رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
العالم الذي جاء إليه ابن الله · * والشتات اليهودي كيف كان اداه التدبير الالهي للكرازة في كل المسكونة بالمسيا الذي تنباً عنه الأنبياء. ولد المسيح حينما كان أوغسطس قيصر يتملك علي الأرض كلها. ولم تنس الكنيسة قط أنها بدأت حياتها بينما الدولة الرومانية في أوج مجدها. لقد كان العالم اليوناني- الروماني أي الدولة (الرومانية) والثقافة (اليونانية) معاً، هو الموطن الثاني للمسيحية، من بعد اليهودية. المسيحية لا تنظر إلي التاريخ علي إنه مجرد حلقات متتابعة من الأسباب والنتائج، ولا أن تأسيس الكنيسة من هذه اللحظة من الزمان وفي هذا المكان من العالم كان بمحض الصدفة، بل هي تؤمن أنه "لما جاء ملئ الزمان ارسل الله أبنه..."(غلاطية4:4). أن العالم الذي كان بمثابة "الجسد التاريخي" للكنيسة استقبل المسيحية بالعداء والاضطهاد والمحن. كما أنه لم يكن مجرد صدفة أن تكتب كلمات الانجيل المقدس باللغة اليونانية، أي أن يلتحف لاهوت الكنيسة (الذي هو الجواب الانساني علي الوحي الالهي) بمقولات الفكر اليوناني. لذلك فكما أن الانجيل لا يمكن فهمه تماماً ان هو انفصل عن اصوله اليهودية في العهد القديم، كذلك أيضاً لا يمكن فصله عن العالم الذي قدر الأخبار السارة أن تعلن فيه. 1-العالم اليوناني- الروماني لقد بلغت الثقافة اليونانية (أو كما تسمي أحياناً بالهللينية) أوجها في عهد أمبراطورية روما علي العالم المتحضر آنذاك. وبعد عام من الحروب والخراب بسط "السلام الروماني" أجنحته نهائياً. وأمن القانون الروماني قدراً جيداً من العدل والاستقرار والطمأنينة للناس، وتوفرت الطرق المعبدة والرخاء الاقتصادي والتبادل الثقافي بين الكتابات والأفكار علي نطاق واسع. لا عجب بعد كل هذا أن كانت روما قد صارت هي منبع ورمز كل الخيرات ثم صارت بالتدريج مركز الديانة الوثنية. الا انه وراء هذا البريق والرخاء الخارجي كانت هناك بوادر أزمة روحية تنمو مع الزمن. فالناس لم يعودوا راضيين عن آلهتهم الوطنية وديانتهم قبائلهم أو أسراتهم. وبدأ الكثيرون يلتمسون غذاءاً روحياً من تلك الغوامض الدينية التي امتلأت بها الامبراطورية. لقد أنشئت معابد لأيزيس وسيلا الشعبية التي كانت- في نظرهم- هي التي تحمي حدود دولتهم الضيقة أو وديوينسيوس في قلب روما، وأقيمت الاحتفالات الدينية السرية التي كانت تعد الناس بالخلود والبعث. وكان هذا العصر كان هو عصر الانتظار والشعور السابق بشيء ما سيحل قريباً. فقد بدأت الديانة الوثنية تفصح عن الفساد الذي يصيب كل ديانة بشرية آجلاً أو عاجلاً. فعبادتهم للآلهة التي كانت هي اصل الفضيلة عندهم غرقت في شكليات العبادة الأمر الذي قادهم أما إلي الاوهام والخرافات وأما إلي الكفر بهذه الآلهة. والبساطة والقناعة القديمة تحولت إلي بخل وضلال. والأخلاق والطهارة التي كان يرمز إليها في كل جمال في عبادة العذراء فستا، تردت في هاوية الاثم والفجور. أما وسائل التسلية فقد تحولت إلي مصارعات بربرية بين الوحوش والمصارعين. وفقدت الطبقات الدنيا من الشعب كل احساس نبيل ولم تعد تبالي بأي شيء. وإذا التفتنا إلي الاباطرة فاذا بنا نجدهم قد صاروا وحوشاً في ثياب آدمية وتوغلوا في الانحراف حتي عن ادميتهم. حتي أنهم ترقوا إلي مرتبة الآلهة عن طريق مجلس الشيوخ الروماني (السيناتو) بالتصويت واجماع الآراء. وصار ينظر إليهم علي انهم هم (المخلصون) لشعبهم. ومن هنا أتت عبادة الامبراطور كمخلص واله. وأقيمت في أثناء حياة أوغسطس قيصر هياكل في آسيا الصغرى علي شرف "أوغسطس الاله". وبعد موته أحيط بآيات الاحترام والكرامة اللائقين باله. وكانت ترانيم الوثنيين وتكريمهم له تنسب صفات "الخلاص" و"الكرامة" و"المجد" و"العبادة" لقيصر "الاله" و"المخلص" لشعبه. احساس الحاجة إلي مخلص: أن الصورة المظلمة للوثنية التي صورها بولس في رسالته إلي أهل رومية. سبق أن أوفاها حقها أيضاً سينيكا وتاسيتوس وجوغينال وبيرسوس وغيرهم من الفلاسفة والكتاب الوثنيين في ذلك العصر. وكانت كتابتهم تنم عن احساسهم بالحاجة إلي افتداء وخلاص. يقول سينيكا: "ان العالم امتلأ بالجرائم والآثام. الاكثرون يرتكبون الشر بما لا يمكن علاجه بالقوة، فهي تجري عياناً بياناً. أما الأبرياء فهم ليسوا من الندرة وجودهم، بل هم غير موجودين علي الاطلاق". الا أن هذا بدأ يكشف عن زيفه وعن امكانية هدمه. وعلي الأخص حينما بدا الامبراطور المؤله يعرف جيداً أنه مع كل جبروته فان "حياته انما هي معلقة علي خيط"، وبدأت الانسانية تسترد أنفاسها مرة أخري في كتابات شيشرون وفيرجيل. ومن هنا أتي التقدير الذي أبداه بعض آباء الكنيسة للشاعر "آينيد aeinid". فالقديس اوغسطينوس يلقبه بأنه أنبل الشعراء. ويعتقد البعض أن هذا الشاعر في نشيده الرابع للرعاة تنبأ عن مجيئ المسيح. وقد يكون هذا الاعتقاد خاطئاً. ولكن، كما يقول أحد الباحثين: "في شعر فرجيل خط فكري حسي فيه الكثير من التقوي والانسانية المماثلة للمسيحية أكثر من أي شاعر آخر، يونانياً كان أم رومانياً. كان فيرجيل روحاً تستعد وتنتظر شيئاً ما أفضل وموحي به، لكنه لم يكن يعرف ما هو هذا الشيء". لقد لخص احد المؤرخين الظروف التي فيها انتشرت المسيحية فقال: "امبراطورية واحدة، لغد عالمية واحدة، ثقافة واحدة، ميل جارف واحد نحو الاعتقاد باله واحد، اشتياق عام واحد إلي مخلص". 2-التشتت اليهودي وبالرغم من القيود الدينية المفروضة علي اليهود بعدم الاتصال بالأمم الا أن اتصالهم كان مستمراً بالثقافة الهللينية مما كان له تأثير عليهم. كان يهود الشتات يحسون بحاجة إلي أن يشرحوا ايمانهم للعالم المحيط بهم. وهكذا اتت الترجمة السبعينية للعهد القديم من العبرية إلي اليونانية قبل المسيح بقرنين من الزمان، وصار الكتاب المقدس سهل المنال للعالم الناطق باليونانية اذ كان يقرأه اليهود في عبادتهم الجمهورية لله في المجامع التي كانت مفتوحة للجميع. وهكذا كان الشتات هو بذار معرفة الله الحقيقي والامتلاء من الرجاء في المسيا، التي القيت في حقل العالم الوثني. وهكذا أصبحت المجامع مركز تبشر بوحدانية الله، وفيما بعد صارت مكاناً مهيئاً مدهشاً للرسل ليكرزوا منه بيسوع المسيح مكمل الناموس والأنبياء. ولم يلبث الوثنيون، بعد فترة قصيرة، ان أبدوا اهتماماً متزايداً تجاه الشرق واطاره الديني، وأصبح منهم يهود ليس بقرابة الدم بل بالإيمان الممتزج بانتظار مجيئ المسيا. هؤلاء هم الملقبين في سفر الأعمال ب"الدخلاء" أو "الاتقياء" (*) من كل أمة مثل كرنيليوس مثلاً، قائد مئة كفر ناحوم، وليديا بائعة الارجوان في فيليبى، وتيموثاوس وغيرهم. كيف كانت الكرازة في العالم: لا يمكننا طبعاً أن نشرح هنا كيف كانت الكرازة المسيحية الأولي ولكن رسائل بولس الرسول أوضحت كيف يخاطب الفئات المختلفة بأساليب مختلفة : "صرت لليهودي كيهودي لربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس.. وللذين بلا ناموس (اي الأمم) لأربح الذين بلا ناموس.. صرت للكل كل شيء لأخلص علي كل حال قوماً" (1كو10:9و21). الا ان جوهر كل الكرازة كان دائماً هو "الكيريجما" أو اعلان الأخبار السارة، أخبار المخلص الذي آتي بالخلاص والسلام. لم يكن هناك وعظ شعبي عام للجماهير ولا اجتذاب لحب الاستطلاع لدي الناس بالطقوس الخارجية. لقد كانت المسيحية تقدم خدمتها للماس ليس بالكلمات، بل بأكثر من هذا، بالتجديد الواقعي للحياة الذي ظهر في المسيحين. كانت حياة المسيحين، في الواقع، قادرة علي الشهادة والبرهنة علي قوة الانجيل المعطي للحياة. ملامح المسيحين في العصر الأول: لقد مضي الوقت الذي كان يدعي فيه البعض أن المسيحين أتوا من طبقة "البروليتاريا" التي كانت تملآ المدن الكبرى للامبراطورية، وانهم كانوا بسبب فقرهم وعدم المساوة الاجتماعية يظنون أنهم سيصبحون أكثر احتراماً وقبولاً لاعلان الحب والرجاء والحياة الجديدة. وقد كان يؤيد هذا الادعاء كلمات بولس الرسول إلي أهل كورنثوس: ليس كثيرون حكماء حسب الجسد...ليس كثيرون شرفاء" (1كو26:1). الا انه من الجهة الاخرى لابد أن نتمعن فيما وراء تبكيت يعقوب الرسول للمسيحيين من كافة الطبقات، والشواهد الاخرى من رسائل بولس الرسول عن أمين المدينة وعن عضو في المجمع الآريوباغي وعن عدد النساء الشريفات في تسالونيكي. كم كان عدد المسيحيين في البداية؟ ان كلام ترتليانس أنه "ان كنا وحدنا أعدائكم، اذن فلديكم من الاعداء اكثر من المواطنين! لأن كل مواطنيكم أصبحوا مسيحين" (في احتجاجه للوثنيين)، هو بلا شك اطناب بلاغي. الا أنه كان هناك امتداد جغرافي سريع للمسيحية، أدي إلي تأسيس كنائس كبيرة في مصر وسوريا وآسيا الصغرى وربما أسبانيا وبلاد الغال. ويقدر التاريخيون أنه حتي تحول الامبراطور قسطنطين- أي حتي بداية القرن الرابع- كان المسيحيون مازالوا أقل من 10% من مجموع سكان الامبراطورية. لقد احتفظت الكنيسة إلي وقت طويل بشخصيتها المميزة: "قطيع صغير. اقلية مضطهدة في العالم" ------------------------------------------------------------------------------------- (*) هناك فرق بين المتحولين لليهودية بالبر (أي الختان) وبين انصاف المتحولين الذين يلقبون ب"نزيل الباب" "تقي الله" هؤلاء كانوا يؤمنون بوحدانية الله وبالشرائع الاخلاقية الاساسية وبالرجاء في المسيا اللآتي، ولكنهم لم يكونوا يختتنون. هؤلاء هم الذين يظهرون في العهد الجديد أكثر الناس استماعاً للبشارة بالمسيح والاقتناع بها، ومنهم تكونت أساساً البذرة الأولي للكنائس الكبرى الأولي. |
|