عطية الله
4: 1- 42
من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش أبداً.
يبدو لقاء يسوع مع السامرية بشكل دراما (كما على مسرح) مع مشاهد متعاقبة تجعل العمل يتطوّر ويتقدّم.
الإطار واضح: بئر يعقوب المحمّل بالذكريات منذ أيام الآباء، يقع على الجبل المقدس الذي ما زال السامريّون يذبحون عليه حتى اليوم الحمل الفصحي (جبل جرزيم).
الوقت: ساعة الظهر والحرارة على أشدّها. الساعة التي ستكون خاتمة الوحي.
الأشخاص في المشهد الأول (آ 1- 26): يسوع وقد تعب من السفر، فجلس على حافة البئر. وامرأة تحمل معها دلوَها (جرّتها). من يقطع هذا الصمت ويبدأ الكلام؟ يسوع بطلبه الذي اعتُبر في غير محلّه. ولكنه أردف مع ذلك: "لو كنت تعرفين عطيّة الله ومن هو هذا الذي يطلب منك ماء"! لكل جزء من الجملة أهميته. في وقت أول، أيقظ يسوع عند المرأة رغبة في ماء بحيث لا تأتي لتملأ جرّتها كل يوم. بل ماء يجري دوماً بارداً من نبع لا ينضب.
وقالت المرأة ليسوع: "هل أنت أعظم من أبينا يعقوب"؟ مع هذه الكلمة الساخرة، نستشفّ فضولية المرأة التي ترغب في التعرّف الى مُحاورها. ونستطيع أن نتتبّع التدرّج (على مدّ هذا النص) في اكتشاف هوية هذا "اليهودي" التي سترى فيه النبي ثم المسيح. ولكن يجب قبل هذا أن تعي المرأة وضعها الاخلاقي الخاص.
عطيّة الله! فمن هو هذا الإله الذي يريد أن يعطي حياة تجري إلى الأبد؟ قد نضع جانباً الجدال حول موضع العبادة: في أورشليم أم في جرزيم؟ ولكن هذا الجدال يتضمّن عنصراً هاماً جداً هو: وحي الله كأب، كإله يبحث عن العابدين الحقيقيين بالروح والحقّ. قبل هذا، جاءت المرأة لتستقي ماء، فطلب منها يسوع ليشرب. والآن، ها نحن مدعوّون لاكتشاف "الفاعل" غير المنظور: الآب الذي بكلمة ابنه يسوع يريد أن يدخل في حوار حقيقي مع جميع البشر في الأرض كلها.
وننتقل إلى المشهد الثاني (آ 27- 42) مع وصول التلاميذ. يقابل موضوعُ الخبز موضوع الماء. وساعة الظهر توافق ساعة الحصاد. للوهلة الأولى لم يفهم التلاميذ (كما لم تفهم المرأة) كلمات يسوع وما فيها من "ألغاز". عن أي طعام يتكلّم، عن أي عمل يتحدّث؟ إتمام إرادة الآب (6: 38- 40؛ 17: 4). هذا يعني أن نبدأ حواراً رغم اللياقات الاجتماعية. أن نرغب في ملء الحياة قبل أن نقوم بفحص ضمير دقيق، أن ننفتح على علاقة عميقة مع الآب الذي يخطو دائماً الخطوة الأولى لكي يأتي إلينا.
وترد أقوال عن موضوع الزرع والحصاد. وهناك مثل لدى الفلاحين يقول إن الوقت لم يحن بعد من أجل الحصاد. سيتجاوز يسوع الظواهر ويدعو أخصّاءه ليكتشفوا أن الساعة قد جاءت الآن. نحن اليوم في يوم الخلاص.
وخاتمة الخبر تحمل إلينا توسيعاً حاسماً. فالمرأة التي تساءلت بخفر: ما يكون المسيح؟ ها صارت مرسلة الى قريتها. وتراكض الناس وأعلنوا في النهاية أن يسوع هو مخلّص العالم. هذا إعلان جوهري في مسيرة الارتداد: انطلقنا من حاجات فرديّة نشعر بها كل يوم، من توق إلى الحياة، من تجذّر في تقاليد دينية خاصة. وها هو وحي الآب يحرّك انفتاح القلب هذا ويجعله يتجاوز كل الحواجز. الايمان يقوم بأن نرى في يسوع ذاك الذي يحمل الآن الخلاص للعالم.
الماء الحيّ الذي وعد به يسوع، هو أولاً كلمة الوحي التي تفتح الانسان على حبّ الله الآب. ولكن كيف تولّد هذه الكلمة نتائجها من دون عمل روح الحق الذي لن يُوحى به بشكل تام إلاّ حين يسيل الدم والماء من قلب يسوع المطعون على الصليب (19: 34).
إذا أردنا أن نعي كل ما يمكن أن تدل عليه لفظة "عطش"، يكفي أن نتذكّر نفوسنا في الصحراء، أو ننظر إلى دعاية حول بعض المشروبات. لا يمكن أن نبقى لا مبالين. ولكن هذا يدلّ أيضاً على رغبات لا نعرف أن نسيطر عليها. والحال أن الله خلقنا بعطشنا وجوعنا، ويهمّه أن لا تخيب آمالنا، بل تتحقّق شخصيتُنا تحقيقاً صحيحاً.
تألم العبرانيون في الصحراء من العطش. إحتاجوا إلى الماء. جنّ جنونهم، فظنوا أن الله جاء بهم إلى هنا لكي يميتهم عطشاً. يا له من تخيّل خاطىء! فالله سيكشف عن نفسه مرة أولى على أنه ينبوع فيّاض بالحياة، أنه يقود الى الماء الذي يطفىء العطش. وعلى بئر يعقوب، سيذهب الله أبعد من ذلك: ففي ابنه يسوع طلب أن يشرب من السامرية. لقد أخذ على عاتقه كل عطش فينا لكي يهدّئه، بل لكي يملأه بحياته ويفتح أمامنا الطريق التي تقود إلى كماله.
وحين كان يسوع يمشي على طرقات البشر، كان طعامه أن يعمل إرادة الذي أرسله (آ 34). وفي مساء خميس الأسرار، أعطى الكأس لتلاميذه وأعلن لهم: "لن أشرب من عصير الكرمة إلى أن يأتي ملكوت الله" (لو 22: 18). وعلى الصليب، حين جاءت ساعته صرخ بصوت عظيم وأعلن أنه عطشان (19: 28). وهكذا دلّ على أنه مستعدّ لأن يذهب إلى النهاية في تتميم رسالته. كما قال مز 14: 3؛ 62: 2: "نفسي عطشى إلى الإله الحي. أنت ربي الذي أبحث عنه. نفسي عطشى إليك".
وخلال صعودنا إلى الفصح، يوجّهنا المسيح نحو ينبوع الحياة، نحوه هو بالذات. لنتقبّل كلمته. ولنتبعه في الطريق الذي يقدّمه للسامرية ولنا. يجب أن نتجاوز عطشنا إلى الماء وجوعنا إلى الطعام، فنصل إلى عطش وجوع إلى كلمته، إلى الاتحاد به من أجل تحقيق ذواتنا.
إنه يدعونا لنقاسمه الجوع (والعطش) الذي يحمله. وهو يأتي ليملأه بطعام القيامة الذي هو الافخارستيا: فهي ينبوع ينشر حبّ الله في قلوبنا، أي الروح القدس. وحين يعود في المجد، سنسمعه يقول لنا: "كنت عطشاناً فسقيتموني" (مت 25: 34).
قام يسوع بالخطوة الأولى. قام بعبور حقيقي. مرّ عبر السامرة التي تبغضها أورشليم. وخطا خطوة ثانية: تحدّث مع امرأة، وهذا ما طرح سؤالاً على التلاميذ. وفي الخطوة الأخيرة طلب ماء ليشرب كرجل يحسّ بالعطش.
تعرّفت السامرية إلى يسوع، علماً أنه إنسان منفتح لا قصير النظر ومحدود. تلك كانت بداية مسيرة الايمان. ولكن يسوع قلب الطلب الذي طلبه عند حافة البئر. فهو الذي يعرض الآن على المرأة أن يقدّم لها الماء الحي لتطفىء عطشها. تردّدت المرأة. ليست أكيدة بأنها فهمت جيداً. فأعطاها الإيمان أن تخطو خطوة أخرى. ينبوع الماء الحيّ عطيّة الله، يسوع هو إنسان حقّ وإله حقّ، الماء الذي يتحدّث عنه يسوع ليس الذي يخرج من ينبوع مثل نهر. لهذا تستطيع السامرية أن تترك جرّتها التي لا تحتاج إليها لكي تؤمن: "من يؤمن بي ليشرب" (7: 32). هل نحس بعطش إلى الإيمان؟
أيها الرب يسوع أريد أن أشرب كلماتك حتى آخر نقطة. أريد أن أغطس في إنجيلك كما في بحر واسع. أريد أن أترك حب أبيك يغمرني كما في طوفان. حينئذ تقودني إلى ينبوع الحياة الذي لا نهاية له فلا أعود أعطش