رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
باكرًا إلى الله
المزمور الثالث والستون 1. المزمور الثالث والستون هو مزمور توسّل فرديّ يعبّر فيه المرتّل عن شكره لله الذي خلّصه، ويعلن يقينه بالرب الذي يستجيب دومًا لطلب أحبّائه، ويعد بتقدمة ذبيحة شكر إلى الله عن عطاياه. مرتّل المزمور هو أحد المؤمنين المتعبّدين للرب. اضطهده أعداء أشرار، فهرب إلى الهيكل واعتصم فيه، منتظرًا بكل ثقة أن يبرِّئ الله ساحته. أيكون المرتّل رمزًا لشعب الله العائش في المنفى، والذي يتمنّى الرجوع إلى أرض الرب والصلاة في الهيكل؟ 2. شوق إلى الله وتعطّش إلى لقائه. آ 2- 3: تعطّش النفس إلى الله. آ 4- 6: الله يعطي المؤمن سعادة وهناء. آ 7- 9: الله يعطي المؤمن العون الأكيد. آ 10- 12: الله يخلّص المؤمن فيحكم له، ويبرّره ويعاقب أعداءه. 3. ينطلق المرتّل من الصحراء، فيقابل بين عطش أرض الصحراء إلى الماء، وبين حنين النفس إلى الله. النفس هي الإنسان، والجسد هو الإنسان. الإنسان كله عطشٌ إلى الربّ وتوق إليه توقَ الأرض القاحلة إلى الماء. أحسّ المرتّل بهذا العطش فجاء إلى الهيكل ملجأ المظلومين، فحصل عل براءته وخلاصه، وشعر أيضًا بالفرح يغمره بعد اللقاء بالله، وهو أعظم خير في الدنيا: رحمتك خير من الحياة. أما الشحم والدسم، فيرمزان إلى أحسن الخيرات (36: 9) ويدلاّن على الذبيحة المكوّنة من الشحم والدسم، والذبيحة مناسبة اتّحاد بين المؤمن وربّه، وتلك غاية سعادته. كان المؤمنون يحسبون أن الله حاضر في الأرض المقدّسة، في الهيكل. ولكن في زمن الجلاء، تروحنت فكرة حضور الله، فلم يعد هذا الحضور مرتبطًا بمكان من الامكنة. ذهب الشعب إلى المنفى، وذهب الله معه (حز 10: 1 ي، الغمامة تترك الهيكل وترافق الذاهبين إلى المنفى). حيث يكون شعبُ الله هناك يكون الله. غير أن الشعب ما زال يحنّ إلى أرض الميعاد ليعيش عليها، وإلى الهيكل ليحتفل فيه بالليتورجيا مع جماعة الله. يبتهج المرتّل، لأنه وجد في الرب سنده وتحت جناحيه اختبأ. أحاط به الأعداء فما خاف منهم، لأنهم سيهلكون: ينزلون إلى أسافل الأرض، أي إلى الجحيم، إلى مثوى الأموات، فيأكلهم السيف، وتبقى جثثهم في البريّة طعامًا لبنات آوى ولا يُدفنون، وهذا منتهى العقاب. أما المرتّل فسيبرِّره الرب، ويسدّ الافواه الكاذبة التي تتّهمه، ويعيد إلى قلبه الفرح. 4. عندما يروي القديس لوقا (2: 43) حادث وجود المسيح في الهيكل، فهو يبيّن لنا محبّة يسوع لبيت أبيه. إلى هذا البيت سيحجّ يسوع مرارًا، لأن أشواق قلبه تشدّ به إلى الآب (يو 16: 28؛ 17: 5). وعندما ينشد المؤمن هذا المزمور ويتذكّر ما يقوله القديس بولس عن محبّة المسيح (أف 3: 19؛ غل 2: 20)، يفهم كلمات هذا المزمور: محبتك، رحمتك خير من الحياة. ويستطيع أن يردّد أيضًا مع القديس بولس (غل 1: 21): "فالحياة عندي هي المسيح، والموت ربح". فالربح الاعظم هو معرفة المسيح يسوع، وكل ما عداه خسارة. 5. تأمّل ينطلق اسم الله كصرخة كلها شوق في بداية هذا المزمور. "يا الله". وسيُعاد هذا الاسم فيدلّ على ضرورة القول لله حين أناديه إنني له بكليّتي، إنني أخصّه. "يا الله، أنت إلهي". وهكذا ننتقل من الاسم بشكل عام فنصل إلى ذاك الذي ارتبطتُ به في عقد. أعلن إيماني، وأعلن المكانة التي يحتّلها الربّ في حياتي. منذ يقظتي أتطلّع إليك. أنت أول فكرة لي. كل نهاري وكل حياتي هما بحث متواصل عنك. فانتظار النهار وانتظار الله يرتبطان ارتباطًا وثيقًا. فكما يتطلّع الضحى إلى النهار، كذلك نفسي تنتظرك وترغب فيك أنت يا نوري الحقيقي. كان قد قال أش 26: 8- 9: "نحو اسمك، نحو ذكرك تذهب رغبة نفسي. تشتاق نفسي إليك في الليل، وروحي في داخلي يترقّبك في السحر". بحث وانتظار. ثابتان مستمران. ولكنهما ليسا قلقين. لا يفرضهما أحد عليّ. فالحبّ وحده يحرّك فيّ هذا الانتظار وهذه الرغبة وهذا البحث. الحبّ يجعلني ساهرًا. فإن غبتَ عني يا مائي الحيّ، لا أعرف سوى الجفاف والذبول والسقام. بعيدًا عنك أموت عطشًا. أصبح "أرضًا قاحلة يابسة لا ماء فيها". ليس هذا العطش عطش نفس تعرف الشقاء والخطيئة، بل عطش الحبّ المغرم بالحبيب. الرب نار محرقة نتوق إليها... نتوق إلى مشاهدة الله والتمتّع بعزّته ومجده. 6. آ 1- "يا الله إلهي، من أجلك أسهر منذ السحر". من الواضح أن بداية النهار في نظر داود مؤاتية لشكر الله ومعرفته. هذا الوقت الذي فيه يبدأ النور هو ذلك الذي فيه تبدأ الصلاة. يصلّي إلى إله الكون، الذي يسمّيه إلهه بسبب المعرفة التي اقتناها عنه. آ 3: ما يكوِّن الصلاة ليس الكلمات، بل عواطف الحبّ. لهذا يتابع المرتّل: "نفسي عطشى إليك وجسدي مثل نفسي". أسكن أرضًا قاحلة مجدبة لا ماء فيها". تعطش نفسُه إلى الله، لأن بين يديه ينبوع الحياة. إنها مشدودة في رغبتها لتشرب. فهناك غريزة طبيعيّة تحمل نفس كلّ إنسان إلى معرفة الأبدية وانتظارها. وهذه الغريزة مزروعة ومطبوعة في الجميع. ولهذا يفكّر البعض أن أصل النفس من الله، لأن النفس تلاحظ قرابة بين ذاتها وعالم الله. ولنتقدّم خطوة: إن أجسادنا الارضيّة، وإن تكوّنت لتعطي الرذائل مادتها (وهي تأخذ منها لذّة شبه طبيعيّة)، تتمنّى حتى اليأس أن تجتمع إلى النفس وأن تشارك في العطيّة السماويّة. فعادات الجسد السيّئة تجلب لذّة للنفس وتنجّسها. وبما أن اللذّة الجسديّة تصل إلى النفمس، فالجسد يجرّ النفس معه ليجعلها تشعر بالتنعّم. وحينئذ تكون اللذة مشجوبة عند النفس وعند الجسد. أما نحن الذين تمرّسنا بالممارسات الروحيّة، فنعرف أن الله أعطى خلاصًا للنفس وللجسد شرط أن تقبل حواسُ الجسد (بعد أن نالت نعمة الولادة الجديدة) أن تدخل فيها أفراح النفس. وبكلمة أخرى: إن تصرّفنا لا يكون تصرّفنا بحسب الجسد بل بحسب الروح (رج روم 8: 4). فالرسول يميّز أعمال الروح الموجّهة إلى العفة عن أعمال الجسد أو البحث عن الرذائل (رج غل 5: 19 ي). عملٌ مضن أن نرجو للجسد الأبديّة ذاتها التي للنفس، ولكن هذه حقيقة عظيمة. لهذا جمع النبي بين عطش النفس وعطش الجسد. نفسي عطشى إليك، وجسدي أيضًا مثل نفسي. لا غموضُ يُخفي قلة إيمان. فكما أن نفسه عطشى إلى الله، فكذلك جسده عطشان أيضًا، لا بعطش جسدي، بل بعطش إلهيّ. لا شكّ في أن الطبيعة تمنع داود من أن يطفئ عطشه الطبيعيّ لأنه يقيم في الصحراء، في منطقة مجدبة لا ماء فيها، ولكنه يؤمن ويعرف أيضًا أن آلام الجوع والعطش هي محنة للايمان. فلكي تعطش نفسه إلى الله أكثر منه إلى رفاهة جسده، يجب أن يعطش جسده أيضًا. ألاّ تعلم أنه لا الجوع ولا القلق ولا أي نوع من الحزن يستطيع أن يفصل الرسول عن محبّة الله التي في المسيح (رج روم 8: 35)؟ إذن عطشَ القديس إلى الله. وعن موضوع عطشه هذا قال مزمور آخر: "عطشت نفسي إلى الله، إلى الاله الحي، متّى آتي وأحضر أمام الله" (مز 42: 3)؟ هذه هي رغبة نفسه، وهذا هو عطش رجائه: أن تحلّ عليه رؤية الرب، أن يؤخذ بأسرع وقت على السحب ويقدر بواسطة هذا الارتفاع أن يلتقي بالمسيح الرب. آ 4: والآن سيُرينا النبيّ بوضوح كلّ العواطف التي تشير إلى شوقه. أعلن عطشه، وتكلّم عن حاجته في البريّة، في أرض مجدبة لا ماء فيها. وتابع لكي يدلّ على صورة صراع الإيمان وانتصاره: "هكذا حضرت أمامك في معبدك لأشاهد عزّتك ومجدك، لأن حبّك أطيب من الحياة". فالعلم النبويّ يقوم بتذكيرنا بأحداث سابقة، ليعبّر عن أحداث آتية. من هنا هذه الأمثلة: شربَ النبيّ الخلّ (69: 22)، لآن آخر في يوم آلامه سيَشرب منه. اقتسموا ثيابه (22: 99)، لأن ثيابًا أخرى سوف تُقسم. والآن يتقدّم إليه إنسان متعطّش إلى الله من خلال عطش جسده. يتقدّم كما هو في معبده، وفي بساطة جسده، وفي عطش نفسه، وفي صلاته الصباحية، لأنه هكذا فقط يبرهن أناس عن انتمائهم للمسيح، يبرهنون أنهم أخذوا معه حين يُخطفون لملاقاته في السحب. أن تقدّم إلى معبد الله، وأن نتقدّم إلى الله في قدّوسه يسوع، أمر واحد، كما تقول هذه الكلمات: "من رآني رأى الآب" (يو 14: 9). "أنا والآب واحد" (يو 10: 30). بما أن طبيعة الابن واسمه يدلاّن على طبيعة أزليّة واسم أزليّ، فالإنسان الذي يتقدّم إلى الابن أو الذي يقبله الابن، يبدو للآب في ابنه. آ 5: وحين يتقدّم المرتّل إلى الله في مكانه المقدّس ليبيّن إلى أي معبد يشتاق، وليقول المعنى الحقيقيّ لعطشه، يزيد: "لأشاهد قوتّك ومجدك" أي لأتأمّل ذلك الذي هو قوّة الله (رج 1 كور 1: 24) ومجد الله (فل 2: 11) على حدّ قول الرسول. هذا ما يرغب أن يتأمّله: الحياة الأبديّة التي يرجو المشاركة فيها يومًا مع المسيح، وملكوت السماء الأبديّ الذي ينتظر أن يشارك فيه فيما بعد. فكل هذا يُعدّه لنا حبُّ الله فضلاً عن سعادة هذه الحياة. آ 6: "لأن حبّك أطيب من الحياة". الوصول إلى الحياة موهبة عظمى من الله، ونحن نهنّئ بعضنا بعضًا على ولادة طبيعيّة. ولكن حالتنا مملوءة قلقًا وآلامًا، فلا نرجو من حبّ الله إلاّ الحياة. وبسبب شريعة الخطيئة تنتهي الحياة بالموت. ولكن حبّ الله يعيد الأبديّة بعد الموت. أن تزرع القمح وتتركه يفسد في الأرض، أفضل من أن تحفظه: فالله يعطيه كما يشاء لباس السنابل (رج 1 كور 15: 38). وهي أيضًا موهبة عظيمة من محبّة الله أن نموت مع المسيح ونحيا من جديد في المسيح. فموت آدم نفسه وُضع في إطار الرحمة لكي يبقى له وجه العقاب الأبدي. ويعتقد الرسول أنه أفضل له أن يموت (رج فل 1: 35) ليلتقي بالمسيح. ويُظهر النبيّ الفرحَ الذي يجده في موته فيعتبره نهائيًا: "ثمين في عيني الرب موت أتقيائه" (116: 15). فبفضل هذا الموت يدمَّر الجسد مع شريعة الخطيئة لفائدة حالة ممجّدة. فأبدية النفس والجسد قد أعيد بناؤها مع جسد صار منذ الآن بلا خطيئة. آ 7: يتأكّد النبيّ أن محبّة الله أفضل من الحياة، فيتابع خدمة الشكر ويقول: "تمدحُك شفتاي". وهكذا أباركك كل حياتي "وباسمك أرفع يديّ". فهو يمدح الرب ويباركه بكلماته وأعماله. يباركه كل حياته. لهذا يرفع يديه باسمه. لقد علّمنا مرارًا أن رفع اليدين ليس موقف الصلاة بلا علامة انشغال سام. فهو اذن سيمدح الله طوال حياته لأنه أحبّه حبًا يفوق ألف حياة. فهناك بعد الحياة الحاضرة، حياةٌ نحياها في حضن ابراهيم: راحة مسكين يبارك الله. في هذا الموضوع قال النبي: "ليس الاموات يسبّحونك يا رب، ولا الهابطون إلى الجحيم" (114: 17- 18). فحبّ الله فوق كل حياة. والله قد هيّأ للذين يحبّونه ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر (1 كور 2: 9). (هيلاريوس). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|