رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
البابا ميخائيل الأول (735-759م) رجل الصلاة واحتمال الآلام مقدمة لابد منها قبل أن نستأنف سرد سيرة هذا البابا العظيم: إن المتأمل والدارس لتاريخ كنيستنا القبطية ليَعجب أشد العجب من أمرٍ هام جداً وهو أن المسيحية في مصر - إذا قورنت ببلاد أخرى اندثرت منها تماماً - صمدت على مدى واحد وعشرين قرناً تحت أقسى الظروف وأبشع الاضطهادات والحروب ضد الإيمان المسيحي بطريقة عجز المؤرخون الحديثون عن تفسير سببها، والكشف عن هذه الظاهرة التاريخية الفريدة. لقد حارب الإيمان المسيحي في مصر أباطرةٌ رومان، وفلاسفة يونان، ورجال إكليروس من كل الدرجات: قسوس وبطاركة وأساقفة هراطقة، وغزاة فُرْس وعرب وخراسانيون وأتراك، وجيوش مسلَّحة، وإغراءات مادية وأدبية، ورُفع في وجه المؤمنين الأقباط سيف وذهب وكل أنواع آلات التعذيب. وأخيراً، هبَّت عليهم الحضارة العلمانية الحديثة بما فيها من مسمَّيات مثل الوسائل السمعية والبصرية للمعلومات وآخرها التليفزيون والكمبيوتر، ثم الأشكال الجديدة للغزو بأسمائه المتنوعة مثل: الإرهاب والترهيب والترغيب، بالشهوة تارة، وبالسلاح تارة أخرى، وبالتحرُّش والاحتكاك والتمييز الديني تارة أخرى، وغيرها. وكل هذا والإيمان المسيحي صخرة راسخة، والأقباط مرفوعو الرؤوس شامخو النفوس، يبتسمون في وجه كل هذا كأن كل هذا هو سرُّ ازدياد تمسُّكهم بإيمانهم الحي بشخص المسيح الحي راعيهم الأكبر ورأس كنيستهم الذي يسكن السماء. فإذا تتبَّعنا سِيَر آبائنا القديسين، سواء كانوا بطاركة أو من عموم الشعب، فسنعرف أن المسيحية تتمثَّل في كل هؤلاء، وكل هؤلاء يشهدون للمسيح والمسيحية ليس بالكلام، بل بحياتهم ومعاناتهم واحتمال كل صنوف العذاب، دونما شكوى أو إحباط أو ندْب أو لطم أو صراخ كما يفعل الذين "لا رجاء لهم" (1تس 4: 13). وهكذا نتقدَّم إلى متابعة سيرة هذا البطريرك المعترف (أي الذي دون أن يُسفك دمه، يمكن أن يُحسَبَ شهيداً). ويمكن للقارئ أن يتتبَّع المقالين السابقين في شهري مايو ويونية سنة 2005، ليمكنه أن يلحق بهذه الحلقة الثالثة من سرد سيرة حياته وتاريخ الكنيسة القبطية في عصره. أساقفة كنيسة أنطاكية يعرضون على البابا مشكلة بطريركهم: بعد أن تسلَّم البابا الإسكندري ميخائيل كنيسة مار مينا بمريوط من يد البطريرك الملكي التابع لبيزنطة، حدث سلامٌ قصير الأمد على الكنيسة وعلى البابا، ولكن قَطَعَه رسالة أتت من أساقفة كنيسة أنطاكية (إحدى الكنائس الأربع في العالم المعتبرة أنها كنائس رسولية: روما، الإسكندرية، أنطاكية "سوريا"، أورشليم). وكانت هناك مشكلة وأزمة بين "بطريرك" أنطاكية يوحنا (الذي كان أسقفاً قبلاً وأُقيم بطريركاً بخلاف القانون الكنسي المسكوني رقم 6 نيقية) وبين أساقفة الكنيسة هناك. ولم يستطع البطريرك أن يُصالح أساقفة الكنيسة، وكتب إلى الملك رسائل، كما كتب رسالة "السينوديقا" إلى بابا الإسكندرية ولم يستطع إرسالها إلاَّ في هذا الوقت. فلما وصلت الرسالة وتسلَّم الأب أنبا ميخائيل من رُسُل البطريرك الأنطاكي السينوديقا والرسائل وقرأها، حزن جداً لأجل حدوث هذا الخلاف بين البطريرك الأنطاكي وبين أساقفته لأنهم قالوا إنه أسقف وليس هو بطريركاً، ولم يقدروا أن يخاطبوه على أنه البطريرك. وتشاور البابا ميخائيل مع أساقفته حول هذا الأمر، وعقد مجمعاً أقرَّ على عدم جواز رسامة البطريرك من الأساقفة وعزَّز قراره بالحد والحرم. على أن البطريرك الذي خلف يوحنا على كرسي أنطاكية وكان اسمه إسحق أسقف حاران سلك نفس المسلك، إذ استطاع أن يصل إلى هذا المنصب، بغير رضا الأساقفة أيضاً، ولكن بأن سعى لدى الخليفة وبتوسُّط امرأته التي كانت عاقراً وبناءً على صلوات إسحق أسقف حاران رزقها ولداً فسَعَت لدى الخليفة حتى حملته على تعيين هذا الأسقف في كرسي أنطاكية الرسولي. وكان هذا التعيين على غير رضا الأساقفة. وعلى حسب العادة الجارية بين البطاركة، خاطب إسحق بطريرك أنطاكية البطريرك الإسكندري ليُعلن قبوله في شركته، ويأمر بذكر اسمه في كنائسه أثناء العبادة الليتورجية. ولكن البابا ميخائيل كان قد علم بكيفية ارتقائه إلى البطريركية، فرفض طلبه، وبالعكس أرسل إليه يأمره بأن يتخلَّى عن الكرسي، أو يُكرِّس آخرَ بدلاً منه، فلم يَرُق هذا الأمر في عيني إسحق، وشكا البابا الإسكندري إلى الخليفة طالباً أن يحمل البابا ميخائيل على قبول رسامته. فأصدر الخليفة أمراً إلى والي مصر يُلزمه بأن يُخيِّر ميخائيل بين قبول إسحق في درجته أو مجيئه إلى العاصمة (بغداد) لمقابلة الخليفة. فلما أُعلن البابا ميخائيل بهذا، تشاور مع أساقفة الكرازة المرقسية الذين اجتمعوا كلهم من بحري وقبلي مصر وتشاوروا في الأمر، وكان البابا ميخائيل قد استدعى كاتب سيرته (وهو راهب) ليشترك في المجمع الذي اجتمع في كنيسة العذراء (غالباً المعلَّقة). واستقر الأمر أن يرفض البابا الاعتراف بهذا الأسقف بطريركاً. وهكذا اختار البابا الذهاب إلى الخليفة لكي يُعْلِمه ويُقنعه بأنه مُحقٌّ في عدم قبوله إسحق بطريركاً. وبينما هو يستعد للسفر، مات إسحق هذا وقام واحدٌ بدلاً منه اسمه أثناسيوس كان أسقفاً أيضاً؛ ولكنه مات بعد ارتقائه البطريركية بيومين. فعَدَلَ البابا ميخائيل عن السفر. ولأن شهوة البطريركية كانت قد بدأت تُمسِك بأساقفة كنيسة أنطاكية، رأى البابا ميخائيل أن يقي الكنيسة القبطية من مثل هذا الانقسام في المستقبل، فوضع قانوناً ضُمَّ إلى قوانين الكنيسة، منع فيه اختيار البطريرك من بين الأساقفة(1)، وقال فيه: [السيف أو النار أو الرمي إلى الأسد أو النفي أو السبي ما يقلقني، ولست أَدخل تحت ما لا يجب، ولا أدخل تحت حَرْمي الذي كتبتُه بخطِّي وبدأتُ فيه: بأن لا يُصيَّر أسقفٌ بطريركاً. والآباء القديسون حرموا من يأخذ رتبة من رُتب الكهنوت بيد السلطان... وأنا كتبتُ هذا بخطِّي، فكيف يمكن أن أحرم نفسي وأُحلِّل اليوم ما حَرَمتُه بالأمس؟ وما أنكرتُه أمس أوصي به اليوم، وما أَنكره الآباء القديسون قبلي...](2) وهكذا واجه البابا ميخائيل محنة كنيسة أنطاكية الشقيقة باستعداده للاستشهاد من أجل إقامة قانون الكنيسة حفظاً لها من الانقسام بسبب شهوة السلطة. تجدُّد المحن والآلام على الشعب المصري، ودخول البابا مع الأساقفة في الحَبْس: بعد استلام البابا كنيسة مار مينا بمريوط (كما خَتمْنا المقال السابق - يونيه 2005، ص 14)، لم يَدُم السلام طويلاً، لأن الاضطرابات تفشَّت في مصر وباقي الولايات، بسبب تنازُع الأمراء مع بعضهم البعض، إذ كان كل واحد يتنازع مع غيره للظفر بمنصب الخليفة! فواجه الخليفة هذا التنازُع بتشديد المعاملة على الشعوب الخاضعة له بأن طلب من الولاة أن يزيدوا من قيمة ما يورِّدونه إلى بيت المال في بغداد. فأحضر الوالي الأب أنبا ميخائيل إلى مصر (الفسطاط، لأن الأب البطريرك كان مُقيماً في مقرِّ كرسيه بالإسكندرية)، وطلب زيادة ما عليه دفعُه عن الكنائس، ولما أظهر البابا عجزه عن دفع هذه المبالغ الباهظة، أمر بأن يُعتقَل البابا، وكان معه أنبا مويسيس أسقف أُوسيم وأنبا تادرس أسقف مصر وأنبا إيلياس التلميذ الروحي لأنبا مويسيس، وتلميذ البابا ميخائيل، ووضعوا الجميع في مغارة مظلمة لا تنفذ إليها الشمس، وكُبِّلَت أقدام البابا بالحديد، وظل على هذا الوضع مع الآخرين لمدة شهر من 11 توت إلى 12 بابة. وكان في موضع الحبس 300 مُعتقل ونساءٌ معتقلات أيضاً. وكانوا جميعاً في حزن وبكاء وضيق عظيم. وكان من بينهم مرضى كثيرون، ومنهم مسيحيون ومسلمون وبربر، وكانوا جميعهم يجيئون إلى البابا في سجنه حتى يبارك عليهم، ومنهم مَن كانوا يعترفون له بذنوبهم، وبعضهم كان في السجن ثلاث سنين والبعض أربع سنين، فكان يُعزِّيهم ويُصبِّرهم، ويقول لهم: إن أنتم نذرتم لله أنكم لا تعودون إلى أفعالكم الشريرة، فإن الله يقبل توبتكم ويُخلِّصكم قبل نهاية هذه السنة؛ فتعهَّدوا له أنهم لن يعودوا إلى خطاياهم. وكان الأساقفة الذين مع الأب أنبا ميخائيل يخدمونه (لأنهم لم يكونوا مُكبَّلين بالحديد مثله)، ولم يغيِّروا ثيابهم لمدة سبعة عشر يوماً، وكانوا يعتبرون أنفسهم مربوطي النفوس بدلاً من التكبيل بالحديد. وكان على مائدة الملك رجلٌ مؤمن، هذا كان يهتم بالأب البطريرك ويفتقد المسجونين ويُحضر لهم في السجن ما يحتاجون إليه. وكان البابا وهو في الحبس يقول لرفقائه ولتلميذه الراهب: اصبُرْ يا ولدي وتقوَّ، لأنه إذا خرجنا من هنا وأُفرجَ عنا، فسنقع فيما هو أعظم من هذا. فاصبرْ الآن، فليس أحد ينال أجرة بغير تعب، ومن يصبر إلى المنتهى يخلص. وبعد شهر أمر الملك بإحضار البابا ميخائيل وطالبه بالمال وقال له: أنا أُطالبك بما يجب دفعه عن كنائسك، وضيَّق عليه. فقال له البابا: إذا كان الأمر هكذا، فائذن لي أن أمضي إلى الصعيد لأجمع المال، ومهما دفعه لي المسيحيون وساعدوني به، أحضرتُه لك، فأطلقه. وهكذا سافر البابا إلى الصعيد، وكانت الرحلة قاسية بسبب البرد ليلاً والحر نهاراً. وكان الشعب قد عانى كثيراً من الظلم والخسائر والضرائب، ولكنه في رحلته شفى مرضى كثيرين بصليبه وأخرج أرواحاً نجسة من آخرين، وأعاد نفوساً كثيرة لمؤمنين كانوا قد حادوا عن الإيمان الأرثوذكسي. وأعانه الله وعاد إلى مصر ليلة الحادي والعشرين من طوبة ليلة تذكار نياحة العذراء. زلزال عظيم يصيب البلاد: وفي اليوم الذي عاد فيه البابا ميخائيل حدث غضب عظيم من الطبيعة، إذ زلزل الأرض زلزالاً مريعاً، هُدمت بسببه دور كثيرة في كل المدن ولم ينجُ فيها أحد، وكذلك غرقت مراكب كثيرة في الأنهار والبحار. وضرب ذلك الزلزال جميع بلاد المشرق، وأُحصيت المدن التي انهدمت تلك الليلة، فكانت 600 مدينة وقرية. وقد نجت مدن كثيرة في مصر، إلاَّ دمياط. ونزل خوف عظيم على الجميع، حيث كانت الأخشاب التي في الأبواب والجدران تبرز من مواضعها. وطلب الأب أنبا ميخائيل من جميع سكان مصر ومدنها بمداومة الصوم والصلاة. ولما نظر الخليفة عبد الملك ما جرى في بلاده عرف أنه غضب من الله، فاكتفى بما أخذه من الأب البطريرك وأطلق سراحه. وحدث حين كان الأنبا ميخائيل الأول معتقَلاً في السجن، أن بلغ قرياقص ملك النوبة خبر هذا السجن، فغضب، وجرَّد جيشه وسار على رأسه إلى مصر. وتغلب على قوات الخليفة في مصر، في الصعيد، وتقدم نحو الفسطاط. وحين اقترب منها بعث بأحد رجاله إلى عبد الملك بن مروان يطلب إليه الإفراج عن البابا الإسكندري. على أن عبد الملك قبض على هذا الرسول وزج به في السجن بدلاً من إطلاق سراح الأنبا ميخائيل. فلما استبطأ الملك النوبي رسوله، عاوده الغضب واستمر في زحفه نحو الفسطاط حيث كان النصر حليفه، إذ تمكَّن من الوصول إلى البقعة المعروفة آنذاك باسم "بـِرْكة الحبش" في منطقة الفسطاط. وعند ذلك خَشِيَ عبد الملك أن يدخلَ الملك قرياقص عاصمته، فأطلق سراح المندوب النوبي، ثم رجا منه أن يشفعَ فيه لدى ملكه ويؤكِّد له أن الأنبا ميخائيل الأول ليس فقط أصبح حُراً طليقاً فحسب، بل إنه سيلقى كل تجـِلَّة واحترام. ورَضِيَ المندوب النوبي أن يتوسَّط عند ملكه، ولكن هذا الملك لم يقبل وساطة رسوله، إذ تشكَّك في حقيقة إطلاق سراح البابا الإسكندري، ولم يكُفَّ عن القتال، حتى ذهب إليه هذا البابا الجليل بنفسه، ورجا منه أن يعود إلى بلاده في ثقة واطمئنان. |
|