معنى الصوم
بقلم الأب رامي الياس اليسوعيّ
مقدمة تاريخية: الصوم الكبير هو زمن توبة بالنسبة لنا المسيحيّين. مدّته 48 يوم ابتداءً من أثنين الرماد وحتى يوم الفصح. فكرة إقامة الصوم الكبير أُوحي بها للكنيسة انطلاقًا من فكرتين أساسيّتين:
* ممارسة التوبة.
* تقليد صوم المسيح خلال أربعين يومًا في البرية قبل بدء حياته العلنيّة.
فكرة جعل الصوم إلزامي تعود إلى القرن الثالث ميلاديّ وهذه الفترة الطوية كانت قصيرة في البداية ثم أصبحت 10 أسابيع بالنسبة للكنيسة اللاتينيّة و 7 أسابيع بالنسبة للكنيسة اليونانيّة. في البداية كان الصوم يكمن في اتخاذ وجبة طعام واحدة في اليوم، وكانت تؤخذ في المساء بعد غروب الشمس. في القرن السادس أُضيفت وجبة ثانية خفيفة.
في كلا الأحوال منذ البداية كانت فكرة الصوم موجّهة باتجاه الفصح والقيامة، جوهر وأساس الحياة المسيحيّة. فالمسيحيّون كانوا يعيّدون ويعيشون ذكرى معموديّتهم بمشاركتهم في صلوات وقداس ليلة الفصح حيث كانت تجري العمادات. فصلواتهم لأجل من سيعمّدون ومساندتهم لهم في مراحل التجارب كانت تُذكّرهم بالمراحل التي خاضوها قبل العماد والمتطلّبات الناتجة عنها.
الكتاب المقدّس بشكل عام
الكتاب المقدّس يقدّم لنا الصوم على أنّه أفضل وسيلة للاعتراف بسموّ الله، كما أنّه يجعل من الصوم والصلاة مع الصدقة إحدى الوسائل التي تُبيّن أمام الله تواضع ورجاء وحبّ الإنسان. ففي العهد القديم، الصوم المصحوب دائمًا بالصلاة، يعبّر عن تواضع الإنسان أمام الله. فالصوم هو نوع من إزلال النفس (أح 16).
بالصوم نعود إلى الله في موقف التبعية والخضوع وذلك قبل القدوم على عمل صعب، أو لطلب الغفران عن خطيئة ما ارتكبتها، أو لطلب شفاء ما، أو بعد مصيبة كبيرة، أو لطلب الانفتاح على النور الإلهيّ، أو لطلب النعمة الكفيلة بإتمام مهمّة ما (أع 12)، أو التحضير لملاقاة الله (خر 34، 28).
الأسباب متعدّدة والدوافع أيضًا، لكن في كلا الأحوال الهدف هو واحد: أن أكون متواضعًا أمام الله وبموقف إيمانيّ وذلك لاستقبال عمل الله ولكي أضع نفسي في حضوره. هذه الفكرة أو النيّة، تلمّح وتعبّر عن معنى الأربعين يومًا التي قضاها موسى بدون طعام (خر 34)، وإيليا أيضًا (3 مل 19، 8).
أمّا فيما يخصّ الأربعين يوم التي قضاها يسوع في البريّة، لم يكن هدفها الانفتاح على الروح، بما أنّه مملوء منه: قاده الروح إلى البريّة ودفعه للصوم حتى يدشّن حياته العلنيّة، المسيحانيّة بعمل استسلام وثقة بالله أبيه، وبالتالي يُثبّت على أنّه ابن الله فعلًا (متى 4، 1 - 4).
في العهد القديم عُرف الصوم الكبير على أنّه يوم المغفرة، وكانت ممارسته شرطًا للانتساب إلى شعب الله. وكان هناك بعض الملتزمين يصومون خارج هذا الصوم الكبير. مثلًا، كان تلاميذ يوحنا المعمدان يصومون مرّتين في الأسبوع وذلك لتحقيق أحد عناصر العدالة المُحدّدة لدى الأنبياء (لو 18، 12).
فإذا كان المسيح لم يعطِ قوانين محدّدة لممارسة الصوم، فذلك لأنّه أتى ليكمّل الصوم، وقد دعا إلى تجاوز هذه العدالة: «لا تظنّوا أني جئت لأحلّ الناموس والأنبياء، لم آتي لأحلّ لكن لأتمّم. إنّي أقول لكم، إن لم يزد برّكم على برّ الكتبة والفريسيّين فلن تدخلوا ملكوت السماوات» (متى 5). فالمسيح يركّز أكثر على عدم التعلّق بالأرضيّات والغنى (متى 19)، وخاصة على التخلي عن الذات لحمل الصليب (متى 10).
يدعو المسيح إلى ممارسة الصوم بكثير من «الحشمة»، معروف من قبل الله، هذا الصوم يصبح التعبير الأفضل عن الرجاء بالله، صوم متواضع يفتح القلب على العدالة الداخليّة، على عمل الله الذي يرى ويعمل في الخفية (متى 6). أعمال الرسل يسرد لنا بعض الممارسات الدينيّة الطقسيّة والتي تتضمّن الصوم والصلاة معًا (أع 13، 14).
بولس الرسول كان يصوم بمناسبات عدّة (2 قور 6، 11). والكنيسة، إذا حافظت على هذا التقليد، رغبة منها بالحفاظ على أبنائها في موقف انفتاح كامل على نعمة الله بانتظار عودة المسيح الثانية، فالصوم الحقيقيّ هو إذن صوم الإيمان، الحرمان من رؤية الحبيب، والبحث عنه باستمرار. بانتظار عودة العريس إلينا، الصوم من أجل التوبة له مكانته وأهميّته في الكنيسة «هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا ما دام العريس معهم؟ فما دان العريس معهم لا يستطيعوا أن يصوموا، ولكن تأتي أيّام يُرفع العريس من بينهم حينئذ يصومون» (مر 2).
المسيح والصوم
لقد ربط المسيح كلّ من الصلاة والصدقة بالصوم، واعتبرهم من الأمور الهامّة بالنسبة للحياة الروحيّة (متى 6). لكنّه طلب ممارستها بكثير من «الحشمة» والتحفّظ وخاصة بدون انتظار مقابل وبدون حسبان. فقبل أن نفهم بشكلٍ عميق العلاقة بين الصوم والصلاة والصدقة، يجب علينا أن نفهم معنى وأبعاد الصوم. سأقوم بذلك على ضوء تجربة المسيح في البرية.
الروح القدس الذي نزل على يسوع ساعة عماده وأعلنه ابن الله: «هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت»، هذا الروح هو الذي قاد يسوع إلى البريّة ليجرّبه إبليس. هذا يعني أن محتوى التجربة هو إثبات يسوع بأنّه بالفعل هو ابن الله. كلّ تجربة يبدأها المجرّب بعبارة «إن كنت ابن الله». وبالتالي يمكننا القول بأنّنا نواجه التجارب الثلاث التي عاشها يسوع. فالتجربة والخطيئة تتواجدان في كلّ مرّة نحاول فيها الاقتراب من الله والاتحاد معه، والعيش كأبناء له. لذلك نرى أنّ أعمال الشيطان وحضور الروح القدس يتواجدان في البريّة مع يسوع إذ أنّ الروح يريد أن يُثبّت بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله، والمجرّب يريد الاستفادة من هذه الفرصة لكي يستغلّها لحسابه ومصلحته. (الصوم والقيامة).
هناك توازي مهمّ جدًا بين تجربة يسوع في البريّة وما عاشه شعب العهد القديم في الصحراء وصلاة الأبانا (نحن). هذا التوازي يسمح لنا بأن نفهم بأنّ هدف الصوم في النهاية هو أن نعيش كأبناء لله. عاش يسوع التجارب الثلاث التي تعرّض لها شعب العهد القديم، إنّما الفارق هو أنّ يسوع لم يقع في التجربة، لم يستسلم لها وانتصر على المجرّب، على التجربة وعلى الخطيئة. في العهد القديم عندما جاع الشعب في الصحراء، أعطاه الله المنّ طالبًا إليه عدم الاحتفاظ به، وأنّه سيعطيه هذا المنّ كلّ يوم بيومه لأنّ الله لا يتخلّى عن شعبه. لكنّ الشعب وقع في التجربة وراح يخزّن المنّ خوفًا وضمانًا، بينما في البريّة يجيب يسوع المجرّب الذي يسأله: «إن كنت ابن الله فحوّل هذه الحجارة إلى خبز» قائلًا: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله». هذا يعني أنّ يسوع الابن، وهذا ما يميّز موقف الابن «طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات»، يعيش الله الآب على أنّه مصدر حياته هو لكونه الابن. هذا يعني أيضًا أنّ الله الآب وحده قادر على اشباع الإنسان، وأنّ الجزع الماديّ هو مجرّد صورة عن الجوع الحقيقيّ والجوهريّ، الجوع إلى كلمة الله وحضوره في حياة الإنسان « تأتي أيام يُرفع العريس من بينهم حينئذ يصومون». والوقوع في هذه التجربة يعود للقول بأنّ يسوع فضّل وتمسّك بالصورة هو الذي يملك الواقع والأهمّ: الإنسان خُلق ليصبح على صورة الله، والمسيح يرفض أن يصنع من الله صورة الإنسان، ونحن بدورنا مدعوّين إلى تحقيق ذلك وبالتالي عندما نصلّي نقول: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، خبزنا الجوهريّ كفاف يومنا.
أثناء مسيرته في الصحراء شكّ الشعب بأمانة الله فجرّبه: «لماذا أصعدتنا من مصر؟ ألِتقتلني أنا وبنيّ ومواشيّ بالعطش؟». وكان جواب موسى: لماذا تجرّبون الربّ؟ والمسيح بدوره يجيب المجرّب: لا تجربنّ الربّ إلهك. خصوصًا أنّ المجرب استعمل المزمور 91: «يوصي ملائكته بك فيحملونك على أيديهم لكي لا تصطدم رجلك بحجر». جواب يسوع للمجرّب يعني أنّ يسوع هو حقًا ابن الله وليس هو بصدد أن يلعب دور الابن كما يريده المجرّب. وفي صلاة الأبانا نقول لا تدخلنا في التجربة، أي لا تسمح بأن نقع، نستسلم للتجربة. في تجربته الثالثة صنع شعب العهد القديم عجلًا من ذهب وعبده وقدموا له الذبائح. والمجرّب يعرض على يسوع أن يعطيه جميع ممالك الأرض ومجدها شرط أن يسجد له. ويسوع يجيب: «للربّ وحده تسجد وإياه وحده تعبد». وفي صلاة الأبانا نقول: «ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك». يسوع يبقى إذن أمينًا للآب ولرسالته، رسالة الابن. لم يتخلّى عن الواقع من أجل الصورة، ولا عن ملكوت السماوات من أجل ملكوت أرضي. فعمله الخلاصيّ يمرّ في الواقع من خلال الواقع الإنسانيّ: آلام وموت بدل المجد والعظمة. فابن الله هو حقًا إنسان ويسوع لا يريد الهروب من هذا الواقع. لا يريد الهروب من الحقيقة. لذلك لدى خروجه منتصرًا على التجربة، آنذاك فقط أتت الملائكة لتخدمه.
نحن والصوم
يبقى السؤال: ما علاقة الصوم بذلك كله؟ أو كيف نفهم الصوم على ضوء خبرة وتجربة يسوع في البريّة؟ لكي نفهم جيدًا ما حدث في البريّة بين يسوع والمجرّب حيث عرض هذا الأخير على يسوع أن يحوّل الحجارة إلى أرغفة، وأن يلقي بنفسه من أعلى الهيكل، وأن يصبح ملك ذو سلطة على العالم أجمع. لكي نفهم ما حدث علينا أن لا ننسى أنّه على الصليب تتمّ السخرية من يسوع «أنقذ نفسك... انزل من على الصليب». لكن نهاية المطاف هي القيامة حيث يعلن الملاك بأنّ المسيح سبق تلاميذه إلى الجليل. ففي فترة الصوم، كزمن تحضير للقيامة نعيش كل هذه التجارب مع الصلب من خلال الأناجيل التي نقرأها في هذه الفترة.
فالمعركة التي خاضها يسوع ويدعونا على خطاه تكمن في:
* رفض علاقاتنا المزيّفة، والمشوّهة مع الله: ارم بنفسك من أعلى الهيكل.
* رفض علاقاتنا المزيّفة والمشوّهة مع الآخرين، التسلّط على العالم.
* رفض علاقاتنا المزيّفة والمشوّهة مع ذاتنا: أن نتغذى من حجارة تحوّلت إلى خبز.
إذن نحن مدعوّين لنعيش فعليًّا كأبناء لله، كأحبّاء الله. ولنخوض هذه المعركة، لدينا ثلاثة أسلحة، إن صحّ التعبير، ثلاثة وسائل تسمح لنا بالخروج منها منتصرين: الصوم والصلاة والصدقة.
يسوع الذي عاش وحقّق ذاته كأبن لله وذلك من البريّة حتى ساعة التخلّي الكبرى ساعة الصليب، إذ أنّه: استقبل ذاته من أبيه، ولذلك يصوم. يلتفت إلى أبيه فيصلّي، يلتفت إلى أبيه وإلى الآخرين فيعطي (الصدقة).
فالصلاة ليست مجرّد ترداد بعض الصلوات، والصوم ليس فقط الامتناع عن الأكل، والصدقة ليست مجرّد عطاء ماديّ للآخر. بل هذا كله يعود للقول بأن أعيش علاقة حقيقيّة مع الله ومع الآخر ومع ذاتي.
فالصوم إذن لا يكمن فقط في الامتناع عن الأكل أو عن بعض الرغبات. هذه الأمور تبقى تعبير رمزيّ لما هو أعمق وأكثر جوهريّة، إنّها تدعنا نقول بأنّ الله هو الوحيد الذي يستطيع أن يعطينا الخبز الحقيقيّ، الجوهريّ، أو بمعنى آخر هي تعبير على أنّني أُسلّم ذاتي لله واستقبلها منه، أنني ابن الله وليس لي إله غيره. وهذا الأمر يُعبّر عنه بطريقة إيجابيّة: أن أفتح عينيّ وأذنيّ حتى أنظر فعلًا لما يحدث من حولي حتى أستطيع أن أرى وأسمع المحتاج: «الحقّ، الحقّ أقول لكم، كلّما فعلتم بأحد أخوتي هؤلاء الصغار فلي أنا فعلتموه». فالخطيئة لا تكمن فقط في العمل السيّء والمؤذي، بل هي جوهريًا عندما لا أسعى للقيام بالخير، بمدّ يديّ لمن هو بحاجة إليّ، أن أكتفي بذاتي «الحيط، الحيط ويا ربّي السترة»، كما نقول باللغة العاميّة. مساعدة الآخر، هي صدقة، وليس فقط العطاء الماديّ، الصدقة هي أن أصغي للآخر، أن أكون حاضرًا له بالفعل، أن أعيش علاقات حقيقيّة، على مثال المسيح الذي ذهب إلى عطاء ذاته حبًّا بنا. فالصوم هو أولًا أن أقوم بأمور إيجابية، أن أعيد علاقاتي بشكل حقيقي، وبهذه الطريقة أعيش كابن لله.
الصوم هو أخيرًا أن أفرّغ ذاتي من كلّ ما يحجبني عن الله والآخر وذاتي، لكي أستطيع انتظار العريس الآتي والقائم من بين الأموات، ولذلك ارتبط الصوم بالقيامة في الكنيسة. فالصوم أخيرًا هو مسيرة تحرّر وموت عن الذات، لكي أستطيع عيش القيامة.
إذا كان يسوع قد عاش كلّ ذلك في صميم حياته اليوميّة، فكم بالأحرى نحن، علينا أن نعيشها واقعيًا. ولكن هذا غير ممكن بدون الصلاة. فبالصلاة أستقبل ذاتي من الله ولكن بالأخصّ أستمدّ منه العون والقوّة. بالصلاة أكتشف ذاتي وضعفي ممّا يسمح لي بالانطلاق بشكلٍ صحيح وحقيقيّ باتجاه ذاتي والآخرين.
الصوم والصلاة والصدقة يشكّلون معًا التوبة الحقيقيّة التي تكمن في الاعتراف بابتعادي عن الله والعودة إلى «حظيرة خرافه». فالصوم بدون التوبة لا معنى له ولا فائدة. بالصوم والصلاة والصدقة أموت عن ذاتي (أعيش معموديتي) لأقوم مع القائم من بين الأموات.
لذلك مرحلة الصوم هي مرحلة فرح، فرح قدوم العريس، فرح الاكتشاف بأنّنا أبناء الله. بالمعموديّة أصبحنا أبناء الله، وروحه يسكن فينا لكي يساعدنا للعودة إليه وإلى أخوتنا البشر. فإذا كنّا ننادي الله أبانا، فهذا يعني أنّنا أخوة. ولكي نستطيع القول بأنّنا اخترنا المسيح وأنّنا حقًا أبناء الله، علينا أن نتحقّق من ذلك في واقعنا اليوميّ.
علينا أن نتحقّق فعليًا بأنّنا أحرار وحقيقيّين. فالصوم إذن هو فترة فرح حيث نكتشف بنوّتنا لله، وهذا يقودنا بالضرورة إلى المحنة والتجربة، يقودنا إلى البريّة. لذلك لا بدّ من التخلّي عن الحزن لأنّه لا يأتي من الله، لا بل هو دلالة غيابه من حياتنا. في هذه الفترة نكتشف إلى أي حدّ نعمل ونتصرّف انطلاقًا من أحكام مسبقة، وأنّنا نضع الله في أفكار جامدة، وأنّنا نقف أمامه في موقف العبد بدلًا من الابن. فلنقف بشجاعة، شجاعة الأبناء ونعيش بالفعل كأخوة وكأبناء.