رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التمثيلية الهزلية وبعد أن ظهر كذب الشهود وتجنيهم على يسوع.. لمعت براءته، وشعر رؤساء الكهنة بأن الطير البريء كاد ينطلق من القفص، فكل السهام التي صوبت نحوه طاشت، وواحدًا منها لم يصب الفريسة لا في مقتل ولا في غير مقتل، وشعر حنان أن الوقت يمرَّ سريعًا، ولا يعرف للآن من أين تؤكل الكتف، ورأى قيافا أن الطريق صار مسدودًا لإدانة يسوع، فتفتق ذهنه عن فكرة شيطانية، وهي القيام بدور درامي في تمثيلية هزلية، تنتهي باعتراف المتهم.. تجاهل قيافا أنه هو القاضي، أو قل قاضي القضاة في المجلس الأعلى للقضاء، ولا يحق له على الإطلاق القيام بدور المشتكي، فطبقًا للإجراءات القانونية التي توجبها الشريعة يقوم المشتكي بتوجيه الاتهامات للمتهم، وعلى المجلس الاستماع لهذه الاتهامات، ووزنها بميزان العقل، وسماع الشهود مع تمحيص أقوالهم، ومناقشة المتهم مع إعطائه الفرصة كاملة للدفاع عن نفسه. ثم يقوم قيافا وشركاؤه بإصدار الحكم العادل بدون تحيُّز لأي من الطرفين.. فما بالك يا قيافا تحتقر كل هذه الإجراءات، وتضرب بها عرض الحائط، وأنت الفاهم والعالم بالأمور؟!.. وما بالك يا قيافا تزج بنفسك، وتحطم القاعدة القانونية التي تحرم على أعضاء المحكمة سؤال المتهم بقصد إثبات التهمة عليه؟!.. هل ما فشلت في إثباته عبر شهود الزور، تريد أن تثبته بنفسك، وتلصق التهمة بالمتهم، سواء بطريق شرعي أو غير شرعي؟! ومالك تطلق سهمك تجاه المتهم مع إن الشريعة لا تعطيك هذا الحق؟! تناسى وتجاهل وتغافل قيافا كل شيء، وركز كل تفكيره، وحنكة سنيَّ الشر، في صياغة السؤال الذي سيطلقه، واستخدم قيافا كل حيلته ودهائه ومكره ووسم سؤاله باسم يهوه العظيم: أستحلفك بالله الحي قل لنا أأنت المسيح ابن المبارك؟ هل أنت ابن الله؟ ولك يا صديقي أن تتصوّر النتيجة.. لو ظل المعلم في صمته ولم يجب على السؤال، فهذا احتقار لاسم يهوه وبهذا يستحق الموت، وجاء في كتاب التلمود " إذا قال قائل: أستحلفك بالله القادر على كل شيء، أو بالصباؤوت، أو بالعظيم الرحيم، الطويل الأناة، الكثير الرحمة، أو بأي لقب من الألقاب الإلهية، فإنه كان لزامًا على المسئول أن يُجيب" (14) ورغم أن قيافا لم يوقر اسم الله الحي، بل استخدمه استخدامًا باطلًا، واستغله استغلالًا مُشينًا، فليس له أن يطرح هذا السؤال الذي يحمل اتهامًا معينًا للمتهم، إلاَّ أن يسوع الذي يُوقّر الاسم المملوء بركة فقد التزم بالإجابة.. ومادام يسوع سيجيب، إذًا فقد يجيب بالنفي أو بالإثبات: فلو أجاب بالنفي فهذا تراجع منه عما قاله سلفًا، مما ينافي مبادئ يسوع، لأنه علّم أتباعه " ليكن كلامكم نعم نعم لا لا "، وقد منعهم من الحلف وأكد عليهم الصدق فلو خالف هو ما قاله سابقًا، فإنه سيسقط في نظر أتباعه، ولم يجب يسوع بالنفي.. بماذا أجاب إذًا؟! لقد أجاب بالإثبات.. بالرغم من جو الإرهاب الذي هيمن على قاعة المحكمة، فإن يسوع أكد بالإيجاب، بل وأجاب سريعًا، وإجابة صريحة جريئة واضحة حاسمة.. بل أيَّد إجابته بالدليل البين فقال: أنتَ قلتَ.. ولا تؤخد هذه الإجابة بمفهوم هذه الأيام، كمحاولة للتملُّص والتخلُّص والمراوغة وإلقاء المسئولية على الآخر. إنما كانت في تلك الأيام تُعبر عن أسلوب أدبي راقي يحمل التأكيد، فهي تعني "أن الأمر كذلك حسب قولك تمامًا".. كما قلتَ أنتَ. هكذا هي الحقيقة.. هكذا أنا هو ابن الله. وفهم رئيس الكهنة الإجابة جيدًا، وإنها إجابة بالإيجاب، وفوجئ بالدليل الذي ساقه المعلم إذ قال: وأيضًا أقول لكم من الآن سوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء. وحملت نبرات يسوع قوة الإجابة وصدقها، وكانت كفيلة بأن تخترق قلب حنان، وتمزق قلب قيافا إربًا، لو أرادا ذلك، أو لو كان لديهما استعداد بسيط لتقبل الحق وتصحيح المسار، وكان عليهما أن يتذكرا قول دانيال النبي " كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوه قدامه. فاُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13، 14) فكم سمعا المعلم يدعو نفسه بابن الإنسان، ولكن إذ أغلقا قلبيهما تمامًا فإن هذه الشهادة لا تدين يسوع، إنما تدينهما في يوم الدينونة الرهيب.. كيف سيكون موقفهما..؟! حتى لو قالا للجبال اسقطي علينا وللتلال غطينا فإنها لن تكفي. وكان على قيافا أن يقوم على الفور بالدور الدرامي، في التمثيلية الهزلية التي ألفها وأخرجها وقام بدور البطل فيها ليحفز الحاضرين ضد يسوع.. فماذا فعل؟ لقد مزق ثيابه.. نعم كانت هذه عادة اليهود عندما يسمعون ما يهين أو يشين اسم الله القدوس، أو عندما تحل مصيبة عظيمة بشعب الله، كما فعل الياقيم بن حلقيا وشبنه الكاتب ويوآخ بن آساف عندما سمعوا تعيير رسل ملك آشور فمزقوا ثيابهم (أش 36: 22) بل وعندما أطلعوا حزقيا الملك على الأمر مزَّق هو أيضًا ثيابه وتغطي بمسح (أش 37: 1) ومع أن الناموس كان يمنع رئيس الكهنة من تمزيق ثيابه.. لم يكترث قيافا بأوامر الناموس ومزَّق ثيابه عوضًا عن تمزيق قلبه.. لقد انفجر الحقد الأسود من بين ضلوعه، فلم يحتمل ثيابه، فمزقها.. شق ثيابه في منظر فاضح جنوني لا يليق أبدًا برئيس كهنة الله، فشق الله عنه كهنوته.. شق ثيابه تعبيرًا عن الكبت النفسي الناتج من حقد الأيام وغل السنين.. مزق ثيابه وهو يشعر بالفخر والاعتزاز، لأنه استطاع أن يُسقط يسوع في الفخ الذي نصبه له، وكأن جبلًا قد انزاح عن صدره وتنفس الصعداء، ورن صوته مجلجلًا بنغمة الفوز والنصرة، وصاح صيحة الذئب الجريح الذي طالما أعيته الحيلة، واهتزت لحيته الطويلة اهتزازات شيطانية مُصدرًا الحكم قبل أن يستمع لرأي بقية الأعضاء، مع إن الإجراءات القانونية توجب عليه أخذ رأي الأعضاء أولًا عضوًا عضوًا مبتدئًا من الصغير إلى الكبير، ثم يُعطي رأيه أخيرًا وليس أولًا.. إنه أراد أن ينحو بأعضاء المجلس بحسبما ما يشتهي هو، فقال: لقد جدف.. ها قد سمعتم تجديفه.. ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ وهو يقول في نفسه " لقد أصاب السهم الفريسة ولا مفر من الذبح، فكلمة التجديف لها مفعول السحر في إثارة حماس الأعضاء حماة يهوه. ثم استدرك رئيس الكهنة ما سقط فيه من مخالفة، فأعقب قوله بالسؤال التالي: ماذا ترون؟! ما رأيكم يا أبناء يعقوب؟! وماذا تقولون يا قضاة إسرائيل؟! أرأيتم تجديفًا كهذا..؟! ابن الله..!! يهوه..!! إيلوهيم..!! أدوناي صباؤوت..!! يا للكفر.. يا للعار.. معاذ الله.. وسرت همهمة بين الحاضرين كان أول من نطق بها الخدم والعبيد "أنه مستوجب الموت".. "نعم".. "كان يجب أن يموت من زمن بعيد".. " لماذا تُرك للآن".. " إنه يستحق الموت الزؤام".. "إن كان ابن الله فلينقذه الله". عجبًا.. ألم يكن الأجدى برئيس الكهنة أن يستكمل استجوابه ليعرف التفاصيل..؟! أو هل يوجد استجواب يتكون من سؤال واحد، إلاَّ إذا كان وراءه نية خبيثة..؟! لماذا لم تُفكر يا حنان في حوار يسوع مع الفريسيين " وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلًا: ماذا تظنون في المسيح. ابن من هو؟ قالوا: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا قال الربَّ لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطنًا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يُجيبه بكلمة" (مت 22: 41-46).. ولماذا لم تلتفت يا قيافا إلى قول داود أيضًا "إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني. أنا اليوم ولدتك" (مز 2: 7) وقول ابنه سليمان "من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرَّ المياه في ثوب؟ من ثبت أطراف الأرض؟ ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت؟" (أم 30: 4) فإن كانت عقيدة الأمونوجينيس (الوحيد الجنس) ثابتة في الأسفار المقدَّسة.. فما بالك تعتبر يا قيافا أن هذا تجديفًا..؟! لماذا لم تمنح نفسك فرصة للتفكير في إجابة يسوع، إنما فضلت استكمال دورك كما رسمته في هذه المسرحية الهزلية. وقف يسوع يرى ويسمع ما سبق وأخبرهم به.. فهوذا قيافا وحنان مع بقية الكرامين الأردياء يتربصون بابن صاحب الكرم قائلين " هذا هو الوارث هلمُّوا لقتله ونأخذ ميراثه" (مت 21: 38) مستخدمين سلطانهم الكهنوتي مع تزوير الحقائق وتلفيق التهم، وللأسف فإنهم لا يدركون أن الحكم الإلهي عليهم بات وشيكًا " أُولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًّا ويُسلّم الكرم إلى كرَّامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها" (مت 21: 41). وكان صدور الحكم على المتهم بالموت في ذات الجلسة خطأً فادحًا ضد الشريعة، وضد نصوص وروح القانون اليهودي الخاص بالسنهدريم، بالإضافة لانعقاد الجلسة ليلًا.. وهذا ما حدا بحنان إلى تنبيه الأعضاء بأن الجلسة القادمة ستعقد في الصباح الباكر حيث تضم أعضاء المجلس بالكامل.. فما لزوم الجلسة التالية إذا كان كل شيء قد تم قانونيًا..؟! إن انعقاد جلسة أخرى يعالج فيها الجلسة الأولى لهو اعتراف واضح وفاضح لما شاب المحاكمة الأولى من أخطاء قاتلة.. وفي أحد أركان الصالة المتسعة كان يقف إنسانًا ينظر في حيرة وقلق بالغ وقد جحظت عيناه، وإذ رأى أن يسوع قد حُكم عليه بالموت، اضطرب وانسحب يجر أذيال الخيبة والعار، واشتعلت النيران في جوفه، وإذ بالشياطين ترقص حوله طربًا، هازئة بتلميذ خان معلمه الذي يُحبه، وأخذت هذه الشياطين ذاتها تدين يدًا استلت سكينًا لتطعن من أحسن إليها، وتبكت عبدًا باع سيده، ورجلًا سلم صاحبه للموت بقبلة غاشة، وارتفعت أصوات التقريع.. خائن.. فاسد.. شرير.. حتى كاد يهوذا يسد إذنيه، ولم تعد ساقاه تحتملاه، فانصرف نحو خزانة الهيكل ذات المكان الذي باع فيه سيده. |
|