الاهتمام بالأبدية
الإنسان الروحي يكون اهتمامه الأول هو بأبديته. وينمو في هذا الشعور، حتى تشغل الأبدية كل اهتمامه ويصبح تفكيره مركزًا في مصيره الأبدي.
تصير الأبدية صاحبة القيم الأولى في حياته. وكل عمل أو غرض يتعارض مع أبديته، يرفضه رفضًا كاملًا، ولا يقبل في ذلك نقاشًا. ويعتبر حياته الحاضرة مجرد تمهيد يوصل إلى الأبدية.
وهذا الاهتمام بالأبدية يجعل لحياته اتجاهًا روحيًا طاهرًا، ثابتًا في الله، حريصًا على محبته وحفظ وصاياه.
هذا الاتجاه الروحي يفقده الذين جعلوا القيمة الأولي لحياتهم في العالم، من حيث المركز والمتعة. فانشغلوا بالعالميات انشغالًا ملك كل تفكيرهم، وأنساهم تلك الحياة الأبدية. ولقد قدم لنا السيد المسيح مبدأ روحانيًا نضعه نصب أعيننا في طريقنا الروحي وهو:
" ماذا ينتفع الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟" (متى16: 26).
ليتك تسأل نفسك أيها القارئ العزيز: ما هي قيمة الأبدية في حياتك؟ هل هي إحدى القيم الأساسية التي تحرص عليها، ولا تبرح ذاكرتك في أي وقت؟ أم أنت لا نفكر فيها على الإطلاق؟ تشغلك عنها اهتمامات كثيرة، ناسيًا قول الرب لمرثا:
" أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحد" (لو10: 42).
ما هي هذه الأمور الكثيرة من أمور العالم التي تنال منك اهتمامًا وتقييمًا أكثر من أبديتك؟! أما آن وان أن تصلح موازينك الروحية، وتعيد تقييمك للأمور، حتى تنال ما يليق بها من اهتمام وتركيز، في قلبك وفي فكرك وفي توزيع وقتك؟
وحينما نتكلم عن الأبدية، إنما نقصد الأبدية بالنسبة إليك، وأيضًا بالنسبة إلى غيرك...
أي نقصد تقييمك لأهمية ملكوت الله فيك، وفي سائر الناس...
نقصد مدي حرصك أن تكون داخل هذا الملكوت، وأن يكون كل من تعرفه داخل دائرة الملكوت أيضًا. وهنا تبرز الغيرة المقدسة والخدمة كعلامة هامة من معالم الطريق الروحي، وكإحدى القيم التي تقود حياتك.
وكلما ترتفع قيمة الأبدية في فكرك وفي قلبك، على هذا الحد تصغر وتتضاءل قيمة العالم في نظرك.
وهذه أيضًا واحدة من معالم الطريق الروحي: أن لا تعطي تقييمًا لشيء من أمور هذا العالم، واضعًا أمامك قول الرسول " لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الأب" (1يو2: 15).
ليتك تسأل نفسك في صراحة: ما هو تقييم العالم في نظرك؟
هل هو حياتك ومتعتك وشهواتك؟ هل هو جميل بدرجة أنك لا تستغني عما فيه من متع وملاذ وتحزن أن فارقته؟!
أم العالم وكل الأشياء التي فيه، هي مجرد " نفاية " كما رآها القديس بولس الرسول؟ (في3: 8).
لقد جرب سليمان الحكيم الأمرين كليهما الأمرين: جرب النظر إلى العالم كمتعة، فقال " مهما اشتهته عيناي، لم أمنعه عنها" (جا2: 10). ولما فقد هذا العالم قيمته في نظره، قال عنه إنه كله " باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" (جا2: 11).
فما هي قيمة العالم في نظرك؟ حسب تقييمك له، سيكون تعاملك معه.
هل هو تافه وباطل وقبض الريح؟ أم هو شهوة تجتذبك بعنف؟ شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة (1يو2: 16).
ليتك في تقييمك للعالم، تؤمن ببطلانه، وتثق بأنه يبيد وشهوته معه (1يو2: 17).
هذه هي بعض القيم التي ينبغي أن تؤمن بها. وقد كان النسك والزهد نابعين من الإيمان بهذه القيم.
والرهبنة أيضًا نبعت من هذا القيم، وكذلك البتولية. بل أن الاستشهاد نفسه كان ثمرة للإيمان بقيم معينة، من جهة الأبدية والإيمان بتفاهة العالم.
ولقد جرب القديس أوغسطينوس شهوات العالم الكثيرة. ولكن لما زالت قيمته في نظره استطاع أن يقول: جلست على قمة العالم، أحسست في نفسي أني لا أشتهي شيئًا ولا أخاف شيئًا.
إذن لكي تقتاد إنسانًا إلى محبة الله، عليك أن تصلح موازينه، وتصحح قيمة ونظرته إلى الأمور.
لذلك حسنًا قال الرسول " تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو12: 2). وماذا يكون تغيير الذهن سوي تغيير مفاهيمه وتصحيح قيمة؟ لكي تستقيم نظرته إلى الأمور، وتأخذ اتجاهًا روحيًا...
وهنا نسأل عن تقييمك لكي من احتياجات الروح والجسد.