عطيّة الروح واهب الحب
إن كان السيد المسيح يُعلن برّه فينا برفعنا داخليًا فوق الآلام وجعلها مصدر مجد حتى في هذا الزمان الحاضر، لنحتمل الضيقات بصبر المسيح على رجاء المجد الأبدي، فإنه من جانب آخر يهبنا بروحه القدوس "محبة الله" منسكبة في قلوبنا لكي تسندنا فلا يخزى رجاؤنا. بمعنى آخر صبرنا في التجارب واحتمالنا للألم لا يقف عند قوّة عزيمتنا أو إمكانيّاتنا البشريّة، إنما على عمل الله فينا، إذ يسكب حُبّه بفيض على المجاهدين روحيًا لأجل اسمه وبقوّة نعمته.
يقول الرسول: "والرجاء لا يخزي لأن محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" [5]. سرّ القوّة في الضيق، وانفتاح الرجاء في قلوبنا عطيّة الروح القدس الساكن فينا، إذ يهبنا محبّة الله غير المتغيّرة بفيض، قائلًا: "انسكبت" وكأنها تُعطى بلا حساب كمن تنسكب من السماء لتملأ القلب.
* لم يقل الرسول "قد أعطيت" بل قال: "انسكبت في قلوبنا" ليظهر فيضها.
هذه العطيّة هي العظمى، فإنه لم يهبنا السماء ولا الأرض ولا البحر، إنما ما هو أثمن من هذه كله، جعلنا نحن البشر ملائكة، نعم بل أبناء الله وإخوة المسيح. لكن ما هي هذه العطية؟ الروح القدس!
لو لم يكن يريد أن يقدّم لنا أكاليل عظيمة على جهادنا لما وهبنا مثل هذه العطايا القادرة أن تسندنا في جهادنا. هنا يُعلن دفء محبته التي يكرمنا بها لا تدريجيًا ولا شيئًا فشيئًا، وإنما يسكبها بفيض بكونها ينبوع بركاته، وذلك قبل صراعنا.
هكذا وإن كنت لست مستحقًا بالمرة، لكنه لم يزدرِ بكَ، بل وهبكَ حب ديّانك كمعين قدير يسندك، لهذا يقول الرسول: "والرجاء لا يخزي"، ناسبًا كل شيء لمحبّة الله وليس لأعمالنا الذاتية الصالحة.
بعدما أشار إلى عطيّة الروح القدس عاد ليتحدّث ثانية عن الصليب(118).
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كأنه يقول أن محبّة الله قد انسكب في قلوبنا بالروح القدس الساكن فينا...
سامية هي فضيلة الحب المبجّلة، إذ يُعلن الرسول الطوباوي يوحنا أنها ليست فقط تُنسب لله بل هي الله: "الله محبّة، ومن يثبت في المحبّة يثبت في الله والله فيه" (1يو4: 16) (119).
الأب يوسف
* بهذا (القول الرسولي) نفهم أن الروح القدس ليس عملًا وإنما هو المدبر وينبوع الحب الإلهي الفائض(120).
القديس أمبروسيوس
* كما أن جسدك إن صار بلا روح، أي بدون نفسك يكون ميتًا، هكذا نفسك بدون الروح القدس، أي بدون المحبّة، تُحسب ميّتة.
* إن كان حب الله المنسكب في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا يجعل النفوس الكثيرة نفسًا واحدة، والقلوب الكثيرة قلبًا واحدًا، فكم بالأحرى يكون الآب والابن والروح القدس الله الواحد، النور الواحد، والبدء الواحد؟
* إذ نكون أعضاء تربطنا الوحدة معًا؛ ما الذي يقيم هذه الوحدة إلا الحب الذي يربطنا معا؟
* ليكن لك حب فيكون لك الكل؛ وبدونه كل ما يمكن أن يكون لك لا ينفعك شيئًا. إنما ما يجب أن تعرفه هو أن الحب الذي نتكلم عنه يُشير إلى الروح القدس. اسمع ما يقوله الرسول: "محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا"(121).
القديس أغسطينوس
* [عن عمل الروح القدس في قلوب الشهداء بسكب حب الله فيهم.]
لقد جعلهم شهداءه بالروح القدس الفعُال فيهم، إذ يجعلهم يحتملون أتعاب الاضطهادات من كل نوع، ويصيرون متلألئين بالنار الإلهية، فلا يفقدون دفء محبتهم للكرازة(122).
القديس أغسطينوس
* إنه يقول: "محبّة الله المنسكبة في قلوبكم"؛ ولكي لا يظن أحد أن محبّة الله هي من عندياته يضيف: "بالروح القدس المُعطى لنا". لذلك لكي تحب الله دعْ الله يسكن فيك، فيكون "الحب" ذاته فيك، بمعنى أن محبته تحركك وتلهبك وتنيرك.
* لا تتقبل الملائكة ولا البشر الحكمة إلا بالشركة في هذه الحكمة التي نتّحد بها بالروح القدس الذي يسكب الحب في قلوبنا(123).
القديس أغسطينوس
* [الحب الإلهي المنسكب في قلوبنا بالروح القدس يهبنا لا قدرة على تحقيق الوصايا الناموسية فحسب وإنما لذّة في تحقيق الوصايا الإنجيليّة التي تبدو صعبة ومستحيلة:]
"لأن محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس" (رو5: 5).
بهذا يُنزع عنّا كل اهتمام بأي أمر آخر، ولا يرغب (المؤمن) في صنع ما هو ممنوع منه، أو يهمل فيما قد أُمر به. لكن إذ يكمل كل هدفه وكل اشتياقه في الحب الإلهي على الدوام، لا يقع في التلذذ بالأمور التافهة، بل ولا يطلب حتى الأمور المسموح له بها.
فتحت الناموس يسمح بالزوجات الشرّعيات، وهذا فيه قمع للذّةوالخلاعة مكتفيًا الإنسان بامرأة واحدة، لكنه لا يبطل بهذا وخزات الشهوة الجسدانيّة، ويصعب إطفاء النار المتقدة والتي تُمون بوقود دائم، حتى لا تخرج إلى الخارج... أمّا الذين تضرمهم نعمة المخلص بحب الطهارة المقدس، فإنهم يهلكون كل أشواك الشهوات الجسديّة بنار الحب الإلهي...
كذلك من يقنع عند حد دفع العشور والبكور...بالتأكيد يخطئ في طريقة التوزيع أو كميته... أمّا الذين لم يزدروا بنصيحة الرب بل تركوا كل ممتلكاتهم للفقراء، وحملوا صليبهم، وتبعوا مانح النعمة لا يكون للخطية سلطان عليهم، إذ لا يساورهم القلق من جهة طعامهم اليومي... فالشخص الذي يدفع العشور والبكور... يستحيل عليه أن يتخلص من سلطان الخطية، وأما الذي تبع نعمة المخلص، فإنه يتخلص من حب الامتلاك(124).
الأب ثيوناس
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطى