تحضير الذبيحة الإلهية
يختار الكهنة من تقدمات المؤمنين ما هو ضروري للخدمة وأما الباقي فكانوا يستخدمونه لمعيشتهم ويوزعون منه على الفقراء والمعوزين. كان تلقي تلك التقدمات يجري في طقس بسيط في مكان يسمى prothesis أو proskomedia تطور مع الوقت ليصير أكثر تفصيلاً ولاهوتاًً.
من بين التقدمات هناك خبزة تسمى prosphora تمثل المسيح ومختومة بخاتم يحمل اسمه: IΣ XΣ NI KA(يسوع المسيح الغالب)، وهذا الجزء يُقطع ويسمى الحمل، وحمل الله هنا ينوب عن البشرية جمعاء. أما المذبح فتوضع فيه أيقونة ميلاد السيد وهو يرمز لمغارة بيت لحم حيث ولد المخلص.
يرتب الشماس الأواني المقدسة فوق المذبح المقدس، فيضع الكأس على اليمين والصينية على جهة الشمال. الصينية هي بمثابة نعش يضع جسد المسيح عليه. يسجد الكاهن والشماس ثلاثاً أمام المذبح قائلين " يا الله اغفر لي أنا الخاطيء "، ثم يقول الكاهن " استعدي يا بيت لحم فقد فُتحت عدن للجميع، تهيأي يا أفراتة لأن عود الحياة أزهر في المغارة من البتول، لأن بطنها ظهر فردوساً عقلياً فيه الغرس الإلهي الذي إذ نأكل منه نحيا ولا نموت مثل آدم، المسيح ولد لكي ينهض الصورة التي سقطت منذ القديم ".
يرفع الكاهن تلك القربانة إلى مساواة جبهته مع الحربة ويقول " اشتريتنا من لعنة الناموس بدمك الكريم لما سُمّرتَ على الصليب، ولما طُعنتَ بحربة أنبعتَ للبشر عدم الموت يا مخلصنا المجد لك ". ثم يرسم الصليب بالحربة فوق الختم ثلاثاً ويقول " لتذكار ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح كل حين الآن وكل أوان ... إلخ " ويغرز الحربة المقدسة في يمين القربانة رمزاً للحربة التي اخترقت جنب المخلص على الصليب ويقول " مثل شاةٍ سيق إلى الذبح " ثم في شمالها قائلاً " ومثل حمل بريء من العيب صامت أمام الذي يجزه هكذا لم يفتح فاه "، بعدها يقطع بالحربة من الجهة العليا مع القول " أما جيله فمن يصفه ؟ " ( أشعياء 53 ).
يرفع الكاهن الحمل بالحربة من القربانة وهو يقول " لأن حياته قد ارتفعت من الأرض " ( أعمال 8:33 ، أشعياء 53 )، ثم يضعه في الصينية مقلوباً ويذبحه بالحربة المقدسة بالإتجاه العمودي للصليب قائلاً " يُذبح حمل الله الرافع خطيئة العالم من أجل حياة العالم وخلاصه " ثم مجدداً بالإتجاه الأفقي للصليب قائلاً " بصلبك أيها المسيح سُحِق العذاب ووُطئت قوة العدو لأنه لا ملاك ولا إنسان بل أنت يا رب خلصتنا المجد لك ". ثم يغرز الحربة المقدسة في الحمل من اليمين ويقول " ثم إنّ واحداً من الجند طعن جنبه بحربة " ( يوحنا 19 ). ويسكب في الكأس المقدسة الخمر مع بعض الماء وهو يستحضر أحداث الصليب ويقول " وللوقت خرج دم وماء ، والذي رأى قد شهد وشهادته حق " ( يوحنا 19: 34) ، ويقول " مبارك اتحاد قديسيك كل حين الآن وكل أوان ... إلخ " ( يو1: 29، 6: 51، 19: 34-35 ، أشعيا 63: 9 ).
هنا تؤكد الكنيسة بهذا العمل الرمزي أنها ولدت من جنب المسيح كما ولدت حواء من جنب آدم؛ وبينما كان آدم راقداً كذلك كان المسيح راقداً.
ثم ينتزع الكاهن قطعة أخرى هامة من القربانة الثانية قائلاً " لإكرام وتذكار سيدتنا المجيدة الفائقة البركات الدائمة البتولية والدة الإله مريم" وتوضع عن يمين الحمل في الصينية المقدسة ويقول أثناء ذلك " قامت الملكة عن يمين الملك موشحة بثوب مُذهّب " ( مزمور 45: 9 ). ثم ترفع من القربانة ذاتها أو من ثالثة أجزاء على أسم طغمات الملائكة التي تشترك معنا في هذا الإحتفال الليتورجي الكبير:
الجزء الأول " لتذكار وإكرام رؤساء طغمات الملائكة العظيمين ميخائيل وجبرائيل وجميع القوات السماوية " يوضع على يسار الحمل.
ثم جزء آخر " لتذكار النبي الكريم المجيد السابق يوحنا المعمدان والآباء القديسين المجيدين موسى وهرون وإيليا وأليشع وداود ويسّى والفتية الثلاثة القديسين ودانيال النبي وسائر الأنبياء القديسين "
ثم جزء آخر " لتذكار الرسل القديسين المجيدين الجديرين بكل مديح بطرس وبولس والرسل الإثني عشر والرسل السبعين وسائر الرسل والقديسين "
وجزء آخر " لتذكار آبائنا القديسين معلمي المسكونة ورؤساء الكهنة المعظمين باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الذهبي الفم، أثناسيوس وكيرلس ويوحنا الرحوم بطاركة الإسكندرية، نيقولاوس أسقف ميرا، اسبيريدون أسقف تريميثوس، ونكتاريوس أسقف المدن الخمس وسائر رؤساء الكهنة والقديسين "
ثم جزء آخر " لتذكار القديس المجيد أول الشهداء ورئيس الشمامسة استيفانوس، والقديسين المجيدين العظام جاورجيوس اللابس الظفر وديمتريوس المفيض الطيب وثاوذورس الصوري وثاوذوروس قائد الجيش والقديسين الشهداء في الكهنة بوليكربوس وخرالمبوس وألفثريوس، والقديسات الشهيدات تقلا، بربارة ، كاترينا وأوفيميا الكلية المديح وسائر الشهداء والشهيدات القديسين"
ومن ثم جزء آخر " وآباؤنا الأبرار المتوشحين بالله أنطونيوس الكبير وأفثيموس وسابا المتقدس واونوفريوس وأثناسيوس الذي في آثوس وأمنا البارة مريم المصرية وسائر الأبرار والبارات القديسين "
وعلى جزء آخر " والقديسين الصانعي العجائب والماقتي الفضة قزما ودميانوس وكيرس ويوحنا وبندلايمون وأرمولاس وسائر القديسين العادمي الفضة "
وعلى الجزء الآخر " والقديسين جدي المسيح الإله يواكيم وحنة والقديس (...) الذي نقيم تذكاره الآن، والقديس(...) صاحب هذا البيت المقدس وسائر القديسين الذين نسألك بوسائلهم أن تفتقدنا يا الله وترحمنا "
وعلى الجزء الأخير " وأبينا الجليل في القديسين يوحنا الذهبي الفم رئيس أساقفة القسطنطينية "وتوضع على شكل أقواس يسار الحمل .
الكنيسة تؤكد بهذا الطقس الليتورجي على ان القداس الإلهي هو إظهار لشركة القديسين الذين يشتركون مع المؤمنين ( الكنيسة الحاضرة في هذا الزمن ) في الخدمة المقدسة.
ثم يرفع جزء جديد قائلاً " اذكر أيها السيد المحب للبشر جميع الأساقفة المستقيمي الرأي، ورئيس كهنتنا (...) والكهنة المكرمين والشمامسة وخدام المسيح وكل طغمة الكهنوت والمتوحدين وكل أخوتنا الذين بتحننك دعوتهم إلى شركتك أيها السيد الكلي صلاحه " ويضع هذا الجزء أمام الحمل ويذكر رئيس الكهنة الذي نال منه الشرطونية . ثم يرفع جزءاً جديداً " وأيضاً نطلب من أجل المطوبين الدائمي الذكر الذين عمروا هذا الهيكل المقدس ومغفرة خطاياهم ". وفي النهاية يقول " وجميع الذين رقدوا على رجاء القيامة والحياة والأبدية آباءنا وأخوتنا الأرثوذكسيين أيها الرب المحب البشر " ويقطع أجزاء عنهم وعن من يُراد ذكره من الحياء والأموات، ثم أخيراً يقول " واذكرني أنا يا رب عبدك غير المستحق واغفر لي ذنوبي الطوعية والكرهية ". ثم يضع الكاهن النجم بعد الإنتهاء فوق الصينية وهو يقول " ثم جاء النجم ووقف حيث كان الصبي مع أمه " ( متى2: 9 )، ويعلن أن ابن الله قد اتخذ جسداً وحل بيننا.
وهكذا تتجلى فوق تلك الصينية المقدسة أيقونة اشتراكنا والتئامنا حول المسيح المخلص ، هو الله معنا نشاهده ونتناوله، وهو الإلتئام حول الله بواسطة الابن.
ويبخر الكاهن ويغطّى القرابين ويُسبح الله ويُمجّد قائلاً على الغطاء الأول" الرب قد ملك والجمال لبس، لبس الرب القوة وتمنطق بها. لأنه ثبت المسكونة فلن تتزعزع " ويغطي الحمل مع الصينية، وكذلك يبخر الغطاء الثاني ويسبح قائلاً " مجدك أيها المسيح غطى السماوات والأرض امتلأت بتسبحتك " ( مزمور 93 ). ثم يبخر الستر الكبير ويفتحه فوق الصينية والكأس قائلاً " استرنا يا رب بستر جناحيك واطرد عنا كل عدو ومحارب وامنح السلام لحياتنا وارحمنا وارحم عالمك وخلص نفوسنا بما أنك صالح ومحب للبشر ".
تغطى القرابين بالغطاء وتبقى كذلك حتى وقت تلاوة دستور الإيمان، فقوة الإله المتجسد قد احتجبت حتى زمن إظهار نفسه وإعلان ذاته للعالم.
" نقدم لك أيها المسيح إلهنا بخوراً ، رائحة طيب روحي ، فتقبّله على مذبحك السماوي وأرسل علينا عوضاً عنه نعمة روحك الكلي قدسه " ( من صلاة التقدمة ) ، ويبخر الكاهن القرابين التي أعدّت قائلاً " مبارك أنت يا إلهنا الذي هكذا ارتضيت المجد لك، كل حين الآن وكل أوان... ". ثم يشكر ويضرع للرب الإله ان يتقبل هذه التقدمات على مذبحه السماوي ويمنح الذين قدموها والمقدمة لأجلهم النعمة الإلهية والغفران. ويبخر المائدة والشعب. ويشير البخور أثناء المجدلة الكبرى قبل بدء القداس إلى نعمة الروح القدس التي فاضت على العالم بأسره بيسوع المسيح ، ورائحة الروح القدس الزكية الذي بنعمته دخلنا السماء مجدداً.
وبينما يقترب وقت القداس يقترب وقت المسيح " هوذا وقت يُعمل فيه للرب " ، وحان الوقت لكي نخلي ذواتنا للرب لكي يقوم بالخدمة الشريفة. القداس هو وقت محبة للمسيح، هو صناعته وعمل يديه وهو " عيد للرب ". فلنشترك به اشتراكاً مدركين ما يتمم من رموز وحوادث تستحضر الأحداث الخلاصية في الكتاب المقدس كاملاً، ولا نتفرّج علي مسرحية تُمثّل أمامنا.
من خلال هذا الطقس الإحتفالي نرى كيف تُستعاد أحداث الذبيحة الخلاصية التي قدمها الرب يسوع مرةً ، هنا والآن في كل قداس إلهي. إنها رؤيا وظهور لله. وتمتليء العناصر المادية ( الخبز والخمر ) بالنعمة غير المرئية " حتى أن إلهنا المحب للبشر الذي تقبّلها على مذبحه السماوي رائحة طيب زكي يرسل لنا عوضاً عنها النعمة الإلهية وموهبة الروح القدس " ( من خدمة القداس الإلهي ).
لقد تمم الرب يسوع الذبيحة على الصليب وكان في آلامه وحيداً . اليوم نستعيد في الذبيحة الإلهية تلك الأحداث الخلاصية ليكون للمشتركين فرصة الإشتراك في حوادث الخلاص واقتبالها بأنفسهم. النقطة المهمة اننا نشترك مع السيد في بذل الذات إذ نقدم ذواتنا لله بالكليّة. إن ذبيحة المسيح قُدّمت مرة وقُبلت، أما الآن فنحن نقدمها وندعوها " ذبيحة شكر " لأننا بها نتذكر مجدداً محبة الله وعطائه اللامتناهي. وهذا هو جوابنا للذين ينتقدون تكرار ذابيحة الصليب ممن شاؤوا أن يكونوا خارج الكنيسة وينحرفوا عن الإيمان القويم، والذين لم ولا يدركون حقيقة ما يُقدم في الخدمة الإلهية الشريفة