رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الإنسان في عالمنا المعاصر صورة الإنسان المعاصر:إن دارسي العلوم الإنسانية من فلاسفة وعلماء اجتماع وآداب ولاهوت، يشيرون إلى أن حياة الإنسان المعاصر مطبوعة بمظاهر تميزها عن حياة الإنسان فيما سبق، وقبل الدخول في تراثنا اللاهوتي عن الإنسان سنحاول هنا أن نستطلع بعضا من مظاهر حياة إنسان اليوم. 1- التغير وعدم الاستقرار: إن في الكون والطبيعة والمجتمعات البشرية نظام ثابت أبدي، هذا النظام كان سنداً مُطَمئِناً للإنسان في حياته.. لكن الإنسانية فقدت هذا السَنَد في عصرنا إذ اصبح كل شيء خاضعٌ للتغير. فنلاحظ أن "في المضمون البشري تطور وتغير عميق وسريع. ففي الحضارة الدينية الماضية كان المعنى الروحي "مُستَلَم" مثل وديعة تعطيها الأجيال القديمة إلى الجديدة. أمّا في هذه الحضارة فالإنسان المعاصر يرى ذاته مسؤولاً ويجب عليه أن يتأكد ويعيد التفكير بشكل نقدي-نبوي في كل ما قد حققته الأجيال السابقة". إن التغيرات كثيرة وعميقة إلى درجة أن الإنسان المعاصر خلال فترة حياته مجبر أن يعيش لوحده الخبرات التي في القديم كان يعيشها عشرين أو ثلاثين جيلاً معاً". 2- رفض العقائد: هناك جفاء لأي شكل من أشكال الحقيقة والمبادئ والقواعد المطلقة. فإنسان اليوم يرفض العقائد والتقليد: فمنذ عصر الإشراق في القرن الثامن عشر وبعد، أصبح الإنسان أكثر صداً وممانعةً في قبول أي تأكيد أو حقيقة إذا لم تأتي منه أو على الأقل إذا لم يستطيع اختبارها وفهمها وذلك باختبارها هو بنفسه؛ وعنده رفض عميق لكل ما وصله من الماضي، رفض لأي شكل من أشكال التقليد. فبدلا من فكرة التراث وَضَعَ كلمة التطور والتقدم، وبالتالي فان "الكمال"، والنموذج الذي يسعى إليه، لا يأتيه من الماضي بل النموذج هو في ما سيكونه في المستقبل. لذلك فالإنسان المعاصر متوجه إلى المستقبل، إلى الجديد، يريد تجديد كل شيء، واضعاً بالشك ومعارضاً كل ما وصل إليه من الماضي: في حقل الدين والقانون والتربية والأخلاق والسياسة والاقتصاد. 3- التحرر: بعد أن تخلص الإنسان من أي رباط مع الماضي ومن ثقل الحقيقة والقوانين المطلقة، يشعر الإنسان المعاصر بالتحرر بشكل كبير، وفي كل مظاهر حياته: السياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والاقتصادية، لذلك فهو بما انه حر يطالب لذاته بحق تحقيق ذاته كما يريد، إن كان بانسجام أو بتعارض مع التقليد، والمجتمع والنظام القائم. 4- العَلمَنَة: في بدء العصور الحديثة وضع الإنسان الله، بشكل منهجي، بعيداً عن السياسة والعلم والفن والأخلاق والقانون وشيئا فشيئا عن أي مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية (وأصبحت الديانة قناعة شخصية). بنفس الوقت وبواسطة العلوم والتقنية اندفع لاكتشاف وغزو العالم، فاهتمامه لم يعد موجها نحو السماء بل نحو الأرض: إن المنظور ما فوق الأرضي اختفى من فكره وعمله وأعطى مكانه للمنظور الأرضي العالمي. إن نتائج العلم جعلت الإنسان المعاصر يثق بالتقدم غير المحدود للبشرية. فالعلماء والبسطاء اليوم، يعتقدون أن المشاكل التي تُقلِق الإنسان ستُحَل لاحقاً أو متأخراً. فبالعلم سيصل الإنسان إلى معرفة دوماً أكبر عن المادة، وبمساعدة التقنيات سيستطيع السيطرة عليها بشكل أكمل دوماً. إن التفاؤل الذي غزا النفوس في القرن الثامن عشر مع عصر الأنوار ما زال يشد الناس حتى في عصرنا هذا. الإنسان المعاصر يشعر انه ناضج، واعِ. فقد تعلم أن يصنع كل شيء وحده، وان يحكم نفسه بنفسه وان يحل مشاكله دون الرجوع إلى أي كائن متعالِ. في السابق عندما كان الإنسان ما زال ضعيفا كان يلتجئ إلى الإله كي ينتصر على الجوع والمرض والبؤس والفوضى الاجتماعية، والظلم والحروب والقمع السياسي والاقتصادي... بينما اليوم يستطيع أن يحصل على نفس النتائج وأحياناً أفضل من السابق عندما يعود إلى أشخاص مثله: الطبيب والاجتماعي والمهندس والمحامي والسياسي. إنسان اليوم يرى نفسه سيداً، ليس فقط سيد اليوم ولكن سيد المستقبل أيضا. فهو يعتني نفسه بنفسه، يبرمج ويعمل مشاريع معتمدا فقط على قوته ومصادره التي يضعها العالم بين يديه. هكذا فان الإنسان اليوم اصبح لا-متدين. وعدم التدين اصبح السلوك المسيطر في الحضارة وفي الحياة المعاصرة. لقد وُضِعَ الله بعيداً أولاً في السياسة ثم في العلم والفلسفة والأخلاق والتربية وشيئا فشيئا عن كل الأعمال البشرية. إن الدين غائب عن الحياة العملية وأيضا النظرية. الإلحاد هو بدون شك السلوك المسيطر في الإنسان المعاصر. 5- العملية: لقد غدا الإنسان المعاصر عملياً بشكل واضح: فهو محمول نحو الفعل، عمل-إنتاج-شغل.. فالحركة هي التي تسحره وتتشربه كلياً. ولم يعد يجد وقتا للتفكير والتأمل بل لم يعد يهمه ذلك مطلقا. حتى عندما يفكر ويتأمل ويدرس فهذا دوماً يكون موجهاً نحو نتيجة عملية. "إن التحول من النظرية البحتة إلى نظرية العمل أمرٌ أكيد وثابت في الفكر المعاصر بشكل عام. انه ليس فكراً تأملياً، بل فكرٌ عامل. العقل لا يتوجه ناحية الإدراك والفهم، بل يتجه إلى الإنتاج. لم يعد يجتهد ليلتقط الجوهر الثابت للواقع، بل اصبح يريد أن يعرف ليحوِّل.. الفكر المعاصر هو فكر للإنتاج والعمل. إنه عملي: وكلمة الواقع أصبحت مرادفة للحركة. فالإنسان لم يعد يصحح أفكاره ويراجع نفسه مقارنةً مع الأفكار والحقائق الأبدية الثابتة بل أصبح يقارن أفكاره بحسب فعلها ونتائجها. "الإنسان اليوم غدا نفعياً، انه يقبل كل ما يُعرَض عليه فقط إذا اتضحت له المنفعة والفائدة لذاته ولمجتمعه. وكل ما لا يحقق ذلك يرميه، حتى ولو كان له ماضٍ طويل أو قصير من المجد". 6- التاريخية: الإنسان المعاصر إنسان تاريخي، إن عنده حِسّ كبير بالتاريخ فالواقع بالنسبة له هو في حركة مستمرة ولا يوجد شيء ثابت أو نهائي أو دائم، وهو يسعى إلى الاختصار دوما اكثر. حتى أن وجوده نفسه بحالة تحول مستمر. كان الفكر الكلاسيكي ينظر للإنسان على انه كائن "طبيعي"، مجهز بمزايا غير متغيرة وراسخة مثل الطبيعة. أمّا الفكر المعاصر فقد رفض هذا المفهوم وأظهر الدور الجوهري الذي تلعبه التاريخية بين العناصر التي تشكل كيان الإنسان.. فالتاريخية ليست فقط من المعطيات الموضوعية، بل أصبحت بنية معارفية، شكل من أشكال فهم الواقع. ولقد نتج عن هذا الوعي التاريخي ضرورة إعادة المناقشة والبحث في أي مذهب وحكمة أو بنية سابقة.. ومناقشة أي محاولة لتحديد ما هي الثوابت على مَرّ الزمن وما الذي يبقى في تغير مستمر. 7- رفض العلوم المجردة: نتيجة لما سبق، يقف الإنسان المعاصر ضد كل العلوم المجردة والمبادئ الميتافيزيقية (الميتافيزيقيا علم ما وراء الطبيعة، شعبة من الفلسفة تشمل علم الوجود وعلم أصل الكون وتكوينه). فبعد أن أزاح كانط Kant الميتافيزيقيا من الفكر النظري وكومط Comte ربطها بفترة الإنسانية التي كانت قاصرا، وأيضا منذ أن استطاع العلم الحصول على شرح وحل للمشاكل التي كانت سابقا تختبئ خلف علم ما وراء الطبيعة، لم يعد الإنسان يرى علم الميتافيزيقيا علم العلوم بل أهملها وأنكرها ووضع نفسه بين أيدي العلم ووضع ذاته في خدمته. الإنسان المعاصر ينظر فقط إلى النتائج: انه واقعي، وعملي. والعلم ونتائجه الذائعة بهرته وسلبته. بينما الميتافيزيقيا بالعكس، لا يمكنها أن تعطي نتائج، ولا تُنتِج أشياء للاستهلاك، ولا تضمن رخاء العيش. لذلك فهو يَعتبر أنها معرفة لا أهمية لها. وحتى لا يمكنها أن تكون مسلية، لأنها مليئة بأشياء غامضة وغير مفهومة.. 8- الخيالية: إن انسياق الإنسان بالتطور التقني والعلمي ورخاء العيش دوما نحو الأفضل، أَوصَلَه إلى نظرة ثقة وتفاؤل بالمستقبل. فهو واثقٌ من نفسه لأنه: يملك تقنيات في تحسن واكتمال دائم، وقد تعلّم استغلال موارد الطبيعة بشكل اكثر فعالية وبتطور دائم ، واصبح يستطيع التحكم بمجرى التاريخ. فإنسان اليوم يضع مشاريع كبيرة وطموحة للمستقبل؛ انه يهدف إلى تحقيق غايات كبيرة في مجتمعه حيث لن يعود هناك بؤس ولا ظلم ولا جهل ولا مرض ولا عنصرية ولا أفضليات بل سيكون هناك مجتمع كامل سيجعل الجميع فرحين كلياً وسعداء. 9- الضياع: إن الإنسان المعاصر اصبح ضائعا وغير مطمئناً. لقد أضاع كل مبدأ ثابت يستعين به على توجيه ذاته ولم يعد باستطاعته أن يُوجِدَ قيم قياسية يؤسس عليها أحكامه. فلم يعد يعرف أن يفرق بين الخير والشر، بين الحق والزيف، بين الجمال والبشاعة، بين النزاهة والخِسَّة، بين المفيد والمؤذي، بين المسموح والمحظور، بين الاحتشام والخلاعة.. الخ. لم يعد متأكداً من أي شيء؛ ليس لديه أي مركز ثابت يستند اليه، يعيش كما المعلق في الهواء. فالأمور الأكيدة القديمة في ثقافته وآدابه قد انهارت؛ والقيم التي تأسست عليها حضارتنا قد تفتتت واضمحلت؛ والمرجعيات اللازمة للتطور والعمل فقدت أهميتها. وحتى المسيحيين أصيبوا بهذا الضياع، "الأزمة التي يمر بها العالم المسيحي اليوم هي أزمة يقين. فالقلق والاضطراب والضياع الذي أصابه نَتَجَ من تكاثر وانتشار أفكار وفرضيات جديدة في حقل اللاهوت، وتفسير الكتاب المقدس والأخلاق، كثير من المسيحيين رأوا انهيار كل الثوابت القديمة ودخلوا في نفق مظلم، كل شيء فيه غير أكيد. فلم يعودوا يشعرون بأنهم متأكدين من أي شيء، ولا حتى من الحقائق الأساسية في الإيمان والأخلاق". 10- الانحراف والخيبة: إن الإنسان المعاصر غدا عبداً لميوله: الأنانية، اللذة، الحسد، الشهوات الحسية، الكذب، الجشع، النصب. ولكي يرضي ميوله الكثيرة فهو يستخدم أي واسطة. لا يهمه كثيراً إذا كان يتسبب بتخريب الجمال الطبيعي، أو إهانة الآخرين، أو الإضرار بحقهم، وقد تصل الأذية إلى حد حرمانهم حقهم الأساسي في الوجود. فالمهم أن تنتصر اللذة والرفاهية. إن المجتمع الاستهلاكي يُدرِّب ويُحرِّض دوافع الأنانية، والإثارة الجنسية، والتكبر، والعنف.. بينما لا نرى تشجيعاً للقيم الأخلاقية والروحية التي تحافظ على صحة المجتمع. هكذا فالإنسان المعاصر، بدلا من أن يتطور نحو الأعلى، يغوص دوما إلى الأسفل، ويصبح دوما اكثر انحرافا، انه فاسد الأخلاق ويجد نفسه غارقا في بحر من الانحراف. وتتضح، أخيرا، على الإنسان المعاصر ملامح الخيبة، والكآبة واليأس. فالمفكرون والأدباء والفلاسفة واللاهوتيون يجمعون على أن واحداً من ملامح إنسان العصر هو الكآبة. تندرج أيضاً صعوبات مجتمعنا الشرقي المسيحي في العالم العربي تحت هذه النقاط العامة الموجودة في المجتمعات المعاصرة. فمن البيان الختامي للمؤتمر الأول للبطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط الذي انعقد في أيار 1999 نفهم بعض الأمور: 1- إن عصر العولمة والمعلوماتية والاتصالات السريعة، جعلت الشعوب تتقارب، وتتداخل الثقافات، وتتمازج القيم، وتتغير أنماط الحياة، وتضاءل الالتزام بالإيمان. ويبدو أن الروح الدنيوية والاستهلاكية والنزعة المادية بدأت تطغى على الروح والقيم المسيحية. 2- ومن الناحية الكنسية، فان كنائسنا المتعددة والتي حَمَلَت تراثات غنية تعيش بشكلِ جُزُر منعزلة هَمُّ كل منها الحفاظ على مميزاتها وامتيازاتها. 3- كذلك فان القلق يساور البعض حيال المستقبل والمصير بسبب الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو تعثر السلام أو تضاؤل الديموقراطية أو الخوف على الحرية وحقوق الإنسان وكرامته، وهذا ما يدفع كثيرين إلى الهجرة التي وصفها البطاركة في رسائلهم بأنها نزيف يهدد جماعاتنا ومستقبلها من جهة، ومن جهة أخرى يعرضها للضياع والذوبان. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أزمات عالمنا المعاصر |
عزلة الإنسان المعاصر |
توجهات الإنسان المعاصر |
ابن الإنسان في التقليد اليهودي المعاصر للمسيح |
الكنيسة في عالمنا المعاصر |