مزمور 90 - تفسير سفر المزامير
لتكن نعمة الله علينا!!
يأتي هذا المزمور في مقدمة الكتاب الرابع من سفر المزامير، والذي يمثل سفر العدد، أو سفر الرحلة في البرية تحت قيادة الله نفسه، الذي يظلل بنفسه عليهم كسحابة في النهار، ويقودهم كعمود نور بالليل، ويهتم حتى بطعامهم اليومي "المن النازل من السماء"، وشرابهم "الماء الخارج من الصخرة"... خلال هذه الرحلة التي استمرت قرابة أربعين عامًا، كان الكل محتاجًا إلا نعمة الله. في بداية الرحلة تهلل موسى وشعبه ورنموا بتسبحة تُدعى "تسبحة موسى"، تسبحة شكر لعبورهم بحر سوف (خر 15). وقرب نهاية الرحلة قبل انتقاله قدم أيضًا نصائحه في شكل تسبحة (تث 32)، وها هو هنا يقدم تسبحة، يطلب فيها من أجل الأجيال كلها أن يتمتعوا بنعمة الله عليهم.
يقولالقديس جيروم[1] إن هذا المزمور يعتبر مقدمة للكتاب الرابع من سفر المزامير، حيث يقسم السفر إلى خمسة كتب. ويظن العبرانيون أنه ليس فقط هذا المزمور بل والعشرة مزامير التالية والتي بلا عناوين هي من وضع موسى النبي[2]، وأنه لم توضع لها عناوين لأنها تتبع هذا المزمور.
1. حاجة الأجيال إلى الله كملجأ
1-2.
2. سرعة زوال البشر
3-6.
3. تأديبات الله لأجل خطايانا
7-12.
4. فرح وتهليل بنعمة الله
13-17.
من وحي المزمور90
العنوان
صَلاَةٌ لِمُوسَى رَجُلِ اللهِ
ورد تعبير "رجل الله" أكثر من أربعين مرة في الكتاب المقدس؛ وعندما تحدث الرسول بولس عن فاعلية الكتاب المقدس كتب: "لكي يكون إنسان الله كاملًا، متأهبًا لكل عملٍ صالح" (2 تي 3: 17).
* "صلاة لموسى رجل الله". حسنًا، يكتب موسى عن كيف خُلق الإنسان، وكيف سقط من مكانته، والآن يصلي من أجل هذا الذي سقط في الموت يقوم إلى الحياة. والذي سقط خلال الخطية بإغراء الشيطان يقوم للمجد بالمسيح[3].
* يُدعى هذا المزمور "صلاة لموسى رجل الله"، خلاله أعطى الله الشريعة لشعبه، وحررهم من بيت العبودية، وقادهم أربعين سنة في البرية. لذلك كان موسى خادمًا للعهد القديم، نبيًا للعهد الجديد. ويقول الرسول: "فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالًا، وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهر" (1 كو 10: 11)[4].
1. حاجة الأجيال إلى الله كملجأ
يَا رَبُّ مَلْجَا كُنْتَ لَنَا فِي دَوْرٍ فَدَوْرٍ [1].
إذ يفتح الله حضنه لنا، لنسكن فيه في أمان، إنما تنعم الكنيسة - جماعة القديسين - عبر كل الأجيال بالشركة معًا. إنه يضم كل عضوٍ كما لو كان العضو الوحيد في الكنيسة، ويضم الكل معًا ليسكب كل حبه في الجميع دون نقص!
إذ يشعر المؤمن بغربته في هذا العالم، يطلب أن يسكن في الرب نفسه كملجأ له، يشعر فيه بالأمان.
* "يا رب ملجأ كنت لنا" يُستخدم الملجأ دائمًا حيث يوجد اضطهاد، فإن لم يوجد من يضطهدنا لا نكون في حاجة إلى ملجأ في آخر. "يا رب، أنت ملجأنا"، لأن حرارة الضيقة الشديدة والحارقة تنهكنا، فنطلب ملجأ تحت ظل جناحيك. "يا رب، أنت ملجأنا". نطير إلى حمايتك، لأن الوحش المرعب علينا، لأن لنا أضداد كثيرون وأعداء، فلتكن أنت ملجأنا[5].
* "يا رب كنت لنا ملجأ من جيل إلى آخر [1]، إما في كل جيلٍ، أو في جيلين: القديم والجديد. لأنه كما قلت كان خادمًا للعهد القديم الذي يخص الجيل القديم، ونبيًا للعهد الجديد الذي يخص الجديد. يسوع المسيح، كفيل ذاك العهد، وعريس في الزواج الذي دخل إليه في ذلك الجيل، يقول: "لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني" (يو 5: 46).
والآن لا تظنوا أن هذا المزمور بكامله وضعه موسى... إنما اُستخدم اسم خادم الله العظيم من أجل أمرٍ جوهري يوجه انتباه القارئ أو المستمع، إذ يقول: "يا رب ملجأ كنت لنا من جيل إلى آخر" [1][6].
* ليتنا نقول للرب إلهنا "يا رب ملجأ كنت لنا في دور فدور" (مز 90: 1). لقد كنت ملجأ لنا في الجيل الأول والثاني. لقد كنت ملجأ لنا، فولدنا نحن الذين لم نكن قبلًا موجودين.
لقد كنت ملجأ لنا فولدنا من جديد نحن الذين كنا أشرارًا.
لقد كنت ملجأ في إطعامك للذين هجروك، أنت ملجأ فتقيم أطفالك وتقودهم. "أنت ملجأ لنا"، إننا لن نهجرك، إذ خلصتنا من كل شرورنا وملأتنا بكل أعمالك الصالحة.
لقد وهبتنا إياها الآن وأنت تعاملنا برفقٍ حتى لا نخور في الطريق. إنك تصلحنا وتؤدبنا وتلطمنا وتوجهنا حتى لا نضل السبيل، فتعاملنا بحنان حتى لا نخور، أو تؤدبنا حتى لا نحيد عن الطريق[7].
* الله ملجأ وقوة لكل من استطاع أن يقول: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (رو 4: 13)، فالله هو القوة. قد يقول الكثيرون: "الله ملجأنا" و"يا رب ملجأ كنت لنا" (مز90: 1). لكن قليلين يردودنها بالاستعداد الذي كان للنبي، قليلون هم الذين لا يتأثرون بالأمور البشرية... لكنهم متعلقون بالله... يستمدون منه شجاعتهم ويضعون فيه كل رجائهم وأملهم...
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الْجِبَالُ،
أَوْ أَبْدَأْتَ الأَرْضَ وَالْمَسْكُونَة،
مُنْذُ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللهُ [2].
الله غير المتغير العامل في آبائنا لا يزال يعمل فينا، وسيعمل في الأجيال القادمة إلى يوم مجيئه. محبته أزلية غير محدودة وخالدة!
يرى القديس أغسطينوس أن الله السرمدي، الكائن قبل خلقة الطغمات السماوية السامية والمرتفعة كالجبال، وخلقة الإنسان الذي أوجده من التراب، هو ملجأ مستعد لحمايتنا متى التجأنا إليه.
* أنت الذي هو السرمدي، الكائن قبل أن نكون، وقبل أن يوجد العالم، صرت ملجأ لنا حالما نتوجه إليك. أما تعبير "قبل الجبال" فيبدو لي أنه يحمل معنى معينًا. فإن الجبال هي المناطق المرتفعة عن الأرض... فيقصد بالجبال ارتفاع الملائكة، وانحطاط الإنسان يُعنى بالأرض... إذ خلق الله الإنسان من تراب الأرض (تك 2: 7)[8].
2. سرعة زوال البشر
تُرْجِعُ الإِنْسَانَ إِلَى الْغُبَارِ وَتَقُولُ:
ارْجِعُوا يَا بَنِي آدَمَ [3].
جاءت الترجمة عن السبعينية: "فلا ترد الإنسان إلى المذلة، وقد قلت ارجعوا يا بني البشر".
إذ يرجع الإنسان عن الله مصدر حياته يعود إلى التراب في مذلة، أما إن رجع إلى الرب مخلصه، فيسمع الصوت الإلهي كأنه يقول: "أنت سماء، وإلى سماءٍ تعود".
* "لا ترد الإنسان إلى المذلة" [3]، أي لا تجعل الإنسان يرجع عن أمورك الأبدية السامية[9].
* "لا تُرجع الإنسان إلى الغبار" يصلي موسى من أجل الإنسان، فماذا يقول؟ لا تسمح للإنسان أن يهلك، هذا الذي خلقته على صورتك. "لا تُرجع الإنسان إلى الغبار"، لا تتطلع إلى الجسم التافه، بل إلى استحقاق النفس. يكفينا أننا سمعناه مرة: "أنت تراب وإلى التراب تعود" (تك 3: 19)، وانسحقنا بسبب شعورنا بخطيتنا.
"لا تُرجع الإنسان إلى الغبار". لا تُرجعه بل تغَّيره، إذ تقول خلال كل الأنبياء: "ارجعوا يا بني البشر". لتكن هذه هي نهاية الخطية: التوبة، فيكون لكم الخلاص. "لا تُرجع الإنسان إلى الغبار" أرسل ابنك لكي يرفع جسد تواضعنا وبوسيلة حياة جديدة يرتفع إلى السماء متحررًا من عبودية الأرض[10].
لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ،
وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ [4].
إذ يلتقي الإنسان بالله مخلصه ينعم بعربون السماء، فيحسب سنواته مهما طالت كلحظةٍ عابرةٍ، فيسلك بفرحٍ في رحلة عبوره هذه ليوجد مع الله أبديًا.
* بالمقارنة بسرمدية الله، كل امتداد حياة الإنسان قصيرة؛ مهما بدت لنا طويلة تُحسب كلا شيء بمقارنتها بالأبدي، إذ لها نهاية.
"كهزيع من الليل": يتكون الليل من أربعة هُزع تنقسم إلى فترات، كل فترة عبارة عن ثلاث ساعات... هذا إذن هو معنى الآية: ألف سنة في نظرك تُحسب ليس كقليلٍ من نهارٍ، وإنما مثل مسافة الثلاث ساعات من الليل... في بداية العالم عاش الإنسان قرابة ألف عام، والألف عام في عيني الله مثل هزيع الليل... عمر الإنسان يُحسب كلا شيء بالنسبة لسرمدية اللاهوت[11].
* يلزمنا أن نرجع إلى ملجأك، حيث لا يوجد عندك أي تغيير، من المشاهد الزائلة التي حولنا، فإنه مهما طال الزمن الذي يُشتهى فإن ألف سنة في عينيك ليس مثل أمس، وليس مثل "الغد" الذي يأتي، فإن كل الأزمنة المحدودة تُحسب كأنها عبرت فعلًا[12].
جَرَفْتَهُمْ.
كَسِنَةٍ يَكُونُونَ.
بِالْغَدَاةِ كَعُشْبٍ يَزُولُ [5].
يرى القديس أغسطينوس أن الأمور الزمنية في الصباح تجف وتزول كالعشب. إنها تموت فتصير كالجثة الهامدة التي تفسد وتصير ترابًا. وكما قيل بإشعياء النبي: "كل جسدٍ عشب، وكل جماله كزهر الحقل... ييبس العشب، ذبل الزهر، وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأب" (إش 40: 6، 8).
* هكذا تلك الأمور التي ليست قبلًا فأنها ستأتي، ولكنها ما أن تأتي سرعان ما تصير كأنها غير موجودة، لأنها لا تأتي لكي تبقى هنا، بل لتذهب[13].
* "بالغداة (الصباح التالي) كعشب يزول". كما أن ندى الصباح يختفي سريعًا، هكذا تعبر حياة الإنسان صباحًا، أي في الشبوبية، حيث يظهر عن جديد في الصباح (المبكر). في الرجولة المبكرة (الشباب) وفي سن النضوج نحن نزهر. أما في الشيخوخة فننحدر، وزهرة قوتنا تذبل وتزول.
مساء شيخوختنا جاف وذابل ويرتبك بأمراضٍ متنوعة، وذلك بعد ذبول زهرة الشباب. "كل بشرٍ هو عشب، وكل مجدهم مثل زهر الحقل. العشب يجف، والزهرة تذبل، وأما كلمة الله فثابتة إلى الأبد" (راجع إش 40: 6-8).
نحن لا نزال أحياء، لكن جزءًا منا قد تبدد فعلًا في شيخوخة؛ وإن كانت نفوسنا كما هي إلا أننا نعاني من فقدان حيوية الشباب الأصلية، بمعنى حقيقي، صرنا إلى غير ما كنا عليه[14].
بِالْغَدَاةِ يُزْهِرُ فَيَزُولُ.
عِنْدَ الْمَسَاءِ يُجَزُّ فَيَيْبَسُ [6].
يعيش غير المؤمن في قلقٍ، لأن حياته مهما طالت، تنتهي يومًا ما كعشبٍ جفَّ وأقتلع. أما المؤمن فيرى في حياته رحلة مفرحة، يعبر خلالها في صحبة مسيحه إلى حضن الآب ليحيا إلى الأبد.
* حق الرب يطوِّق حوله، فلا يخاف من رعب الليل، ولا من شيء يسلك في الظلمة. لهذا "زبولون سيسكن بجوار البحر". هكذا يتطلع إلى سفن الآخرين وهي تغرق، أما هو فمتحرر من كل خطر. ربما يرى آخرين ينسحبون هنا وهناك على بحر هذا العالم، هؤلاء الذين يُحملون بكل ريح تعليم، أما هو فمتمسك بأرض الإيمان الصلبة[15].
3. تأديبات الله لأجل خطايانا
لأَنَّنَا قَدْ فَنِينَا بِسَخَطِكَ،
وَبِغَضَبِكَ ارْتَعَبْنَا [7].
يخاف غير المؤمن ويرتعب من اللقاء الأبدي، أما المؤمن فيتهلل دومًا بغنى نعمة الله التي تفتح عينيه على مراحم الله وحبه.
* ليس بالأمر السري أن هذا المصير هو عقوبة الخطية... إننا نفنى في ضعفنا، ونضطرب من خوف الموت، لأننا صرنا ضعفاء وبذلك نخاف من نهاية هذا الضعف[16].
* "حقًا قد فنينا بسخطك"، لأننا نستحق غضبك بسبب الخطية. لقد فقدنا في آدم الخلود الذي أعطيتنا إياه، إذ طبيعيًا بقانون الوراثة ورثنا الخطية. "بغضبك ارتعبنا". بدقة قال: "صرنا في رعبٍ"، لأن من يصير في رعبٍ لا يهلك. إنه يرتعب بعنفٍ في رعدة، فيشعر بقوة ذاك الذي استخف به بارتكابه الخطية، وفي خضوعٍ متواضع يلجأ إلى الندامة. "بغضبك ارتعبنا"، وذلك بسبب معاصينا، فصرنا في اضطرابٍ شديدٍ. ولكن إذ نؤمن بمسيحك ونتعرف عليه نستريح[17].
قَدْ جَعَلْتَ آثَامَنَا أَمَامَكَ،
خَفِيَّاتِنَا فِي ضُوءِ وَجْهِكَ [8].
في وسط الضيق يدرك الإنسان أن خطاياه وآثامه مكشوفة أمام الله، لكن خلال الصليب يرى روح الله يستر عليه فيرفعه خلال المعمودية إلى التبني لله.
* "قد جعلت آثامنا أمامك"، ليس من خطية واحدة تهرب منك؛ كل الشرور التي نرتكبها مكشوفة أمامك... كل لحظةٍ من حياتنا، كل شيءٍ نمارسه، مكشوف أمام عينيك، الظلمة نفسها ليست مخفية عنك[18].
لأَنَّ كُلَّ أَيَّامِنَا قَدِ انْقَضَتْ بِرِجْزِكَ.
أَفْنَيْنَا سِنِينَا كَقِصَّةٍ [9].
* الأيام هكذا تعبر، والموت يقترب، حتى أن كل أيام حياتنا، أو حياتنا نفسها تعبر غالبًا في ضآلة، إنما هي واهنة. في الواقع، ما أقوله الآن وأنتم تسمعونه هو جزء من حياتنا. على أي الأحوال مهما اعتقدنا بأن أحدًا ما يربح نفسه إلا أنه هو فسحة من الوقت مستخدمة، جزء مفقود من فترة الحياة. فبينما نحسب أننا نكسب إذا بنا نحن نفقد[19].
* "سنيننا تُحسب كعنكبوت" فإذ نلاحظ عنكبوت على حائط ينسج خيوطًا، يصنع نسيجًا ينهار بعاصفة ريح مفاجئة، حتى كل إنجازات عمرنا تنهار بضربة مفاجئة لضيقٍ أو لموتٍ[20].
* "لأن كل أيامنا قد انقضت برجزك. أفنينا سنينا" [9]. هذه الكلمات هي برهان كافي أن خضوعنا للموت هو عقوبة. يتحدث عن أيامنا تفنى، إما لأن البشر يفنون فيها بحبهم للأمور الفانية، أو لأنها تقصر إلى عددٍ قليلٍ هكذا، الأمر الذي يؤكده في الخطوط التالية: "سنواتنا تنقضي مثل عنكبوت". "أيام سنيننا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعب وبلية"[21].
أَيَّامُ سِنِينَا هِيَ سَبْعُونَ سَنَةً،
وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْقُوَّةِ فَثَمَانُونَ سَنَةً،
وَأَفْخَرُهَا تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ،
لأَنَّهَا تُقْرَضُ سَرِيعًا فَنَطِيرُ [10].
يرى القديس أغسطينوس أن الرقمين 70 و 80 لهما مفاهيم روحية. فالرقم 70 ينسب إلى رقم 7، أي السبت، وهو خاص بالعهد القديم، أما مع القوة أو قوة قيامة السيد المسيح فيتمتع الإنسان برقم 80 حيث ينسب لرقم 8 الخاص بقيامة السيد المسيح في اليوم الأول من الأسبوع أو الثامن من الأسبوع السابق، حيث يعبر الإنسان من الأمور الزمنية إلى الأمور الأبدية. العهد الجديد فيه رجاء الحياة الجديدة المقامة. مع هذا فإن حياتنا تعب وألم، كقول الرسول: "نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا؛ لأننا بالرجاء خلصنا، ولكن الرجاء المنظور ليس رجاءً، لأن ما نظره أحد كيف يرجوه أيضًا؛ ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر" (رو 8: 23-25).
لا نعجب إن كان موسى النبي قد بدأ خدمته وهو في الثمانين من عمره، وكانت رسالته شاقة، تحتاج إلى وقفة حازمة مع فرعون ورجاله، في وقت كان شعبه العبراني في غاية الانهيار. وعندما خرج موسى وهرون من لدن فرعون: "قالوا لهما: ينظر الرب إليكما ويقضي، لأنكما أننتما رائحتنا في عيني فرعون وفي عيون عبيده حتى تعطيا سيفًا في أيديهم ليقتلونا" (خر 5: 21). أما عن مشاق الرحلة في البرية وتذمر الشعب عليه، وقيام الأعداء ضده... أمور لا يحتملها شاب قوي البنية. كيف يقول الآن: أيام سنيننا... مع القوة فثمانون سنة"؟ لقد شعر كأن حياته قد انتهت بعد الثمانين، أما الأربعون سنة التي خدم فيها حتى بلغ المئة وعشرين عامًا فهي عطية من الله للعمل. إنها ليست سنواته، لكنها سنوات خاصة مقدمة له لأجل الخدمة!
* "أيام سنيننا هي سبعون سنة". انظروا كيف اقتضبت الحياة البشرية تدريجيًا. في البداية تسلمنا في الفردوس عطية الحياة الأبدية التي فقدناها بالعصيان. وبعد ذلك حياة القدامى نقصت إلى ألف سنة، والآن في أيامنا صارت بالكاد سبعين.
"أيام سنيننا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعب وبلية". أغلب سنيننا بلا ثمر، تعب. هذا ما قلناه: ما توقعناه ربحًا في حياتنا نجده تعبًا وخسارة. حيث توجد زيادة في السنوات تكون شيخوخة. وحيث تكون الشيخوخة يوجد المرض. وحيث المرض يكون الألم والكرب، وحيث الكرب يوجد شوق نحو الموت[22].
* هذه سمات غير المؤمنين والشكاكين، أنك إن فكرت هكذا وهذا ممكن أن يحدث وسيحدث، أن الشرير سوف يتمتع بنصيبٍ مساوٍ لنصيب البار، فهذا يدل على حماقة كبيرة ماذا تقول؟ إذا كان الرجل الغني عندما يرحل ويأخذ عقابه في الآخرة فهل سيعاقب واحدة بواحدة؟ كيف تحكم بذلك؟ كم عدد السنوات التي تتصور أنه تمتع فيها بثروته في هذه الحياة؟ هل تتصور مائة عام؟ أنا مستعد لقول مائتين أو ثلاثمائة أو أضعاف ذلك، أو إذا أردت حتى ألف عام، وهذا مستحيل، لأنه مكتوب: "أيام سنينا هي سبعون سنة. وإن كانت مع القوه فثمانون سنة" (مز 10:90)، ولكن دعنا نقول حتى ولو مائة سنة. إنك لا تستطيع أن تذكر لي وتريني حياة ليس لها نهاية وليس لها حد. هل تستطيع؟ قل لي هل لو رأى شخص في خلال مائة عام حلم جميل ذات ليلة وتمتع أثناء نومه برفاهية وترف كثير، ففي هذه الحالة هل يستطيع القول أن أحلام ليلة واحدة مكافئة ومساوية للمائة عام؟ لا تستطيع القول بذلك، لهذا لابد أن تفكر بنفس الأسلوب عن الحياة الآتية، فكما هو حلم ليلة واحدة بالنسبة لمائة عام هكذا حياتنا الحالية بالنسبة للحياة الآتية مع الاختلاف الكبير. وكمثل قطرة صغيرة بالنسبة للبحر الغير محدود وهكذا ألف عام بالنسبة للتمتع بالمجد العتيد[23].
* هل أنت قلق بخصوص النهاية؟ إنها بالحقيقة قريبة جدًا، ولكن حياة كل إنسانٍ وموته أقرب جدًا، إذ قيل: "أيام سنيننا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة" (مز 90: 16)[24].
* ماذا عن يعقوب؟ وهو الذي تربى في بيت أبيه، ألم يحتمل متاعب أكثر ثقلًا من جده؟ ... اسمع ما قاله عن حياته كلها: "أيام سنيّ غربتي مائَة وثلثون سنة. قليلة ورديَّةً كانت سنيّ حياتي، ولم تبلغ إلى أيام سنيّ حياة آبائي في أيام غربتهم" (تك 9:47). ثم بعد أن رأى ابنه جالسًا على العرش الملكي متمتعًا بالمجد هل ينسى متاعب الماضي؟ فبالرغم من أنه اُبتلى بالكثير من البلايا، فإنه وهو في هذا الرخاء لم ينسَ المتاعب التي مرت به.
وماذا عن داود؟ كم من المحن تحملها؟ ألم يتغنَّ بمثل ما تغنى به يعقوب: "أيام سنينا هي سبعون سنة. وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعب وبلية" (مز 10:90).
وماذا عن إرميا؟ ألم يلعن يوم مولده بسبب توالي النكبات قائلًا: "ملعون اليوم الذي وُلِدت فيهِ. اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكن مباركًا" (إر 14:20)[25].
* قيل عن أنبا أبوللو الذي من الإسقيط إنه كان راعيًا وكان فظًّا جدًا. وفي أحد الأيام رأى امرأةً حبلى في الحقل، وبإغراء من الشيطان قال: "أحب أن أرى كيف يرقد الطفل في رحمها". وهكذا شقّ بطنها ورأى الجنين. وفي الحال اضطرب قلبه وامتلأ من وخز الضمير، فذهب إلى الإسقيط وأخبر الآباء عمّا فعله، فسمعهم ينشدون: "أيام سنينا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعبٌ وبليّة" (مز 90: 10). فقال لهم: "أنا في الأربعين من عمري ولم أصنع صلاة واحدة، والآن إذا عشتُ سنةً أخرى فلن أتوقف عن الصلاة لله حتى يغفر لي خطاياي." وفي الحقيقة إنه لم يشتغل بيديه، ولكنه قضى وقته كله في الصلاة قائلًا: "أنا أخطأتُ كإنسان، فاغفر أنت كإله!" وهكذا صارت صلاته هي نشاطه نهارًا وليلًا.
مَنْ يَعْرِفُ قُوَّةَ غَضِبَكَ،
وَكَخَوْفِكَ سَخَطُكَ [11].
من يدرك سرّ الصليب يعرف ماذا فعلت الخطية، فيهرب من الغضب الإلهي إلى المحبة الإلهية الفائقة.
* إن كانت قوة غضب الإنسان تقتل الجسد، وليس لها أن تفعل أكثر، فإن قوة (سلطان) الله أن تعاقب هنا، وبعد الموت يُرسل الجسد الجحيم، لكن قليلين تعلموا هذا[26].
إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هَكَذَا،
عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ [12].
أيامنا هكذا قليلة للغاية، حتى تبدو كعشبٍ ابن ليلة، سرعان ما يظهر لتضربه الشمس، فيجف وييبس ويُجَّز. هكذا غضب الله مرعب للغاية، فماذا يطلب موسى النبي؟ أن يعلمنا الله ويهبنا حكمته الإلهية. هذا ما يقدمه لنا في هذا المزمور الذي وإن تكلم بإسهاب عن سرعة زوال البشر وعن غضب الله وسخطه لكنه يبدأ بتقديم الله نفسه ملجأ للبشر كي يسكنوا بأمان فيه [1]، وينتهي بطلب نعمة الرب إلهنا لتعمل فينا [17]. كأن الله أشبه بطائر يحتضن صغاره بجناحيه من هنا وهناك، ليضمها إلى صدره ويهبها الأمان. يحوط النبي حديثه عن الغضب الإلهي بالحنو الإلهي والنعمة الإلهية في البداية والنهاية ليهبنا سلامه الحقيقي.
4. فرح وتهليل بنعمة الله
اِرْجِعْ يَا رَبُّ.
حَتَّى مَتَى؟
وَتَرَأَّفْ عَلَى عَبِيدِكَ [13].
بالصليب يرجع الله إلينا، فيرى صورته معلنة فينا، وعوض الغضب نذوب في حبه العجيب. بالصليب تحققت المصالحة، فصرنا موضع سرور الله، لنا حق التمتع بالشركة في الأمجاد السماوية.
* هذه هي كلمات أولئك الذين يحتملون شرورًا كثيرة في هذا العصر الذي فيه اضطهاد، فإن قلوبهم تُربط بقيود الحكمة بشدةٍ، حتى أن هذه المتاعب لا تقدر أن تحثهم على الطيران (الهروب) من ربهم لأجل خيرات هذا العالم. "إلى متى تحجب وجهك عني، يا رب" (راجع مز 13: 1)؟
القول: "حتى متى" [13] يُنسب إلى طلب البرّ، لا إلى عدم الصبر الساخط[27].
* "ارجع يا رب! حتى متى؟" ارجع يا رب وتطلع على صورتك، لا تعطنا ظهرك، بل وجهك. "ارجع! حتى متى؟" الذي يقول: "حتى متى؟" يوضح أنه مملوء شوقًا وغير قادر على احتمال تأخير شوقه[28].
أَشْبِعْنَا بِالْغَدَاةِ مِنْ رَحْمَتِكَ،
فَنَبْتَهِجَ وَنَفْرَحَ كُلَّ أَيَّامِنَا [14].
جاء عن الترجمة السبعينية: "قد امتلأنا وقت الغدوات من رحمتك".
لن يطلب المرتل أن يصرف الله غضبه عنه فحسب، وإنما يعيش كل أيامه متهللًا بالرب محبوبه.
* هكذا تتوهج أمامنا نبوة، في وسط أتعابنا وأحزاننا الليلية، مثل مصباح في الظلمة، حتى يأتي فجر النهار، كوكب الصبح يطلع في قلوبنا (2 بط 1: 19) فإنه طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله؛ عندئذ يمتلئ البار بتلك الطوبى التي يجوع إليها الآن ويعطش (مت 5: 6، 8). بينما يسيرون بالإيمان هم متغربون عن الرب (2 كو 2: 6). من هنا تأتي الكلمات: "أمامك شبع سرور" (مز 16: 11)، "بالغداة يقفون وينظرون إلى فوق" (راجع مز 5: 3)... "أشبعنا بالغداة من رحمتك" [14]، عندئذ يشبعون، وكما قيل في موضع آخر: "أشبع حين يُعلن مجدك" (راجع مز 17: 15)...
"فلنبتهج ونفرح كل أيامنا" [14]. تلك الأيام هي أيام بلا نهاية، توجد كلها معًا. بهذا فهي تشبعنا، لأنها لا تعطي مجالًا لأيام تلحقها، إذ لا توجد أيام بعد تلحق بنا، ولا توجد أيام تنتهي لأنها تعبر. كل الأيام معًا. إنه يوجد واحد فقط يبقى دون أن يعبر، إنها الأبدية عينها[29].
* تُعلن الأسرار في المزمور خلال أشكال رمزية. موسى هو رمز للجنس البشري، يطلب من ابن الله أن يدبر نزوله إلى الأرض. إنه صلى: "لتُعرف يمينك"، والآن يُدرك أن صلاته قد وُهبت له، فعاد يصلي ثانية: "أشبعنا عند الفجر (بالغداة) من رحمتك" عندما يقوم ابنك من بين الأموات. لأنه في المساء نزل لأجلنا إلى ظلال الموت ليسحبنا عند الفجر؛ في تلك الساعة اختبرنا ملء مراحمك... رحمتك دائمًا تُعلن لعبيدك المخلصين، ولكن لن تكون واضحة هكذا وبفيض مثلما عندما قام مخلص الكل من الأموات لأجل خلاص كل واحد.
"فنبتهج ونفرح". بعد فرح قيامة ربنا التي بها نؤمن أننا نخلص ونقوم في يوم الدينونة، نفرح بقية أيامنا ونتهلل بكمال الثقة، ونسبح الله بتسابيح وأغانٍ روحية بالمسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى أبد الأبد. آمين[30].
فَرِّحْنَا كَالأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا أَذْلَلْتَنَا،
كَالسِّنِينِ الَّتِي رَأَيْنَا فِيهَا شَرًّا [15].
جاء عن السبعينية: "عوض الأيام التي أذللتنا فيها، والسنين التي رأينا فيها الشرور".
لم يرد المرتل أن يركز أنظاره على أيام المذلة بالخطية، بل يعيش أيام الفرح والتهليل بخلاص الله.
* ليت نفوسنا تشتهي دومًا هذه الأيام. لتعطش بغيرة نحوها، حيث فيها نشبع ونمتلئ![31]
لِيَظْهَرْ فِعْلُكَ لِعَبِيدِكَ،
وَجَلاَلُكَ لِبَنِيهِمْ [16].
جاء عن السبعينية: "انظر إلى عبيدك وأعمالك".
* لأن عبيدك هم أنفسهم أعمالك، ليس فقط بكونهم بشرًا، وإنما بكونهم عبيدك، أي بكونهم مطيعين لوصاياك. لأننا نحن عمله، مخلوقين ليس فقط في آدم، بل في المسيح يسوع لأعمال صالحة، أعدها الله قبلًا لكي نسير فيها (أف 2: 10). "لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته" (في 2: 13). "وأهدِ بنيهم" [16]، ليكونوا مستقيمي القلوب، فإن الله سخي مع مثل هؤلاء. الله سخي مع إسرائيل، أي مع المستقيمين في قلوبهم[32].
وَلْتَكُنْ نِعْمَةُ الرَّبِّ إِلَهِنَا عَلَيْنَا،
وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْ عَلَيْنَا،
وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْهُ [17].
جاء عن السبعينية: "وليكن نور (بهاء) الرب إلهنا علينا".
يرى القديس أغسطينوسأن المزمور ينتهي بالعبارة: "عمل أيدينا"، وقد جاءت كلمة "عمل" بصيغة المفرد لا الجمع، لأن نهاية الوصية هي المحبة من قلب طاهر وإيمان بلا رياء (1 تي 1: 5). إنه يوجد عمل واحد فيه يكمن الكل "الإيمان العامل بالمحبة".
* من أجل ذلك جاءت الكلمات: "ارفع علينا نور وجهك يا رب" (مز 4: 6) و"عمل أيدينا ثبت علينا" [17]،حتى نمارسه لا من أجل مكافأة أرضية، وإلا فلا يكون مستقيمًا بل معوجًا. جاءت في كثير من النسخ الإضافة التالية: وعمل أيدينا مستقيمة (ثبته)"... معنى هذه العبارة -إن كنا نفسرها- تبدو لي أن كل أعمالنا الصالحة هي عمل المحبة الواحد. لأن المحبة هي تكميل الناموس (رو 13: 10)، فقد جاءت كلمة "عمل" هنا بصيغة المفرد[33].
* تقول النفس، المرآة الحيّة التي تملك الإرادة الحرة: "عندما أنظر إلى وجه حبيبي، ينعكس جمال وجهه عليّ". يقلد بولس هذه الكلمات بوضوح بقوله: "وفيما بعد لا أحيا أنا بل المسيح يحيا في. أما الحياة التي أحياها الآن في الجسد، فإنما أحياها بالإيمان في ابن الله، الذي أحبني وبذل نفسه عني" (غل 20:2). وعندما يقول: "فالحياة عندي هي المسيح" (في 21:1)، يصرخ بولس أنه نقى نفسه من أي هوى بشري مثل الحزن، الغضب، الخوف، الجبن، الأهواء القوية، الكبرياء، الحماقة، الرغبة الشريرة، الحسد، الانتقام، حب التملك والمكسب أو أية عادة قد تؤدى إلى تخريب النفس. هو وحده الذي يملأ نفسي، هو وليس أي شيء مما سبق ذكره. لقد نُزعت عني كل طبيعتي الخارجية الظاهرة، ولم يبقَ بداخلي أي شيء غير المسيح. حقيقة الحياة عندي هي المسيح" أو كما تقول العروس: "أنا لحبيبي، وحبيبي لي" هذا هو الطهر والنقاء وعدم التلوث والنور والحق الذي يغذي نفسي. إنه لا يغذي بالعشب الجاف أو بالشجيرات، ولكن بروعة قديسيه. يوحي السوّسن ببهاء وإشعاع ألوانه الجميلة... فالذي يتغذى بين السوّسن يقود قطيعه إلى مروج السوّسن حتى تكون: "نعمة ربنا علينا" (مز 17:90)[34].
القديس غريغوريوس النيسي
من وحي المزمور 90
أرجع إلينا وأعلن خلاصك لنا!
* غريب أنا على الأرض،
ليس لي موضع استقر فيه في أمان.
لكن حضنك الإلهي يدعوني وينتظرني.
أنت تُسر بي، فأنا عمل يديك،
وأنا أسر بك، فأنت حياتي وبهجة قلبي.
* على الصليب أراك، فتئن نفسي على خطاياي.
ارتعبت أعماقي بسبب تهاوني.
لكن حبك رفعني كما إلى السماء.
روحك القدوس سند لي.
عوض المرارة تمتلئ نفسي فرحًا.
تصرخ أعماقي بهتافٍ،
من أجل نعمتك العاملة في البشرية!
لتعمل دومًا فأحفظ وصيتك،
وأسلك بروحك القدوس لأنعم بأمجادك!