كتاب أبونا تادرس أو القديسة ثيؤدورة الإسكندرية التائبة - المقدس يوسف حبيب
مقدمة
أصدرنا كتابنا "قديسات تائبات" وضمناه مؤقتًا -ضمن هذه السيرة- سيرة القديسة ثيؤدوره الإسكندرية التائبة، مختصرة حيث أننا لم نجد لها مرجعًا سوى ما ذكره "Cheneau " في كتابه "Les Saints d'Egypte" الجزء الثاني من ص 324- 329، وقد أوضحنا ذلك وكنا نرغب في أن نقدم هذه السيرة مُفصلة وكاملة من كل جوانبها قدر الإمكان.
ولما حانت الساعة ولكل شيء تحت السموات وقت وبتدبير من الرب المتحنن اهتدينا إلى سيرة هذه القديسة شاملة في مخطوط نفيس بدير البرموس. وإننا نقدم لك أيها القارئ العزيز في ثوب جديد هذه السيرة العطرة وفيها عظة أيما عظة عن أثر الانغماس في المسرات العالمية الزائلة وما تجره كثرة المجاملات والمعاشرات والحفلات الترفيهية التي لا نعمل لها حسابًا، والتي في غمرتها كثيرًا ما نأكل ونشرب من مائدة الشياطين وندمر حياتنا الروحية - إذ ننسى أن نشرك الرب يسوع في أفراحنا وفي موائدنا وفي اجتماعاتنا وفي أحاديثنا، ونترك لأنفسنا العنان في مجاراة التيار الشرير الجارف ونبرر ذواتنا ونقول ماذا نعمل ونحن إنما نسلك في هذا العالم ولا نستطيع أن نخالف ما جرى عليه عامة الناس؟!!. ولا ندري أن هذه الأمور - رويدًا رويدًا - قد تنتهي بنا إلى كارثة خلقية وإلى سقوط مروع لا يرضاه الله لأحد ولا يرضاه من أحد، وعندئذ نتجرع كؤوس المرارة والندم والحزن والحسرة والألم.. وإذ نحس بفجيعتنا نبتدئ نخاطب ذواتنا بينما قلوبنا تتمزق ألمًا وحسرة، كيف أنه بسبب أمور صغيرة في بادئ الأمر كالمزاح أو الأفكار الشريرة أو النظرات غير المقدسة أو عدم التعفف في الزي ومجاراة التيار قد أنهار صرح حياتنا الروحية ووقعنا في الخزي والفضيحة والعار، في الذل والامتهان، في انكسار النفس وفي الهزيمة الروحية والفجيعة المؤسفة، وتكون مرارتنا بالأكثر حينما نرى أنفسنا بمفردنا، وقد هرب منا الكل، ولا نرى سوى آثامنا المخيفة تمر أمام عيوننا ولا نستطيع الإفصاح عما اقترفناه من ذنوب..
إن في قصة هذه المرأة أبلغ عبرة فبعد أن كانت متزوجة ومشهورة بطهارة سيرتها، ورغم أنها من نبت طيب ومن عائلة غنية وشريفة ورغم أنها تربت تربية حسنة، وكانت سيرتها نظيفة وهي عذراء سقطت وهي متزوجة لعدم تحفظها وسهرها على حياتها الروحية.. وسلمت نفسها لجزار الشهوات الجسدية الوقح، إبليس اللعين، ذلك الجزار الذي يذبح لا بألم لكن بلذة والذي يحرقنا بنار الشهوة فنستلذ لظاها.
سقطت الزوجة وما أن أفاقت من سكرات الخطية القاتلة للنفس والجسد والروح - حتى عرفت كل شيء وأيقنت أن الجرم الذي اقترفته خطير. تحول منزلها الذي كان مباركًا مملوءًا فرحًا وابتهاجًا ترفرف عليه ملائكة السلام إلى شبه مأتم دائم. أذلتها الخطيئة وأفسدت حياتها وخربت بيتها.
لبست العار والخزي والفضيحة مثل الثوب..
لم تستطيع النظر إلى زوجها أو الحديث معه.
لم ينقطع الحزن من قلبها الممزق.. تنبعث من أعماق نفسها آهات وتوجعات لا يستطيع عقل بشري أن يصفها.
صارت تصرخ وتولول كل حين قد أخطأت.. قد أخطأت.
يحدثها زوجها ماذا حدث؟ ما الذي يؤلمك بهذه الصورة، ما لي أرى وجهك مكمدًا ونفسك متهدمة، المنزل غير مرتب وكل شيء فيه تغير ويوحي بأن حادثًا هامًا قد وقع وأن أمرًا له خطره قد سيطر على حياتك.. أما هي فكانت تلوذ بالصمت الكامل..
عزمت على أن تتوب التوبة الحقيقية التي لا غش فيها - توبة المرأة الزانية التي جاءت من وراء يسوع باكية وكانت تقبل قدميه وتمسحهما بشعر رأسها، التوبة التي لا رجوع بعدها إلى الخطيئة، وقبلها الرب المتحنن على جنس البشر، ذلك الذي بكى على لعازر، الذي يشفق على شقاوتنا والذي يعرف ضعف طبيعتنا البشرية، قبلها الرب يسوع كعظيم رحمته، قبلها يسوع مريح التعابى- الذي عندما يهرب منا الكل يأتي ليعيننا ويقول لنا كما قال في القديم لذلك المفلوج "أتريد أن تبرأ"، لأنه هو حامل خطايا العالم كله، الذي كان يعاشر الخطاة والعشارين والذي قال إن فرحًا يكون في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة، الذي عندما نأتي إليه تائبين يحملنا برحمته الواسعة ويظلل علينا بظل جناحيه كما أعلمنا من مثل الخروف الضال الذي لم يضربه لما وجده بل حمله على منكبيه فرحًا، ومثل الابن الضال الذي أسرع أبوه لاستقباله،هو يسوع الحبيب الذي كان ولم يزل يفتح بابه لكل خاطئ يريد الرجوع إليه لأنه يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.
بعد هذا العزم الراسخ تركت المرأة كل شيء وانطلقت إلى إحدى الديارات قرب الإسكندرية حيث أكملت بقية أيام حياتها في أعمال النسك والعبادة وتدرجت في مراتب الفضيلة. تزينت بزي الرجال وكانت تعرف "بالراهب تادرس".
أخيرًا تنيحت بسلام وأصبحت من القديسات الشهيرات في الكنيسة، وقد ورد خبر نياحتها تحت يوم الرابع عشر من شهر بؤونة في مخطوطة سير القديسين بدير البرموس، وكتبت سيرتها تحت عنوان "سيرة القديسة البارة أمنا تاودورة الإسكندرية، بركة صلاتها تكون معنا ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين.
يوسف حبيب