رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
صرخة إلى الله لإنقاذه مَا هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَعْتَبِرَهُ، وَحَتَّى تَضَعَ عَلَيْهِ قَلْبَكَ [17]. في ضيقته شعر أيوب أن الإنسان أتفه من أن يكون موضع التفات الله ومخاصمته وامتحانه. كأنه يقول لله: لماذا تشغل نفسك بكائنٍ ضعيفٍ هكذا؟ لماذا تتعهده منذ الصباح وتمتحنه؟ إنه أتفه من أن يقف أمامك، عاجز كل عجز عن أن يدخل في بوتقة التجارب. يقول المرتل: "من هو الإنسان حتى تذكره، وابن آدم حتى تفتقده" (مز 8: 4). ولعل أيوب وقف مندهشًا أمام اهتمام الله الفائق بالإنسان، فمع ضعف الإنسان وحقارته، لكن الله مشغول به، يمتحنه لكي يزكيه ويمجده. يعجب أيوب أن يضع الله قلبه على الإنسان فيكون عزيزًا عليه، كشخصٍ يعطف عليه، ويقيم له موضعًا في قلبه الإلهي. يتعهده كل صباح بمراحم جديدة كما يحرص الصديق على حب صديقه له، أو كما يسأل الطبيب كل صباح عن حال مريضه. وفي كل لحظة يمتحنه، كمن يجس نبضه ويغار عليه. في حديث القديس غريغوريوس النيسي عن خلقة الإنسان يرى أن الله قد خلق العالم بكل إبداعٍ كقصرٍ عظيمٍ أعده لأدم وحواء كملكٍ وملكةٍ. وأن الله قدم للإنسان كل إمكانية السعادة والسلطان على الخليقة التي أوجدها الله من أجله. وفي حديثه عن العظمة الحقيقية والعظمة الباطلة تحدث القديس مار يعقوب السروجيفي إبداع حيث يبرز حب الله الفائق نحو الإنسان. فقد زين السماء بالكواكب وهيأ الأرض بالمخلوقات الجميلة، وقدمهما للإنسان لتكونا تحت سلطانه. لقد أراد الله للإنسان أن يكون صاحب مجد وسلطة، لكن بحسد إبليس سقط في العظمة الباطلة، ففقد عظمته الحقيقية. ومع هذا فقد سمح الله لآدم إن يعود إلى ما كان عليه من تراب لا ليذله، بل لكي لا يحيا إلى الأبد فاقدًا عظمته، إنما باكتشاف حقيقته ينال المجد خلال عمل المخلص. * يمجد الله الإنسان بأن يغنيه بفيض من عطية العقل، ويفتقده بإلهام النعمة، ويمجده بعظمة عطية الفضيلة، فمع أنه هو لا شيء في ذاته، لكنه خلال سخاء حب الله المترفق يهبه أن يكون شريكًا في معرفة الله ذاته. يضع الرب قلبه على الإنسان، وهكذا يمجده فيأتي به إلى الدينونة بعد أن يهبه عطاياه، يزن استحقاقاته بدقةٍ، وبحزمٍ يحاكم أثقال الحياة، ويقدم عقوبة دقيقة بعد أن وُهب مزايا كثيرة. البابا غريغوريوس (الكبير) ولمن أُعطى السلطان على كل الطبيعة ومخلوقاتها ليختصها لذاته؟ إنه لشرف أصيل يكلل جبينه، ويسمو به إلى السماء، فوق الكواكب، أرفع من الشمس تشامخًا وعزة... ومع أنه أوضع منزلة من الملائكة لارتباطه بجسدٍ ماديٍ فقد وُهب قوة لفهم ومعرفة ربه وخالقه. القديس باسيليوس الكبير لم تسأل السماء، بل هو زينها بمناظر حسنة، تُبهر عيون الناظرين. ليس للشمس فم لتطلب منه نورًا عظيمًا يضيء على الخليقة جميعها. زيَّن جميع أجناس الطيور والبهائم بألوان شهية وبهية منذ البدء. زين الخليقة، وفي كمالها لم تتغير زينتها. أتقن بيت الخليقة جميعها كما قيل، وزينها بصور جميلة. قام البيت من بناء مملوء عجبًا. ملأه جميعه حُسنًا، بزيناتٍ لا يُنطق بها. ولما أتقن البيت بجميع ما فيه طلب الصانع أن يقيم فيه من هو ممتلئ جمالًا. أخذ ترابًا وجبل آدم، ونفخ في وجهه نسمة حياة محيية. أتقن نفسه، فصار مثالًا مملوء عجبًا! صنعه كشبهه، وملأه مجدًا وبهاءً! اشتعل ضوءه، وانطفأ أمامه نور الشمس لما فيه من مجدٍ وهبه إياه سيده عندما خلقه. القديس مار يعقوب السروجي القديس يوحنا الذهبي الفم وَتَتَعَهَّدَهُ كُلَّ صَبَاحٍ، وَكُلَّ لَحْظَةٍ تَمْتَحِنُهُ! [18] * بماذا تغنى داود مشابهًا هذه العبارة؟ "يا رب من هو الإنسان حتى تعرفه؟ أو ابن الإنسان حتى تهتم به؟" (مز 144: 3-4) لماذا قال داود هذا عن البشر، وما هو تفكيره عندما شرح ما جاء بعد ذلك: "الإنسان مثل الباطل، تعبر أيامه كظل". لماذا بكل الحق، يمجد الله هذا الإنسان الضعيف، ويعيره اهتمامًا لحال الشر الحاضر؟ يسأل الأبرار الله بسبب جهلهم... ذلك لأنه "صانع الخيرات ومحب للإنسان" (حك 7: 12)، يفتقد الذي خلقه مرارًا ويعطيه اهتمامًا عظيمًا. لهذا يضيف أيضًا داود: "يا رب طأطأ سماواتك وانزل" (مز 144: 5؛ 18: 9). بهذا يظهر اهتمام الله الشديد بالبشر، فإنه إذ يطأطأ السماوات ينزل بنفسه إلينا "الكلمة صار جسدًا" (يو 1: 14)، فإنه شاركنا حالنا، يقوي ويحصن ضعفنا. أما أيوب فيُظهر بإسهاب مدى الخير الذي يلحق بالإنسان الذي يذكره الله. الأب هيسيخيوس الأورشليمي لكن لنلاحظ أن الله بعد أن يفتقد الإنسان في الفجر يمتحنه فجأة، فإنه باقترابه يرفع قلوبنا إلى الأعالي الفاضلة، وإذ ينسحب يسمح له أن يُهاجم بالتجربة. بعد نوال عطايا الفضائل، فإنها إن لم تتحرك النفس بهجوم التجربة تنتفخ، وتظن أن ما نالته هو من عندها... هكذا إيليا أُفتقد عند الفجر، ففتح أبواب السماء بكلمة، لكن حالًا جُرب، فهرب إلى البرية كمن بلا عون، خوفًا من سيدة وحيدة (1 مل 19: 3). وهكذا بولس إذ رُفِعَ إلي السماء الثالثة، واخترق أسرار الفردوس نال تأملًا. ومع هذا إذ عاد إلى نفسه كان يصارع ضد هجمات الجسد، وخضع لناموس آخر في أعضائه، فكان حزينًا بسبب تمرده متطلعًا إلى أن ناموس الروح صار مهددًا (2 كو 12: 2 إلخ). البابا غريغوريوس (الكبير) حَتَّى مَتَى لاَ تَلْتَفِتُ عَنِّي، وَلاَ تُرْخِينِي رَيْثَمَا أَبْلَعُ رِيقِي؟ [19] يطلب من الله أن يرفع عصاه عنه ولو إلى لحظات لكي يتنفس. عالج القديس يوحنا الذهبي الفم في مقاله: "العناية الإلهية" مشكلة الذين يتعثرون في محبة الله بسبب الضيفات التي تحل بهم: * لنسرع إذن بإصلاح الذين يتعثّرون بسبب الضيق ناسين عناية الله وحبه، فنجنّبهم السقوط تحت هذه العقوبة، موضّحين لهم علّة دائهم. ما هي علّة هذا الخطر العظيم: تجاهل عناية الله؟! إنّه طيش الفكر وفضوليّته. اشتهاء تفهّم كل علل الأحداث التي تحل بنا، والرغبة في مقاومة عناية الله غير المدركة ولا موصوفة، تلك العناية الفائقة لكل فحص واستقصاء! ومع هذا لا يخجل الإنسان من هذا الموقف الفضولي المملوء تهورًا. تُرى من فاق بولس في حكمته؟ اخبرني، ألم يكن إناءً مختارًا؟ ألم يأخذ نعمة الروح الفائقة غير المنطوق بها؟ ألم يتكلّم المسيح فيه؟ ألم يكشف الله له عن أمورٍ لا يُنطق بها؟ ألم يسمع ما لا يحق لإنسان أن ينطق به؟ ألم يُختطف إلى الفردوس ويرتفع إلى السماء الثالثة؟ ألم يَجُبْ البحار والبر يجذب الوثنيّين إلى المسيحيّة؟ ألم ينل من مواهب الروح المتنوّعة...؟ ومع هذا كلّه، فإن هذا الرجل بعظمته وحكمته وقوّته وامتلائه بالروح - إذ خصّه الله بهذه الامتيازات، عندما يتطلّع إلى عناية الله، لا في كل جوانبها، بل في جانب واحد منها، تأخذه الدعوة منسحقًا، ويتراجع سريعًا خاضعًا لله غير المدرك. فإنه لم يبحث عن عناية الله بالملائكة ولا رؤساء الملائكة أو الشاروبيم والسيرافيم وكل الطغمات غير المنظورة، ولا في عنايته بالشمس والقمر والسماء والأرض والبحر، ولا في سهره على الجنس البشري بأكمله واهتمامه بالحيوانات غير العاقلة والزرع والعشب والأهوية والينابيع والأنهار... لكنه عناية الله الخاصة باليهود واليونانيين وأفاض في بحث النقطة، وشرح كيف دعي الله الأمم ورفض اليهود ثم أوضح كيف حقق الخلاص... وحينما أدراك هذا، اكتشف الرسول أنه أمام محيط واسع، وإذ حاول فحص أعماق هذه العناية ارتجف متحققًا استحالة تفسير عللها، وارتعب قدام عنايته اللانهائية غير المحدود ولا موصوفة ولا مفحوصة ولا مدركة، فتراجع في مهابة متعجبًا،وهو يقول: "يا لعمق غني الله وحكمته وعلمه"! (رو 11: 33) لقد أوضح بعد ذلك كيف تلامس مع أعماقها دون أن يفلح في استقصائها، قائلًا "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء؟!" إنه لم يقل أن أحكامه عن الفحص فحسب وإنما بعيدة أيضًا عن الاستقصاء. ليس فقط لا يقدر الإنسان على فهمها، بل ولا حق له أن يبدأ في الاستقصاء. يستحيل عليه أن يدرك غايتها أو حتى يكتشف بدأ تخطيطها؟! وإذ قال "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" أنهى حديثه - وقد امتلأ عجبًا ورعدة - بأنشودة شكر قائلًا: "لأن من عرف فكر الرب، أو من صار له مشيرًا. أو من سبق فأعطاه فيُكافأ؟! لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى أبد الأبد. آمين" . القديس يوحنا الذهبي الفم أَأَخْطَاتُ؟ مَاذَا أَفْعَلُ لَكَ يَا رَقِيبَ النَّاسِ؟ لِمَاذَا جَعَلْتَنِي هَدَفًا لَكَ، حَتَّى أَكُونَ عَلَى نَفْسِي حِمْلًا! [20] شهد الله عن أيوب أنه كامل ومستقيم، أما أيوب فيعترف أنه مخطئ. يقول "أأخطأت؟" أو إني "أخطأت". إن كان أمام أصدقائه يعلن أنه بريء لم يرتكب إحدى الخطايا الشنيعة التي ربما ظن الأصدقاء أنه ارتكبها سرًا، إذا به يعلن أمام الله أنه لن يتبرر قدامه، لأنه يخطئ. كيف يبرر نفسه أمام الله "رقيب الناس"، الذي يعرف ما في قلوبهم وأفكارهم ويشغله قداستهم ونقاوتهم. يعلن أيوب أمام الله عجزه عن التصرف، فقد أخطأ ولكن ماذا يفعل لله؟ إنه لا يوجد من يرضي العدل الإلهي، لكن نطلب مراحمه، ونختفي تحت ظل جناحيه، ونتهيأ لعمل نعمته، فنصير موضع سروره. * يقول: "إن كنت قد أخطأت، فماذا أفعل، يا من تدرك ذهن البشر؟" [20] أليس أنت الذي دعوتني "بلا لوم، حقًا، بارًا، تقيًا، لا يوجد فيَّ شر؟" (1: 8؛ 2: 3). إنك لم تقدم هذه الشهادة عن جهل، فأنت تعرف الإنسان بكليته، إذ خلقت ما بداخله وما بخارجه؛ لكن إن كان الذين يشتمونني ويحتقرونني قائلين إنني مخطئ، يستخفون بأعمالي البارة التي تأهلت لشهادتك، فماذا أفعل؟ الأب هيسيخيوس الأورشليمي لهذا يقول: "أنت تدرك ذهن البشر". فإنهم وإن لم يتكلموا فأنت تعرف أفكارهم السرية، كل الانعكاسات الشخصية. لقد احتمل مثل هذا الإنسان الكثير. فإنه لم يقل: "أنا بار"، بل قال: لديهم فكرة صالحة عني. أنظر إنهم يوجهون اتهامًا ضدك بسبب تجاربي. القديس يوحنا الذهبي الفم وَلِمَاذَا لاَ تَغْفِرُ ذَنْبِي، وَلاَ تُزِيلُ إِثْمِي، لأَنِّي الآنَ أَضْطَجِعُ فِي التُّرَابِ؟ تَطْلُبُنِي فَلاَ أَكُونُ! [21] في صلاة حارة صرخ يطلب المغفرة: "لماذا لا تغفر ذنبي، ولا تزيل إثمي؟" واضح أنه لم يطلب مجرد الراحة الزمنية، ورفع التجربة عنه، إنما يطلب رضا الله حتى يُرجع إليه سروره الداخلي. يطلب المغفرة الآن وهو في العالم، لأنه إن مات واضطجع في التراب لا يكون للتوبة موضع، وتنقطع علاقته بالله. * بهذه الكلمات عينها، ماذا يعلن سوى الرغبة في الوسيط المتوقع، الذي يقول عنه يوحنا: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 9). أو بالحري تنزع الخطية تمامًا عن البشرية عندما يتحول فسادنا إلى مجد عدم الفساد. فإننا لا نستطيع أن نتحرر قط من الخطية مادمنا ممسكين في الجسد المائت. لذلك يتوق الشخص إلى نعمة المخلص لأجل كمال القيامة عندما يتطلع الشخص إلى الشر أنه قد زال تمامًا. لهذا فإنه في الحال بعدما تحدث عن العقوبة التي كان يستحقها (خلال ميراثه من آدم) والدينونة التي يرتعب منها بسبب أفعاله يكمل: "الآن أضطجع في التراب، تطلبني في الصباح فلا أكون. لقد قيل للإنسان الأول عندما أخطأ: "أنت تراب، وإلى تراب تعود" (تك 3: 19). الآن في الصباح، أي في الإعلان عن النفوس، عندما تصير الأفكار عارية عند مجيء الديان، يحل النور عوض ظلمة الليل. قال المرتل في هذا: "في الصباح أقف أمامك وأنظر" (مز 5: 3). البابا غريغوريوس (الكبير) * كلما قبلناه (بالتناول) نعلن موت الرب. بالموت نعلن غفران الخطايا. إن كان سفك الدم من أجل غفران الخطايا، فيليق بي دائمًا أن أقبله لكي يغفر دومًا خطاياي. القديس أمبروسيوس امحُ ما تفعله أنت لكي يخَّلص الله ما قد فعله. يليق بك أن تكره عملك الذاتي فيك، وتحب عمل الله فيك. عندما لا تسرك أعمالك الذاتية، في هذا تبدأ أعمال الله الصالحة، إذ تجد خطأ في أعمالك الشريرة. الاعتراف بالأعمال الشريرة بداية الأعمال الصالحة. إنك تعمل الحق وتأتي إلى النور. كيف تعمل الحق؟ إنك لا تدلل نفسك ولا تهادنها ولا تتملقها، ولا تقول: "إني بار"، بينما أنت غير بار؛ هكذا تبدأ تفعل الحق. إنك تأتي إلى النور لكي ما تعلن أعمالك أنها بالله معمولة، لأن خطيتك، الأمر ذاته الذي تكرهه، لا يمكنك أن تبغضه ما لم يشرق الله فيك ويظهره الحق لك. أما من يحب خطاياه حتى بعد نصحه، فهو يبغض النور الذي ينصحه ويهرب منه، فالأعمال التي يحبها لا تظهر له أنها شريرة. من يفعل الحق يتهم أعماله الشريرة فيه ولا يبرر نفسه، ولا يصفح عن نفسه حتى يغفر له الله. فمن يرغب في أن يغفر له الله هو نفسه يعرف خطاياه ويأتي إلى النور، حيث يشكر على إظهار ما يلزمه أن يبغضه في نفسه. إنه يقول لله: "ردّ وجهك عن خطاياي". ولكن بأي وجه يقول هذا ما لم يضف "لأني أنا عارف بآثامي، وخطيتي أمامي في كل حين" (مز 51: 11)؟ لتكن آثامك أمامك يا من لا تريدها أن تكون أمام الله. لكن إن وضعت خطاياك خلفك، فسيدفعها الله ليجعلها أمام عينيك، يحدث هذا في الوقت الذي لا يعود يوجد فيه ثمر للتوبة. القديس أغسطينوس |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
لقد صرخت إليه، ولكني لازلت في محنة |
أيوب | صرخة للنجدة من عند الرب |
أيوب | صرخة لوقف التأديب |
تميم يرسل مبعوثا خاصا إلى باكستان برسالة سرية لإنقاذه |
أحمد ماهر: ليه جلسات التصويت بـ«لجنة الـ50» سرية |