رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
شمجر بن عناة "وكان بعده شمجر بن عناة فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر" (قض 3: 31) مقدمة هل سمعت أو قرأت عن المشاجرة الخيالية الطريفة بين أصابع اليد الواحدة، والتي تخيلها أحد الكتاب وتقول، إنها بدأت بالإبهام، عندما ادعى أنه الأعظم، وأن الله لهذا السبب خلقه منفصلاً عن بقية الأصابع، حتى لا تجسر على الاقتراب منه، إذ هو السيد، وهي العبيد؟؟ وثارت السبابة على هذا المنطق، وقالت: لو أن الرآسة بالحجم لتسلط الثور أو الفيل على ابن آدم، إنما الرآسة بمن له القدرة على الأمر والنهي،.. والناس عندما تأمر أو تنهي، تجدني أنا في مواجهة الغير، أنا الآمر الناهي بين الناس، أنا الرئيس، وضحكت الإصبع الوسطى وهي تقول: إن السيادة متوفرة لي، فأنا أطول الكل، والكل إلى جواري أقزام،.. وصاحت البنصر، ولوحت بالخاتم الذهبي فيها التي تعود الناس أن يضعوها في اليد اليسرى، وقالت: إنه لا يضعون خاتم الزواج إلا فيَّ!!.. وقالت الخنصر مهلاً أيها الصحاب، فقد أكون أصغر الكل، لكنني كما تلاحظون أحمل الجميع فوقي!!.. ربما كانت الخنصر أقرب الجميع إلى الصدق والصواب،.. لكن العبرة الحقيقية ليست في واحدة من الأصابع، بل في صاحب اليد الذي يحملها ويحمل أصابعها معاً!!.. كان شمجر بن عناة واحداً من أكثر المغمورين في الكتاب، لكن هذا الرجل المغمور المجهول، استخدمه الله كالأصبع الصغير في إنقاذ شعبه، والله على استعداد أن يستخدم أضعف الناس أو أقلهم حظاً من ظروف الحياة، حتى ولو لم يملك من الأسلحة في يده إلا منساس البقر، أو ذلك المنخص الذي يخز به الحيوان عندما يتوقف عن السير ويرفض التقدم بعناء!!.. إنها قصة إنسان تبعث الرجاء في أضعف الناس عندما يدفعهم الله إلى الأمام،.. ولو لم يكن يزيد في حياته العادية عن راعٍ من رعاة الأبقار. هلم معاً نر قصة شمجر بن عناة، ولماذا اختارته العناية ليكون من أوائل القضاة في إسرائيل: شمجر راعي البقر ليس هناك ما يخلب لب الصغار أو الشباب، قدر رؤياهم على الشاشة أو في صفحات الكتب رعاة الأبقار الأمريكيين، ولا أنسى صبياً صغيراً طريفاً التقيت به ذات يوم، وهو يلبس زيهم، بالحزام العريض، وإذ سألته ماذا تود أن تكون في الحياة؟، وظننت أنه سيختار مهنة من مهن الناس التي يراها حوله، كأن يكون طبيباً أو مهندساً أو صانعاً أو تاجراً، وجاء في الجواب: أريد أن أكون واحداً من رعاة الأبقار.. إنه يريد أن يمتطي صهوة جواد يسابق الريح، ويصعد به فوق الجبال أو السهوب، ويدفع أمامه الأبقار إلى المراعي، وهو يدخل في عراك مع من يعتدي عليها أو عليه، وهو لا يبالي بالجروح التي تصيبه أو تأتيه من الآخرين، إنه يريد أن يكون ابن الطبيعة الطليق وهو لا يرغب في قيود الحضارة أو المتحضرين!!.. إنه مفتون بما أطلق عليه توماس كارليل "عبادة البطولة" أو تمجيد البطولة كما يقول علماء النفس، أو هو ذلك النوع من الحياة الذي يضيق بالمنطق القائل نأكل ونشرب لأننا غداً نموت، أو نقضي أيامنا بهدوء وسكينة، حتى يطوح بنا من بعدنا في حفرة يسوونها بالتراب، لأننا تراب وإلى تراب نعود،.. كان شمجر بن عناة راعياً من رعاة الأبقار، ظهر منذ آلاف السنين، قبل رعاة الأبقار الأمريكية، وكان لا يملك عندما داهمه في مزرعته وبين أبقاره ستمائة من الغزاة، وتلفت حوله، فلم يجد سلاحاً يواجههم به، ولم يجد بين يديه سوى منساس البقر، فأمسك به، وأبى أن يتراجع وقتل ستمائة بمنساس البقر، ويبدو أنه كان يملك في ذاته وداخله شيئاً أعظم وأكمل بما لا يقاس من هذا المنساس. شمجر والإيمان الخارق في أعماق كل واحد منا كمؤمنين قوة خارقة، لو نملك الإفصاح عنها تصبح آية للعالمين هل قرأت عن ذلك الرجل الذي وجد فرخاً صغيراً من أفراخ النسر فحمله إلى بيته، ووضعه بين أفراخ الدجاج، وأطعمه من طعامها، وكان ينظر إلى الفراخ، والفراخ تنظر إليه، كان وضعه غريباً في وسطها، وكان وضعها معه لا يقل غرابة، وابتدأ ينمو في حجمه، وابتدأ جناحاه يطولان، على أنه لم يلبث أن أصابه الضمور، وقلت حركته، فأخذه صاحبه إلى أعلى البيت وتركه على السطوح، ولكنه لم يلبث أن عاد من هناك إلى وسط الفراخ،.. ماذا يفعل معه الرجل؟، أخذه ذات صباح، إلى جبل عال، وأعطى وجهه للشمس وظهر النور العظيم، وهب النسيم، وإذا بشيء عجيب لا يدري النسر كنهه، فقد رفع عينيه نحو السماء، ومد جناحيه في الفضاء وارتعش بكامله، وصعد إلى أسمى علو، وعندئذ أدرك أنه لم يخلق للأرض، ولكنه خلق للسماء!! هذا هو شمجر بن عناة، وهذا هو أنا وأنت حينما ندرك الحقيقة التي تغيب عن حياتنا سنوات طويلة، نعيش فيها أسرى الهزيمة، والضياع، واليأس كفرخ النسر في عشش الدجاج، كان شمجر بن عناة يعلم أن أمة ولدت إبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف وموسى ويشوع أمة أبطال، لم يكن لهم من قوة في ذاتهم ولكنهم استمدوا قوتهم من الله القادر على كل شيء.. وما من شك بأن شمجر بن عناة كان يسأل نفسه على الدوام لماذا نعيش في ظل الطغيان والضيق والهزيمة واليأس والله لم يتغير، وآباؤنا كشفوا عن أعظم الانتصارات التي جاءتهم من الاستناد إلى الله،.. وقد أدرك الرجل بأنه ليس في حاجة إلا إلى الإيمان،.. وليس الإيمان ببعيد عنه أو من أي إنسان يرغب في الاتصال بالله،.. إن الإيمان لا يزيد عن تغيير حالة قلب، وارتقاء بالنفس لتفرد جناحيها بلا حدود أو قيود في سماء الله،.. وليس الإيمان إلا أن ينتظر الله: "ومنتظرو الرب يجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور".. وما الذي يمنعه من الأجنحة المرتفعة!!.. لم يطلب الله من الإنسان شروطاً معينة حتى تكون له هذه الأجنحة. فهي للعالم ولمحدود العلم، وهي للفقير وللغني، وهي للصغير وللكبير، وهي للرجل والمرأة، وهي لمن يقف في أول الصف، أو من يكون في الصف الأخير!!.. وإذا كان شمجر بن عناة قد أدرك هذه الحقيقة في عودته إلى التاريخ القديم، فلعلنا أكثر قدرة منه نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، وما أكثر ما يحفل التاريخ المقدس بآلاف الأبطال الذين جاءوا من الصف الأخير ليأخذوا الصف الأول، ولم يكن لهم ما يميزهم سوى الإيمان بالله!!.. ألم يكن غلاماً صغيراً ذاك الذي لم يدع إلى المعركة بل ذهب إليها ليرى إخوته الكبار؟؟ أو في لغة أخرى لم يكن حتى في الصف الأخير، بل كان خلف الصفوف جميعاً، ومع ذلك برز لا يضحى في الصف الأول مع الملك، وقائد الجيش، بل ليبرز الجميع، ويصبح هو وحده بطل المعركة، وذلك لأنه كان يملك إيماناً أكثر من الجميع.. ألم تكن "جان دارك" الفتاة الفلاحة الفرنسية في الثامنة عشرة من عمرها، عندما قادت الجيش الفرنسي المهزوم، لتحول الهزيمة إلى نصر، وتتوج الملك، وهي لا تعرف شيئاً عن فنون الحرب، وتعرف كل شيء عن قدرة الإيمان في حياة أبسط الناس على الأرض؟؟ أمن فقط، قد يكون هو النداء الأول والأخير لأبسط إنسان على الأرض ليتحول مثل راعي البقر القديم ليصنع المعجزات!!.. شمجر والغضب المقدس تقول دبور في أغنيتها العظيمة: "في أيام شمجر بن عناة في أيام ياعيل استراحت الطرق، وعابرو السبيل ساروا في مسالك معوجة".. وهي تعطي الصورة التي تلت عصر يشوع، والتي عاث الفساد فيها في البلاد، وضاع الأمن، وانقلبت الأوضاع حتى أضحى المسافرون لا يجرؤون على السير في الطرق التي امتلأت باللصوص، إلى الدرجة أن عابري السبيل كانوا يبحثون عن المسالك الجانبية المعوجة، لعلهم يفلتون من قطاع الطرق، كان النهب هو الشائع، والأمان هو الاستثناء، وكان السر واضحاً في ذلك أن الشعب ترك إلهه، فتركه إلهه للفزع والرعب والضياع، وكان راعي الأبقار ينظر إلى الأوضاع فيلتهب قلبه بالثورة المكبوتة، إنه يعلم أن سر البلوى هو انصراف الناس عن الإله العظيم الذي أخرجهم من مصر وأعطاهم الأرض، ومع ذلك رفضوه واختاروا: "آلهة حديثة حينئذ حرب الأبواب".. وستبقى الحرب دائماً على الأبواب، عندما نقفل الباب في وجه إلهنا، ورأى شمجر الظلم والطغيان والنهب، في الحقول الضائعة، والجموع الجائعة، والشعب المستعبد المسكين،.. وامتلأ الرجل بالغضب المقدس،. هناك نوعان من الغضب يختلفان تمام الاختلاف، ويتباينان تمام التباين،.. هناك الغضب الآثم الذي يصنع بر الله، كغضب نبوخذنصر عندما امتلأ غيظاً وتغير منظر وجهه على شدرخ وميشخ وعبد نغو، وأمر بأن يحمي الأتون سبعة أضعاف أكثر مما كان معتاداً أن يحمي، وذلك لأن هؤلاء تعمدوا ألا يعبدوا آلهته أو يسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه،.. ومثل هذا الغضب أناني حقود قاس مستبد متغطرس يكرهه الله كل الكراهية، ويعاقب -إن آجلاً أو عاجلاً- صاحبه والداعي إليه،.. لكن هناك نوعاً من الغضب الآخر، كغضب فنيحاس الذي طعن الزاني والزانية، ودان القباحة المتسهترة التي تفعل الشر في المكان المقدس، وهناك غضب موسى عندما رأى العجل الذي عبدوه الإسرائيليون، وطحنه وسحقه وذراه على وجه المياه، وهناك غضب المسيح عندما حمل سوطه وطرد من حولوا بيت الله إلى مغارة لصوص،.. رؤى أحد رجال الله، وهو يتميز غيظاً وغضباً في الطريق، لأنه رأى لونا ًمن ألوان الظلم لا يستطيع أن يسكت عليه ويهادنه، ورؤى آخر يمسك فرشاته، ويحمل سلماً، إلى مكان كتبت فيه كلمات قبيحة، لابد له أن يمحوها محواً، لأنها آذت عينيه، ويمكن أن تفسد حياة الكثيرون من الشباب الذين يقرأونها كان شمجر بن عناة يملك هذا النوع من الغضب المقدس!!.. شمجر والدفاع المشروع إن المدقق في قراءة قصة شمجر بن عناة، يرى أن شمجر لم يكن مهاجماً، إذ لا يتصور قط أن رجلاً يحمل معه منساس البقر ليأخذه سلاحاً يهاجم به ستمائة رجل من الأعداء الأشداء المسلحين، بل المتصور أن الرجل كان في حقله أو كان يرعى أبقاره في مكان ما، وتعرض له الغزاة على أسلوب وحشي مثير،.. فهل كان له أن يهرب، ويترك أرضه، أو أبقاره، ويعتبر النجاة نوعاً من الفوز، يغبطه عليه أهله وصحبه عند عودته إلى البيت؟؟ لا أعتقد أن الرجل أصيب بحالة من الجنون، كذلك الجندي الذي دخل في وسط الأعداء وأخذ يمعن تقتيلاً، وعندما نظره معسكره على هذه الحال، ورجع إليهم، قالوا له ماذا فعلت وكيف جرؤت على الدخول في وسط الأعداء على هذه الصورة؟.. أجاب: لست أعلم، لأني وجدت نفسي في حالة من الجنون لا أدريها، هي التي فعلت كل هذا،.. لا أظن أن شمجر بن عناة كان له هذا النوع من الجنون، إنما أعلم أن الرجل أدرك ما قاله كرومويل فيما بعد، عندما سألته أمه: ألا يحسب حساب المعارك التي يدخلها.. أجاب: يا أمي توجد لحظات في الحياة لا يستطيع الإنسان فيها أن يقيم أي وزن لما يمكن أن يحدث،.. أليس هذا ما وصل إليه الثلاثة فتية الذين رحبوا بالنار سواء خرجوا منها أحياء أو لم يخرجوا، وهذا نسمعه من جوابهم الحاسم للملك القديم!: "يا نبوخذنصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من آتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك أننا لا نعبد آلتهك، ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته".. لو أن حادث شمجر مع الغزاة كان حادثاً شخصياً لا يتكرر، لربما أمكن التصرف فيها بصورة مخالفة،.. لكن هذا الاعتداء كان أكثر من اعتداء شخصي إذ هو اعتداء على أمة وشعب، وأكثر من ذلك هو تحد وإهانة واستهتار باله هذا العشب، والعقيدة الدينية التي يتمسك بها، هو صراع بين تابوت الله وداجون، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة،.. وأدرك شمجر بن عناة أنه أفضل له أن يعود إلى بيته حياً أو ميتاً من أن يسلم للظلم والفساد والشر أن يفعله فعله!!.. إن السؤال عن الدفاع المشروع، ما يزال من أهم الأسئلة التي تطرح على الذهن البشري -ما هي فلسفته ووسائله وحدوده؟!! وباديء ذي بدء نحن لا نعرف جماعة إنسانية ترفض في الأرض كلها فكرة الدفاع المشروع، إلا طائفة الكويرز أو الأصحاب، وهذه الطائفة لا تقبل العنف بأي صورة، وقد حدث أن سيدة من "الأصحاب" دخلت ذات يوم إلى بيتها، فرأت لصاً يعبث بأموالها ومجوهراتها، ولما رآها وجه غدارته نحوها، فقالت له: لا تفزع ولا داعي لأن توجه غدارتك إلى، إن عندي الكثير، وخذ ما تريد، وأنت قبل وبعد الكل إنسان وأخ لي،.. وأسقط في يد الرجل،.. وقال لها: يا سيدتي لقد قاومني الناس كثيراً، وحولوا بهذه المقاومة مني مجرماً عتيداً، ولم أسمع لغة كهذه قط من بين الناس، ولم أسمع أن واحداً دعاني أخاً، بل أنا في نظرهم مجرم حثالة الناس، لن آخذ شيئاً منك يا سيدتي،.. وخرج، ولعله خرج إنساناً آخر.. هذه هي فلسفة الأصحاب، إنهم يرفضون مقاومة الشر استناداً إلى قول المسيح: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين"، على أن المسيح -فيما أعتقد- لم يكن يقصد المعنى الحرفي بالدليل أنه لم يطبقه هو، وقال للخادم الذي لطمه أمام رئيس الكهنة: "إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي وإن حسناً فلماذا تضربني".. كما أن بولس فسر المقاومة المقصودة هنا مقاومة الشر بالشر إذ قال: لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل اعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. على أن بولس نفسه، وهو خير مفسر للمسيح ولكلامه، لم يفسر الأمر بالتخلي عن الحق المشروع للإنسان الذي يمكنه أن يتمسك به في لحظات الدفاع عن النفس، فعندما اعتدى عليه دون حق في فيلبي، وأرسل الولاة الجلادين إلى حافظ السجن ليطلقه وسيلا أجاب: "ضربونا جهراً غير مقضي علينا ونحن رجلان رومانيان وألقونا في السجن أما الآن يطردوننا سراً كلا بل ليتأتوا هم أنفسهم ويخرجونا".. ولم يكن له لطف المسيح عندما أمر حنانيا رئيس الكهنة أن يضربوه على فمه: "حينئذ قال له بولس سيضربك الله أيها الحائط المبيض أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس وأنت تأمر بضربي مخالفاً الناموس".. إن فلسفة الدفاع المشروع تدور وجوداً وعدماً حول كسب المعتدي، والوصول إلى السلام، ورفعه إلى مستوى العدالة والحق الإلهي،.. وفي سبيل ذلك يمكن التخلي عن الحق الشخصي، في سبيل غرض أعلى وأسمى، على أن هذا لا يعني بحال ما طرح جميع الوسائل الأخرى التي قد تكون في إمكانية الإنسان، كالحق الذي كان لبولس بصفته مواطناً رومانياً يحق له التمسك بتطبيق القوانين الرومانية العادلة، إذا ما شط المعتدي، وحاول أن يتجاوز هذه القوانين والحقوق!!.. على أن الالتجاء إلى القضاء ليس مطلقاً، فقد يكون الأفضل مرات متعددة معالجة الأمور بعيداً عن هذا السبيل، ولا سيما إذا كان المتنازعون من الإخوة أو المؤمنين، وقد عاب الرسول على الكورنثيين الالتجاء إلى المحاكم الخارجية، وطلب دعوى التحكيم الكنسي دون هذه المحاكم: "أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين وليس عند القديسين ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم. فإن كل العالم يدان بكم فأنتم غير مستأهلين للمحاكم الصغري".. إن الحق في الدفاع المشروع أمر ينبغي أن يقدره الإنسان بكل كلمة وفطنة، ولسنا نعلم مدى فلسفة ذلك المرسل الذي كان يسير في ليلة من الليالي وهو يركب في إحدى البلاد الشرقية، فخرج إليه جماعة من قطاع الطرق، فرفع سلاحه في وجههم، وكانوا يعرفونه، فقالوا له: هل يجوز لمرسل أن يقتل الآخرين، وهو أول من ينادي بالوصية القائلة: لا تقتل؟.. وكان جوابه: إني وأنا أرفع السلاح أنفذ الوصية، لأني إذا سلمت بسهولة في نفسي، فأنا أشارككم في قتلها، وترك القاتل ليقتل دون الوقوف في طريقه دون حماية النفس، إنما هو تشجيع مباشر له على العدوان وحماية غير مباشرة للنفس التي حرم الله قتلها!!.. هل كانت هذه الحكمة هي حكمة شمجر بن عناة؟.. أم أن شمجر كان يرى نفسه قاضياً لإسرائيل، وأن مهمته أن يدفع الظلم والاعتداء، وأن أنوار العهد الجديد لم تصل إليه أو تصل إلى ياعيل التي ضربت رجلاً نائماً لا يملك الدفاع عن نفسه، وقد استأمنها على نفسه في هذا البيت؟؟.. مهما يكن الأمر فإن عصر الرجل، كان يختلف ولا شك عن عصرنا من نوع الحياة والهدف والغاية، وكانت قضية الرجل قضية دينية، لم يدفع فيها عن نفسه شراً فحسب، بل كان أكثر من ذلك رجلاً يدفع الشر على البؤساء والمعذبين والمظلومين من شعب الله في أيامه!!.. فإذا جئنا إلى العصر المسيحي، فليكن موقفناً دائماً من الاعتداء نسيان الصالح الشخصي، أو الرغبة الشخصية في الانتقام، والسعي ما أمكن إلى كسب المعتدى لله، والحق والسلام، والتسليم في كافة الأمور لمن يقضي بعدل!!. غير أن هناك شيئاً واحداً لا يجوز التزحزح عنه قيد أنمله، وهو أن لا يكون السلام على حساب الحق ومجد الله،.. وهنا لننصت بكل خشوع إلى قول السيد: "لم آت لألقي سلاماً على الأرض بل سيفاً".. ولقد بلغ المؤمنون أروع صور الشهادة، عندما أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله!!.. لقد أبى الشهداء في روما أن يقبلوا السلام على حساب يسوع المسيح، ومع أن هناك أمثلة لا تنتهي، لكننا سنذكر قصة غلام صغير ارتبطت قصته باستشهاد مارسيلوس، وكان الغلام اسمه ماركوس بولو سيرفيللي، وكان في الثالثة عشرة من عمره وكان ينتسب إلى عائلة سيرفيللي النبيلة التي أدت أروع ما تستطيعه عائلة لبلادها،.. وعندما وجه القاضي التهمة للغلام بأنه مسيحي، أجاب على الفور: هذا الاتهام يعد شرفاً لي. أنا مسيحي، وأعتبر نفسي سعيداً لأني أستطيع أن أعترف بذلك أمام هذا الجمع الغفير، وعندما قال له القاضي: أيها الولد الشقي: هل تعرف نوع التهمة الموجهة ضدك؟؟ أجاب: أنا متهم بغير جريمة، وإيماني يعلمني أن أخاف الله، وأخدم الامبراطور، وأطيع كل القوانين العادلة، وقد نفذت كل هذا بضمير صالح،.. قال له القاضي: إن جريمتك أنك مسيحي خائن للوطن، فأجاب: أنا مسيحي، ولكني لست خائناً للوطن، وإذ قال له القاضي: إن القانون يحرم الإيمان بالمسيح ومن يكسر هذا القانون عقابه الموت.. أجاب: أنا مسيحي.. قال القاضي: إذاً فعقابك الموت.. وقال الغلام: فليكن. حاولوا أن يثنوه بكافة الطرق، بالتهديد، والإغراء، ولكنه ثبت كالطود الراسخ ووضع الغلام أمام نمر جائع.. وتحول كتلة من العظام والدم!!.. ومات شجاعاً كأفضل ما يكون الإنسان في الشهادة المسيحية ولو غرق في بحر من دم!!.. شمجر والوسيلة الضعيفة هوجم شمجر بن عناة، ولم يكن يملك سلاحاً، فإن الفلسطينيين جردوا الشعب من كل سلاح، كان يرعى أبقاره، وكان يمسك بمنساس البقر، وكان المساس هو السلاح الوحيد الذي يحمله، ويمكن أن يستخدمه، ولم يتوان الرجل عن استخدام الوسيلة الهزيلة الضعيفة، التي قادته إلى النصر وإلى قيادة الأمة بأكملها،.. من الناس من هو على استعداد أن يحارب، ولكن بشرط أن يكون في يده السلاح المناسب، ولو أدرك الحقيقة أن السلاح المناسب، هو الذي بين يديه، مهما كان ضعيفاً أو ضئيلاً أو صغيراً،.. عند الأمريكيين قصة صبي صغير اسمه لوقا فارنوم، وكان ولداً فقيراً أعرج، صبي حداد، وحدث ذات يوم أثنآء حرب الاستقلال، والصبي يقف أمام الدكان، وهو حزين لأنه لا يستطيع أن يذهب إلى المعركة لعجزه وضعفه، وإذا بجماعة من الفرسان تمر به، ويسألونه وقد تبينوا أن معلمه غير موجود، عما إذا كان يستطيع أن يضع حدوة للحصان، فأجاب بالإيجاب لأنه ساعد معلمه كثيراً في صنع الحدوات، وتركيبها،.. وقام بالعمل خير قيام، وقال له القائد: اعلم أيها الصغير أنك قمت بعمل في خدمة بلدك يساوي عمل عشرة جنود، وكان المتكلم هو الكولونيل وارنر الذي أرسل لنجدة معركة من أهم المعارك التي قلبت ميزان الحرب، ولم يكن يعلم الولد الصغير الأغنية القائلة: لما سقط المسمار ضاعت الحدوة لما ضاعت الحدوة ضاع الحصان لما ضاع الحصان ضاع الراكب لما ضاع الراكب ضاعت المعركة لما ضاعت المعركة ضاعت الدولة كل هذا حدث لما ضاع المسمار ليس الأمر أمر راعي البقر أو المنساس في يده، إذ أن الأمر أعظم من ذلك بما لا يقاس، إذ هو أمر الله الذي يمسك بالراعي والمنساس معاً، والله لابد أن يكون الأول والأخير في المعركة، وكرامته لا يعطيها لآخر، لو كان هناك شيء آخر مع موسى غير العصا، لربما التفت الناس إلى هذا الشيء، ولم يروا الله السيد المنتصر،.. ولو كان هناك شيء بيد داود غير المقلاع وحجارة الوادي الملس، في مواجهة جليات، لما ظهر الله، ولما استطاع الشاب القديم أن يقول للجبار: "أنت تأتي إليَّ بسيف ورمح وترس وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتم اليوم، هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك وأقطع رأسك..".. لم ير شمشون على مقربة منه -وهو يواجه الفلسطينيين- سوى لحي حمار كان سلاحه في قتل ألف منهم!!.. وهكذا يعمل الله في الآنية الضعيفة في كل العصور والأجيال أو كما قال أحدهم: "لا بالقدرة ولا بالقوة استطلع لوثر أن يواجه ثورة روما وقوتها ومقامها ويحقق الإصلاح،.. ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم بوث أن يقابل الفقر والسخرية والهزء وينشيء جيش الخلاص العظيم.. ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم لويد جارسون أن يهاجم -وهو أعزل- نظام الرق، ويطلق من عقالها القوة التي حررت آخر الأمر أربعة ملايين من العبيد".. لقد أدهشت شجاعة وليم أورنج في تسليح الفلاحين في هولندا والفلاندرز ضد طغيان الملك فيليب وألفا الدموية، وإذ تساءل الملك الأسباني عمن يكون وراء هذه الحركة من حلفاء أو ملوك: أجاب وليم الشجاع: "إنك تسألني عما إذا كانت قد دخلت في حلف رسمي مع قوة أجنبية ألا فاعلم أني قبل أن أحمل على عاتقي قضية هذه الولايات المنكوبة قد دخلت في الحلف والعهد مع ملك الملوك ورب الأرباب".. ولقد فعل هذا من قبل شمجر بن عناة وهو يمسك منساس البقر، وتستطيع أنت وأنا أن نفعل، في مواجهة معارك الخطية والإثم والفساد والشر، ذات الشيء ونحن نغني أغنية بولس العظيمة: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني"..!!.. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
"عناثوث" مشتق من اسم الإلهة الكنعانية "عناث" |
ما تشرب عناب |
فوائد عباد الشمس / عرق السوس / عناب / فاصوليا / فلفل أحمر / قـرفـة / قسط شامي / قلقاس / قمح / كاكاو |
بيت عناة |
شمجر بن عناة ( قض 3: 31) |