|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأحد الأول من زمن الصوم ﴿أَن يُصالِحَ بِهِ ومِنْ أَجلِهِ كُلَّ مَوجُود﴾ (قُولسّي 20:1) عِندَمَا خَلَقَ اللهُ آَدَمَ وحَوَّاء، خَلَقَهُمَا في حَالَةٍ فَريدَةٍ مِنَ التَّنَاغُم! إذْ كَانَا في انْسِجامٍ وَوِفاقٍ تَامٍّ مَع اللهِ الخالِق، ومَعِ الخَليقَةِ الْمُحِيطَة، وبَينَ بَعضِهِمَا البَعض، وفي انْسِجَامٍ وسَلامٍ مَعِ الذَّاتِ. هَذهِ الحَالَةُ الشَّامِلَةُ مِنَ الانْسِجَامِ والسَّلام، نَدْعُوهَا "حَالَةَ النِّعمَة". وهِيَ الحَالَةُ الَّتي اسْتَمَرَّتْ إلى أَنْ فَقَدَها الإنْسَانُ لَمَّا سَقَطَ في الزَّلَةِ والْمَعصِيَة! فَإذَا كَانَ اللهُ يَسْكُبُ بِنِعمَتِهِ في النُّفُوسِ سَلامًا وتَنَاغُمًا، فَالخَطيئَةُ تَنزَعُ مِنَ الإنسَانِ هَذا السَّلام، وتَجعلُ في نَفْسِهِ بَلْبَلَةً واضْطِرابًا! ولِذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ "الحَشْوِ" أَنْ يَكتُبَ الإنجيليُّ مَرقُس، بِأَنَّ يَسوعَ الْمَسيح، عِنْدَ بَدْءِ رِسَالِتِه: ﴿كَانَ مَعِ الوُحُوش﴾ (مر 13:1). بَلْ أَرَادَ بِقَولِهِ هَذَا أَنْ يَعودَ بِنَا إلى حَالَةِ الخَلِيقَةِ مَا قَبلَ الخَطيئَة، حَيثُ كانَتِ النِّعمَةُ تَسُود. وأَينَمَا سَادَتِ النِّعمَةُ، سَادَ السَّلام. وأَنْ يُؤكِّدَ لَنَا أَيضًا أَنَّ يَسوعَ الْمَسيح، هُوَ آَدَمُ الجديد الَّذي أَتَى لِكَي يُعيدَ التَّنَاغُمَ والانسِجَامَ بَينَ كُلِّ الْمَوجُودَاتِ والكَائِنَات. فَهُوَ مَنْ فِيه تَمَّت نَبوءَةُ أَشعيَا، حِينَ قَال: ﴿ويَخرُجُ غُصنٌ مِنْ جَذعِ يَسَّى، ويَحِلُّ علَيهِ روحُ الرَّبّ. فَيَسكُنُ الذِّئبُ مَع الحَمَل، وَيربِضُ النَّمِرُ مَع الجَدْيِ... تَرْعى البَقرةُ والدُّبُّ مَعًا، والأَسَدُ يَأكُلُ التِّبنَ كَالثَّور، ويَلعَبُ الرَّضيعُ على حُجرِ الأَفْعى. لا يُسيئونَ ولا يُفسِدون، لِأَنَّ الأَرضَ تَمتَلِئُ من مَعرِفَةِ الرَّبّ﴾ (1:11-2، 6-9). وهَذا مَا أَكَّدَهُ بُولُسُ الرَّسولُ في الرِّسَالةِ إلى أَهلِ قُولِسّي، قائِلًا: ﴿قَدْ حَسُنَ لَدَى الله أَن يُصالِحَ بِهِ ومِنْ أَجلِهِ كُلَّ مَوجُود، مِمَّا في الأَرْضِ، ومِمَّا في السَّمَوات. وقَدْ حَقَّقَ السَّلامَ بِدَمِ صَليبِه﴾ (20:1). دَعوَةُ زَمِن الصّومِ والتّوبَةِ لَنَا أَيُّها الأحِبّة، هِيَ دَعوةٌ لِإرساءِ السَّلام، والْعَودَةِ إلى حالَةِ النِّعمَة والانْسِجام. هي دَعوَةٌ لِنَبذِ جَميعِ أَشكَالِ الخِصَام، إذْ مِن غَيرِ الْمُمْكِنِ أنْ نَجتازَ في هَذَا الزَّمَنِ الْمُقَدَّس، والقُلوبُ مِنَّا مُسْتَعِرَةٌ بالعَدَاوَةِ والغَضَبِ والكَراهِية! فَفي إِصرَارِكَ عَلَى حِفظِ العَدَاوَة، والتَّمسُّكِ بأَحقَادِكَ، تَجعَلُ مِنْ هَذَا الزَّمَنِ زَمنًا يُدينُكُ ويحكُمُ عَليك، لا زَمنًا يُطَهِّرُكَ ويُنقِّيك! هَذهِ هِيَ "الوُحوشُ" الّتي يُفتَرَضُ بِك أَلّا تَتَعَايشَ مَعهَا، بل أن تَرفُضَهَا وتَطرُدَهَا مِنْ حَياتِك! فَمَا الفَائِدَةُ مِنْ كَثرَةِ الأصْوامِ والتَّعَبُّدَات، وقَلبُكَ عَامِرٌ بالخَطيئِةِ الّتي تَقتَاتُ وتَعتاشُ عَليك؟! في القِرَاءَةِ الثَّانيةِ مِنْ قِرَاءَاتِ أربِعَاءِ الرَّمَاد، يَدْعُونَا القِدّيسُ بولسُ بِقَولِه: ﴿نَسأَلُكُم أنْ تَدَعوا اللهَ يُصالِحُكُم﴾ (2قور 20:5). فَدَعوَةُ زَمَنِ الصَّومِ والتّوبَةِ هِيَ دَعوةٌ لِتَحقيقِ الْمُصَالَحَة! أَوّلًا مُصَالَحةٌ مع الله مِنْ خلالِ التَّوبَةِ والرُّجوعِ إليه. يَتبَعُهَا مُصَالَحةٌ مع الذَّات مِن خلالِ الكَفِّ عَنِ الْمَعَاصِي، والعَودَةِ إلى حَالَةِ النِّعمَة. وأَخيرًا مُصَالحَةٌ مع الْمُحيط، مِنْ خِلالِ مَنحِ الْمَغفِرَةِ لِلْمُسِيئين، وطَلَبِ الْمُسامَحةِ مِمَّنْ أَسَأتَ إليهم. فَالْمُصَالحَةَ مَع كُلِّ هَذهِ الأقطَاب، كَفِيلَةٌ بِأنْ تُعيدَ إلى نُفُوسِنَا السَّلامَ والهُدُوءَ الّذي فَقَدنَاه. ﴿كَانَ يسوعُ مَعِ الوُحُوش﴾ (مر 13:1). ولَكِنَّةُ كَانَ يَسودُ عَليها! في حَيَاةِ كُلٍّ مِنَّا، هُناكَ مَجموعَةٌ مِنَ الوَحوشَ، هِيَ الخَطَايا الّتي تَسكُنُ فِينَا. فَمَنْ يا تُرَى يَسود؟! هل أنا أَسُودُ عَليها، أَم أَنَّهَا تَسودُ عَليَّ وتَستَملِكُني؟! مَا هُوَ الوَحش أو الوُحوش الّتي تَسكُنُ فِيّ؟ هل هو الكَذِبُ والخِدَاع؟ هل هو الظُّلمُ والكِبرياءُ؟ هل هو الطَّمِعُ والاختِلاسُ والشَّرَاهَة؟ هل هِيَ الشَّهوَةُ الجَسَدِيَّةُ بأَنْوَاعِهَا فِكْرًا ونَظَرًا وقَولًا وفِعلًا؟! أَرَى أنَّ كُلَّ هذهِ الوُحوشِ قَابِلَةٌ للتَّرويضِ والسَّيطَرَةِ عَليها، بِنعمَةِ اللهِ وبإرادةِ الإنْسَان. ولَكِنَّ وَحشًا واحِدًا إنْ سَكَنَ واسْتَوطَنَ فِينَا، فَتَكَ بِنَا وقَضَى عَلَينَا، أَلا وهوَ وَحشُ "تَأليهِ الذَّات"! ولِكَي نَفهَمَ مَعنى ذلك، دَعونا نَعودُ إلى سِفرِ التَّكوين مِنْ جَديد، فِعندِ التَّجرِبَةِ الأولى قَالَت الحيَّةُ للْمَرَأَة: ﴿في يَومِ تَأكُلانِ مِنْ ثَمرِ الشَّجَرة، تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا، وتَصيرانِ كَآلِهة﴾ (تك 5:3). والإنْسانُ الَّذي يَعتَقِدُ أَنَّه "إِلَه"، هُوَ في نَظرِ نَفسِهِ مَعصُومٌ عَنِ الخَطَأِ لا يَزِلّ، ويملِكُ الصَّوَابَ في كُلِّ مَا يَقولُ ومَا يَعمَل. وبَالتَّالي لا يُمكِن أن يَعترفَ بأَخْطَائِه، فَهُوَ لا يَراها أو يَتَعَامَى عَنْ رُؤيَتِهَا، وعِندَهُ رَصيدٌ مِنَ الْمُبرِّراتِ لا يَنتَهي، وهو دَومًا عَلَى حَق، والآخَرونُ عَلى بَاطِل! وبالحَقيقةِ التَّعَامُلُ مَع هَؤلاء "أشباِه الإله" أَمرٌ صَعبٌ ومُتعِبٌ لِلغَايَة. هَؤلاءِ يَصعُبُ عَليهم طَلبُ الرَّحمَةِ والْمَغفِرَةِ الصَّادِقَةِ مِنَ الله، فَهمُ في اعتِقادِهم الشَّخصيّ "نُظَرَاءُ الإله، يَمشونَ عَلَى الأرض"! ومَا حياتُهم كَ "مؤمنين"، سِوَى "كذبَة مَوقوتة"، يومًا مَا سَتَنفَجِرُ في وُجُوهِهِم! فَطوبَى لِكُلِّ مُؤمِنٍ تَصَالَحَ مع اللهِ ونَفسِهِ والوُجُود، واستَطَاعَ بِصِدقٍ أَنْ يُرنِّمَ مَع صَاحِبِ الْمَزَامير: ﴿أَبَحتُكَ خَطيئَتي، وَمَا كَتَمتُ إِثْمي، قُلتُ: "أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِمَعاصِيَّ"، وأَنتَ رَفَعتَ وِزْرَ خَطيئَتي﴾ (مز 5:32) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|