض وتصلي ساجدة للرب يسوع طالبة منه ليلًا ونهارًا أن يعينها على خلاص نفسها وينجيها من فم الأسد..
وحدث أن احتاج الدير إلى حنطة ومئونة زيت فقال الرئيس: "يا ابني تادرس خذ الجمال وامض إلى المدينة وأحضر الحنطة والزيت وإن لزم الأمر أقض الليل في دير قريب" فمضت الطوباوية وأدت عملها وعند عودتها من المدينة كان الوقت مساء فاقتربت من دير قريب وقرعت باب الدير، ففتح لها البواب ودخلت مع الجمال وقضت القديسة ليلتها في الدير إلى جانب الجمال.
ولما كان الغد مضت القديسة ثاؤدوره مع الجمال إلى ديرها وحدث أن أحد الغلمان في هذه المنطقة ارتكب الزنا مع إحدى الجواري وحان وقت حبلها فسألها أهلها من فعل بك ذلك؟
فقالت إن الراهب تادرس لما اجتاز بالجمال ارتكب معي هذا الفعل، ولما قالت لهم هذا مضوا إلى رئيس الدير وشرحوا قصة الفتاة والجريمة الشنعاء التي ارتكبها الراهب تادرس.
دعا الرئيس الراهب تادرس للحال وقال له كيف فعلت هذا الجرم الكبير الشنيع لما كنت خارج الدير أثناء المأمورية التي كلفت بها؟ أجابت الطوباوية وقالت له أغفر لي يا أبي.. ثم أنهم طرحوا الطفل لرئيس الدير بعد أن أهانوا الرهبان ورئيسهم إهانات بالغة واعتدوا على الراهب البريء تادرس بالضرب واللطم وهو صامت لا ينطق ببنت شفة.
ولم يكن هناك بد بعد هذه الجريمة الشنعاء من طرد الراهب تادرس (ثيؤدوره) خارج الدير مشيعًا بالخزي والعار والازدراء ومعه الطفل.
ثم أن ثيؤدوره أقامت خارج الدير وكان أسفل الجبل رعاة غنم حنن الرب قلوبهم عليها فأعطوها حصيرًا وكانت تغذي الطفل من لبن الغنم.. وظلت على هذا الحال زمانًا وهي صابرة متحملة برد الشتاء وحر الصيف والجوع والعطش والتعب..
وفي تلك الأثناء حدث مرة أن ظهر لها الشيطان في شكل رجلها وقال لها أنت جالسة ههنا وأنا كل هذه السنين في تعب، هلمي انهضي معي إلى منزلك ولن أعود أذكر ما فعلته من الإثم؟ وكان من عادتها مداومة الصلاة فلما رفعت يديها إلى السماء وهي تصلي للحال هرب الشيطان فشكرت الرب وكانت تطلب بدموع كل حين أن يخلصها من الشر ومن تذكاره الملبس الموت.
كان طعام القديسة من حشائش البرية وشرابها من ماء البحر الملح، وقد تآنست بالوحوش ولم تقترب إليها ولم تؤذها، وكانت تقضي لياليها في قلب الصحراء رافعة قلبها إلى الحبيب يسوع ليصنع معها رحمة كعظيم رحمته ولم تكن لنكف عن الصلاة.
وكان الرعاة يتعجبون من أمر هذا الراهب فما كانوا يرونه إلا مصليًا باكيًا ولا ينام إلا يسيرًا.. توسطوا لدى الرئيس والرهبان ليصفحوا عنه خصوصًا وأنه قضى خارج الدير حوالي سبع سنوات.
قبلوه داخل أسوار الدير ومعه الصبي ثم أن الرئيس أوصاه بضرورة العمل بقوانين صارمة وبأن تكون كل أيام حياته صومًا قدام الله. أما ثيؤدورة فلم تخالف قط أمرًا مما أوصاها الرئيس به وهي شاكرة راضية حتى بقية أيام حياتها.
_____
الحواشي والمراجع:
(1) ذكر Cheneau في كتابه "Les Saints d'Egypte "الجزء الثاني ص327 أنها دخلت دير "None "
"Anisi nomme parce qu il était au meuiréme mille d'Alexandrie…"
"ويُسَمّى هكذا لأنه كان في الميل التاسع للإسكندرية..".
أما مخطوطة دير البرموس فذكرت أنها توجهت إلى الثمانية عشر ميلًا للرجال وهو دير "الأكتوذ بكانون" وموقعه بجوار بلدة العامرية ويرجع تاريخه إلى القرن الخامس وكان عامرًا في القرن السادس.
(2) هكذا ورد بمخطوطة دير البرموس.