|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
الكنيسة القبطية في القرن الثامن رجال الكنيسة رجال صوم وصلاة لاجتياز محن الكنيسة استذكار تاريخ الكنيسة، ضمان لتثبيت هويتها المسيحية: يقول الفيلسوف الروسي المسيحي المعاصر ألكسندر سولجنتسين الذي ناضل من أجل حرية بلاده: "إذا أردتَ أن تبيد شعباً، فلابد أولاً أن تقطعه من ماضيه". وشعبنا القبطي له تاريخ مجيد مليء بأبطال الإيمان وعمالقة الروح وجبابرة النسك، وكلهم كانوا رجال صلاة وصوم. وقد انطبعت هذه التقوى في عموم الشعب المسيحي، من الفلاَّح في القرية إلى أهل الحَضَر والثقافة في المدن. ودراسة التاريخ المسيحي ليست مجرد استذكار معلومات، بل هي التعلُّم من الماضي ليس فقط بتفادي أخطاء الماضي، بل أيضاً وبالأكثر التعلُّم من حكمة القدماء وروحانيتهم التي حقَّقت هذه المعجزة التي أمامنا: دوام المسيحية على مدى 21 قرناً من الأزمنة المتتالية بما حملته من عوامل الهدم والإفناء. ولهذا تحرص المجلة على أن تقدِّم هذا الباب ليطَّلِع القارئ على تاريخ كنيسته. والتاريخ الكنسي يُظهِر يد الله الضابط الكل والقادر على كل شيء والتي حفظت الكنيسة طالما كان رجالها رجال صلاة وصوم، وتاريخنا الكنسي يُسجِّل روح الشركة بين الجماعة طالما سادت المحبة بين أشخاصها وامتنعت بينهم البغضة والشجار والحقد والحسد، تلك الرذائل الكفيلة بأن تُفني أية جماعة مهما كانت، كما قال بولس الرسول إلى أهل غلاطية مُحذِّراً: "فإذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضاً، فانظروا لئلا تُفنوا بعضكم بعضاً" (غلاطية 5: 15). وتاريخ كنيستنا يُجدِّد ثقتنا في أن الله لا يكفُّ عن أن يعمل كما عمل في حياة الكثيرين مِمَّن عبروا قبلنا. حينئذ لن يصيبنا الجزع وانقطاع الرجاء، أو اليأس، أو وهن العزيمة، إذا عرفنا أولئك الذين نجَّاهم الله من جيل إلى جيل، وحفظ معهم ميراثه من التبديد والضياع أو الإفساد، وجعلهم بنعمته آنية تحمل محبة الله وسلامه إلى عالمنا، عالم البغضة والحروب. ليتنا نتمسَّك بالشجاعة ونحن نحمل تراث الآباء الروحي، ونُسلِّم أنفسنا لتجديد الروح القدس لحياتنا كما فعل مع الذين عبروا قبلنا، حتى يمكننا أن نسلِّم وديعة الإيمان نقية طاهرة للأجيال الصاعدة والآتية بعدنا. المرحلة الحرجة بين نياحة البابا ثيئودوروس، واختيار البابا الجديد: لقد تنيح البابا ثيئودوروس عام 732م، وظل الكرسي خالياً حوالي الثلاث السنوات، ذلك أنه بعد نياحة البابا ثيئودوروس ساءت الأمور جداً من جهة الوالي "القاسم بن عبيد الله" الذي بدأ عهده بالمسالمة، ولكنه لم يلبث أن تخلَّى عن روح السلام واندفع في سياسة العنف والقوة، متناسياً حتى نصيحة رئيسه الخليفة "هشام" في دمشق. فكانت مصر بعد نياحة البابا الإسكندري فريسة لقوى ثلاث: القحط، والوباء، وبطش الوالي "القاسم" الذي لم يرحم الشعب المسكين الذي استبد به الوباء وضيَّق عليه القحط، فتشدَّد هو الآخر في المطالبة بالجزية إلى حدِّ أنه كان يحكم بالجلد علناً على كل مَن لا يؤدِّي المال المفروض عليه. وفي تلك الفترة المليئة بالأهوال، لم يتمكن الأساقفة وأراخنة (أي مُقدِّمو) الشعب وكهنة الإسكندرية من الاجتماع للتشاور في مَن يخلف الأنبا ثيئودوروس، أولاً بسبب الظروف الطاحنة هذه مما أدَّى بكل أسقف راعٍ لإيبارشية العناية بشعبه الجريح المضطرب؛ وثانياً أنه بعد انقضاء ما يقرب من ثلاث سنين رأى الأقباط أن يجتمعوا ويتشاوروا لكي يرشدهم الله إلى الربَّان اليقظ الذي يشهد ويحفظ الإيمان ويُحقِّق وحدة المؤمنين، فتقابلوا وقصدوا إلى دار الولاية ليُبلِّغوا الوالي "القاسم" رغبتهم في انتخاب راعيهم، ولكن حينما وصلوها لم يجدوه وعلموا أن الخليفة قد استدعاه إلى دمشق على عجل مما اضطره إلى مغادرة الفسطاط (العاصمة القديمة) في حراسة الجند الذين اقتادوه إلى الخليفة في دمشق. فعادوا ليلحقوه في مدينة بلبيس وأعلموه بالسبب الذي جاءوا من أجله. والعجيب أن "القاسم"، بالرغم من تقلقل مركزه ومن عِلْمه بأنه مغضوب عليه من رئاسته في دمشق، ظلَّ على تعسُّفه؛ إذ رفض أن يسمح للأقباط بإجراء اختيار البابا الجديد إلاَّ إذا دفعوا مبلغاً من المال رشوة فلم يدفعوا، فامتنع. وتمرُّ الأيام والشهور حتى يعرف الجميع بخلع القاسم من ولايته من مصر، وتعيين "حَفْص بن الوليد" مكانه. ولما وصل الوالي الجديد إلى مصر، قابله الأساقفة والأراخنة، ورَجَوْا منه أن يأذن لهم بالاجتماع للتشاور، فمنحهم الإذن في الحال. وتُسجِّل مخطوطة تاريخ البطاركة هذه المشاهد من كيفية التشاور في اختيار خليفة مار مرقس على كرسي المدينة العظمى الإسكندرية. وسنعرضها بالتفصيل في هذه الحلقة لنتذاكر كيف كان آباؤنا يتحاورون ويُشاركون معاً في اختيار البابا الجديد. كيف تشاور وتشارك الآباء والأراخنة في عملية اختيار البابا؟ ففي الحال توجَّهوا جميعاً إلى كنيسة الأنبا شنوده ببابليون حيث صلُّوا وجلسوا كل واحد بحسب رتبته الطقسية حسب قانون الكنيسة. وكان أراخنة كل إيبارشية جالسين مع أسقفهم، وكذلك كهنة الإسكندرية، وجميعهم في سكينة ووقار لا يتكلَّم أحد كلمة، ولا الآباء الأساقفة كانوا يأمرون بشيء، بل جميعهم كانت وجوههم مُطرقة إلى الأرض صغيرهم وكبيرهم. فلما عبرت ساعة الظهر وهم على هذه الحال، رفع الأسقف الشيخ أنبا مينا أسقف تميّ وجهه وقال بصوت خفيض لأبـَّا أبراهام أسقف الفيوم: يا أبي اغفر لي، ما الذي نحن مجتمعون بسببه؟ فردَّ عليه: يا أبي، المسيح رئيس رعاة أنفسنا وأجسادنا يُدبِّر الأمور كلها، والقديس مار مرقس معنا. فصرخ جميع الشعب والمجتمعون بصوت واحد قائلين: "المسيح يُتمِّم هذا الأمر بإرادته"، ووقفوا وصلُّوا. ثم استقر الرأي على الاجتماع بالغداة، ومضى كل واحد إلى موضعه. وكان بعض أساقفة الوجه البحري قد ذكروا اسم واحد اختاروه، فعلم أبـَّا أبراهام أسقف الفيوم، فقال لهم أنبا بطرس أسقف ترنوط: كان هذا الراهب قد عاش جميع أيامه في برية أنبا مقار. وهو حسن السيرة، جيِّد الأفعال. ولكن احذر أن تجعل يدك على الذي يُقدِّمونه لك حتى يجتمع رأي الجميع عليه، وإلاَّ فما يصلح لهذه الرتبة. وكان الأنبا بطرس قد ضعفت صحته لكبر سنِّه، وظل منفرداً عنهم. فلما كان اليوم التالي، اجتمعوا وصلوا وجلسوا، وحضر كهنة الإسكندرية وعرضوا الاسم الذي اختاروه وكان مكتوباً في ورقة. فردَّ عليهم تادرس - أحد الحاضرين - إذا رَضِيَ به الجميع فهو جيد. فلما صمَّموا على الاسم وحاولوا فرضه على الجميع، رفض المجتمعون. وهكذا استمروا مدة عشرة أيام في مباحثة ومناقشة، فكان كهنة الإسكندرية وبعض الأساقفة متفقين على رسامة واحد ويقولون: لا نرسم سواه، وكان أساقفة الوجه القبلى غير موافقين على رسامته. فلما كان يوم 14 توت ولم يتفقوا على واحد يُجمعون عليه وقع بينهم انشقاق عظيم لحقهم بسببه حزن وبكاء. فقال أحدهم: لابد أن يكون الأنبا مويسيس أسقف أوسيم والأنبا بطرس أسقف ترنوط معنا لكي يحسما الأمور. وكان هذان الأسقفان الجليلان مريضَيْن بسبب كبر سنِّهما فلم يحضرا الاجتماعات، فاستدعوهما. فأتى الأول محمولاً على مرقد خشبي، لأنه لم يستطع ركوب الدابة، وأتى الأنبا بطرس معه حيث كان مُقيماً معه بجبل أوسيم بدير نهيا. وحين وصل الأنبا مويسيس وجلس طريحاً وسط الجميع من شدة الألم، سمع المجتمعين يحتدمون في الجدال. وبقوة الروح القدس الذي كان معه قام، وأومأ بيده إلى كهنة الإسكندرية الذين تمادوا في التمسُّك برأيهم وبالشخص الذي اختاروه وقالوا للأساقفة ما معناه أن لا شأن لأحد بمن نختاره وما عليكم إلاَّ أن ترسموه (متجاهلين أن البابا ليس فقط أسقف مدينة الإسكندرية، بل وأيضاً رئيس أساقفة الكرازة المرقسية، فالجميع مسئولون عن صحة الاختيار)، فانتهرهم وقال لهم كلاماً صعباً. ولما لم يصلوا إلى شيء أجَّلوا الاجتماع لليوم التالي، وانصرفوا. وحدث أن شماس الأنبا مويسيس الذي كان يرافقه استيقظ في منتصف الليل وذهب إلى أبيه واستسمحه أن يقول كلمة: "اغفر لي يا أبي، فقد عرفت واحداً يستحق هذا الأمر"، فسأله: "ومَن هو يا ولدي"؟ فقال: "هو القديس النفيس القس ميخائيل بكنيسة دير القديس أنبا مقار، هو بتول طاهر، تربَّى في البرية". فصرخ الأب الأسقف أنبا بطرس (الذي كان ملازماً للأنبا مويسيس وسمع هذا الكلام): "لقد تكلَّم المسيح في هذا الشماس بالحقيقة، فالقس ميخائيل مستحقٌّ هذه المنزلة". فلما حلَّ اليوم التالي اجتمع الجمع واستأنفوا الحوار كما جرت عادتهم، فأتى ذكر القس ميخائيل المذكور. فصرخ جميع الشعب الكبير والصغير كلهم من فم واحد قائلين: "بالحقيقة هذا هو المستحق". (لاحِظ أن شرط استحقاق المرشح أن يكون مُلازماً ديره وأن يحظى بموافقة الجميع). ثم قاموا جميعهم ومضوا إلى قصر الوالي، وعرَّفوا "حَفْص" بما جرى وما اتفقوا عليه، وسألوه أن يحرر مكتوباً إلى شيوخ وكهنة وادي هبيب (برية شيهيت) ليُسلِّموا لهم الراهب ميخائيل (يُلاحَظ أن خروج ودخول الرهبان وتقلُّدهم الخدمات كان تحت سلطان شيوخ برية شيهيت وآبائهم الروحيين). فأخذوا المكتوب وخرجوا من عنده. وفي نفس الوقت، كان الرب يسوع المسيح قد حرَّك مقدِّمي وادي هبيب لكي يُرسلوا وفداً عنهم إلى "حَفْص" يشتكون إليه أن الوالي السابق "القاسم" كان قد ضاعف الخِراج والجزية بما يفوق طاقتهم، وفي الوقت نفسه يهنئونه على قدومه. واصطحبوا معهم الراهب ميخائيل ضمن هذا الوفد. فوصلوا في اليوم الثالث عشر من توت، في نفس الوقت الذي وصل فيه الأساقفة والأراخنة إلى البرية ومعهم المكتوب، فتلاقى الوفدان معاً، وإذا بالجماعة المنوط بها اختيار البابا الجديد يجدون أمامهم الراهب ميخائيل ضمن شيوخ الرهبان. فلما رأوه تعجَّبوا عجباً عظيماً، وبُهتوا، وفرحوا جداً، وتعجَّب كل واحد منهم مِمَّا فعله المسيح. فأخذوه ومضوا به إلى قصر الوالي "حَفْص". فلما أعلموا الوالي "حَفْص" بما كان، تعجَّب جداً وضرب كفاً على كفٍّ، وقال: "تبارك الله إله المسيحيين إذ قد فعل أفعالاً نتعجَّب منها". وقال لهم: "هذا الرجل الذي اصطفاه الله لكم أن يكون أباً لكم، خذوه وامضوا به بسلام". ولما كان في الغد، وهو الرابع عشر من توت، ركب الأساقفة المراكب وتوجَّهوا إلى الإسكندرية، حيث وصلوا إليها ليلة السادس عشر من توت، فخرج إليهم شعب كثير بالشموع والصلبان والأناجيل، ورسموه أسقفاً للمدينة العظمى الإسكندرية ورئيساً لأساقفة الكرازة المرقسية في اليوم السابع عشر من توت، وبهذا صار بطريرك الكرازة المرقسية، وكان ذلك عام 735م بتقويم ذلك الزمان. وهكذا صار الخليفة السادس والأربعين لكاروز ديارنا المصرية القديس مار مرقس الرسول. |
|